الفنان الأسباني بابلو بيكاسو..كيف صور بؤس الحياة في لوحة؟..هند مسعد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفنان الأسباني بابلو بيكاسو..كيف صور بؤس الحياة في لوحة؟..هند مسعد


    كيف صور بيكاسو بؤس الحياة في لوحة؟
    هند مسعد
    24/4/2017

    هل تعتقد أنّ مُعاناتك ستكون أقل لأنّك أَحْبَبت الحق والخير والعدل والجمال؟ هل تعتقد أنّ رثاءك الأخلاقي لعالم غير أخلاقي سيُخفّف مِن وحشيته، إنَّ الضررَ هائل وإصلاحه صار مُستحيلا، وهناك وعدٌ واحدٌ وحيدٌ تستطيع أن تعدَ نفسَك به في هذا العالم. وعدٌ بالنسيان؛ نسيان التراجيديا.

    التراجيديا ليست مجرد عمل أدبي أو مسرحي؛ بل هي الشبح الأول الذي خيَّم على الوجود الإنساني منذ قتل قابيل هابيل؛ بل قُبيل ذلك، منذ طُرد آدم وحواء مِن الجنة. كانت تلك هي التراجيديا الأولى. لقد التحفت كل أعمال من تأملوا الوجود الإنساني بها. أنبياء وصالحون، مُفكرون وفلاسفة، فنّانون ورسّامون، تلحفوا بها، نَظَّروا لها وتفلسفوا فيها؛ كل أولئك، وبالطبع بيكاسو، الذي ظلت مأساته /تراجيدياه عابرة للزمان مُلخِّصة بعُمق لما نَظَّر له كُلّ هؤلاء.
    المأساة /التراجيديا 1903


    هي لوحة للرسّام الأسباني بابلو بيكاسو (1881 – 1973) [1]، وإحدى لوحات الفترة الزرقاء، والفترة الزرقاء هي فترة أعقبت انتحار صديق بيكاسو، الشاعر الفرنسي كارلوس كاسيجماس، بدأت عام 1901 وانتهت عام 1904. سيطرت على لوحات بيكاسو في تلك الفترة مواضيع مأساوية حزينة. واستخدم في رسمها اللون الأزرق ودرجاته بشكلٍ طاغٍ ولهذا سُميت بالزرقاء.[2]


    رُسمت "التراجيديا" بأسلوب تعبيري رمزي قُبيل ظهور التكعيبيّة بمفهومها المعروف. والتعبيرية هي حالة فنية تميل لتمثيل العالم بطريقة انسيابية وألوان قوية؛ فظهرت الأعمال وكأنها نزيف ألوان على القماش. فالمهم في اللوحة ليس الشكل الجمالي؛ بل صدق انفعالها. ركزت التعبيرية على الانفعالات العاطفية والحالات النفسية للرسام ورؤيته الشخصية للعالم كمبحث رئيس لمعظم اللوحات.[3]

    لقد كانت التعبيرية ببساطة انعكاسًا لأزمة كبرى. لقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر تطورات سياسية كُبرى، وألقى إعلان نيتشه موت الإله بظلاله على عالم ما بعد الحداثة كله. لقد تراجعت الميتافزيقيا تراجعًا حادًا وبرزت نظريات علمية أخرى مثل نظرية التطور لعالم الطبيعة البريطاني تشارلز داروين (1809 – 1882). كما ظهر أثر أفكار آدم سميث (1723 – 1790) أبو الاقتصاد الحديث حول السوق الحر. هذا غير ظهور الدول القومية بمفهومها الحديث.
    اللوحة مُشبعة بالعديد من القراءات. هل قصد بيكاسو تراجيديا المرض؟ أم تراجيديا الموت؟ أم تراجيديا الفقد؟ رُبما تراجيديا الفقر والعوز؟ أم هي، دون الوقوف على مأساة بعينها

    أضف لذلك، الحروب العالمية والقنابل الذرية وملايين الأبرياء الذين ماتوا هونا بلا ذنب. لقد هزت كل تلك اللكمات المُتسارعة مِن توازن العالم الذي بدا وكأنه يهرول نحو الهاوية. كل هذا أفضى بدوره لأزمة المعنى. ظهرت التعبيرية في هذا العالم المُختل وكأنها نوع من الهرولة وراء الميتافزيقيا الضائعة.

    لقد أتت ضربات الفرشاة في لوحات التعبيرية شديدة الانسيابيّة. وكأن الألوان تسيل وتنزف. كذلك المواضيع، أتى معظمها دراميا وعاطفيا ومأساويا وميتافزيقيا. ونستطيع القول إن التعبيرية كانت حالة تعبير عن القلق الوجودي الذي آلَ له الإنسان الحديث.
    الرمزيّة في التراجيديا /المأساة
    في كتابه (Picasso, a study of the artist work)، يورد الناقد الفنّي الفرنسي فرانك إلجر (1899 – 1978): "إنّ الظلال المُشرقة والنابضة بالحياة قد لا تكون مناسبة لأجساد تعوزها الحيوية، ووجوه مُظلمة وخائفة لبشر يذبلون تحت وطأة عذاب لا يستطيعون فهمه. فبرودة الأزرق أكثر انسجامًا مع عالم المُعذَبين والمحرومين.."[*]

    في مشهد أزرق كئيب، على حافة البحر، يقف ثلاثة أفراد، حُفاة الأقدام، يبدو عليهم الفقر. نستطيع أن نسمع صوت رجفتهم ورعشتهم يصدر عن اللوحة. في اللوحة إحساس بالبرد لا يخطئه الرائي مِن النظرة الأولى. كلٌ مِن الرجُل والمرأة يضُم نفسه إليه. يقفان مكتوفي الأيدي ومُغمضي العيون.
    هُناك طفل يقف على عكس الرجُل والمرأة، غير مكتوف اليدين. يمدُّ يديه وكأنه يسأل: ما الأمر! ماذا سيحدث! هل سيعتني أحدٌ بي؟

    المكان الذي يقع فيه المشهد لا ينم عن وطن بعينه. نحن أمام بشر بمفهومهم المجرد على الأرض بمفهومها المجرد من أي قيود وحدود جغرافية. اللوحة تُركّز على هشاشةِ الرّوح الإنسانيّة وليس على أشخاصٍ بعينِهم. فاللوحة لا تحدد أي أنواع المآسي يقصدها بيكاسو؛ هل يقصد جميع أنواع التراجيديا!

    اللوحة مُشبعة بالعديد من القراءات. هل قصد بيكاسو تراجيديا المرض؟ أم تراجيديا الموت؟ أم تراجيديا الفقد؟ رُبما تراجيديا الفقر والعوز؟ أم هي، دون الوقوف على مأساة بعينها، تصوير لإحساس الفجيعة المُقترن بالوجود الإنساني على الأرض!

    ثُمَّ إن هُناك طفلا. يقف، على عكس الرجُل والمرأة، غير مكتوف اليدين. يمدُّ يديه وكأنه يسأل: ما الأمر! ماذا سيحدث! هل سيعتني أحدٌ بي؟! ورغم أن وجود رجُل وامرأة وطفل يقترن عادة بمفهوم الأسرة والعائلة، إلا أن شخوص اللوحة لا تبدو عليهم صورة العائلة؛ إنهم مُفكّكون.

    يبدو عليهم الحُزن الشّديد ووحدة باردة قاتلة؛ لا يجدون فيها غير أجسامهم النحيلة يضُمونها. ورغم اقتراب المسافات فيما بينهم في فضاء اللوحة حتى لا تكاد تتجاوز بعض السنتيمترات؛ إلا أن المسافات بينهم، مِن حيث احتياج كلٍّ مِنهم للآخر، تتخطى كل الحدود. هم عاجزون عن مواساة بعضهم البعض كُليًّا.

    في التراجيديا يُسقِط بيكاسو القناع عن أرواحنا المُنهكة ويكشف المستور وراء الجسد الإنساني الهشّ، والمأساة الأصلية والأسى العميق

    "ولا شيء يحمِلُنا: لا الطريقُ ولا البيتُ. هل كان هذا الطريق كما هو مُنذ البداية، (…) وماذا سنفعلُ؟"[**]
    – محمود درويش


    هناك سرديّة كُبرى تفرضها اللوحة، من مُجرد ذكر الاسم، سرديّة التراجيديا الأبدية المُلازمة للوجود الإنساني. السردية التي لا يحدها زمانٌ لأنها تملأ الزمن الضائع داخلنا. ووجوه اللوحة المُحمَّلة ببرد وصمت ميتافزيقي طويل. كأنهم كانوا صامتين منذ الأزل وللأبد. لا أحد يعرف حلا أو إجابة. لا شيء يحملهم؛ لا طريق ولا بيت ولا مأوى.

    هناك أرواحٌ مُنكفئة على نفسِها. وتراجيديا كالمرآة تعكس حُزننا الصافي، حُزننا الذي لم يترك في الصدر مُتسعًا لشيء. حُزننا الأزرق شحيح الضوء قارس البرودة. حُزننا الذي لا يُشرق فيه شيء، ولا نعوّل فيه على شيء؛ نلتحف فقط بصقيع صدمتنا الأبديّة.. إننَّا هُنا.

    في التراجيديا، يكشف بيكاسو، بالفترة الزرقاء وبحس رمزي وأسلوب تعبيري، في حدود 105.3 سم طولا و69 سم عرضا من ألوان الزيت على الخشب، عن مُلخّص ما صال وجال فيه عشرات المُفكرين والفلاسفة. يُسقِط القناع عن أرواحنا المُنهكة. يكشف المستور وراء الجسد الإنساني الهشّ. يكشف المأساة الأصلية والأسى العميق فينا. يكشف عن حُزننا الصافي، حُزننا الذي لم يترُك في الصدرِ مُتسعًا لشيء.

يعمل...
X