الجنون ومجهول العقل: في مديح الحماقة مرة أخرى
فريد الزاهي 5 ديسمبر 2022
استعادات
مقطع من لوحة "ساتورن يأكل أبناءه" (فرانسيس غويا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في المقهى الذي أرتاده أحيانًا، يدخل رجل قارب الكهولة، يحمل بيد عدة سجائر، يطلب قهوته، ويبدأ في التكلم مع النادل بصوت جهير عن أشياء متفرقة، أحيانًا بعربية سليمة وفصيحة، وأخرى بدارجة بليغة، ويشرب قهوته ويرشف السيجارة تلو السيجارة. ثم يصمت لحظة ويقف ويخرج من دون أن يلتفت لأحد. أحس في كل مرة أن فحوى كلام الرجل من العمق والحصافة بحيث لو لم تكن حركاته ونظراته النزقة تخونه، وصوته واسترساله الأشبه بالهذيان، لما انتبه أي واحد منا لحمقه، أو جنونه، خاصة أن الرجل يتحدث عن حاله بكثير من الصفاء والوعي...
هكذا لا يمكننا إلا أن نستحضر ما كان يحاط به في مجتمعاتنا التقليدية الأبله والأحمق والمجنون من صفات تتراوح أحيانًا بين القداسة والتقدير والتهميش والتبكيت. وليس لنا في ذلك مثال لا يضاهى أكثر من سيدي عبد الرحمن المجذوب ورباعياته بالمغربية الدارجة التي خلدت حكمته وقدرته الفائقة على سبر أغوار العلاقات الاجتماعية. والمعروف أن المجذوب يعني الممسوس، أو المجنون، غير أن الحدّ الفاصل في المتخيل الشعبي بين المجنون والولي الصالح الناطق بالحكمة كثيرًا ما تلتبس حتى ليكادا يتطابقان.
مديح الحماقة مدخلًا للإصلاح
يُعرف إراسموس الهولندي في القرن الخامس عشر بالأخص بكتاب "مديح الحماقة" (أو البلاهة كما يسمى أحيانًا)، بالرغم من أنه أصدر كتبًا أخرى في التربية والنقد الاجتماعي. وهذا الكتاب الصغير (الذي ترجم للأسف للغة العربية ترجمة شابتها كثير من الأخطاء والتصرف الأرعن)، الذي يتحدث فيه إراسموس باسم الحمق، هو أشبه براديوسكوبيا للمجتمع الغربي في العصر الوسيط. ففيه يغدو الجنون قيمة أخلاقية قادرة على قول الحقيقة، بالسخرية والهزء أحيانًا، وبالنقد اللاذع والهجاء أحيانًا أخرى، لكافة الظواهر الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، خاصة سيادة التطير، والممارسات الخسيسة في حضن الكنيسة ولدى النبلاء.
والكتاب وهو يعري عورات المجتمع، من باب الحكمة الهوجاء والنقد الأرعن، يكشف عن معرفة عميقة بالفكر اليوناني واللاتيني، ويؤسس لفكر نقدي ممتع يفكك مفهوم العقل، ويمنح للجنون موقعه في النقد والكتابة، حتى أن البابا ليون العاشر عده كتابه ممتعًا.
لقد كتب هذا الكتاب في وقت لم يكن فيه إقصاء اجتماعي للمجانين، لأنهم كانوا يندمجون في نسيج المجتمع، في وقت كانت فيه الأمراض المعدية من قبيل الجذام، تفترض الإقصاء. وفي هذا يقول ميشيل فوكو، في كتابه عن "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي": "إن الجنون ظاهرة ظلت في حال كمون لمدة قرنين تقريبًا، وستكون مثار رعب كالجذام. وستكون كما فعل الجذام، في أصل حالات العزل والإقصاء والتطهير، وهي الحالات التي ستلازم وجوده. وقبل أن تتم السيطرة على الجنون في أواسط القرن السابع عشر، كان الجنون مرتبطًا بكافة التجارب الكبرى التي عرفها عصر النهضة" (ص 28).
يتحدث فوكو عن سفينة الحمقى التي تبحر في عالم بين الخيال والواقع. هذا الموضوع الذي صار متداولًا لدى متصوفة القرون الوسطى في الغرب. لكنه يتساءل: لماذا ولد هذا التقارب التليد بين الماء والحمق؟ لأن السفينة كانت ترمز للقلق الذي انتاب فجأة الثقافة الغربية في نهاية العصور الوسطى. لقد أصبح المجنون شخصية مبجلة بفضل غموضها، بما تشكله من تهديد وسخرية لاذعة من العالم ومن تفاهة أناس وضعفهم.
في الصلة بين العقل والجنون
وكما في الثقافة الغربية، سوف يكون للجنون موقع هام في الثقافة العربية بالصور العجيبة التي يولّدها، كما بالمفارقات الفاضحة التي يكشف عنها، إذ نجد الحديث عن الحمقى والمجانين، عدا قصص مجانين الحب والعشق (مجنون ليلى، ومجانين الحب الإلهي الصوفي) متناثرًا في كتب الأدب الشهيرة كـ "البيان والتبيين"، و"العقد الفريد"، و"الأغاني"، وغيرها. بل لقد أفردت له مصنفات متباينة في التقدير والاعتبار والتحقير، من قبيل "عقلاء المجانين" لابن الجوزي، و"أخبار الحمقى والمغفلين" للنيسابوري، و"الفائق في أخبار المائق" لابن الأنباري...
وكما سئل النظام المعتزلي عن حدّ الجنون (تعريفه)، فأجاب بأن لا حدّ له، كذلك يبدأ النيسابوري كتابه بتداخل العقل بالجنون: "وكما شاب [الخالق] صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقولهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها بضرب من الجنون" (ص 29). وهذا التلازم بين العقل والجنون هو ما جاء على لسان أبي حيان التوحيدي عن الصاحب بن عباد، ناسبًا الكلام إلى أحدهم، فقال: "هو مجنون الكلام"، وكان أن أردف موضحًا كلامه: "تارة تبدو لك منه بلاغة قس، وتارة يلقاك بعيّ عاقل". ومن طريف الأمور أن يكون هذا التصور في ثقافتنا الكلاسيكية هو نفسه الذي يحدده مشيل فوكو كناظم للعصر الكلاسيكي الغربي: "لقد أصبح الجنون شكلًا مرتبطًا بالعقل، أو إن الجنون والعقل صارا منتظمين في علاقة أبدية لا فكاك منها. إنها علاقة تجعل لكل جنون عقلًا يحكم عليه ويتحكم فيه؛ وكل عقل له جنونه الذي يجد فيه حقيقته التافهة. إن هذا يقاس على ذاك، وفي هذه المرجعية المتبادلة يرفض بعضهما بعضًا، غير أنهما لا يتأسسان إلا استنادًا إلى هذه العلاقة" (ص 51).
ومن ضروب الجنون الحب والعشق، سواء كان عيانيًا، أم إلهيًا. والغريب أن هذا الترابط لم يظهر إلا لتعيين الحب الذي لا وصال فيه. فقد روي عن البسطامي أن أبا زيد يقول: "جَنّنني بي فمتُّ، ثم جَنَّني به فعشت، ثم جنَّنني عني وعنه فغبت. ثم أوقفني في درجة الصحو وسألني عن أحوالي الثلاث فقلت: الجنون بي فناء، والجنون عني وعنك ضناء، وأنت في كل الأحوال أولى بنا" (ص 64). هكذا يبني النيسابوري تصورًا للجنون والحمق يجمع بين العقل والحكمة والانزياح عنهما. فالجنون فناء في الآخر، سواء كان امرأة، أو قوة معنوية إلهية. وهو بذلك خروج عن المألوف يروم بلوغ الحقيقة المستترة وراء مظاهر المعنى. إن جنون العاشق والمتصوف كما المجذوب لدينا بالمغرب، هو انغماس في جوهر المعاني العميقة للوجود لاستكناه ما تخفيه عنها المظاهر وقشور المعنى.
بيد أن هذا التصور ليس هو ما كان سائدًا بالرغم من أنه ينبني على أخبار متواترة. فقد ظلت العرب منذ الجاهلية تربط بين الحمق والجنون والمسّ، والانزياح عن المواضعات الاجتماعية والآداب العامة. بل منها ما تعلق بالآداب الخاصة، كقلة الاحتفاء بالأعيان، وعدم تقديرهم في مجالسهم، ومخالفة الاحتياط واللطف في مسايرة الحكام، ومساءلة الملوك عن أحوالهم، وإهمال طريقة الجلوس في حضرتهم، وغير ذلك مما لا يدخل في الآداب الخاصة والآداب السلطانية.
وإذا كان النيسابوري يركز على حصافة بعض الحمقى والمجانين وحكمتهم، فإن ابن الجوزي، الذي كان بالأحرى فقيهًا، سيركز على الجوانب المضحكة المستهجنَة من أخبار الحمقى والمغفلين، بل إنه خصص فصولًا لما صدر من حماقة عن بعض العقلاء، ولمن كان مغفلًا من بين المحدّثين والولاة والأمراء. والحقيقة أن الضحك من هذه الأخبار ينطلق من بنية تفكير تعارض بين الجنون والعقل، وترمي بالحمقى في هامش فضفاض يعيش في تخوم العقل والشرع والتقليد. ولا شك في أن هذا الفضاء الهامشي قد يُرمى فيه أيضًا كل معارض سياسي، أو ديني، أو أخلاقي. وهو ما يدل على أن الأحمق والمغفل يمارسان خطابًا وسلوكًا قابلًا للإقصاء لعدم توافقه مع بنية الخطاب السائد والسلوك القويم المرتضى.
الحكيم المجنون في زمننا
يستعيد جاك لاكان بشكل نفساني رأي إراسموس والنيسابوري بقوله: "إن وجود الإنسان لا يمكن فقط فهمه من غير الجنون، ولكنه لن يكون وجودًا للإنسان إذا هو لم يحمل في ذاته الجنون حدًّا لحريته"... أليس هذا ما نحسه ونحن نقرأ رواية "موحا المجنون، موحا الحكيم" للطاهر بن جلون (1978)، الذي تلقى تكوينًا في علم النفس قبل أن يصبح روائيًا؟ ثم ألا تستعيد الرواية تلك العلاقة العميقة بين الحكمة والجنون التي تحدث عنها القدماء؟ فموحا وهو يحكي حيوات شخصيات الرواية سيبدي تمردًا عميقًا ضد النظام الاجتماعي والسياسي لبلاده في فترة القمع التي عرفت بسنوات الرصاص. ولهذا الغرض سوف يتلفع بجبة المجذوب الأحمق الجوال، منتقدًا وساخرًا من هذه الوضعية، في هذيان يجمع بين حكمة القول وحماقة الكلام اللاذع الذي لا يُبقي ولا يذر. ثم إنه يتعرض للاعتقال، ويودع مستشفى المجانين، غير أن الطبيب الذي فحصه سوف يؤكد خلو الرجل من الحمق، وامتلاكه لكافة قدراته العقلية. فيودع في المعتقل، ويتعرض للقتل. وبعد موته سيستمر في الكلام لا يردعه رادع، ليتحول إلى شخصية أسطورية، ووليّ صالح يرتاد قبره المغبونون والمكلومون والمضطهدون ليسمعوا صوته اللاذع النابع من قبره... وكما موحا هذا، ثمة شخصيات كثيرة في الأدب العربي، من قبيل الأبله لدى الميلودي شغموم، وسعيد أبي النحس المتشائل لدى إميل حبيبي... إنها شخصيات تستعيد ذلك الزمن الذي لم يكن فيه ثمة من فاصل بين العقل والجنون، بل كان فيه بعض الجنون حكمة...
إن كتابات من قبيل هذه تستعيد المكبوت، وتمنح للجنون موقعه في حياتنا "العاقلة جدًا"، وتكتب بشكلها الخاص تاريخًا للجنون لدينا لم يُكتب بعد، بالرغم من أنه ظل حاضرًا في تلافيف ثقافتنا، التي تعد الحداثةَ سيادةً للعقل والنظام؛ والحال أن الإبداع والخيال والنقد والسخرية لا يمكنها أن تخلخل رتابة اليومي إلا ببعض الجنون والحماقة...
فريد الزاهي 5 ديسمبر 2022
استعادات
مقطع من لوحة "ساتورن يأكل أبناءه" (فرانسيس غويا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في المقهى الذي أرتاده أحيانًا، يدخل رجل قارب الكهولة، يحمل بيد عدة سجائر، يطلب قهوته، ويبدأ في التكلم مع النادل بصوت جهير عن أشياء متفرقة، أحيانًا بعربية سليمة وفصيحة، وأخرى بدارجة بليغة، ويشرب قهوته ويرشف السيجارة تلو السيجارة. ثم يصمت لحظة ويقف ويخرج من دون أن يلتفت لأحد. أحس في كل مرة أن فحوى كلام الرجل من العمق والحصافة بحيث لو لم تكن حركاته ونظراته النزقة تخونه، وصوته واسترساله الأشبه بالهذيان، لما انتبه أي واحد منا لحمقه، أو جنونه، خاصة أن الرجل يتحدث عن حاله بكثير من الصفاء والوعي...
هكذا لا يمكننا إلا أن نستحضر ما كان يحاط به في مجتمعاتنا التقليدية الأبله والأحمق والمجنون من صفات تتراوح أحيانًا بين القداسة والتقدير والتهميش والتبكيت. وليس لنا في ذلك مثال لا يضاهى أكثر من سيدي عبد الرحمن المجذوب ورباعياته بالمغربية الدارجة التي خلدت حكمته وقدرته الفائقة على سبر أغوار العلاقات الاجتماعية. والمعروف أن المجذوب يعني الممسوس، أو المجنون، غير أن الحدّ الفاصل في المتخيل الشعبي بين المجنون والولي الصالح الناطق بالحكمة كثيرًا ما تلتبس حتى ليكادا يتطابقان.
مديح الحماقة مدخلًا للإصلاح
يُعرف إراسموس الهولندي في القرن الخامس عشر بالأخص بكتاب "مديح الحماقة" (أو البلاهة كما يسمى أحيانًا)، بالرغم من أنه أصدر كتبًا أخرى في التربية والنقد الاجتماعي. وهذا الكتاب الصغير (الذي ترجم للأسف للغة العربية ترجمة شابتها كثير من الأخطاء والتصرف الأرعن)، الذي يتحدث فيه إراسموس باسم الحمق، هو أشبه براديوسكوبيا للمجتمع الغربي في العصر الوسيط. ففيه يغدو الجنون قيمة أخلاقية قادرة على قول الحقيقة، بالسخرية والهزء أحيانًا، وبالنقد اللاذع والهجاء أحيانًا أخرى، لكافة الظواهر الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، خاصة سيادة التطير، والممارسات الخسيسة في حضن الكنيسة ولدى النبلاء.
والكتاب وهو يعري عورات المجتمع، من باب الحكمة الهوجاء والنقد الأرعن، يكشف عن معرفة عميقة بالفكر اليوناني واللاتيني، ويؤسس لفكر نقدي ممتع يفكك مفهوم العقل، ويمنح للجنون موقعه في النقد والكتابة، حتى أن البابا ليون العاشر عده كتابه ممتعًا.
لقد كتب هذا الكتاب في وقت لم يكن فيه إقصاء اجتماعي للمجانين، لأنهم كانوا يندمجون في نسيج المجتمع، في وقت كانت فيه الأمراض المعدية من قبيل الجذام، تفترض الإقصاء. وفي هذا يقول ميشيل فوكو، في كتابه عن "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي": "إن الجنون ظاهرة ظلت في حال كمون لمدة قرنين تقريبًا، وستكون مثار رعب كالجذام. وستكون كما فعل الجذام، في أصل حالات العزل والإقصاء والتطهير، وهي الحالات التي ستلازم وجوده. وقبل أن تتم السيطرة على الجنون في أواسط القرن السابع عشر، كان الجنون مرتبطًا بكافة التجارب الكبرى التي عرفها عصر النهضة" (ص 28).
"يُعرف إراسموس الهولندي في القرن الخامس عشر بالأخص بكتاب "مديح الحماقة" (أو البلاهة كما يسمى أحيانًا)، بالرغم من أنه أصدر كتبًا أخرى في التربية والنقد الاجتماعي" |
يتحدث فوكو عن سفينة الحمقى التي تبحر في عالم بين الخيال والواقع. هذا الموضوع الذي صار متداولًا لدى متصوفة القرون الوسطى في الغرب. لكنه يتساءل: لماذا ولد هذا التقارب التليد بين الماء والحمق؟ لأن السفينة كانت ترمز للقلق الذي انتاب فجأة الثقافة الغربية في نهاية العصور الوسطى. لقد أصبح المجنون شخصية مبجلة بفضل غموضها، بما تشكله من تهديد وسخرية لاذعة من العالم ومن تفاهة أناس وضعفهم.
في الصلة بين العقل والجنون
وكما في الثقافة الغربية، سوف يكون للجنون موقع هام في الثقافة العربية بالصور العجيبة التي يولّدها، كما بالمفارقات الفاضحة التي يكشف عنها، إذ نجد الحديث عن الحمقى والمجانين، عدا قصص مجانين الحب والعشق (مجنون ليلى، ومجانين الحب الإلهي الصوفي) متناثرًا في كتب الأدب الشهيرة كـ "البيان والتبيين"، و"العقد الفريد"، و"الأغاني"، وغيرها. بل لقد أفردت له مصنفات متباينة في التقدير والاعتبار والتحقير، من قبيل "عقلاء المجانين" لابن الجوزي، و"أخبار الحمقى والمغفلين" للنيسابوري، و"الفائق في أخبار المائق" لابن الأنباري...
وكما سئل النظام المعتزلي عن حدّ الجنون (تعريفه)، فأجاب بأن لا حدّ له، كذلك يبدأ النيسابوري كتابه بتداخل العقل بالجنون: "وكما شاب [الخالق] صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقولهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها بضرب من الجنون" (ص 29). وهذا التلازم بين العقل والجنون هو ما جاء على لسان أبي حيان التوحيدي عن الصاحب بن عباد، ناسبًا الكلام إلى أحدهم، فقال: "هو مجنون الكلام"، وكان أن أردف موضحًا كلامه: "تارة تبدو لك منه بلاغة قس، وتارة يلقاك بعيّ عاقل". ومن طريف الأمور أن يكون هذا التصور في ثقافتنا الكلاسيكية هو نفسه الذي يحدده مشيل فوكو كناظم للعصر الكلاسيكي الغربي: "لقد أصبح الجنون شكلًا مرتبطًا بالعقل، أو إن الجنون والعقل صارا منتظمين في علاقة أبدية لا فكاك منها. إنها علاقة تجعل لكل جنون عقلًا يحكم عليه ويتحكم فيه؛ وكل عقل له جنونه الذي يجد فيه حقيقته التافهة. إن هذا يقاس على ذاك، وفي هذه المرجعية المتبادلة يرفض بعضهما بعضًا، غير أنهما لا يتأسسان إلا استنادًا إلى هذه العلاقة" (ص 51).
ومن ضروب الجنون الحب والعشق، سواء كان عيانيًا، أم إلهيًا. والغريب أن هذا الترابط لم يظهر إلا لتعيين الحب الذي لا وصال فيه. فقد روي عن البسطامي أن أبا زيد يقول: "جَنّنني بي فمتُّ، ثم جَنَّني به فعشت، ثم جنَّنني عني وعنه فغبت. ثم أوقفني في درجة الصحو وسألني عن أحوالي الثلاث فقلت: الجنون بي فناء، والجنون عني وعنك ضناء، وأنت في كل الأحوال أولى بنا" (ص 64). هكذا يبني النيسابوري تصورًا للجنون والحمق يجمع بين العقل والحكمة والانزياح عنهما. فالجنون فناء في الآخر، سواء كان امرأة، أو قوة معنوية إلهية. وهو بذلك خروج عن المألوف يروم بلوغ الحقيقة المستترة وراء مظاهر المعنى. إن جنون العاشق والمتصوف كما المجذوب لدينا بالمغرب، هو انغماس في جوهر المعاني العميقة للوجود لاستكناه ما تخفيه عنها المظاهر وقشور المعنى.
"تصور ثقافتنا الكلاسيكية هو نفسه الذي يحدده فوكو كناظم للعصر الكلاسيكي الغربي: "لقد أصبح الجنون شكلًا مرتبطًا بالعقل، أو إن الجنون والعقل صارا منتظمين في علاقة أبدية لا فكاك منها.."" |
بيد أن هذا التصور ليس هو ما كان سائدًا بالرغم من أنه ينبني على أخبار متواترة. فقد ظلت العرب منذ الجاهلية تربط بين الحمق والجنون والمسّ، والانزياح عن المواضعات الاجتماعية والآداب العامة. بل منها ما تعلق بالآداب الخاصة، كقلة الاحتفاء بالأعيان، وعدم تقديرهم في مجالسهم، ومخالفة الاحتياط واللطف في مسايرة الحكام، ومساءلة الملوك عن أحوالهم، وإهمال طريقة الجلوس في حضرتهم، وغير ذلك مما لا يدخل في الآداب الخاصة والآداب السلطانية.
وإذا كان النيسابوري يركز على حصافة بعض الحمقى والمجانين وحكمتهم، فإن ابن الجوزي، الذي كان بالأحرى فقيهًا، سيركز على الجوانب المضحكة المستهجنَة من أخبار الحمقى والمغفلين، بل إنه خصص فصولًا لما صدر من حماقة عن بعض العقلاء، ولمن كان مغفلًا من بين المحدّثين والولاة والأمراء. والحقيقة أن الضحك من هذه الأخبار ينطلق من بنية تفكير تعارض بين الجنون والعقل، وترمي بالحمقى في هامش فضفاض يعيش في تخوم العقل والشرع والتقليد. ولا شك في أن هذا الفضاء الهامشي قد يُرمى فيه أيضًا كل معارض سياسي، أو ديني، أو أخلاقي. وهو ما يدل على أن الأحمق والمغفل يمارسان خطابًا وسلوكًا قابلًا للإقصاء لعدم توافقه مع بنية الخطاب السائد والسلوك القويم المرتضى.
الحكيم المجنون في زمننا
يستعيد جاك لاكان بشكل نفساني رأي إراسموس والنيسابوري بقوله: "إن وجود الإنسان لا يمكن فقط فهمه من غير الجنون، ولكنه لن يكون وجودًا للإنسان إذا هو لم يحمل في ذاته الجنون حدًّا لحريته"... أليس هذا ما نحسه ونحن نقرأ رواية "موحا المجنون، موحا الحكيم" للطاهر بن جلون (1978)، الذي تلقى تكوينًا في علم النفس قبل أن يصبح روائيًا؟ ثم ألا تستعيد الرواية تلك العلاقة العميقة بين الحكمة والجنون التي تحدث عنها القدماء؟ فموحا وهو يحكي حيوات شخصيات الرواية سيبدي تمردًا عميقًا ضد النظام الاجتماعي والسياسي لبلاده في فترة القمع التي عرفت بسنوات الرصاص. ولهذا الغرض سوف يتلفع بجبة المجذوب الأحمق الجوال، منتقدًا وساخرًا من هذه الوضعية، في هذيان يجمع بين حكمة القول وحماقة الكلام اللاذع الذي لا يُبقي ولا يذر. ثم إنه يتعرض للاعتقال، ويودع مستشفى المجانين، غير أن الطبيب الذي فحصه سوف يؤكد خلو الرجل من الحمق، وامتلاكه لكافة قدراته العقلية. فيودع في المعتقل، ويتعرض للقتل. وبعد موته سيستمر في الكلام لا يردعه رادع، ليتحول إلى شخصية أسطورية، ووليّ صالح يرتاد قبره المغبونون والمكلومون والمضطهدون ليسمعوا صوته اللاذع النابع من قبره... وكما موحا هذا، ثمة شخصيات كثيرة في الأدب العربي، من قبيل الأبله لدى الميلودي شغموم، وسعيد أبي النحس المتشائل لدى إميل حبيبي... إنها شخصيات تستعيد ذلك الزمن الذي لم يكن فيه ثمة من فاصل بين العقل والجنون، بل كان فيه بعض الجنون حكمة...
إن كتابات من قبيل هذه تستعيد المكبوت، وتمنح للجنون موقعه في حياتنا "العاقلة جدًا"، وتكتب بشكلها الخاص تاريخًا للجنون لدينا لم يُكتب بعد، بالرغم من أنه ظل حاضرًا في تلافيف ثقافتنا، التي تعد الحداثةَ سيادةً للعقل والنظام؛ والحال أن الإبداع والخيال والنقد والسخرية لا يمكنها أن تخلخل رتابة اليومي إلا ببعض الجنون والحماقة...