اليمن أرض العجائب كما يقدمه الخطاب الاستعماري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اليمن أرض العجائب كما يقدمه الخطاب الاستعماري

    اليمن أرض العجائب كما يقدمه الخطاب الاستعماري


    فريا ستارك حوّلها استكشافها لليمن من كاتبة رحالة إلى عنصر استخباراتي.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    اليمن ماض عريق (لوحة للفنان مظهر نزار)

    الشهرة الكبيرة التي اكتسبها اليمن أو البلاد العربية السعيدة منذ القدم جذبت إليه أعدادا كبيرة من الرحالة الأجانب، فقد كان على مر العصور محط أنظار “الآخر” الأجنبي، سواء كان مستعمرا غازيا أو مستكشفا باحثا أو تاجرا أو سائحا، إذ مثّل الوجهة السحرية للراغبين في الاكتشاف وتجربة عيش المغامرة وتدوينها.

    هناك العديد من الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة الأجانب عن اليمن؛ بعضهم كتب عنه بشكل عام واكتفى الآخرون بتناول جزء منه أو إحدى مدنه.

    وتشكل دراسة أستاذ الأدب العام والمقارن بجامعة عدن مسعود عمشوش “اليمن في كتابات فريا ستارك.. من الاستكشافات إلى الاستخبارات” إضافة نوعية لقراءة في كتابات أحد أبرز الرحالة الغربيين الذين زاروا اليمن خلال النصف الأول من القرن الماضي.
    أدب الرحلة واليمن



    إزاحة النقاب عن شخصية ستارك


    يرى عمشوش في كتابه الصادر عن دار عناوين بوكس أن الدوافع التي جذبت الأجانب ولا تزال تجذبهم إلى اليمن كثيرة ومتنوعة. فشهرة اليمن بزراعة أشجار البخور وتجارته في الماضي لفتت انتباه التجار وكذلك الغزاة الذين حاولوا السيطرة على إنتاج تلك السلع الثمينة، التي ربما فاقت أهميتها في الماضي أهمية البُن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأهمية البترول اليوم.

    أما الدافع الأصلي لأولى المحاولات الغربية لاستكشاف اليمن في العصور الحديثة التي قامت بها البعثة الدنماركية بقيادة كارستن نيبور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فقد كان لغويا – دينيا، إذ أوصى العالم اللغوي اليهودي جان – دافيد ميكائيليس ملك الدنمارك باستكشاف اليمن بغرض جمع المعلومات اللغوية والجغرافية التي يمكن أن تساعد على فهم النصوص المقدسة اليهودية والمسيحية.

    ويبرز الدافع العسكري لاستكشاف اليمن واحتلاله في العصور الحديثة منذ نهاية القرن الخامس عشر حينما حاول البرتغاليون احتلال عدن وميناء الشحر، وكذلك حين حاول نابليون بونابرت السيطرة على مضيق باب المندب أثناء حملته على مصر. ومن المعلوم أنّ تلك المحاولة هي التي دفعت بريطانيا إلى الإسراع في احتلال عدن سنة 1839 وتحويلها إلى قاعدة عسكرية.

    ويشير الباحث إلى أن من أهم الأشكال التي اتخذتها رحلات الأجانب إلى اليمن يمكننا أن نميّز بين شكلين رئيسيين منها. فمن جهة، هناك شكل البعثات الجماعية التي تنظمها بعض الحكومات الغربية أو المؤسسات العلمية، والتي يمكن أن تكون عسكرية أو سياسية أو علمية مثل البعثة الدنماركية بقيادة كارستن نيبور، أو البعثة النمساوية التي أرسلتها جامعة فينّا في نهاية القرن التاسع عشر لدراسة اللغات العربية الجنوبية الحديثة ولهجة حضرموت، والتي ضمّت عددا من كبار المستشرقين والمستعربين من مختلف الأقطار الأوروبية.

    ومن جهة أخرى، ظل اليمن، على الرغم من وعورة طرقه وعدم توفر وسائل النقل الحديثة والمريحة دائما فيه، من البلدان التي سعى عددٌ كبيرٌ من الرحالة والمستكشفين والمخبرين والمغامرين والعسكريين للوصول إليها بشكل انفرادي، مثل ويلستيد ولاندبيرج وهانس هيلفريتس وفريا ستارك وفيلبي وتيليسجر وباسكوان وسيرجانت، أو بشكل ثنائي مثل هاليفي وحبشوش والسيد والسيدة بينت وفان دن ميولن وفايسمان وانجرامس وزوجته.

    ويؤكد عمشوش أن كتابات ستارك حول اليمن تكتسب أهمية توثيقية كبيرة، إذ أنها تتضمن معلومات استخباراتية لن نجدها في أي وثيقة تاريخية أخرى، مثل تلك التي تميط اللثام عن الجهود التي بذلها البريطانيون في بداية الحرب العالمية الثانية في سبيل تحييد الإمام يحيى بن حميد الدين وثنيهِ عن مساندة دول المحور.

    كما نعثر في كتاباتها على رصد للأحداث اليومية في عدن خلال السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية، التي تمَّ خلالها قصف المدينة بشكل عنيف من قبل القواعد الألمانية والإيطالية في القرن الأفريقي. كما أنّ الأسلوب الفريد الذي استخدمته ستارك في تدوين رحلاتها التي ترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية هو الذي جعل كتبها من أروع ما ألف في أدب الرحلات باللغة الإنجليزية، وحفزنا على دراسة كتاباتها عن اليمن. فمن خلال المزج بين السرد والوصف استطاعت أن تضفي على نصوصها الكثير من عناصر الجمال والتشويق والإثارة. كما أن تداخل السرد مع الرسائل والمذكرات والانطباعات التي سجلتها الرحالة مباشرة في اليمن قد أعطى لأسلوب ستارك حيوية قلما نجدها في كتب الرحلات الأخرى.
    مهمة استخباراتية



    يذكر عمشوش أن ستارك لتتمكن من جذب أكبر عدد ممكن من القراء وتجسيد الجانب الغرائبي في نصوصها وتقريبه من خيال القارئ وإقناعه بصحة ما تنقله من مشاهد، لم تكتف بقلمها، بل استخدمت كذلك آلة التصوير. فهي قبل رحلتها الأولى إلى اليمن قامت بشراء LeicaIII التقطت بها نحو 6000 صورة.

    وقد ضمنت ستارك كل واحد من كتبها الثلاثة الأولى حول اليمن عددا محدودا من الصور. أما الكتاب الرابع “مشاهد من حضرموت” الذي أرادت، هي وناشرها، أن يكون هدية للقارئ، فقد كرسته لتقديم عدد كبير من الصور التقطت معظمها أثناء زيارتها الثانية إلى حضرموت حينما اشتركت في بعثة تنقيب عن الآثار في معبد القمر في حريضة برفقة جيرترود كاتون – تومسون وإلينور جاردنر في شتاء 1937 – 1938.

    وفي هذا الكتاب نتناول الصورة التي رسمتها ستارك لليمن في ستة من مؤلفاتها، هي: البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، 1936، ومشاهد من حضرموت، 1938، وشتاء في شبه الجزيرة العربية،1940، وساحل البخور 1953، والشرق هو الغرب، 1945، وغبار في مخالب الأسد 1961.

    ويحاول عمشوش في الفصل الأول من الكتاب إزاحة النقاب قليلا عن شخصية ستارك والأسباب التي دفعتها إلى القيام برحلتين استكشافيتين إلى حضرموت بين 1934 و1938، ورحلة استخباراتية طويلة إلى عدن وصنعاء في المدة من 19 ديسمبر 1939 إلى منتصف أغسطس من عام 1940، ويعرض في الفصل الثاني أبرز الأبعاد التي ركزت عليها الرحالة الإنجليزية في كتبها تلك عن اليمن.

    ويصب الباحث جل اهتمامه على الكيفية التي رصدت بها الرحالة العادات والتقاليد والحياة اليومية في اليمن ومدى تأثرها بالغرب، والصورة التي رسمتها للإنسان اليمني بشكل عام والمرأة اليمنية بشكل خاص. ففريا ستارك، مقارنة بفان دن ميولن والرحالة الغربيين الآخرين، استطاعت، لكونها امرأة، أن تقدم صورة أوسع للحياة الاجتماعية في اليمن.


    فريا ستارك استطاعت عبر المزج بين السرد والوصف أن تضفي على نصوصها الكثير من عناصر الجمال والتشويق


    وسعى المؤلف أيضا للكشف عن أبعاد الخطاب الاستعماري الذي استخدمته ستارك في رسم صورة اليمن، وذلك من خلال تحديد نوع العلاقة التي أرادت تلك الرحالة الغربية أن تنسجها مع سكان تلك المنطقة العربية الشرقية ومع السلطات البريطانية وزميلتيها في بعثة التنقيب عن الآثار في حريضة. أما الفصل الأخير من الكتاب فيضمنه الترجمة الكاملة لفصلين من كتاب “الشرق هو الغرب”، تسرد فيهما ستارك المهمة الاستخباراتية التي أنجزتها في عدن وصنعاء في بداية الحرب العالمية الثانية، ولثلاثة فصول من كتاب “البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية”، تتناول فيها الحياة اليومية في مُدُن سيؤن وتريم والمكلا، في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.

    ويقول عمشوش “في الرحلتين الأولى والثانية كان هدف ستارك الاستكشاف ومواصلة ما قامت به في إيران خلال الأعوام الثلاثة السابقة التي قضتها في البحث عن خرائب ‘لامياسر‘ وبعض ‘قلاع الحشاشين‘ الأخرى في إقليم لوريستان. ومن المعلوم أنها قد جاءت إلى عدن وحضرموت في عام 1934 لكي تستكشف مدينة شبوة القديمة، عاصمة مملكة حضرموت، وتكون أوَّل أوروبي يصل إليها. وفي عام 1937 جاءت للتنقيب عن الآثار، وتحديد مسار ‘طريق البخور‘ الذي كانت تسلكه القوافل في العصور القديمة لنقل البضائع من مينا قنا إلى موانئ البحر المتوسط. وفي الواقع، تُعد إنجازات ستارك في مستوى الاستكشافات متواضعة إذا ما قارناها بإنجازات بعض زملائها، مثل هاري سانت جون فيلبي (المشهور بالحاج عبدالله فيلبي)، أو برترام توماس. وفي الوقت الذي كانت هي تعاني فيه من المرض استطاع منافسها الألماني هانس هلفريتس الوصول إلى شبوة القديمة”.

    ويلفت إلى أن القيمة العلمية لرحلتي ستارك الأولى والثانية إلى اليمن تكمن في الكم الكبير من المعلومات الأنثروبولوجية التي ضمنتها الكتب الأربعة التي سردت فيها هاتين الرحلتين، والتي تعد اليوم من أهم المصادر لدراسة العادات الاجتماعية وواقع الحياة اليومية في حضرموت واليمن بشكل عام في الثلاثينات من القرن الماضي. وسبق أنْ ذكرنا أن ستارك قد ضمنت تلك الكتب عددا كبيرا من الصور الفوتوغرافية التي توثق بشكل ملموس بعض مظاهر الحياة في اليمن في تلك الفترة، لاسيما ملابس المرأة اليمنية وحليها وزينتها.

    ويضيف عمشوش أنَّ “الرحلة الثالثة التي قامت بها ستارك إلى اليمن في عامي 1939 – 1940 تمّت في إطار مهمة استخباراتية كلفتها بها حكومة بلادها. فمن المؤكد أنَّ الإحراجات التي سببتها ستارك للسلطات البريطانية خلال رحلتيها الاستكشافيتين في اليمن لم تثنِ المؤسسات الأمنية البريطانية عن توظيف تلك الرحالة المغامرة، الخبيرة في شؤون العرب، بهدف اختراق المجتمعات المحلية في اليمن وغيره من الأقطار العربية؛ لهذا سارعت في استدعائها من إيطاليا عند اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 وأطرتها للعمل في مجال الاستخبارات”.
    الأسلوب الفريد الذي استخدمته ستارك في تدوين رحلاتها جعل كتبها من أروع ما ألف في أدب الرحلات بالإنجليزية

    وتكمن مهمة ستارك في تلك الرحلة في معرفة نوايا العدو وتقييم قواته المرابطة في مختلف مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا، بالإضافة إلى إقناع العرب بدعم الحلفاء أو إبقائهم محايدين. ففي صنعاء بفضل ترددها على قصور الإمام والأمراء والأثرياء على مدى شهرين كاملين، والأفلام السينمائية التي تبرز بطولات القوات البريطانية، استطاعت أن تفتن نساء المدينة وأزواجهن والإمام نفسه. وتمكنت أيضا من إرسال معلومات استخباراتية دقيقة إلى عدن تتعلق بمكان الحاميات اليمنية وقدرات الجيش اليمني الذي قالت إنه يملك قوة عسكرية نظامية واحتياطية تبلغ حوالي ثلاثين ألف جندي. وذكرت في تقاريرها أرقاما دقيقة عن كميات البن التي كان يرسلها الإمام يحيى إلى كل من إيطاليا وألمانيا. وقد ربطت وزارة الخارجية البريطانية بين تلك الجهود التي قامت بها ستارك في صنعاء وبقاء اليمن محايدا خلال الحرب العالمية الثانية.

    ويرى عمشوش أن مهمة ستارك الرئيسية في عدن كانت مساعدة ستيوارت بيراون في إدارة مكتب الإعلام Information Office، وتحرير النشرة الإخبارية – الدعائية التي يصدرها المكتب. وبالإضافة إلى تلك المهمة شاركت في عمليات التحقيق مع عدد من الأسرى الإيطاليين. وعند بدء تعرُّض عدن للغارات الإيطالية بادرت إلى تشكيل ثلاثة فرق من الشباب العرب للعمل التطوعي وتدريبهم على السلاح بغرض حراسة الشوارع والمنازل أثناء الغارات الجوية.

    وتجدر الإشارة إلى أن ستارك حينما تم نقلها للعمل مع المؤسسات الأمنية في القاهرة من سبتمبر 1940 إلى سبتمبر 1941، قامت بتأسيس شبكة شبابية عربية من المتعاطفين مع بريطانيا مهمتها المساعدة في الحفاظ على ولاء المصريين والعرب للحلفاء وأطلقت عليها اسم “إخوان الحرية”.

    ويضيف “في سبتمبر من عام 1941، عندما لحقت ستارك بستيوارت براون مديرها السابق في بغداد، استمرت في تكوين خلايا لمنظمة ‘إخوان الحرية‘ في عدد من مدن العراق، وقد تعاونت تلك الخلايا مع الإدارة البريطانية في محاربة بروباغندا دول المحور، وذكرت ستارك ذلك في كتابها ‘الشرق هو الغرب‘ قائلة: كان من الضروري الاقتراب من مختلف طبقات المجتمع؛ لهذا شكلنا جهازا سياسيا استشاريا بهدف محاربة إعلام العدو وخلق صداقة مع القادة وعامة الشعب لإبقاء النفوذ البريطاني في العراق”.


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X