ابن رشد المعلم الذي أسس جزءاً من الفكر الأوروبي (غيتي)
يوم كان ابن رشد والفكر العربي بين تلك الأحداث التي كوّنت أمة وثقافة
مجلة فرنسية تعيد النظر في كتابة التاريخ الحقيقي لبلدها عبر 30 حدثاً صنعته
إبراهيم العريس باحث وكاتب
الأحد 26 ديسمبر 2021
هي 30 حدثاً أساسياً ترى مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية المعتبرة الأكثر ميلاً إلى الثقافة والفكر الأصيل والمعاصر حتى في معالجتها الشؤون الثقافية في هذا البلد، أنها هي ما كوّنه. جاء ذلك في ملف خاص نشرته المجلة لمناسبة انتهاء عام 2021 وكلفت لإنجازه عدداً من الباحثين والكتاب والعلماء الكبار.
هذا الملف الذي "أهدته" المجلة إلى "كل أولئك المتطرفين المتعصبين والقوميين الذين لا يزالون يرون العالم، وفرنسا خصوصاً، كياناً دائم الانغلاق على نفسه وينظرون إلى كل من يعتبرونه من أصل غير فرنسي بوصفه "أجنبياً لا يحق له العيش في هذا البلد". هذا الملف يعود في مقدمته عشرات الألوف من السنين إلى الوراء ليؤكد أن التكوين السكاني المؤسس لفرنسا كان من المهاجرين وأن هذا استمر ولا يزال حتى اليوم بالنظر أن ليس ثمة، لا في فرنسا، ولا في غيرها أي أمة صافية العرق منزّهة عن التمازج.
بداهات لا بد من استعادتها
في النهاية، سيبدو الأمر بديهياً لكل ذي عقل منفتح، لكن ما سيبدو أقل بداهة في هذا الملف الذي نتحدث عنه، بل مفاجئاً للقراء العاديين إلى حد ما، هو ما يتضمنه واحد من أول المقالات قال إنه مهدى من دون ريب إلى كل أولئك الذين يبدون في أزمنتنا هذه عداءً للوجود العربي والمسلم في فرنسا، متهمين المهاجرين المنتمين إلى "الأقليات" العربية والمسلمة بالموبقات شتى وبكونهم دخلاء. فإلى هؤلاء المتعصبين، يتوجه الملف تحديداً في ثاني مقالاته، وهو مقال يغوص عميقاً في حديثه عن الحدث الثقافي الذي أسس التاريخ الفكري الفرنسي، ليخبرهم بما ليس من شأنه أن يبعث السرور في قلوبهم، بأن ابن رشد وابن سينا والخوارزمي كانوا من بين المؤسسين الحقيقيين لفرنسا. وذلك تحديداً من خلال انتشار أفكارهم ونظرياتهم فيها في زمن كانت أوروبا كلها لا تزال غارقة في ما هو أقرب إلى الجهل. أو هذا على أي حال ما يقوله كاتب المقال فرانسوا رينارت عن حدث من بين الأحداث الثلاثين التي صنعت فرنسا ويعود إلى الثلث الأول من القرن الثالث عشر، محدداً بأنه حوالى عام 1230 تحت عنوان "دروس ابن رشد". والكاتب يستهل مقاله بالقول إن فرنسا عبر ترجمتها المخطوطات العربية تمكّنت من "إعادة اكتشاف أرسطو بفضل ابن رشد وابن سينا، كما تعلمت الجبر بفضل الخوارزمي الذي كان يوماً من مفاخر مدينة بغداد و’بيوت الحكمة‘ فيها خلال القرنين التاسع والعاشر ولا يزال العالم حتى اليوم يستخدم اسمه وقد حُوّر في اللاتينية إلى ’ألغوريتم‘ كجزء من أحدث التقنيات السيبرانية".
خبر سيّء للمتعصبين
يستهل رينارت مقالته، إذاً، قائلاً "لا بد من أن نخبر الحريصين على صفاء الهوية الذين لا يحلفون إلا بنقاء الجذور بأن ما من حضارة في الكون تطورت بشكل تلقائي في ذاتها. فكل الحضارات أخذت من الحضارات الأخرى". وهو ما يجعله يتابع قائلاً "إنه منذ حوالى عام 800 وبفضل مبادرات من خلفاء بغداد، تمكّن العالم العربي – الإسلامي وبعد أن اشتغل على توليفات للمعارف التي تكوّنت لديه عبر احتكاكه بالصينيين والهنود، تمكّن من أن يرفع العلوم والفكر إلى أعلى الذرى: ومن هنا راحت ضروب الفلسفة والرياضيات والطب وعلوم الفلك تتطور بسرعة مدوّخة. وذلك في مخطوطات ودروس ونصوص وممارسات كان يحدث لها أن تُدمّر، لكن معظمها كان يُحفظ في خزائن تلك المكتبات الضخمة التي كان يحلو للخلفاء أن يسمّوها ’بيوت الحكمة‘".
ويروي رينارت كيف أن الغرب واعتباراً من القرن الحادي عشر رفع رأسه بعد أن حقق ضروب تقدم هائلة في مجالي الزراعة والاقتصاد عموماً، ورأى أن الوقت قد حان له لكي يوسع آفاقه. وهكذا توجّه بخاصة في اتجاه صقلية وإسبانيا المنطقتين اللتين كان قد استعادهما لتوّه من المسلمين بعدما كان هؤلاء قد احتلوهما طوال قرون سابقة. ويرى رينارت، بالاستناد إلى الوقائع التاريخية طبعاً، أن "الغرب سيتمكّن من خلال تلك المنطقتين بشكل خاص، من القيام بأكبر عملية لنقل المعارف عرفها تاريخ البشرية". ولقد تحقق ذلك حين أسس ملوك المسيحيين في باليرمو وتوليدو (طليطلة) خصوصاً، مدرسة للترجمة جرت من خلالها ترجمة أعداد هائلة من المخطوطات العربية إلى اللاتينية أولاً وهي الترجمات التي راحت على الفور تغذي تلك المدن الأوروبية الكبرى التي شهدت ولادة أولى الجامعات والمراكز العلمية، ومنها باريس بالطبع".
تبادل ثقافي معمّم
ويتابع الباحث، قائلاً إن "عمليات التبادل الثقافي تلك طالت المجالات الثقافية شتى ومجال الفلسفة بصورة خاصة، بالنظر إلى أنه كان ويبقى المجال الأشهر. فمنذ قرون قبل ذلك، لم تكُن أوروبا تعرف من أرسطو طاليس مثلاً سوى شذرات. ولكن ها هي حينذاك تعيد اكتشافه من خلال مفكرين عربيّي اللغة كبيرين، درساه ونقلا أعماله إلى العربية معلّقين عليها: ابن سينا الذي عاش بين 980 و1037 وابن رشد الذي ولد عام 1126 في قرطبة ليموت عام 1198 في مراكش".
يردف رينارت، "والحقيقة أن تعليقات ابن رشد على كتابات المعلم الإغريقي أحدثت صدمة لدى المتأدبين الأوروبيين: فهل ينبغي يا ترى الاستنتاج من خلال تلك التعليقات أن للفلسفة وزناً يمكنه أن ينافس ما للاهوت من قيمة؟ في باريس على الأقل، بدت هذه الإمكانية مغرية بل حملت حتى اسم ’الرشدية‘ أو ’الرشدية اللاتينية‘. غير أن القديس توما الأكويني تدخّل هنا ليضع حداً لتلك ’الفوضى المهدّدة‘ واضعاً الحرم عليها، ليتابعه في باريس أسقفها إيتيان تامبييه معلناً نهاية تلك ’اللعبة الخطيرة‘ عبر حظره مئات النظريات الجريئة بما فيها طبعاً النظرية التي جاء بها المعلم العربي".
بالرغم من الحرم والحظر
غير أن الحرم والحظر لم يوقفا، كما يتابع رينارت في "لو نوفيل أوبسرفاتور"، عملية نقل المعارف الكبرى التي كان عمرها قد جاوز في ذلك الحين قروناً عدة، لا سيما في مجال الطب، إذ لم يعُد في مقدور نطاسيي القرون الوسطى أن يحلفوا بطب غير الطب الذي تعلموه في النصوص العربية، بحيث نعرف أن الطب الأوروبي وحتى القرنين السابع والثامن عشر حافظ على "القانون في الطب" لابن سينا كمرجعية له. وهذا القانون كما نعرف نص ضخم يتألف من أجزاء عدة وضع فيه ابن سينا عدداً هائلاً من ملاحظات وتعليقات وممارسات همها شفاء الروح كما شفاء البدن سواء بسواء.
ولعل من المفيد هنا، خارج مقال فرانسوا رينارت، أن نحيل في ما يخص اشتغال ابن سينا على هذا الكتاب الموسوعي على الرواية البديعة "الطريق إلى أصفهان" التي نشرها الكاتب الفرنسي من أصل مصري جيلبير سينويه قبل أعوام وصدرت مترجمة إلى العربية عن منشورات الجمل، علماً أن الرواية حققت لدى صدورها نجاحاً كبيراً، فاتحة الطريق أمام الكاتب لإتباعها بعدد كبير من روايات بديعة هي الأخرى، من بينها رواية "ديلمون" عن تلك الحضارة التي ازدهرت في البحرين قبل الإسلام، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع.
الجبر اختراع عربي
أما مقال "لو نوفيل أوبسرفاتور"، فيتابع، "إذا كان اليونانيون قد اخترعوا الهندسة، والهنود أعطوا العالم تلك الأرقام التي تُسمّى في أوروبا بـ’الأرقام العربية‘ بالنظر إلى أن العرب كانوا هم من نقلها إلى أوروبا، فإن العرب أورثونا علم الجبر أي علم معالجة المعادلات. أما الوالد الشرعي لهذا العلم، فهو الخوارزمي، ذلك العبقري الذي كان ضليعاً في كل العلوم الأخرى وصولاً إلى علوم الفلك والجغرافيا والمولود في خوارزم، في أوزبكستان الحالية نحو عام 780" والذي كان واحداً من مفاخر بغداد ذات حين، كما أشرنا في مطلع هذا الكلام.