"الغصن الذهبي" والأسطورة والرمز في شعر العرب الرواد
بشير البكر 2 ديسمبر 2022
استعادات
"الغصن الذهبي" بنسخته الإنكليزية ونسخة عربية لأحد أجزائه
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الغصن الذهبي" أحد الكتب التي ساهمت في ثقافة كتاب جيل الرواد والستينيات في سورية، لبنان، العراق، وإلى حد ما مصر. ويعود ذلك إلى أنه أغنى وعمّق لدى هؤلاء البعد الأسطوري في نصوصهم، ورفدها بالرموز القديمة الخاصة بالعبادات والموت والحياة والخلود في حضارات ما بين النهرين والساحل السوري ووادي النيل. ويرجع الفضل في تعريف قراء العربية بالكتاب إلى الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، الذي ترجم جزء منه في منتصف الخمسينيات، وهو الخاص بأسطورة أدونيس. ولاحقًا سجّل العديد من النقاد الذين درسوا نصوص تلك المرحلة وما تلاها، تأثيره الكبير على الإبداع، وخاصة الخطاب الشعري العربي الحداثي لجهة الرمز والأسطورة.
ومن يقرأ الشعر العربي المعاصر ورموزه الكبار من الرواد، مثل بدر شاكر السياب، أدونيس، محمد الماغوط، يوسف الخال، وخليل حاوي، يجد أن هؤلاء وظفوا الأسطورة المحلية على نحو بارز، وكانت البداية حذرة ومحدودة وغامضة، ولكنها تطورت مع الجيل الستيني الثاني، وقلما نجد شاعرًا عربيًا، إلا واستفاد من الأسطورة رمزيًا وإشاريًا، واستطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيويه، تفاوتت بين الاستعمال الإبداعي، والاستعمال الوظيفي النصّيّ، حسب درجات ثقافتهم ومواهبهم، وكيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
ويذهب الأمر أكثر نحو النظرة إلى تشكل الحضارة في سورية الكبرى ووادي الرافدين. ومن يرجع إلى كتاب زعيم الحزب القومي السوري أنطوان سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري" يجد دعوة صريحة إلى بعث الأساطير القديمة التي نجدها عند ما عرف بـ"الشعراء التموزيين" نسبة إلى "تمّوز"، إله الخصب القديم في بلاد الشام وما بين النهرين، والذي تقول الأسطوره إن الخنزير البرّي، أو إله الشر "موت" قتله، وجبرا إبراهيم جبرا أول هذا السرب من الشعراء، الذين أكثر ما ميزهم هو الدعوة إلى استخدام أساطير البعث والميلاد، مستلهمين أساطير بابل وآشور وسورية. ويعتبر سعادة أن النهضة الحقة تعني بعث الأمة من خلال استلهام أساطيرها القديمة، "وعلى الأدباء الواعين أن يحجوا إلى الأساطير القديمة، ليعودوا إلينا حاملين أدبا، يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية".
ويعود مصطلح "الشعراء التموزيين" إلى الناقد اللبناني أسعد رزق، ومنهم خليل حاوي، يوسف الخال، أدونيس، والسياب. وعن هذه الظاهرة كتب جبرا ابراهيم جبرا كتابه بعنوان "الأسطورة في الشعر المعاصر"، وصدر في عام 1959. وفي ديوان أدونيس "قالت لي الأرض" الصادر عام 1954 تظهر أسطورة الموت والانبعاث التموزية بقوة، كما هي الحال لدى السياب الذي سكنه هاجس الإله المنبعث؛ وعبّر عنه في قصائد عدّة كان منها النهر والموت، جيكور والمدينة، المسيح بعد الصلب، أغنية في شهر آب، أنشودة المطر، ورسالة من قبر. وهناك إجماع بين نقاد ودارسي تلك المرحلة على أن جبرا إبراهيم جبرا وشعره سبق بسنوات ما اشتهر به السيّاب من حيث استعمال الأساطير والصور الشعريّة، التي تعبّر عن الجدب والخصوبة والموت والحياة، وهي الأمور التي أعطت السيّاب مكانته المتميّزة في الشعر العربيّ الحديث.
وقد وصلت بعض تأثيرات "الغصن الذهبي" إلى قصيدة الرواد وجيل الستينيات عن طريق الشاعر ت. إس. إليوت، الذي تأثر بدوره بالكتاب إلى حد كبير، ولم يكن الوحيد من أدباء الغرب الذين وقعوا في سحر هذا العمل الموسوعي، الذي يعد أوسع دراسة أنثروبولوجية، ومنهم الروائي جيمس جويس صاحب يوليسيس، بل إن العالم النفسي فرويد اعتبره "عملًا غنيًا جدًا بما يحتويه من معلومات تفيد في تطوير نظريات التحليل النفسي".
درجت أسطورة أدونيس في بلاد الشام ووادي الرافدين، وكان اسم الإله الحقيقي "تموز"، أما "أدونيس" فكانت تعني السيد، وهو صفة احترام، وانتقل بعد ذلك إلى بلاد الإغريق والدلالة على ذلك كتاب جبرا الذي صدر عام 1982 تحت عنوان "أدونيس أو تموز"، وهو كتاب له أهمية خاصة حسب جبرا، لأنه يعالج فكرة أنتجتها تربة بلادنا، ويعود بالكثير من أساطير الإغريق التي تكوّن جزءًا من الفكر الغربي والحضارة الأوروبية إلى معتقدات وأديان انبثقت من هذه الأرض. والكتاب بعرضه الممتع للمعتقدات والعادات، التي كان الناس قديمًا يمارسونها في مراسيم الخصب وطقوس العبادة، يفسر الكثير منها حتى اليوم، وقد كان لهذا الجزء، فضلًا عن خطورته الأنثروبولوجية الظاهرة، أثر عميق في الإبداع الأدبي في أوروبا في السنين الخمسين الأخيرة بما هيأه من ثروة رمزية وأسطورية.
ويعد "تموز" من أقدم آلهة السومريين ويعني "ابن الحق"، أو "الابن الحق للمياه العميقة". وفي ديانة بابل الدينية هو زوج أو محب شاب لـ "عشتروت" الإلهة الأم الكبرى، التي كانت تتجسّم فيها قوى التناسل في الطبيعة. وتقول الأساطير إنّ "تموز" يموت كلّ سنة، منتقلًا من أرض المسرّات إلى العالم المظلم تحت الأرض، وإنّ قرينته الإلهيّة ترحل كلّ سنة في البحث عنه "إلى البلاد التي لا عودة منها إلى الظلام، حيث التراب مكوّم على الأبواب". وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحبّ، فينسى الإنسان والحيوان على السواء تكثير جنسه، ويهدّد الفناء الحياة بأجمعها.
لم يكن نشر ترجمة جبرا لجزء من هذا الكتاب أمرًا سهلًا، بل على قدر كبير من التعقيد، ويروي في مقدمة الطبعة الثانية التي صدرت في بغداد عام 1979، قصة ترجمة وطباعة الكتاب. ويكشف أنه ترجمه في القدس في الأربعينيات وحمله معه إلى بغداد حينما ذهب للتدريس في كلياتها عام 1948. وحين تحدث عن أهمية الكتاب نصحه الأصدقاء بنشره، فراقت له الفكرة، عندما تبرع الشاعر حسين مردان بتبييض المسودة، ولم يطلب أكثر من 10 فلوس على الصفحة وهو ثمن زهيد، لأنه يدرك بأن المترجم لن يحصل على فلس واحد لقاء الترجمة، بل فشل في العثور على ناشر في بغداد والقاهرة لواحد من أمهات الكتب في العالم، ولم يجد سوى القاص السوري المقيم في بيروت الياس مقدسي الياس كي يطبعه على نفقته الخاصة، وصادف وجود الفنان جواد سليم في بيروت فصمم له غلافا جميلا، استوحاه من رسوم على الجرار في مدينة جبيل بلبنان، بسبب صلة "أدونيس" بمدينة جبيل أو بيبلوس القديمة، ومع ذلك بقي الكتاب مركونا في المستودع عدة سنوات حتى واتاه النصيب، فوجد طريقه للتوزيع ونفد بسرعة بعد شيوع أسطورة "تموز" في الشعر الحديث. وبعد الطبعة الثانية التي جاءت بإلحاح من الكاتب العراقي ماجد السامرائي، صار هذا الجزء من الكتاب مرجعًا في الدراسات الأدبية الحديثة، إضافة إلى الدراسات الأنثروبولوجية، رغم أن هذا العلم سار في اتجاهات مختلفة غير التي سلكها الكاتب جيمس فرايزر، ولكن التطورات التي عرفتها العلوم لم تسقط أهمية هذا الكتاب وقيمته الأدبية الرفيعة، وصار العالم يقرأه كرحلة أدبية، يذهب في الخيال أكثر من الأشياء الملموسة، وهذا سر تأثيره في الأدب الغربي.
الكتاب الأصلي نشر في عام 1900 وهو يقع في 12 مجلدًا، واختار جبرا ترجمة الجزء الأول من المجلد الرابع الذي يحمل اسم "أدونيس، آتيس، أوزيرس"، ويتجاوز حجمه أكثر من 750 صفحة، واختاره كما أشرت في البداية لأنه يعالج الأساطير التي أنتجتها بلاد الشام وما بين النهرين ومصر حول مراسيم الخصب وطقوس العبادة، والتأثير الذي تركته على الحضارة الأوروبية على نحو خاص. وبات من المؤكد أن تأثر الشعر العربي بما جاء في هذا الكتاب لم يأت على نحو مباشر فقط، بل جاء كذلك من التأثير الذي تركه الأدب الأوروبي على الأدب العربي، لا سيما وأن الأدب الأوروبي وقع تحت تأثير الكتاب بما وفره له من ثروة رمزية وأسطورية لأكثر من نصف قرن. ومن المعروف أن أحد الأسباب التي دعت فريزر لكتابة الكتاب هو المستشرق الفرنسي أرنست رينان، وتلك حكاية أخرى.
بشير البكر 2 ديسمبر 2022
استعادات
"الغصن الذهبي" بنسخته الإنكليزية ونسخة عربية لأحد أجزائه
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الغصن الذهبي" أحد الكتب التي ساهمت في ثقافة كتاب جيل الرواد والستينيات في سورية، لبنان، العراق، وإلى حد ما مصر. ويعود ذلك إلى أنه أغنى وعمّق لدى هؤلاء البعد الأسطوري في نصوصهم، ورفدها بالرموز القديمة الخاصة بالعبادات والموت والحياة والخلود في حضارات ما بين النهرين والساحل السوري ووادي النيل. ويرجع الفضل في تعريف قراء العربية بالكتاب إلى الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، الذي ترجم جزء منه في منتصف الخمسينيات، وهو الخاص بأسطورة أدونيس. ولاحقًا سجّل العديد من النقاد الذين درسوا نصوص تلك المرحلة وما تلاها، تأثيره الكبير على الإبداع، وخاصة الخطاب الشعري العربي الحداثي لجهة الرمز والأسطورة.
ومن يقرأ الشعر العربي المعاصر ورموزه الكبار من الرواد، مثل بدر شاكر السياب، أدونيس، محمد الماغوط، يوسف الخال، وخليل حاوي، يجد أن هؤلاء وظفوا الأسطورة المحلية على نحو بارز، وكانت البداية حذرة ومحدودة وغامضة، ولكنها تطورت مع الجيل الستيني الثاني، وقلما نجد شاعرًا عربيًا، إلا واستفاد من الأسطورة رمزيًا وإشاريًا، واستطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيويه، تفاوتت بين الاستعمال الإبداعي، والاستعمال الوظيفي النصّيّ، حسب درجات ثقافتهم ومواهبهم، وكيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
"من يرجع إلى كتاب زعيم الحزب القومي السوري أنطوان سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري" يجد دعوة صريحة إلى بعث الأساطير القديمة التي نجدها عند ما عرف بـ"الشعراء التموزيين" نسبة إلى "تمّوز"، إله الخصب القديم في بلاد الشام وما بين النهرين" |
ويعود مصطلح "الشعراء التموزيين" إلى الناقد اللبناني أسعد رزق، ومنهم خليل حاوي، يوسف الخال، أدونيس، والسياب. وعن هذه الظاهرة كتب جبرا ابراهيم جبرا كتابه بعنوان "الأسطورة في الشعر المعاصر"، وصدر في عام 1959. وفي ديوان أدونيس "قالت لي الأرض" الصادر عام 1954 تظهر أسطورة الموت والانبعاث التموزية بقوة، كما هي الحال لدى السياب الذي سكنه هاجس الإله المنبعث؛ وعبّر عنه في قصائد عدّة كان منها النهر والموت، جيكور والمدينة، المسيح بعد الصلب، أغنية في شهر آب، أنشودة المطر، ورسالة من قبر. وهناك إجماع بين نقاد ودارسي تلك المرحلة على أن جبرا إبراهيم جبرا وشعره سبق بسنوات ما اشتهر به السيّاب من حيث استعمال الأساطير والصور الشعريّة، التي تعبّر عن الجدب والخصوبة والموت والحياة، وهي الأمور التي أعطت السيّاب مكانته المتميّزة في الشعر العربيّ الحديث.
يرجع الفضل في تعريف قراء العربية بكتاب "الغصن الذهبي" إلى جبرا إبراهيم جبرا، الذي ترجم جزء منه في منتصف الخمسينيات وهو الخاص بأسطورة أدونيس |
درجت أسطورة أدونيس في بلاد الشام ووادي الرافدين، وكان اسم الإله الحقيقي "تموز"، أما "أدونيس" فكانت تعني السيد، وهو صفة احترام، وانتقل بعد ذلك إلى بلاد الإغريق والدلالة على ذلك كتاب جبرا الذي صدر عام 1982 تحت عنوان "أدونيس أو تموز"، وهو كتاب له أهمية خاصة حسب جبرا، لأنه يعالج فكرة أنتجتها تربة بلادنا، ويعود بالكثير من أساطير الإغريق التي تكوّن جزءًا من الفكر الغربي والحضارة الأوروبية إلى معتقدات وأديان انبثقت من هذه الأرض. والكتاب بعرضه الممتع للمعتقدات والعادات، التي كان الناس قديمًا يمارسونها في مراسيم الخصب وطقوس العبادة، يفسر الكثير منها حتى اليوم، وقد كان لهذا الجزء، فضلًا عن خطورته الأنثروبولوجية الظاهرة، أثر عميق في الإبداع الأدبي في أوروبا في السنين الخمسين الأخيرة بما هيأه من ثروة رمزية وأسطورية.
ويعد "تموز" من أقدم آلهة السومريين ويعني "ابن الحق"، أو "الابن الحق للمياه العميقة". وفي ديانة بابل الدينية هو زوج أو محب شاب لـ "عشتروت" الإلهة الأم الكبرى، التي كانت تتجسّم فيها قوى التناسل في الطبيعة. وتقول الأساطير إنّ "تموز" يموت كلّ سنة، منتقلًا من أرض المسرّات إلى العالم المظلم تحت الأرض، وإنّ قرينته الإلهيّة ترحل كلّ سنة في البحث عنه "إلى البلاد التي لا عودة منها إلى الظلام، حيث التراب مكوّم على الأبواب". وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحبّ، فينسى الإنسان والحيوان على السواء تكثير جنسه، ويهدّد الفناء الحياة بأجمعها.
"وصلت بعض تأثيرات "الغصن الذهبي" إلى قصيدة الرواد وجيل الستينيات عن طريق الشاعر ت. إس. إليوت، الذي تأثر بدوره بالكتاب إلى حد كبير، ولم يكن الوحيد من أدباء الغرب الذين وقعوا في سحر هذا العمل الموسوعي ومنهم الروائي جيمس جويس صاحب "يوليسيس"" |
الكتاب الأصلي نشر في عام 1900 وهو يقع في 12 مجلدًا، واختار جبرا ترجمة الجزء الأول من المجلد الرابع الذي يحمل اسم "أدونيس، آتيس، أوزيرس"، ويتجاوز حجمه أكثر من 750 صفحة، واختاره كما أشرت في البداية لأنه يعالج الأساطير التي أنتجتها بلاد الشام وما بين النهرين ومصر حول مراسيم الخصب وطقوس العبادة، والتأثير الذي تركته على الحضارة الأوروبية على نحو خاص. وبات من المؤكد أن تأثر الشعر العربي بما جاء في هذا الكتاب لم يأت على نحو مباشر فقط، بل جاء كذلك من التأثير الذي تركه الأدب الأوروبي على الأدب العربي، لا سيما وأن الأدب الأوروبي وقع تحت تأثير الكتاب بما وفره له من ثروة رمزية وأسطورية لأكثر من نصف قرن. ومن المعروف أن أحد الأسباب التي دعت فريزر لكتابة الكتاب هو المستشرق الفرنسي أرنست رينان، وتلك حكاية أخرى.