رينيه ماغريت.. العبقري الذي سخر من الجميع
هند مسعد
27/4/2017
يظلّ السرياليّ البلجيكي "رينيه ماغريت" (21 نوفمبر 1898 – 15 أغسطس 1967) حتى اليوم، وبعد مرور ما يقرب مِن خمسين عاما على رحيله، نموذجا للرسّام المُفكّر الذي قَلَبَ العالم على رأسه. كان "ماغريت" يُفضِّل أنّ يوصف بالمفكر لا الرسّام، وهذا المُفكر تعمّد، بوضوح لا ريب فيه، الغموض في أعماله، وأصر أن يُخْضِع العالم من حوله للفحص والمُساءَلة؛ لكن كيف ولماذا؟
عندما ظهرت السرياليّة، في أوائل القرن الماضي، لم يكُن هدفها إعادة إنتاج الواقع بأشكاله ومُسلَّماته المعروفة سلفًا في هيئة أعمال فنية؛ بل، الجمع بين الوعي واللاوعي للوصول إلى "حقيقة مُطلقة"؛ حسب ما جاء على لسان الأب الروحي للسريالية، الشاعر الفرنسي "أندريه بريتون" (1896 – 1966)، في كتابه (de la Croix 708). لكن هذا المزج بين الواقع والخيال أتى على عكس ما توقع متابعو الحركة ونُقَّادها، صادم، ساخر ومُدمِّر.
"السرياليّة مُدمِرة فعلاً، لكنّها تدمر فقط ما يعيق رؤيتنا." – (السريالي الإسباني سلفادور دالي)
كغيرها مِن مدارس الفن الحديث، كانت السرياليّة نتاجا واضحا للأزمات الحادة التي سيطرت على مطلع القرن العشرين، بُعيد الحرب العالمية الأولى، وأبرزها أزمة المعنى. وبشكلٍ أدق، فإن الحركة وما تلاها من حركات فنية أكثر غرابة؛ كانوا انعكاسا واضحا لمآلات عصر التنوير والحداثة الأوروبيّة؛ بمعنى أن حالة الجنون التي وقفت عليها السريالية ورسمتها وقدَّمتها للناس ليست بسبب الاضطراب الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى فقط، بل؛ وليدة إرث طويل من الفلسفات والاضطرابات الفكرية والسياسية.[1]
فالفن، كما هو حاله دائما، مرآة تعكس وجه العالم. وقد بدا وجه العالم في تلك الفترة مشوهًا، مأساويًا، مجنونًا ومضطربًا. والسريالية ليست نتاج هذا التشوّه والجنون الناتج عن الحرب الأولى فقط؛ بل أيضًا، نتاج الآثار الفكرية والفلسفية -طويلة الأمد- لأربعة مِن أشهر الفلاسفة في تاريخ الإنسانية؛ وهم: "إيمانويل كانت"، "آرثر شوبنهاور"، "فريدريك نيتشه" و"سيغموند فرويد". وفيما يلي موجز الدور الذي لعبه أولئك في ظهور السرياليّة..
كرَّسَ "إيمانويل كانت" (1724- 1804)، حياته؛ وفلاسفة عصر التنوير بشكلٍ عام، لمبدأ دراسة الطبيعة وفقًا لقواعد علمية مجردة من أي نظرة ميتافيزيقية للعالم. وقد دشَّنَ الفلاسفة مِن بعده لنفس التناول العقلاني للطبيعة والإنسان والكون. ما فتح بدوره الباب لرؤية الإنسان بعيدًا عن أيّ اعتبارات ميتافيزيقيّة مُتجاوزة. بعد "كانت"، قدّم "شوبنهاور" (1788- 1860) مفهوم "اللاوعي" وسلَّط الضوء على العقل الباطن باعتباره عالَماً ما ورائياً لعالم العقل الواعي.[2]
"سلفادور دالي" أهدى لوحته "مسخ نرسيس" "Metamorphosis of Narcissus" -على يمين الصورة- لـ"فرويد" باعتباره عرّاب السرياليّة وعالم اللاوعي. (رويترز)
من بعدهم، طوّر "نيتشه" -والذي اعتبر "شوبنهاور" أستاذه- من فلسفة اللاوعي وأظهر توازناً بين العالم الواعي والعالم اللاواعي، وأصبح "نيتشه" بدوره بذرة مؤسسة لفكر "فرويد" (1856- 1939). يُعتبر "سيغموند فرويد" أشهر مؤسس لنظريات العقل واللاوعي؛ وقد فسر الأحلام باعتبارها بوابة على اللاوعي ومفسرا لديناميكية النفس البشرية. [3]
وقد اعتُبِرتْ أفكار الفلاسفة -السالف ذكرهم- عن اللاوعي والطب النفسي، بالإضافة للاضطرابات السياسية التي بدأت منذ الثورة الفرنسيّة وحتى الحرب العالمية الأولى؛ التُربة التي أنبتت السريالية. "فرويد" نفسه نال قدراً شديداً من الاحترام والتقدير مِن قِبل السرياليين، حتّى إنَّ "سلفادور دالي" أهدى لوحته "مسخ نرسيس" "Metamorphosis of Narcissus" لـ"فرويد" باعتباره عرّاب السرياليّة وعالم اللاوعي.[4]
ماغريت ساخرًا مِن الجميع
كغيره من السرياليين، خالف "ماغريت" كل معايير الجمال الرأسمالي البرجوازي. وإذا أردنا أن نفهمه، علينا أولا أن نعي أننا بصدد عملية تحتاج لشحذ عقلي وسعة أفق. على مدار حياته الفنية، قدَّم "ماغريت" مئات الأعمال الفنيّة. وعلى تعدُّد المواضيع واختلافها، هناك سمة مُميَّزة تشترك فيها كلُّ تلك الأعمال؛ ألا وهي: القُدرة على زعزعة المُسلَّمات، وتعرية الخلل في المألوف والذي، سفهًا، حسبناه طبيعيا.
لقد تبنَّى "ماغريت" ذاكَ المنهج التفكيكي التدميري للسرياليّة ووظفه بذكاء؛ بل بذكاءٍ حادّ. وقد كانت الغاية الرئيسة مِن وراء ذلك هي: هَزُّ إدراكنا وزعزعة تَصَوُّراتنا المُسبقة للحقيقة، الواقع والخيال؛ ومِن ثَمّ تغْيير تلك التصوُّرات؛ لتغْيير العالم نفسه. لقد وجدَ "ماغريت"، والسرياليون ككُلّ، أنفسهم أمام واقع مرَوِّع وصادم. وإزاء تلك الدرجة مِن الضمور الأخلاقي التي وصل لها العالم، كان عليهمفضح الخلل الذي اعترى كل شيء. وإن كان العالم سيصل لحرب عالمية ثانية أو ثالثة لا محالة؛ فلا بدَّ للفن، على أقل تقدير، ألاَّ يكون أحد أسلحة الفتك والدمار.[5]
"لو أن المشاهد يرى في لوحاتي تحدٍّ للذوق السليم؛ فهو مُحق؛ لكنّ بالنسبة لي العالم هو الذي لا يتمتع بذوقٍ سليم."
– (رينيه ماغريت)
ولعلَّ مِن أبرز الأمثلة على منهج ماغريت في إحداث صدمة نفسيّة للمشاهد وإجباره على تفحُّص واقعه هي لوحته "بلكونة مانيه" والتي رسمها عام 1950. ولمَن لا يعرف لوحة "البلكونة"، التي رسمها الفنان الفرنسي "إدوارد مانيه" عام 1868، قد تبدو لوحة "ماغريت" غامضة وغير مفهومة. لقد أعاد "ماغريت" رسم لوحة "مانيه" مُغيّرًا المحتوى قليلا. إلا أن هذا التغيير البسيط جاء صادمًا، وفاضحًا لوجه ما بعد الحداثة الكئيب.
على اليمين: لوْحة "البلكونَة" / "Le balcon"، 1868، لـ"إدوارد مانيه" (1832 – 1883)، تصف مشهداً واقعيّاً لأصدقائه، وهي معروضة الآن في متحف "أورسيه" في فرنسا. أما على اليسار: لوْحة "بلكونة مانيه /Manet’s Balcony"، 1950، لـ"رينيه ماغريت". أعاد إنتاج المشهد مُستبدلًا بَشَر القرن التاسع عشر، بأكفان جنائزيّة داخل توابيت في القرن العشرين، وبين اللوحتين حربين عالميتين.
عن اللوحة، يشرح ماغريت في أحد حواراته مع الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"، والذي ربطته به صداقة جيّدة، طبيعة البلكونة ببساطة قائلًا: "بالنسبة لي، البلكونة مكانٌ مُناسب لأضع فيه توابيت. إنَّ الهدف مِن "نزع الأنسنة" في هذا العمل هو الوصول لتفسير معلوم، تفسير لا أستطيع تقديمه. هذا التفسير سيكون صحيحًا، ولا يرقى لمستواه شكٌ؛ لكن لا يمكن أن يكون أقل غموضًا."
في لوحته، يشير "ماغريت" برمزية لما آلَ إليه البشر في القرن العشرين. بعد حربين عالميتين، يرسمُ البشر أكفاناً وتوابيت. موضِّحًا ببساطة، أنَّ مَن رحلوا ومَن بقوا كليهما أموات. منذ خمسين عامًا، قال "ماغريت" مرة: "لا أريدُ العيش في زمني هذا،" صَمَتَ لوهلة وأكمل قائلا: "وبخصوص هذا الأمر، لا أريد العيش في أي زمن أساسا."[6] توفي ماغريت، عام 1967، مُخلفًا وراءه إرثًا فنيًا يعتبرُ مُعاصِرا مهما مَرَّ عليهِ الزمن، لسبب بسيط: أنَّ الأزمة هي الأزمة، لم تنتهِ حتَّى اليوم؛ أزمة معنى.