أدب الرحلات ما زال حاضرا رغم التطور التكنولوجي الهائل
النص الرحلي أدب تتداخل فيه أجناس كثيرة.
الاثنين 2022/02/28
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سرد الذات والأمكنة (لوحة للفنان سامر طرابيشي)
رغم أن العالم أصبح قرية بفعل التطور التكنولوجي وشبكة الإنترنت التي قرّبت أركان العالم وجعلت أقاصيه متاحة بنقرة زر، فإن ذلك لم يحجب أهمية أدب الرحلة ككتابة تتلاحم فيها الأجناس الأدبية لتروي سير الأمكنة والأزمنة. وعلى العكس فإن الاهتمام يتزايد تدريجيا بهذا الأدب الذي قدم للمدونة العربية نصوصا تأريخية وأدبية غاية في الأهمية، كما يستقطب اليوم الكثير من الكتاب الذين أضافوا إليه أشكالا ومواضيع أخرى.
حين نعود إلى النصوص الرحلية القديمة نجد أن الذين كتبوها هم أشهر الرحالة وأكثرهم قدرة على احتمال مصاعب السفر في زمان غير زماننا، ومخاطره. كما أن الأمر الذي ينبغي أن نشير إليه هو أنه ليس جميع الذين عاشوا تجربة الرحيل في الماضي كتبوا نصوصاً تضمنت مشاهداتهم في رحلاتهم، بل اقتصرت كتابة النصوص الرحلية على المؤهلين للكتابة ومن أتاحت له طبيعة رحلته أن يحتفظ بما كتب أو بالملاحظات التي سجلها واحتفظ بها مكتوبة أو اعتمد فيها على ذاكرته.
وكتب الرحالة القدامى ضاع منها ما ضاع، مثل بقية المؤلفات من جميع أجناس الكتابة، حيث تذكر في سياقات كتب أخرى ، ولم يعثر عليها حتى الآن، وربما لن يعثر عليها أبداً.
وتداخلت في بعض المؤلفات المذكرات والسيرة والنص الرحلي، كما هو الحال في السيرة الذاتية لابن خلدون، وهذا التداخل بات أكثر وضوحاً في كتابات المعاصرين، ويدخل على خط التداخل هذا جنس آخر من أجناس الكتابة هو أدب المكان وقد سبق لي في كتابي “الكتابة ومآلاتها” أن لاحظت مثل هذا التداخل في ما كتبته سالمة بنت سعيد “مذكرات أميرة عربية” الذي يجمع خصائص أدب الرحلة والمكان والمذكرات، كما يمكنني أن أستشهد هنا بما ذهب إليه الدكتور محسن الموسوي في قوله “ليس بالإمكان فصل الكتابة عن الرحلة -أية رحلة- عن السيرة الذاتية أو المكان، ويرى هذا التداخل في ما كتبه القزويني صاحب كتاب ‘عجائب المخلوقات'”.
تداخل الأجناس
إن أدب الرحلات العربي في نصوصه الأكثر شهرة قد ارتبط بحب المعرفة والبحث العلمي والبحث عن المختلف وغير المألوف بالنسبة إلى الكاتب ومجتمعه، في ما كان يمر به أو يقيم فيه من البلدان، كما هو الحال مع ابن جبير الأندلسي في كتابه “رحلة ابن جبير” و”ابن بطوطة” وهو الشيخ الطنجي عبدالله بن محمد وكتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” الذي اشتهر باسم رحلة ابن بطوطة.
وهناك من الباحثين من يعد بعض كتابات المؤرخين العربيين الكبيرين اليعقوبي والمسعودي قد تضمنت نصوصاً رحلية، وهي لم تتجاوز ما أشرنا إليه من قبل، في ما تفصح عن حب المعرفة وتندرج في إطار البحث العلمي. ومن النصوص الرحلية في تراثنا العربي ما اقترن فيه الطموح بحب المعرفة، حيث يقوم الرحالة بمهمة ذات طابع سياسي، وهو ما كانت عليه رحلات الشريف الإدريسي وابن فضلان وابن ماجد. وقام بعض الرحالة بمهمة دبلوماسية؛ حيث يكون الرحالة مبعوثا رسمياً، فيكتب عن كل ما يتعلق بمهمته من أماكن وأشخاص وأحداث، كأبي دلف وابن مسعر والوزير محمد الغساني الأندلسي، وقد سبق لي أن كتبت عن رحلته وتوقفت عند ما قام به، حيث بادل الأسرى الإسبان بمخطوطات عربية كان قد سرقها بحارة إسبان.
كما سبق لي أن كتبت عما يؤاخذ عليه بعض الرحالة العرب في كتاباتهم، حيث لم يعتمدوا في كتاباتهم على مشاهداتهم وملاحظاتهم فقط، بل نقلوا عمن سبقهم من الرحالة والجغرافيين، واعتمد بعضهم على ما سمعه دون تدقيق في القول أو القائل، فوقع في أخطاء، وكان ينبغي أن يتحرى الحقيقة، ومثل هذه الأخطاء تسيء إليه شخصيا وإلى كتابه، لذا فإن بعض الكتب الرحلية رغم أنها تُعتمد اعتمادا ملحوظا تظل موضع مراجعة وتدقيق، مثل رحلة ابن فضلان التي يعتمدها البلغار والاسكندنافيون في بعض صفحات تاريخهم وبخاصة الاجتماعي منه.
لقد انفتح النص الرحلي في أدبنا المعاصر على جنس آخر من أجناس الكتابة الأدبية، هو جنس الرواية. وسواء توقفنا عند نماذج من الرواية العالمية أم كانت النماذج من الرواية العربية نجد أن الكثير منها يقترب من مكونات النص الرحلي في وصف المكان وشواخصه وبعض ما يجري من أحداث في زمان الرواية ووصف الناس في فضاءيها الزماني والمكاني وخصوصياتهم وقيمهم وأخلاقياتهم. وطالما ركز الروائي، حين يكون نصه الروائي من هذا القبيل، على المختلف والغريب، بل على العجائبي أيضاً، وكل هذا كنا نجده في النصوص الرحلية.
أما التحقيق الصحافي، وهو جنس آخر من أجناس الكتابة، فما زال يستأثر بقراء كثيرين وما زال كُتاب التحقيق الصحافي غير بعيدين عن معطيات الكتابة الرحلية في ما يتناولونه ويؤكدون عليه من جماليات المكان والخصوصيات اليومية، وإن استعانوا بالصورة ، صورة المكان وصورة الحياة اليومية.
أدب ما زال حاضرا
ما يلفت النظر كثرة المتغيرات في عالمنا المعاصر، وما اقترن بها من تطور وسائل الاتصال وما يقدمه التلفزيون والسينما وعدسات المصورين من معلومات عن الآخر، مكاناً وإنساناً. ويمكن لأي شخص في أي مكان من العالم أن يعرف أي شيء، بل كل شيء عن أقصى مكان في العالم وأبعده عنه، ومع هذا ما زال الكتاب في غير لغة من اللغات الحية يواصلون كتابة النصوص الرحلية وما زال القراء يتلقونها بشغف، سواء كانت قديمة أو معاصرة.
على سبيل المثال نذكر مشروع دار السويدي في الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً سلسلة ارتياد الآفاق التي قال عنها محمد أحمد السويدي “تهدف هذه السلسلة إلى بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية، من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين، جابوا العالم ودونوا يومياتهم وانطباعاتهم ونقلوا صوراً لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه”.
وما أود الإشارة إليه هو أن هذه السلسلة وسلاسل أخرى صدرت عن الدار ذاتها، وتتعلق بأدب الرحلة، اتسعت وتواصلت، وهذا يعني أن الأدب الرحلي ما زال حاضراً ويستقبل من قبل القراء والباحثين، وما زال ما ينشر من نصوص رحلية في دور النشر الأخرى في عدد من العواصم العربية له جمهور واسع من القراء.
وهنا أشير إلى ما أنجزه الروائي المغربي أحمد المديني من نصوص رحلية، فهو الأكثر إنجازاً في الوقت الراهن بين الكتاب العرب على هذا الصعيد، وقد أتيح لي أن قرأت كل ما كتب منها، ووجدت فيها ما يستحق القراءة، فهو يوظف قدراته اللغوية وخبرته السردية وشغفه بالسفر والتنقل من بيئة جغرافية إلى أخرى، وهذا ما جعل كتاباته الرحلية واسعة الانتشار والحضور، ومنها ما نشر في عدد من الطبعات في زمن قصير، فكانت كتاباته هذه إضافة مهمة ومتميزة إلى كل ما كتب من هذا الجنس الأدبي.
الرحلات تغيرت طبائعها وتغير أدبها (لوحة للفنان عدنان معيتيق)
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد سعيد
كاتب عراقي
النص الرحلي أدب تتداخل فيه أجناس كثيرة.
الاثنين 2022/02/28
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سرد الذات والأمكنة (لوحة للفنان سامر طرابيشي)
رغم أن العالم أصبح قرية بفعل التطور التكنولوجي وشبكة الإنترنت التي قرّبت أركان العالم وجعلت أقاصيه متاحة بنقرة زر، فإن ذلك لم يحجب أهمية أدب الرحلة ككتابة تتلاحم فيها الأجناس الأدبية لتروي سير الأمكنة والأزمنة. وعلى العكس فإن الاهتمام يتزايد تدريجيا بهذا الأدب الذي قدم للمدونة العربية نصوصا تأريخية وأدبية غاية في الأهمية، كما يستقطب اليوم الكثير من الكتاب الذين أضافوا إليه أشكالا ومواضيع أخرى.
حين نعود إلى النصوص الرحلية القديمة نجد أن الذين كتبوها هم أشهر الرحالة وأكثرهم قدرة على احتمال مصاعب السفر في زمان غير زماننا، ومخاطره. كما أن الأمر الذي ينبغي أن نشير إليه هو أنه ليس جميع الذين عاشوا تجربة الرحيل في الماضي كتبوا نصوصاً تضمنت مشاهداتهم في رحلاتهم، بل اقتصرت كتابة النصوص الرحلية على المؤهلين للكتابة ومن أتاحت له طبيعة رحلته أن يحتفظ بما كتب أو بالملاحظات التي سجلها واحتفظ بها مكتوبة أو اعتمد فيها على ذاكرته.
وكتب الرحالة القدامى ضاع منها ما ضاع، مثل بقية المؤلفات من جميع أجناس الكتابة، حيث تذكر في سياقات كتب أخرى ، ولم يعثر عليها حتى الآن، وربما لن يعثر عليها أبداً.
وتداخلت في بعض المؤلفات المذكرات والسيرة والنص الرحلي، كما هو الحال في السيرة الذاتية لابن خلدون، وهذا التداخل بات أكثر وضوحاً في كتابات المعاصرين، ويدخل على خط التداخل هذا جنس آخر من أجناس الكتابة هو أدب المكان وقد سبق لي في كتابي “الكتابة ومآلاتها” أن لاحظت مثل هذا التداخل في ما كتبته سالمة بنت سعيد “مذكرات أميرة عربية” الذي يجمع خصائص أدب الرحلة والمكان والمذكرات، كما يمكنني أن أستشهد هنا بما ذهب إليه الدكتور محسن الموسوي في قوله “ليس بالإمكان فصل الكتابة عن الرحلة -أية رحلة- عن السيرة الذاتية أو المكان، ويرى هذا التداخل في ما كتبه القزويني صاحب كتاب ‘عجائب المخلوقات'”.
تداخل الأجناس
إن أدب الرحلات العربي في نصوصه الأكثر شهرة قد ارتبط بحب المعرفة والبحث العلمي والبحث عن المختلف وغير المألوف بالنسبة إلى الكاتب ومجتمعه، في ما كان يمر به أو يقيم فيه من البلدان، كما هو الحال مع ابن جبير الأندلسي في كتابه “رحلة ابن جبير” و”ابن بطوطة” وهو الشيخ الطنجي عبدالله بن محمد وكتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” الذي اشتهر باسم رحلة ابن بطوطة.
وهناك من الباحثين من يعد بعض كتابات المؤرخين العربيين الكبيرين اليعقوبي والمسعودي قد تضمنت نصوصاً رحلية، وهي لم تتجاوز ما أشرنا إليه من قبل، في ما تفصح عن حب المعرفة وتندرج في إطار البحث العلمي. ومن النصوص الرحلية في تراثنا العربي ما اقترن فيه الطموح بحب المعرفة، حيث يقوم الرحالة بمهمة ذات طابع سياسي، وهو ما كانت عليه رحلات الشريف الإدريسي وابن فضلان وابن ماجد. وقام بعض الرحالة بمهمة دبلوماسية؛ حيث يكون الرحالة مبعوثا رسمياً، فيكتب عن كل ما يتعلق بمهمته من أماكن وأشخاص وأحداث، كأبي دلف وابن مسعر والوزير محمد الغساني الأندلسي، وقد سبق لي أن كتبت عن رحلته وتوقفت عند ما قام به، حيث بادل الأسرى الإسبان بمخطوطات عربية كان قد سرقها بحارة إسبان.
كما سبق لي أن كتبت عما يؤاخذ عليه بعض الرحالة العرب في كتاباتهم، حيث لم يعتمدوا في كتاباتهم على مشاهداتهم وملاحظاتهم فقط، بل نقلوا عمن سبقهم من الرحالة والجغرافيين، واعتمد بعضهم على ما سمعه دون تدقيق في القول أو القائل، فوقع في أخطاء، وكان ينبغي أن يتحرى الحقيقة، ومثل هذه الأخطاء تسيء إليه شخصيا وإلى كتابه، لذا فإن بعض الكتب الرحلية رغم أنها تُعتمد اعتمادا ملحوظا تظل موضع مراجعة وتدقيق، مثل رحلة ابن فضلان التي يعتمدها البلغار والاسكندنافيون في بعض صفحات تاريخهم وبخاصة الاجتماعي منه.
لقد انفتح النص الرحلي في أدبنا المعاصر على جنس آخر من أجناس الكتابة الأدبية، هو جنس الرواية. وسواء توقفنا عند نماذج من الرواية العالمية أم كانت النماذج من الرواية العربية نجد أن الكثير منها يقترب من مكونات النص الرحلي في وصف المكان وشواخصه وبعض ما يجري من أحداث في زمان الرواية ووصف الناس في فضاءيها الزماني والمكاني وخصوصياتهم وقيمهم وأخلاقياتهم. وطالما ركز الروائي، حين يكون نصه الروائي من هذا القبيل، على المختلف والغريب، بل على العجائبي أيضاً، وكل هذا كنا نجده في النصوص الرحلية.
أما التحقيق الصحافي، وهو جنس آخر من أجناس الكتابة، فما زال يستأثر بقراء كثيرين وما زال كُتاب التحقيق الصحافي غير بعيدين عن معطيات الكتابة الرحلية في ما يتناولونه ويؤكدون عليه من جماليات المكان والخصوصيات اليومية، وإن استعانوا بالصورة ، صورة المكان وصورة الحياة اليومية.
أدب ما زال حاضرا
ما يلفت النظر كثرة المتغيرات في عالمنا المعاصر، وما اقترن بها من تطور وسائل الاتصال وما يقدمه التلفزيون والسينما وعدسات المصورين من معلومات عن الآخر، مكاناً وإنساناً. ويمكن لأي شخص في أي مكان من العالم أن يعرف أي شيء، بل كل شيء عن أقصى مكان في العالم وأبعده عنه، ومع هذا ما زال الكتاب في غير لغة من اللغات الحية يواصلون كتابة النصوص الرحلية وما زال القراء يتلقونها بشغف، سواء كانت قديمة أو معاصرة.
على سبيل المثال نذكر مشروع دار السويدي في الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً سلسلة ارتياد الآفاق التي قال عنها محمد أحمد السويدي “تهدف هذه السلسلة إلى بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية، من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين، جابوا العالم ودونوا يومياتهم وانطباعاتهم ونقلوا صوراً لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه”.
وما أود الإشارة إليه هو أن هذه السلسلة وسلاسل أخرى صدرت عن الدار ذاتها، وتتعلق بأدب الرحلة، اتسعت وتواصلت، وهذا يعني أن الأدب الرحلي ما زال حاضراً ويستقبل من قبل القراء والباحثين، وما زال ما ينشر من نصوص رحلية في دور النشر الأخرى في عدد من العواصم العربية له جمهور واسع من القراء.
وهنا أشير إلى ما أنجزه الروائي المغربي أحمد المديني من نصوص رحلية، فهو الأكثر إنجازاً في الوقت الراهن بين الكتاب العرب على هذا الصعيد، وقد أتيح لي أن قرأت كل ما كتب منها، ووجدت فيها ما يستحق القراءة، فهو يوظف قدراته اللغوية وخبرته السردية وشغفه بالسفر والتنقل من بيئة جغرافية إلى أخرى، وهذا ما جعل كتاباته الرحلية واسعة الانتشار والحضور، ومنها ما نشر في عدد من الطبعات في زمن قصير، فكانت كتاباته هذه إضافة مهمة ومتميزة إلى كل ما كتب من هذا الجنس الأدبي.
الرحلات تغيرت طبائعها وتغير أدبها (لوحة للفنان عدنان معيتيق)
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد سعيد
كاتب عراقي