من المهد إلى اللحد ..لوحات الذكريات المؤلمة في الفن التشكيلي..هند مسعد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من المهد إلى اللحد ..لوحات الذكريات المؤلمة في الفن التشكيلي..هند مسعد


    لوحة
    ألم الذكرى.. لوحات الذكريات المؤلمة في الفن التشكيلي
    "إصرار الذاكرة" الشهيرة للرسام السريالي سلفادور دالي (مواقع التواصل)
    هند مسعد
    20/8/2021

    من الولادة إلى الطفولة ومن الشباب للشيخوخة ومن المهد إلى اللحد، سنوات وسنوات يقضيها الإنسان مُحملاً بتلال من الذكريات. يعيش ويموت دون أن يدري أكان من الأفضل عدم امتلاكها أم يجب عليه الحفاظ عليها مخافة النسيان.

    كانت الذاكرة والذكريات دومًا محط دراسة ورسم وكتابة بين العلماء والأدباء والفنانين، كل أولئك عكفوا على محاولة فهم ذاك العملاق المبهم الذي يسمى الذاكرة، الأرشيف الذي يسجل كل شيء في حياة الجميع ويستطيع أن يحط من قدرنا أو يرفع من شأننا كيفما يشاء.
    الذاكرة المؤلمة


    قدم الرسّام السريالي البلجيكي رينيه ماغريت (1898-1967)؛ في لوحته الشهيرة "الذاكرة" (Memory)، المرسومة عام 1948، تمثال عبارة عن رأس إنسان لكنه مصاب بجرح. ماغريت الذي عُرف عنه استخدامه المُفرط للرموز المؤلمة والمخيفة في آن؛ ترك للمشاهد مساحة واسعة لتأويل الصورة المرئية أمامه، لكنه في الوقت ذاته جعل تلك الصورة محكومة الدلالات والمعاني.

    فالتمثال نفسه معبر عن جميع الناس، هُم في النهاية صفحات، صحيح مختلفة تمامًا، لكن من الكتاب نفسه بغض النظر عن هوياتهم الثقافية أو جبلتهم الداخلية، فما الذي يُمكن فهمه من لوحة تمثال يَصلُح أن يكون مُعبرًا عن جميع الناس، ووجه ملوّث بالدماء، ويُطلق عليها الذاكرة؟

    الذاكرة لدى ماغريت جرحٌ في الرأس لا يندمل، فالإنسان الحجري في اللوحة لم يشفع له إنه مجرد تمثال شخصيته مبهمة ومفرغة من انتمائها. تستطيع الذكريات المؤلمة إراقة دماء أكثر الشخصيات جمودًا ولا مبالاة، فالذاكرة وفقًا لمارغريت لها قدرة سحرية على إعادة خلق الشعور مهما بدا الجسد ميتًا أو مفرغًا من الحياة.
    لوحة الذاكرة للرسّام البلجيكي رينيه ماغريت (مواقع التواصل)إصرار الذاكرة


    يقدم كذلك الرسام السريالي سلفادور دالي في لوحته الشهيرة "إصرار الذاكرة" (The persistence of memory)، المرسومة عام 1931، ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، واحدة من أكثر تمثيلات الذاكرة غموضًا، الساعات ذائبة ورخوة والمكان مبهم وغريب.

    تقول المؤرخة الإنجليزية داون آديس "الساعات المائعة هي رمز غير واعٍ لنسبية المكان والزمان. إنها تأمل سريالي في انهيار مفاهيمنا الثابتة عن نظام الكون".

    استخدم دالي تقنيات رسم واقعية للغاية ومفهومة للعين، مثل الساعات والحشرات، من أجل تصوير معنى يتجاوز حدود الواقع لكن يمكن استنباطه بالنظر في تاريخ اللوحة. فقد رسمها دالي في خضم فترة عصيبة من تاريخ البشرية وهي فترة الحربين العالميتين.

    كما أنه رسمها بالتزامن مع نظرية آينشتاين عن النسبية التي زعزعت مفاهيم البشر عن الزمان والمكان وأثر نسبية الوقت في تشكيل الحياة على الأرض. تلك الزعزعة الهائلة لمعتقدات البشر الثابتة عن الزمن دفعت بالكثير من الفنانين لاعتماد السريالية منهجا لهم.

    ففي النهاية كل المعاني تخضع للنسبية وليس للوقت فقط، وما يراه الجندي أمامه في ساحة القتال من أعداء يقفون في معسكر الشر ليس سوى جنود في ساحة القتال وهم أنفسهم ينظرون له كعدو يقف في معسكر الشر. النسبية هنا لم تعد مقتصرة على الوقت أو موقعنا في الكون، بل امتدت لتغطي، بكل ما فيها من عدم يقين، الأفكار والمعاني وحتى المعتقدات الدينية.

    "هل أنا الذي صنع مني الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟ هل أنا فعلا ما أنا عليه الآن؟" – كافكا

    وفي إصرار الذاكرة نرى بوضوح تمثيل واقعي لحالة عدم اليقين الهائل تلك، بأسلوب سريالي، اللفظة التي تعني تخطي حدود الواقع. فالساعات، الرمز الأبدي للوقت، مغطاة بالنمل، أصابها قرح وتعفنت. واستخدام التعفن هنا هو الآخر رمزية لتداعي مفهومنا الثابت عن الوقت وعما هو حقيقي وواقعي أمام الحروب العالمية والاكتشافات والنظريات العلمية.

    فما يتعفن ويصل لدرجة التحلل هو الشيء الذي يضمحل ويمضي إلى دون رجعة، وقد باتت كل تلك المسلمات عفنة وغير ذي قيمة في كون لا يمكن فيه أن نعرف الوقت بدقة، ناهينا عن معرفة الحق من الباطل أو الخير من الشر، هذا هو عالم الحداثة وما بعدها.
    ذكرى قلب


    لطالما كانت قصة الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو من أكثر قصص الرسامين حزنًا. الشابة التي عانت شلل الأطفال ثم وبسبب حادث سير صارت مُقعدة وعاجزة عن استخدام رجليها تمامًا. وظهرت أصداء تلك المأساة، إلى جانب مآس أخرى، في أعمالها الفنية مرارًا وتكرارًا.
    لوحة "ذاكرة، قلب" للمكسيكية فريدا كاهلو (مواقع التواصل)
    فالعجز البدني أثر في حياتها العاطفية بشكل كبير حيث عانت من خيانات زوجها، الرسّام المكسيكي الشهير دييغو ريفيرا، المتكررة لها. وقدمت كاهلو في لوحتها "ذاكرة، قلب" (Memory, Heart)، المرسومة عام 1937، صورة مؤلمة عن مدى بؤسها واستيائها من العلاقة التي حدثت قبل ذاك التاريخ بعامين بين زوجها وصديقة لهما تدعى كريستينا.

    في هذه اللوحة استخدمت كاهلو الجروح والإصابات الجسدية للتعبير عن الأذى النفسي الذي اختبرته. ونرى أنها مثلت الذاكرة كجرح حي تسيل منه الدماء تمامًا كرينيه ماغريت. الدموع هي أبرز سمات وجهها في تلك اللوحة، والجسد مُخترق بقضيب أو عصا كبيرة تمر من الصدر ويجلس عليها كيوبيد من الطرفين.

    في الخلف، ملابس التلميذة التي لم تعد موجودة، وبجوارها ملابس امرأة شابة والتي صارت هي. التلميذة والشابة كلتاهما لهما ذراع واحدة وتقف كاهلو نفسها بلا ذراعين، فقد بُترت نصف مشاعرها منذ الطفولة بسبب شلل الأطفال وعاشت نصف طفلة، وبُترت أيضًا أنوثتها بسبب الحادث الذي ألم بها وخيانات زوجها وعاشت نصف أنثى، وهي بين الاثنتين تقف على جهاز تعويضي يساعدها بصعوبة على التحرك.

    تُرسل كاهلو في "ذكرى، قلب" رسالة مأساوية شديدة الحزن، فقلبها المُلقى أرضًا أمام جسدها تسيل منه الدماء، لا سبيل لالتقاطه أو إنقاذه وهي مبتورة الأوصال، وكيوبيد الجالس على طرفي العصا التي تخترقها لا ينم عن ملاك بل عن قاتل.

    المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
يعمل...
X