أرسطو وأفلاطون في لوحة رافائيا "مدرسة أثينا" (غيتي)
اتصال حاسم بين الإيمان والعقل في "فصل المقال" لابن رشد
فيلسوف قرطبة يعتبر الفلسفة جزءاً أساسياً من الإيمان
إبراهيم العريس باحث وكاتب
الاثنين 27 يوليو 2020
لا نأتي بجديد إن نحن ذكّرنا هنا بكم افتتن الرسامون دائماً بالفلاسفة، كما افتتن هؤلاء الأخيرون بالرسامين وأعمالهم. ولعل تأملنا للجدارية الضخمة "مدرسة أثينا" التي حققها الرسام النهضوي رافائيل في بدايات القرن السادس عشر (1510 – 1511)، وتشغل جداراً بأكمله لا يقلّ عرضه عن أحد عشر متراً في قاعة سنياتورا في قصر الفاتيكان، يكفينا لإدراك هذا الأمر. فالجدارية "مدرسة أثينا" كان ولا يزال في الإمكان اعتبارها أعظم تكريم للفلسفة في تاريخ الفن. والمهم بالنسبة إلينا هنا ما يمكننا أن نلاحظه في نقطة المركز من الجدارية، الفيلسوفان المؤسسان الإغريقيان أفلاطون، وأرسطو يتصدّران المشهد يحيط بهما عدد كبير من الفلاسفة القدامى، ومن بينهم الأندلسي ابن رشد، يمارس كل منهم فلسفته وفكره كما يجدر به أن يفعل. أما أفلاطون وتلميذه الميجاري أرسطو فإنهما واقفان يعبّر كل منهما عن موقفه الفلسفي بحركة بالغة الدلالة من يديه، أفلاطون يحمل بيسراه كتاباً من كتبه فيما يشير بيمناه إلى السماء، بينما يحمل أرسطو بيمناه هو الآخر كتاب منطق من كتبه لكن يده اليمنى تشير إلى عالم الواقع، الأرض. إنهما يسيران معاً بانسجام لكن كلاهما متمسّك بجوهر فكره. الأول كفيلسوف "إلهي" كما وصفه آباء الكنيسة المسيحية، والثاني كفيلسوف مادي واقعي كما أُثر عنه. واضح أن رافائيل أراد في هذا المشهد أن يقول أشياء كثيرة، وفي يقيننا أنه نجح في ذلك، وعبّر بتلك اللغة البصرية الواعية عن جوهر الخلاف ليس فقط بين الفيلسوفين، بل بين نمطين أساسيين من التفكير الفلسفي دائماً ما اعتبرا عاكسين لنظرتين متباعدتين إن لم تكونا متناقضتين تماماً للوجود.
سؤال الفلسفة الأساسي في لغة بصرية
الحقيقة أنه لو أراد رسام سابق على رافائيل أن يعبّر عن ذلك الأمر نفسه في المجال الفكري الإسلامي السابق بقرون على الزمن الذي أنجز فيه النهضوي الإيطالي جداريته، لما فعل بالتأكيد أفضل مما فعل رافائيل. بكلمات أوضح، كان من المستحيل على أي فنان أن يعبر بأفضل مما فعل صاحب "مدرسة أثينا" عن ذلك الحلم الفلسفي الذي شغل دائماً فكر العديد من الفلاسفة المسلمين بين غيرهم، وكان همّاً أساسياً من همومهم، إيجاد السبل للتوفيق بين الدين والحكمة – وهو الاسم الذي يطلق عادة على الفلسفة-. هو الهمّ الذي أخذه عليهم كل أصحاب الفكر المحافظ في المجال الإسلامي من الغزالي إلى ابن تيمية وابن حنبل، ليشكل الأمر واحدة من القضايا الخلافية الكبرى التي تجاوزت حيّزها المدرسي الفكري البحت لتصبح قضية سياسية تلعب دوراً في أعلى مستويات الحكم، وتتسبب في الانقلابات بل المجازر وما إلى ذلك.
إن في وسعنا أن نذكر العديد من النصوص، والكتب المنتمية إلى التراث العربي الإسلامي في هذا المجال، لكننا لن نذكر هنا سوى عملين أساسيين نشير فقط إلى أولهما، وهو "كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين" لأبي نصر الفارابي، الذي كان يُعرف بالمعلم الثاني، على اعتبار أن أرسطو كان هو المعلم الأول، لنتوقف بعض الشيء عند الثاني "فصل المقال بين الشريعة والحكمة من اتصال" لابن رشد، فيلسوف قرطبة، أحد البناة الكبار في الفكر العربي الإسلامي. ولكن لماذا ابن رشد هنا وليس الفارابي، فلأن ابن رشد جعل عنوان كتابه حاسماً (فصل المقال)، وتناول جوهر الموضوع (ما بين الشريعة والحكمة من اتصال) بكل صراحة فيه. وكانت تلك جرأة مدهشة من مفكر يعيش وسط أزمنة عاصفة، ويعرف أنه في التأكيدات التي "حسمها" في العدد القليل من صفحات كتابه هذا إنما كان يسير عكس التيار السائد، ويخوض معركة ضارية على أكثر من جبهة فكرية، وسياسية، وأيديولوجية.
اللجوء إلى السلاح الحاسم
لئن كان في وسعنا أن نقول هنا أن لوحة رافائيل أتت وكأنها ترجمة حرفية لمراد ابن رشد في مقولاته التي نتناولها، فإن هذا الأخير إنما كان يستند إلى سلاح من أقوى الأسلحة. فهو لكي يخوض معركته، وجد من الواضح أن مرجعيته لن تكون لا تفسيرات، ولا تأويلات من خارج النص الديني نفسه، بل من داخله... ولعل هذا ما حماه وجعله يمرّر بكل يقين، أفكاره الرئيسة التي أراد التعبير عنها، وأولها أن الحكمة لا يمكنها أن تكون على صراع مع الشريعة... فالاتصال بينهما ليس قائماً وحسب، بل هو جزء من الشريعة نفسها. بهذا قال ابن رشد بعد قرن وأكثر من الفارابي نفس ما سعى إليه هذا الأخير الذي كان حصر خطابه شكلياً في المجال الفكري، ولكنه جعله ضمنياً يغوص في المسألة الشرعية نفسها، وكان ذلك ما أثار عليه ثائرة الغزالي فهاجمه باعتباره من "المتهافتين"، ليعيد ابن رشد إليه الاعتبار شخصياً في دفاعه عنه على الضد من الغزالي، وفكرياً في تبنيه موقفه المصالح بين "إلهية" أفلاطون، و"مادية" أرسطو.
الحقيقة أن الطرح الأساسي والعنيد الذي اشتغل عليه ابن رشد في "فصل المقال" لم يكن سوى الاستناد إلى الشريعة نفسها، وبالتحديد إلى القرآن الكريم للبرهنة على أن الحكمة لن تتنافى مع الإيمان، بل إن كتاب الله نفسه إنما دعا إليها وإلى اتباع سبيلها لأن تلك السبيل هي التي تقود إلى الله. وبالتالي فلا يوجد تناقض، في نظر ابن رشد، بين أن تعمل فكرك بشكل مستقل وواعٍ، وبين أن تتبع سبيل الإيمان في حياتك. بالنسبة إلى ابن رشد ليس أمام من أراد أن يرفع عن الشريعة ما يسميه "بدعة" القول بأن ليس بينها وبين الحكمة من اتصال، إلا أن "يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كنا كُلّفنا اعتقاده، واجتهد في نظره ظاهراً ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً -أي أن الأمر ظاهر في هذا السياق ولا يحتاج حتى إغراقاً في التأويل-، إلا إذا كان التأويل ظاهراً بنفسه، أعني ظهوراً مشتركاً للجميع. فإن الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس، إذا تؤملت، يشبه أن يبلغ من نصرتها إلى حد لا يخرج عن ظاهرها ما هو منها ليس على ظاهره إلا من كان من أهل البرهان(...). إن الأقاويل الشرعية المصرّح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز، إحداها أنه لا يوجد أتمّ إقناعاً وتصديقاً للجميع منها، والثانية أنها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها -إن كانت مما فيها تأويل- إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق".
ابن رشد في رسمة تكريمية
الحكمة أخت الشريعة
تلك هي الخلاصة التي توصل إليها ابن رشد إجابة على السؤال البدئي الذي كان قد طرحه في أول نصّه، وكان سؤالاً بسيطاً للغاية للوهلة الأولى، هل أوجب الشرع الفلسفة؟ والجواب هو في نهاية الأمر، نعم لكن فيلسوف قرطبة لم يتوصل إليه إلا بعد استعراضه تلك البراهين القاطعة (التي تفصل في المقال بحسب عنوانه)، والتي استند فيها جميعاً إلى نصوص الكتاب، مفرقاً في تفحصه بين أن يكون "النظر في الفلسفة مباحاً في الشرع أم محظوراً أم مأموراً به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب" كما يقول. ولسنا في حاجة إلى أن نكرر هنا أن ما توصل إليه ابن رشد هو القول القاطع بأن الشرع قد أوجب الفلسفة – الحكمة – ودعا المؤمنين اليها. مؤكداً في نهاية الأمر أن "الحكمة صاحبة الشريعة بل أختها الرضيعة".
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126/1198 م – 520/595 هـ) الذي لقب بالحفيد تمييزاً له عن جده العالم الفقيه الذي كان يحمل الاسم نفسه، في قرطبة بالأندلس وسط بيئة علماء وفقهاء، واشتغل بالفقه والقضاء في حياة عرفت كثيراً من التقلبات، وقد اشتغل خاصة على شروحات أرسطو إضافة إلى كتابته نصوصاً سجالية من أبرزها "تهافت التهافت" كما اشتغل على كتب طبية وفلسفية، وتأثر به كثر من الفلاسفة والمفكرين والأطباء الأوروبيين في العصور الوسطى، واعتبره توما الأكويني خصمه اللدود.
المزيد عن: ابن رشدسقراطأفلاطونأرسطوالفلسفةاليونانأثينا
اتصال حاسم بين الإيمان والعقل في "فصل المقال" لابن رشد
فيلسوف قرطبة يعتبر الفلسفة جزءاً أساسياً من الإيمان
إبراهيم العريس باحث وكاتب
الاثنين 27 يوليو 2020
لا نأتي بجديد إن نحن ذكّرنا هنا بكم افتتن الرسامون دائماً بالفلاسفة، كما افتتن هؤلاء الأخيرون بالرسامين وأعمالهم. ولعل تأملنا للجدارية الضخمة "مدرسة أثينا" التي حققها الرسام النهضوي رافائيل في بدايات القرن السادس عشر (1510 – 1511)، وتشغل جداراً بأكمله لا يقلّ عرضه عن أحد عشر متراً في قاعة سنياتورا في قصر الفاتيكان، يكفينا لإدراك هذا الأمر. فالجدارية "مدرسة أثينا" كان ولا يزال في الإمكان اعتبارها أعظم تكريم للفلسفة في تاريخ الفن. والمهم بالنسبة إلينا هنا ما يمكننا أن نلاحظه في نقطة المركز من الجدارية، الفيلسوفان المؤسسان الإغريقيان أفلاطون، وأرسطو يتصدّران المشهد يحيط بهما عدد كبير من الفلاسفة القدامى، ومن بينهم الأندلسي ابن رشد، يمارس كل منهم فلسفته وفكره كما يجدر به أن يفعل. أما أفلاطون وتلميذه الميجاري أرسطو فإنهما واقفان يعبّر كل منهما عن موقفه الفلسفي بحركة بالغة الدلالة من يديه، أفلاطون يحمل بيسراه كتاباً من كتبه فيما يشير بيمناه إلى السماء، بينما يحمل أرسطو بيمناه هو الآخر كتاب منطق من كتبه لكن يده اليمنى تشير إلى عالم الواقع، الأرض. إنهما يسيران معاً بانسجام لكن كلاهما متمسّك بجوهر فكره. الأول كفيلسوف "إلهي" كما وصفه آباء الكنيسة المسيحية، والثاني كفيلسوف مادي واقعي كما أُثر عنه. واضح أن رافائيل أراد في هذا المشهد أن يقول أشياء كثيرة، وفي يقيننا أنه نجح في ذلك، وعبّر بتلك اللغة البصرية الواعية عن جوهر الخلاف ليس فقط بين الفيلسوفين، بل بين نمطين أساسيين من التفكير الفلسفي دائماً ما اعتبرا عاكسين لنظرتين متباعدتين إن لم تكونا متناقضتين تماماً للوجود.
سؤال الفلسفة الأساسي في لغة بصرية
الحقيقة أنه لو أراد رسام سابق على رافائيل أن يعبّر عن ذلك الأمر نفسه في المجال الفكري الإسلامي السابق بقرون على الزمن الذي أنجز فيه النهضوي الإيطالي جداريته، لما فعل بالتأكيد أفضل مما فعل رافائيل. بكلمات أوضح، كان من المستحيل على أي فنان أن يعبر بأفضل مما فعل صاحب "مدرسة أثينا" عن ذلك الحلم الفلسفي الذي شغل دائماً فكر العديد من الفلاسفة المسلمين بين غيرهم، وكان همّاً أساسياً من همومهم، إيجاد السبل للتوفيق بين الدين والحكمة – وهو الاسم الذي يطلق عادة على الفلسفة-. هو الهمّ الذي أخذه عليهم كل أصحاب الفكر المحافظ في المجال الإسلامي من الغزالي إلى ابن تيمية وابن حنبل، ليشكل الأمر واحدة من القضايا الخلافية الكبرى التي تجاوزت حيّزها المدرسي الفكري البحت لتصبح قضية سياسية تلعب دوراً في أعلى مستويات الحكم، وتتسبب في الانقلابات بل المجازر وما إلى ذلك.
إن في وسعنا أن نذكر العديد من النصوص، والكتب المنتمية إلى التراث العربي الإسلامي في هذا المجال، لكننا لن نذكر هنا سوى عملين أساسيين نشير فقط إلى أولهما، وهو "كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين" لأبي نصر الفارابي، الذي كان يُعرف بالمعلم الثاني، على اعتبار أن أرسطو كان هو المعلم الأول، لنتوقف بعض الشيء عند الثاني "فصل المقال بين الشريعة والحكمة من اتصال" لابن رشد، فيلسوف قرطبة، أحد البناة الكبار في الفكر العربي الإسلامي. ولكن لماذا ابن رشد هنا وليس الفارابي، فلأن ابن رشد جعل عنوان كتابه حاسماً (فصل المقال)، وتناول جوهر الموضوع (ما بين الشريعة والحكمة من اتصال) بكل صراحة فيه. وكانت تلك جرأة مدهشة من مفكر يعيش وسط أزمنة عاصفة، ويعرف أنه في التأكيدات التي "حسمها" في العدد القليل من صفحات كتابه هذا إنما كان يسير عكس التيار السائد، ويخوض معركة ضارية على أكثر من جبهة فكرية، وسياسية، وأيديولوجية.
اللجوء إلى السلاح الحاسم
لئن كان في وسعنا أن نقول هنا أن لوحة رافائيل أتت وكأنها ترجمة حرفية لمراد ابن رشد في مقولاته التي نتناولها، فإن هذا الأخير إنما كان يستند إلى سلاح من أقوى الأسلحة. فهو لكي يخوض معركته، وجد من الواضح أن مرجعيته لن تكون لا تفسيرات، ولا تأويلات من خارج النص الديني نفسه، بل من داخله... ولعل هذا ما حماه وجعله يمرّر بكل يقين، أفكاره الرئيسة التي أراد التعبير عنها، وأولها أن الحكمة لا يمكنها أن تكون على صراع مع الشريعة... فالاتصال بينهما ليس قائماً وحسب، بل هو جزء من الشريعة نفسها. بهذا قال ابن رشد بعد قرن وأكثر من الفارابي نفس ما سعى إليه هذا الأخير الذي كان حصر خطابه شكلياً في المجال الفكري، ولكنه جعله ضمنياً يغوص في المسألة الشرعية نفسها، وكان ذلك ما أثار عليه ثائرة الغزالي فهاجمه باعتباره من "المتهافتين"، ليعيد ابن رشد إليه الاعتبار شخصياً في دفاعه عنه على الضد من الغزالي، وفكرياً في تبنيه موقفه المصالح بين "إلهية" أفلاطون، و"مادية" أرسطو.
الحقيقة أن الطرح الأساسي والعنيد الذي اشتغل عليه ابن رشد في "فصل المقال" لم يكن سوى الاستناد إلى الشريعة نفسها، وبالتحديد إلى القرآن الكريم للبرهنة على أن الحكمة لن تتنافى مع الإيمان، بل إن كتاب الله نفسه إنما دعا إليها وإلى اتباع سبيلها لأن تلك السبيل هي التي تقود إلى الله. وبالتالي فلا يوجد تناقض، في نظر ابن رشد، بين أن تعمل فكرك بشكل مستقل وواعٍ، وبين أن تتبع سبيل الإيمان في حياتك. بالنسبة إلى ابن رشد ليس أمام من أراد أن يرفع عن الشريعة ما يسميه "بدعة" القول بأن ليس بينها وبين الحكمة من اتصال، إلا أن "يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كنا كُلّفنا اعتقاده، واجتهد في نظره ظاهراً ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً -أي أن الأمر ظاهر في هذا السياق ولا يحتاج حتى إغراقاً في التأويل-، إلا إذا كان التأويل ظاهراً بنفسه، أعني ظهوراً مشتركاً للجميع. فإن الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس، إذا تؤملت، يشبه أن يبلغ من نصرتها إلى حد لا يخرج عن ظاهرها ما هو منها ليس على ظاهره إلا من كان من أهل البرهان(...). إن الأقاويل الشرعية المصرّح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز، إحداها أنه لا يوجد أتمّ إقناعاً وتصديقاً للجميع منها، والثانية أنها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها -إن كانت مما فيها تأويل- إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق".
ابن رشد في رسمة تكريمية
الحكمة أخت الشريعة
تلك هي الخلاصة التي توصل إليها ابن رشد إجابة على السؤال البدئي الذي كان قد طرحه في أول نصّه، وكان سؤالاً بسيطاً للغاية للوهلة الأولى، هل أوجب الشرع الفلسفة؟ والجواب هو في نهاية الأمر، نعم لكن فيلسوف قرطبة لم يتوصل إليه إلا بعد استعراضه تلك البراهين القاطعة (التي تفصل في المقال بحسب عنوانه)، والتي استند فيها جميعاً إلى نصوص الكتاب، مفرقاً في تفحصه بين أن يكون "النظر في الفلسفة مباحاً في الشرع أم محظوراً أم مأموراً به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب" كما يقول. ولسنا في حاجة إلى أن نكرر هنا أن ما توصل إليه ابن رشد هو القول القاطع بأن الشرع قد أوجب الفلسفة – الحكمة – ودعا المؤمنين اليها. مؤكداً في نهاية الأمر أن "الحكمة صاحبة الشريعة بل أختها الرضيعة".
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126/1198 م – 520/595 هـ) الذي لقب بالحفيد تمييزاً له عن جده العالم الفقيه الذي كان يحمل الاسم نفسه، في قرطبة بالأندلس وسط بيئة علماء وفقهاء، واشتغل بالفقه والقضاء في حياة عرفت كثيراً من التقلبات، وقد اشتغل خاصة على شروحات أرسطو إضافة إلى كتابته نصوصاً سجالية من أبرزها "تهافت التهافت" كما اشتغل على كتب طبية وفلسفية، وتأثر به كثر من الفلاسفة والمفكرين والأطباء الأوروبيين في العصور الوسطى، واعتبره توما الأكويني خصمه اللدود.
المزيد عن: ابن رشدسقراطأفلاطونأرسطوالفلسفةاليونانأثينا