في ذكرى ميلاد فيروز: خيوط الحرير وأشعة الفضة
خطيب بدلة 28 نوفمبر 2022
استعادات
فيروز في الجامعة الأميركية بدبي (30/3/2006/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة كتب ومراجع ومقالات مثيرة متوفرة على الإنترنت تتحدث عن بدايات نهاد حداد "فيروز"، وعن اكتشاف موهبتها من قبل محمد فليفل، وإعجاب الموسيقار حليم الرومي بصوتها وإعطائها بعض الألحان، ثم زواجها من عاصي الرحباني، إلى آخر هذه الأخبار.. لذا سأحاول، في هذه المقالة، إضاءة بعض المحطات المهمة الأخرى في تاريخ هذه السيدة العبقرية.
قال الأستاذ الكبير محمد عبد الوهاب إن أم كلثوم معجزة قومية، وفيروز معجزة لبنانية.. وهذا القول لا ينتقص من شأنها، فلعل روعة فيروز تكمن في لبنانيتها، بل في شاميتها، ويكفي أن نشير إلى أن انطلاقتها الأولى في عالم الاحتراف كانت من إذاعة دمشق سنة 1952، عندما قدمت أغنية "عتاب"، ومعلوم أن محمد عبد الوهاب كان أقرب إلى فيروز من أم كلثوم، وهو الذي قال: صوت فيروز يشبه خيوط الحرير، وأشعة الفضة..
في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى مطلع الستينيات، كان عبدالوهاب وأم كلثوم يبدوان مثل هرمين متجاورين، أو خطين متوازيين، لا يلتقيان على الرغم من الاحترام القائم بينهما، ولولا أن أبدى جمال عبدالناصر رغبته في أن يجتمعا في عمل فني، لما التقيا، في سنة 1964، بأغنية "إنت عمري"، اللقاء الذي أطلق عليه جمهور النقاد "لقاء السحاب".. وأما تعارف الأستاذ عبد الوهاب بالأخوين الرحباني وفيروز، فيعود إلى سنة 1961، عندما لحن لفيروز أغنية "سهار"، من كلمات الأخوين الرحباني. ولحن لها، في ما بعد، "سكن الليلُ" 1967، من شعر جبران، و"مر بي"، من شعر سعيد عقل 1968، وخصها بأجمل أغانيه القديمة لتغنيها بصوتها، مثل "خايف أقول اللي في قلبي"، و"يا جارة الوادي"..
يقول منصور الرحباني، وهو إحدى الركيزتين الأساسيتين في هرم التجربة الرحبانية الفيروزية: كان اللقاء الأول مع "الأستاذ عبد الوهاب" في فندق "عاليه" الكبير. لم يكن يعرف أعمالَنا، فأسمعناه بعضها، وخرجنا من تلك الجلسة، أنا وعاصي، بشعور أننا بتنا صديقين له، بعد ذاك، توالت الزيارات المتبادلة بيننا وبينه، وكان، كلما ذهبنا الى مصر، يستضيفنا في منزله، وكلما وصل إلى بيروت بالباخرة، كان يتصل بنا مستفسرًا بلهفة عن جديدنا الفني، فنجتمع، وندعوه إلى بيوتنا ومكتبنا.
مشروع الرحباني، في الأساس، موسيقي شعري، وأما فيروز، فقد دخلت في المشروع بوصفها شريكة فنية للأخوين، ومع عاصي شريكة فنية وعاطفية (زوجة)، ولم تكن كأي زوجة، بل ومع شيء من الخضوع (الفني)، بدليل قولها، في الفيلم الوثائقي (كانت حكاية ـ 2009)، الذي أعدته وأخرجته ابنتهما: عاصي كان يريد كل شيء على صورته، وأنا كنت أنفذ كل ما يريده مني، لأنني كنتُ أؤمن به. وهذا المعنى أكده المخرج يوسف شاهين، بعدما خاض مع فيروز والرحابنة تجربة فيلم "بياع الخواتم" (1964)، إذ قال إن عاصي كان يتذمر أحيانًا من أداء فيروز في البروفات، ولا يقول لها (يا سلام) عندما تتألق، مع أنها، في رأيي، تستحق مئة يا سلام. أردتُ أن أقول إن مشروع عاصي ومنصور الرحباني كان شبه مغلق على نفسه، ولكنهما، وبكل تواضع، لم يمانعا أن تغني فيروز من ألحان الأستاذ عبدالوهاب، لمعرفتهما قيمةَ هذا الهرم الفني، بدليل أن الموسيقار زكي ناصيف لم يكتفِ بالقول إنه قامة كبيرة في الموسيقى العربية، بل قال: محمد عبدالوهاب (هو) الموسيقى العربية! وعلى ذكر زكي ناصيف، كان هذا المبدع واحدًا من عصبة الخمسة، التي كانت تعمل على تحديث الموسيقى العربية، وتطويرها، مع عاصي الرحباني، ومنصور الرحباني، وتوفيق الباشا، وتوفيق سكر، وكان ثاني ملحن لبناني يتيح له الأخوان الرحباني التلحينَ لفيروز، بعد شيخ الملحنين فيلمون وهبي، ولم يُعْطَ هذا الشرف لأحد من الملحنين السوريين سوى محمد محسن.
ما فعلته أم كلثوم، في مصر، بشكل أساسي، أن صوتها الكبير، مضافًا إليه موهبتها وخبرتها، كان العمود الأساس الذي ارتفع فوقه بناء النهضة الغنائية العربية، خلال ثلاثة الأرباع الأولى من القرن العشرين، إذ ارتفعت معه، وبسببه، وبجواره، أعمدة كثيرة، لشعراء عباقرة مثل بيرم التونسي، وأحمد شوقي، وأحمد رامي، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، وعبدالوهاب محمد، وأحمد شفيق كامل، وملحنين كبار جدًا، مثل أبي العلا محمد، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي، وكان وجود أم كلثوم السبب الرئيس في جعل شعراء وملحنين آخرين يطورون إبداعهم على أمل أن يصلوا إلى فرصة الاشتراك معها في أغنية ما... وهذا، تقريبًا، ما فعلته فيروز في بلاد الشام، وعبر عنه الناقد إلياس سحاب بقوله إن صوت فيروز كان، بشكل رئيسي، الحامل الذي حمل التطوير الموسيقي والتطوير الشعري اللذين قام بهما الأخوان الرحباني، بكلام الأغنية العربية أولًا، وباللحن ثانيًا.. وقال أنسي الحاج: ما من مكافأة لشاعر أكبر من أنْ تُغَنّي له فيروز.
غنت فيروز من شعر عنترة بن شداد "ولقد ذكرتك والرماح نواهل"، وأبي نواس "حاملُ الهوى تعب"، ولسان الدين بن الخطيب "زمان الوصل"، وأحيت تراث الموسيقار والمسرحي السوري الكبير أبي خليل القباني، إذ غنت له "يا مال الشام"، و"يا طيرة طيري"، و"بالذي أسكر من عذب اللمى"، وأحيت تراث موسيقار الشعب، الشيخ سيد درويش، وغنت له "زوروني كل سنة مرة"، و"الحلوة دي"، و"أهو ده اللي صار"، وتألق من الذين غنت من أشعارهم كل من نزار قباني، والأخطل الصغير (بشارة الخوري)، وميشال طراد، وطلال حيدر، وجوزيف حرب، الذي شكل مع فيروز وفيلمون وهبي، بعد رحيل عاصي، ثلاثيًا نادر الوجود، فقدموا سلسلة من الروائع: منها "لما ع الباب"، و"البواب"، و"إسوارة العروس"، و"بليل وشتي"، و"يا ريت منن"، و"ياقونة شعبية"..
وأما سعيد عقل فكان له وجود من نوع خاص في التجربة الرحبانية الفيروزية، فقد اختص بكتابة نوعين من القصائد، الأول عرف باسم الشاميات، فكان الرحابنة يشاركون بواحدة من شامياته سنويًا، في معرض دمشق الدولي، وأبرزها: "شامُ يا ذا السيفُ لم يغبِ"، و"يا شامُ عاد الصيفُ"، "قرأتُ مجدكِ"، و"نسمتْ من صوب سورية الجنوبُ"، و"سائليني يا شآم".. وفي سنة 1961، عُدَّت قصيدة "سائليني" ردًا (قوميًا سوريًا) على الوحدة بين سورية ومصر، فمنذ اليوم الأول لانفصال سورية عن مصر؛ صارت تذاع من إذاعة دمشق على مدار الساعة، وكأنها نشيد وطني، أو مارش عسكري انقلابي، وهي، للأمانة، قصيدة عالية المستوى من حيث السبك، ومن حيث الألحان الرحبانية الفخمة، ولكنَّ فيها نوعًا من إلصاق صفة غير حقيقية بسورية تتجلى في قوله:
أمويون فإن ضقتِ بهم
ألحقوا الدنيا ببستان هشامْ.
وأما النوع الثاني، فهو الأشعار التي كتبها سعيد عقل لفيروز، وفيها من الصور الشعرية والبلاغة ما يجعلها حجة في وجه من يقولون إن الشعر لا يمكن أن يكون إلا باللغة الفصحى، كقوله في قصيدة مشوار:
وقالوا غمرني مرّتين وشَدّْ
شوفوا الكذب لوين
مرّة مليح.. اتنين؟
ولا ردّتو إيدي ولا هُو ارْتَدّْ.
أضف إلى ذلك أن سعيد عقل أدخل إلى عالم الغناء اسمين أنثويين لم يكونا موجودين في قائمة أسماء البنات في العربية، هما: رندلى، ويارا.. وإني أرى في قصيدة يارا أمرًا عجيبًا، وهو أن الشاعر كان يتغزل بالفتاة يارا، وبأن "جدايلها شقر، فيهن بيتمرجح عمر"، وفجأة قفز إلى أن الأخ الصغير ليارا غفا على زندها، وصارت تصلي وتدعو ربها أن يكبِّره، فبدت لنا القصيدة وكأنها مكتوبة للأطفال! مع أن فيها صورًا شعرية مدهشة، مثل قوله: "الرياح تدوزن أوتارا".. وقولها: "كل نجمة تبوح بسرارا".
العمر المديد لمغنيتنا الكبيرة فيروز التي ما زالت أغانيها تذكرنا بأن الدنيا بخير، بدليل أن الشمس "الشموسة" أشرقت، فوضعنا القهوة على "الموقدة والنار"، وانساب صوتها الشجي، يقول لنا "أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعُكَ من سحبي".
خطيب بدلة 28 نوفمبر 2022
استعادات
فيروز في الجامعة الأميركية بدبي (30/3/2006/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة كتب ومراجع ومقالات مثيرة متوفرة على الإنترنت تتحدث عن بدايات نهاد حداد "فيروز"، وعن اكتشاف موهبتها من قبل محمد فليفل، وإعجاب الموسيقار حليم الرومي بصوتها وإعطائها بعض الألحان، ثم زواجها من عاصي الرحباني، إلى آخر هذه الأخبار.. لذا سأحاول، في هذه المقالة، إضاءة بعض المحطات المهمة الأخرى في تاريخ هذه السيدة العبقرية.
قال الأستاذ الكبير محمد عبد الوهاب إن أم كلثوم معجزة قومية، وفيروز معجزة لبنانية.. وهذا القول لا ينتقص من شأنها، فلعل روعة فيروز تكمن في لبنانيتها، بل في شاميتها، ويكفي أن نشير إلى أن انطلاقتها الأولى في عالم الاحتراف كانت من إذاعة دمشق سنة 1952، عندما قدمت أغنية "عتاب"، ومعلوم أن محمد عبد الوهاب كان أقرب إلى فيروز من أم كلثوم، وهو الذي قال: صوت فيروز يشبه خيوط الحرير، وأشعة الفضة..
في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى مطلع الستينيات، كان عبدالوهاب وأم كلثوم يبدوان مثل هرمين متجاورين، أو خطين متوازيين، لا يلتقيان على الرغم من الاحترام القائم بينهما، ولولا أن أبدى جمال عبدالناصر رغبته في أن يجتمعا في عمل فني، لما التقيا، في سنة 1964، بأغنية "إنت عمري"، اللقاء الذي أطلق عليه جمهور النقاد "لقاء السحاب".. وأما تعارف الأستاذ عبد الوهاب بالأخوين الرحباني وفيروز، فيعود إلى سنة 1961، عندما لحن لفيروز أغنية "سهار"، من كلمات الأخوين الرحباني. ولحن لها، في ما بعد، "سكن الليلُ" 1967، من شعر جبران، و"مر بي"، من شعر سعيد عقل 1968، وخصها بأجمل أغانيه القديمة لتغنيها بصوتها، مثل "خايف أقول اللي في قلبي"، و"يا جارة الوادي"..
يقول منصور الرحباني، وهو إحدى الركيزتين الأساسيتين في هرم التجربة الرحبانية الفيروزية: كان اللقاء الأول مع "الأستاذ عبد الوهاب" في فندق "عاليه" الكبير. لم يكن يعرف أعمالَنا، فأسمعناه بعضها، وخرجنا من تلك الجلسة، أنا وعاصي، بشعور أننا بتنا صديقين له، بعد ذاك، توالت الزيارات المتبادلة بيننا وبينه، وكان، كلما ذهبنا الى مصر، يستضيفنا في منزله، وكلما وصل إلى بيروت بالباخرة، كان يتصل بنا مستفسرًا بلهفة عن جديدنا الفني، فنجتمع، وندعوه إلى بيوتنا ومكتبنا.
"التعارف بين عبد الوهاب والأخوين رحباني وفيروز يعود إلى سنة 1961، عندما لحن لفيروز أغنية "سهار"، من كلمات الأخوين الرحباني. ولحن لها، في ما بعد، "سكن الليلُ" 1967، من شعر جبران، و"مُرَّ بي"، من شعر سعيد عقل 1968" |
مشروع الرحباني، في الأساس، موسيقي شعري، وأما فيروز، فقد دخلت في المشروع بوصفها شريكة فنية للأخوين، ومع عاصي شريكة فنية وعاطفية (زوجة)، ولم تكن كأي زوجة، بل ومع شيء من الخضوع (الفني)، بدليل قولها، في الفيلم الوثائقي (كانت حكاية ـ 2009)، الذي أعدته وأخرجته ابنتهما: عاصي كان يريد كل شيء على صورته، وأنا كنت أنفذ كل ما يريده مني، لأنني كنتُ أؤمن به. وهذا المعنى أكده المخرج يوسف شاهين، بعدما خاض مع فيروز والرحابنة تجربة فيلم "بياع الخواتم" (1964)، إذ قال إن عاصي كان يتذمر أحيانًا من أداء فيروز في البروفات، ولا يقول لها (يا سلام) عندما تتألق، مع أنها، في رأيي، تستحق مئة يا سلام. أردتُ أن أقول إن مشروع عاصي ومنصور الرحباني كان شبه مغلق على نفسه، ولكنهما، وبكل تواضع، لم يمانعا أن تغني فيروز من ألحان الأستاذ عبدالوهاب، لمعرفتهما قيمةَ هذا الهرم الفني، بدليل أن الموسيقار زكي ناصيف لم يكتفِ بالقول إنه قامة كبيرة في الموسيقى العربية، بل قال: محمد عبدالوهاب (هو) الموسيقى العربية! وعلى ذكر زكي ناصيف، كان هذا المبدع واحدًا من عصبة الخمسة، التي كانت تعمل على تحديث الموسيقى العربية، وتطويرها، مع عاصي الرحباني، ومنصور الرحباني، وتوفيق الباشا، وتوفيق سكر، وكان ثاني ملحن لبناني يتيح له الأخوان الرحباني التلحينَ لفيروز، بعد شيخ الملحنين فيلمون وهبي، ولم يُعْطَ هذا الشرف لأحد من الملحنين السوريين سوى محمد محسن.
ما فعلته أم كلثوم، في مصر، بشكل أساسي، أن صوتها الكبير، مضافًا إليه موهبتها وخبرتها، كان العمود الأساس الذي ارتفع فوقه بناء النهضة الغنائية العربية، خلال ثلاثة الأرباع الأولى من القرن العشرين، إذ ارتفعت معه، وبسببه، وبجواره، أعمدة كثيرة، لشعراء عباقرة مثل بيرم التونسي، وأحمد شوقي، وأحمد رامي، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، وعبدالوهاب محمد، وأحمد شفيق كامل، وملحنين كبار جدًا، مثل أبي العلا محمد، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي، وكان وجود أم كلثوم السبب الرئيس في جعل شعراء وملحنين آخرين يطورون إبداعهم على أمل أن يصلوا إلى فرصة الاشتراك معها في أغنية ما... وهذا، تقريبًا، ما فعلته فيروز في بلاد الشام، وعبر عنه الناقد إلياس سحاب بقوله إن صوت فيروز كان، بشكل رئيسي، الحامل الذي حمل التطوير الموسيقي والتطوير الشعري اللذين قام بهما الأخوان الرحباني، بكلام الأغنية العربية أولًا، وباللحن ثانيًا.. وقال أنسي الحاج: ما من مكافأة لشاعر أكبر من أنْ تُغَنّي له فيروز.
"كان زكي ناصيف واحدًا من عصبة الخمسة، التي كانت تعمل على تحديث الموسيقى العربية، وتطويرها، مع عاصي الرحباني، ومنصور الرحباني، وتوفيق الباشا، وتوفيق سكر" |
غنت فيروز من شعر عنترة بن شداد "ولقد ذكرتك والرماح نواهل"، وأبي نواس "حاملُ الهوى تعب"، ولسان الدين بن الخطيب "زمان الوصل"، وأحيت تراث الموسيقار والمسرحي السوري الكبير أبي خليل القباني، إذ غنت له "يا مال الشام"، و"يا طيرة طيري"، و"بالذي أسكر من عذب اللمى"، وأحيت تراث موسيقار الشعب، الشيخ سيد درويش، وغنت له "زوروني كل سنة مرة"، و"الحلوة دي"، و"أهو ده اللي صار"، وتألق من الذين غنت من أشعارهم كل من نزار قباني، والأخطل الصغير (بشارة الخوري)، وميشال طراد، وطلال حيدر، وجوزيف حرب، الذي شكل مع فيروز وفيلمون وهبي، بعد رحيل عاصي، ثلاثيًا نادر الوجود، فقدموا سلسلة من الروائع: منها "لما ع الباب"، و"البواب"، و"إسوارة العروس"، و"بليل وشتي"، و"يا ريت منن"، و"ياقونة شعبية"..
"الأشعار العامية التي كتبها سعيد عقل لفيروز فيها من الصور الشعرية والبلاغة ما يجعلها حجة في وجه من يقولون إن الشعر لا يمكن أن يكون إلا باللغة الفصحى" |
وأما سعيد عقل فكان له وجود من نوع خاص في التجربة الرحبانية الفيروزية، فقد اختص بكتابة نوعين من القصائد، الأول عرف باسم الشاميات، فكان الرحابنة يشاركون بواحدة من شامياته سنويًا، في معرض دمشق الدولي، وأبرزها: "شامُ يا ذا السيفُ لم يغبِ"، و"يا شامُ عاد الصيفُ"، "قرأتُ مجدكِ"، و"نسمتْ من صوب سورية الجنوبُ"، و"سائليني يا شآم".. وفي سنة 1961، عُدَّت قصيدة "سائليني" ردًا (قوميًا سوريًا) على الوحدة بين سورية ومصر، فمنذ اليوم الأول لانفصال سورية عن مصر؛ صارت تذاع من إذاعة دمشق على مدار الساعة، وكأنها نشيد وطني، أو مارش عسكري انقلابي، وهي، للأمانة، قصيدة عالية المستوى من حيث السبك، ومن حيث الألحان الرحبانية الفخمة، ولكنَّ فيها نوعًا من إلصاق صفة غير حقيقية بسورية تتجلى في قوله:
أمويون فإن ضقتِ بهم
ألحقوا الدنيا ببستان هشامْ.
وأما النوع الثاني، فهو الأشعار التي كتبها سعيد عقل لفيروز، وفيها من الصور الشعرية والبلاغة ما يجعلها حجة في وجه من يقولون إن الشعر لا يمكن أن يكون إلا باللغة الفصحى، كقوله في قصيدة مشوار:
وقالوا غمرني مرّتين وشَدّْ
شوفوا الكذب لوين
مرّة مليح.. اتنين؟
ولا ردّتو إيدي ولا هُو ارْتَدّْ.
أضف إلى ذلك أن سعيد عقل أدخل إلى عالم الغناء اسمين أنثويين لم يكونا موجودين في قائمة أسماء البنات في العربية، هما: رندلى، ويارا.. وإني أرى في قصيدة يارا أمرًا عجيبًا، وهو أن الشاعر كان يتغزل بالفتاة يارا، وبأن "جدايلها شقر، فيهن بيتمرجح عمر"، وفجأة قفز إلى أن الأخ الصغير ليارا غفا على زندها، وصارت تصلي وتدعو ربها أن يكبِّره، فبدت لنا القصيدة وكأنها مكتوبة للأطفال! مع أن فيها صورًا شعرية مدهشة، مثل قوله: "الرياح تدوزن أوتارا".. وقولها: "كل نجمة تبوح بسرارا".
العمر المديد لمغنيتنا الكبيرة فيروز التي ما زالت أغانيها تذكرنا بأن الدنيا بخير، بدليل أن الشمس "الشموسة" أشرقت، فوضعنا القهوة على "الموقدة والنار"، وانساب صوتها الشجي، يقول لنا "أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعُكَ من سحبي".