أدب الرحلة: حرباء متغيرة اللون وزئبق عصي على المسك
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الرحالة اليوم مختلف تماما عن السابقين (لوحة للفنان بسيم الريس)
رغم أهميته البالغة مازال أدب الرحلة العربي يواجه نوعا من التهميش في تناوله سواء بالكتابة فيه أو عنه، أو بتحقيق رحلات سابقة. ولكن الاهتمام يتزايد تدريجيا بهذا الأدب الذي قدم للمدونة العربية نصوصا تأريخية وأدبية غاية في الأهمية، كما يستقطب اليوم الكثير من الكتاب الذين أضافوا إليه أشكالا ومواضيع أخرى.
أعادت جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة الاعتبار لجنس أدبي غاية في الأهمية، لا كوثيقة تاريخية فحسب، بل كنص أدبي جمالي، علاوة على قيمته الفكرية والثقافية.
وقد أسفرت الجائزة، فرع الدراسات، في دورتها التاسعة عشرة لعامي 2020 و2021، عن ثلاثة كتب مهمة لباحثين من المغرب هي “الرحلة نسق أنساق: مقاربات تاريخانية وإبستيمولوجية” للدكتور بوسيف واسطي، “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر قضاياها وخصائصها الفنية” للدكتور محمد المسعودي و“في كتابات الرحالة المغاربة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين” للدكتور ربيع عوادي.
الزئبق والحرباء
استراتيجيات بحثية جديدة
ليس من السهل على قارئ “الرحلة نسق أنساق: مقاربات تاريخانية وإبستيمولوجية” أن يختصر في تعريف هذه الدراسة ذات الطابع الشمولي والمركزي في آن، والتي تعتمد استراتيجيات بحثية جديدة استدخلت واستوعبت مناهج فرعية متعددة في منهجها الأوسع لقراءة أدب الرحلة قراءة أراد لها صاحبها أن تكون غير مسبوقة، انطلاقا من النظر إلى أدب الرحلة بوصفه نصا مرآويا تتكسر عليه أشعة العيون القارئة، وتعيد تشكيل رؤيتها وقراءتها ومنهجها في القراءة من خلال تلك العلاقة بنص فريد الطابع، هو نص نصوص، ونسق أنساق، كما يذهب الباحث صاحب هذه الدراسة الجديدة والطريفة والقيمة في آن.
وتفكك الدراسة النص الرحلي بنية وتكوينا، وتستدرج إلى نظرتها المعرفية العميقة هذه البنية المرآوية لتنتج منها معرفة نظرية، فكرية وأدبية وجمالية، تشكل مقترحا جديدا يمكن لقراء هذا الجنس الأدبي ودارسيه أن يستضيئوا به، بينما هم يقبلون على النص الرحلي درسا له أو استمتاعا به. فأدب الرحلة، كما تقترح هذه الدراسة، لم يتح له درس متعدد الأوجه يليق باستقلاليته وكماله، ويكافئ خصوصيته كأدب أجحفت الثقافة العربية الحديثة بحقه، وأهملته حتى وقت قريب.
وليس من المبالغة أن يعبّر واسطي عن استغرابه ودهشته جراء استمرار هذا الحيف على إثر جولة له مع كتابات باحثين عرب سبقوه إلى درس أدب الرحلة، وقد ساق هذا الموقف في مقدمة بحثه.
ويعلّق على ما ذهب إليه الدارسون الذين “صبّوا كامل جهدهم الجهيد في دراسة الرّحلة باعتبارها وثيقة تاريخية أو جغرافية أو اجتماعية”، مضيفا “بَيدَ أننا نعتقد أن هذا الجنس الأدبي، متغير اللون كالحرباء وعصي المَسك كالزئبق، يتناول أوتار المفعول التاريخي أو الجغرافي أو الاجتماعي ويلعب عليها”.
وما يأخذه واسطي على أصحاب تلك الكتابات أن بينهم “من زَعَم أن الرحلة وثيقة جغرافية، منكرا كتابتها انطلاقا من معرفة الرحّالَة، وأسرف آخرون فرأوا أن الرحلة كلها نص تاريخي، أي تعبير أمين عن حقبة تاريخية يؤرخ لها الرحّالة حتى ولو تبيّن أنها متخيّلة، ناهيك عن الإفراط في الدراسات الانطباعية”.
الرحلة المعاصرة
قراءة نصية من منظور جديد يرصد قضايا أدب الرحلة
يدرس كتاب “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر قضاياها وخصائصها الفنية” أدب الرحلة المعاصر من خلال يوميات الرحّالة من الأدباء العرب المعاصرين، وبينهم عدد ممن ظهرت نتاجاتهم عبر مشروع “ارتياد الآفاق”، وحازوا على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، كلطفية الدليمي، في كتابها “مدني وأهوائي”، وخليل النعيمي في كتابه “الحج إلى هاري دوار”، وباسم فرات في رحلته اللاتينية، وكمال الرياحي في كتابه “واحد – صفر للقتيل” وآخرين.
وتأتي هذه الدراسة، وهي قراءة نصية، من منظور جديد يرصد قضايا هذا الأدب وخصائصه الفنية وتحولات الرؤيوية إلى الآخر، ونظرة الرحّالة إلى ذاته من خلال هذه الرؤية المتغيرة، بما في ذلك قراءته المستجدة للاختلاف الحضاري، والتي تكشف لنا هذه الدراسة أنها ابتعدت كثيرا عما كانت عليه في نصوص الرحلة العربية إلى أوروبا في العصر الكولونيالي، خصوصا لدى رحّالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن الماضي.
إنها الرحلة ما بعد الكولونيالية في زمن العولمة، إذن، وتذهب الدراسة في قراءتها لرؤية الذات في علاقته بالآخر لتشمل ما هو أبعد جغرافيا مما كانت عليه حتى الربع الأول من القرن الماضي، حيث اقتصرت الرحلات عموما على أوروبا والولايات المتحدة، بصورة أساسية، فتناولت الدراسة يوميات رحّالة وصلوا إلى اليابان والهند وأميركا اللاتينية.
وتكشف الدراسة عن ظواهر وقضايا وإشكاليات إنسانية جديدة رافقت ظهور العولمة واتساع رقعتها، لتشمل العالم كله، وتجعل من نصوص الرحّالة الجدد، من ثم، متونا للغوص في الذات، وتفجير أسئلتها الوجودية، بما يجعل الشعري يوشح تلك الأسئلة، وتحيل البحث في الآخر إلى بحث فلسفي وفكري أكثر منه إلى سعي معرفي، ما دامت العولمة قد كشفت كل بقعة من بقاع العالم مهما كانت صغيرة أو بعيدة، ولم يعد هناك من الجغرافيات والأقوام والظواهر ما يمكن أن يكتشف بالمعنيين الإثنوغرافي والأنثروبولجي، وهو ما جعل الرحّالة يتحول إلى شاعر وفيلسوف وقارئ ظواهر جوّال أكثر تعقيدا وتركيبا.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما لاحظه الدارس محمد المسعودي من سمات فنية مستجدة في نص الرحلة المعاصرة “بحيث تتنوع المحافل السردية وغير السردية في صياغة خطاب الرحلة، وبناء عوالمها السردية التي يمتزج فيها التخييلي بالتسجيلي (التوثيقي)، ويرتبط فيها التاريخي بالأسطوري، والمعطى الديني بالبعد الفكري والعلمي، والجغرافي بالسياسي.. وأخذت الرحلة شكل السيرة الذاتية أو اليوميات، والسرد القصصي أو الحكاية الموجزة المكثفة، والريبورتاج الصحافي أو المقالة التاريخية أو الفكرية أو العلمية”.
ولعل عكوف هذه الدراسة على قراءة يوميات الرحّالة المعاصرين، أو السندبادات الجدد، نساء ورجالا، إنما يفتح الباب لدراسات أخرى تتناول أدب الرحلة من زوايا أخرى، يستحقها نص الرحلة بوصفه نصا مرآويا شديد الغنى والكثافة لقدرته العجيبة على الاحتفاء بالعالم.
صورة مصر
وقوف على التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي لمصر في ضوء يوميات الرحّالة المغاربة
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها تتناول صورة المشرق العربي في كتابات الرحّالة المغاربة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، متخذة من مصر أنموذجا. وهي إذ ترصد تاريخ العلاقات المغربية المشرقية، إنما تفعل ذلك من خلال استجلاء الصورة التي ترسّخت في أذهان الرحّالة المغاربة عن مصر على وجه التحديد، لِما لهذا البلد من دور محوري ومركزي في نصوص الرحّالة المغاربة خلال العصر الحديث والمعاصر.
وتقف هذه الدراسة على التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي لمصر في ضوء يوميات الرحّالة المغاربة الذين شكلت مصر بالنسبة إليهم محطة إجبارية، في سياق رحلاتهم إلى الحجاز، فلم يفوّت هؤلاء الرحّالة، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية ومرجعياتهم الفكرية ومشاربهم الروحية، الفرصة للتنقل في مصر والوصول إلى القاهرة لزيارة معالمها السياحية والعمرانية ولقاء علمائها وشخصياتها الثقافية والروحية.
وقد دوّن هؤلاء في يومياتهم ما شرد وما ورد من أخبار وملاحظات ومشاهدات فكان بعضها مكررا ومألوفا، وبعضها الآخر جديدا كل الجدة ومثيرا للقارئ والسامع في المغرب، وقد أسهمت هذه الكتابات إلى أبعد حد في تكوين صورة مصر والمشرق في المخيال المغربي. بل إن كتب الرحلة المغربية حول المشرق تشكّل، من وجهة نظر صاحب هذه الدراسة، أهم مصدر لمعرفة التاريخ المصري ودراسته خلال الفترة الحديثة والمعاصرة، حيث تميزت بكثرتها عدديا وزخم المعلومات كمّا ونوعا.
وقد استطاع الباحث أثناء دراسته للرحلات وصورة مصر إبراز الكثير من الجوانب في العلاقات بين دول المشرق بعضها ببعض، وعلاقات مصر بالإمبراطورية العثمانية والدول الأوروبية، وأخيرا علاقاتها السياسية مع المغرب التي دخلت عهدا جديدا. وقد خلص الباحث إلى استنتاجات بالغة الأهمية تتعلق بالأجزاء التي تتشكّل منها الصورة الحضارية لمصر في الفترة التي ركزت عليها الدراسة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عواد علي
كاتب عراقي
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الرحالة اليوم مختلف تماما عن السابقين (لوحة للفنان بسيم الريس)
رغم أهميته البالغة مازال أدب الرحلة العربي يواجه نوعا من التهميش في تناوله سواء بالكتابة فيه أو عنه، أو بتحقيق رحلات سابقة. ولكن الاهتمام يتزايد تدريجيا بهذا الأدب الذي قدم للمدونة العربية نصوصا تأريخية وأدبية غاية في الأهمية، كما يستقطب اليوم الكثير من الكتاب الذين أضافوا إليه أشكالا ومواضيع أخرى.
أعادت جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة الاعتبار لجنس أدبي غاية في الأهمية، لا كوثيقة تاريخية فحسب، بل كنص أدبي جمالي، علاوة على قيمته الفكرية والثقافية.
وقد أسفرت الجائزة، فرع الدراسات، في دورتها التاسعة عشرة لعامي 2020 و2021، عن ثلاثة كتب مهمة لباحثين من المغرب هي “الرحلة نسق أنساق: مقاربات تاريخانية وإبستيمولوجية” للدكتور بوسيف واسطي، “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر قضاياها وخصائصها الفنية” للدكتور محمد المسعودي و“في كتابات الرحالة المغاربة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين” للدكتور ربيع عوادي.
الزئبق والحرباء
استراتيجيات بحثية جديدة
ليس من السهل على قارئ “الرحلة نسق أنساق: مقاربات تاريخانية وإبستيمولوجية” أن يختصر في تعريف هذه الدراسة ذات الطابع الشمولي والمركزي في آن، والتي تعتمد استراتيجيات بحثية جديدة استدخلت واستوعبت مناهج فرعية متعددة في منهجها الأوسع لقراءة أدب الرحلة قراءة أراد لها صاحبها أن تكون غير مسبوقة، انطلاقا من النظر إلى أدب الرحلة بوصفه نصا مرآويا تتكسر عليه أشعة العيون القارئة، وتعيد تشكيل رؤيتها وقراءتها ومنهجها في القراءة من خلال تلك العلاقة بنص فريد الطابع، هو نص نصوص، ونسق أنساق، كما يذهب الباحث صاحب هذه الدراسة الجديدة والطريفة والقيمة في آن.
وتفكك الدراسة النص الرحلي بنية وتكوينا، وتستدرج إلى نظرتها المعرفية العميقة هذه البنية المرآوية لتنتج منها معرفة نظرية، فكرية وأدبية وجمالية، تشكل مقترحا جديدا يمكن لقراء هذا الجنس الأدبي ودارسيه أن يستضيئوا به، بينما هم يقبلون على النص الرحلي درسا له أو استمتاعا به. فأدب الرحلة، كما تقترح هذه الدراسة، لم يتح له درس متعدد الأوجه يليق باستقلاليته وكماله، ويكافئ خصوصيته كأدب أجحفت الثقافة العربية الحديثة بحقه، وأهملته حتى وقت قريب.
وليس من المبالغة أن يعبّر واسطي عن استغرابه ودهشته جراء استمرار هذا الحيف على إثر جولة له مع كتابات باحثين عرب سبقوه إلى درس أدب الرحلة، وقد ساق هذا الموقف في مقدمة بحثه.
ويعلّق على ما ذهب إليه الدارسون الذين “صبّوا كامل جهدهم الجهيد في دراسة الرّحلة باعتبارها وثيقة تاريخية أو جغرافية أو اجتماعية”، مضيفا “بَيدَ أننا نعتقد أن هذا الجنس الأدبي، متغير اللون كالحرباء وعصي المَسك كالزئبق، يتناول أوتار المفعول التاريخي أو الجغرافي أو الاجتماعي ويلعب عليها”.
وما يأخذه واسطي على أصحاب تلك الكتابات أن بينهم “من زَعَم أن الرحلة وثيقة جغرافية، منكرا كتابتها انطلاقا من معرفة الرحّالَة، وأسرف آخرون فرأوا أن الرحلة كلها نص تاريخي، أي تعبير أمين عن حقبة تاريخية يؤرخ لها الرحّالة حتى ولو تبيّن أنها متخيّلة، ناهيك عن الإفراط في الدراسات الانطباعية”.
الرحلة المعاصرة
قراءة نصية من منظور جديد يرصد قضايا أدب الرحلة
يدرس كتاب “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر قضاياها وخصائصها الفنية” أدب الرحلة المعاصر من خلال يوميات الرحّالة من الأدباء العرب المعاصرين، وبينهم عدد ممن ظهرت نتاجاتهم عبر مشروع “ارتياد الآفاق”، وحازوا على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، كلطفية الدليمي، في كتابها “مدني وأهوائي”، وخليل النعيمي في كتابه “الحج إلى هاري دوار”، وباسم فرات في رحلته اللاتينية، وكمال الرياحي في كتابه “واحد – صفر للقتيل” وآخرين.
وتأتي هذه الدراسة، وهي قراءة نصية، من منظور جديد يرصد قضايا هذا الأدب وخصائصه الفنية وتحولات الرؤيوية إلى الآخر، ونظرة الرحّالة إلى ذاته من خلال هذه الرؤية المتغيرة، بما في ذلك قراءته المستجدة للاختلاف الحضاري، والتي تكشف لنا هذه الدراسة أنها ابتعدت كثيرا عما كانت عليه في نصوص الرحلة العربية إلى أوروبا في العصر الكولونيالي، خصوصا لدى رحّالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن الماضي.
إنها الرحلة ما بعد الكولونيالية في زمن العولمة، إذن، وتذهب الدراسة في قراءتها لرؤية الذات في علاقته بالآخر لتشمل ما هو أبعد جغرافيا مما كانت عليه حتى الربع الأول من القرن الماضي، حيث اقتصرت الرحلات عموما على أوروبا والولايات المتحدة، بصورة أساسية، فتناولت الدراسة يوميات رحّالة وصلوا إلى اليابان والهند وأميركا اللاتينية.
وتكشف الدراسة عن ظواهر وقضايا وإشكاليات إنسانية جديدة رافقت ظهور العولمة واتساع رقعتها، لتشمل العالم كله، وتجعل من نصوص الرحّالة الجدد، من ثم، متونا للغوص في الذات، وتفجير أسئلتها الوجودية، بما يجعل الشعري يوشح تلك الأسئلة، وتحيل البحث في الآخر إلى بحث فلسفي وفكري أكثر منه إلى سعي معرفي، ما دامت العولمة قد كشفت كل بقعة من بقاع العالم مهما كانت صغيرة أو بعيدة، ولم يعد هناك من الجغرافيات والأقوام والظواهر ما يمكن أن يكتشف بالمعنيين الإثنوغرافي والأنثروبولجي، وهو ما جعل الرحّالة يتحول إلى شاعر وفيلسوف وقارئ ظواهر جوّال أكثر تعقيدا وتركيبا.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما لاحظه الدارس محمد المسعودي من سمات فنية مستجدة في نص الرحلة المعاصرة “بحيث تتنوع المحافل السردية وغير السردية في صياغة خطاب الرحلة، وبناء عوالمها السردية التي يمتزج فيها التخييلي بالتسجيلي (التوثيقي)، ويرتبط فيها التاريخي بالأسطوري، والمعطى الديني بالبعد الفكري والعلمي، والجغرافي بالسياسي.. وأخذت الرحلة شكل السيرة الذاتية أو اليوميات، والسرد القصصي أو الحكاية الموجزة المكثفة، والريبورتاج الصحافي أو المقالة التاريخية أو الفكرية أو العلمية”.
ولعل عكوف هذه الدراسة على قراءة يوميات الرحّالة المعاصرين، أو السندبادات الجدد، نساء ورجالا، إنما يفتح الباب لدراسات أخرى تتناول أدب الرحلة من زوايا أخرى، يستحقها نص الرحلة بوصفه نصا مرآويا شديد الغنى والكثافة لقدرته العجيبة على الاحتفاء بالعالم.
صورة مصر
وقوف على التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي لمصر في ضوء يوميات الرحّالة المغاربة
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها تتناول صورة المشرق العربي في كتابات الرحّالة المغاربة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، متخذة من مصر أنموذجا. وهي إذ ترصد تاريخ العلاقات المغربية المشرقية، إنما تفعل ذلك من خلال استجلاء الصورة التي ترسّخت في أذهان الرحّالة المغاربة عن مصر على وجه التحديد، لِما لهذا البلد من دور محوري ومركزي في نصوص الرحّالة المغاربة خلال العصر الحديث والمعاصر.
وتقف هذه الدراسة على التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي لمصر في ضوء يوميات الرحّالة المغاربة الذين شكلت مصر بالنسبة إليهم محطة إجبارية، في سياق رحلاتهم إلى الحجاز، فلم يفوّت هؤلاء الرحّالة، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية ومرجعياتهم الفكرية ومشاربهم الروحية، الفرصة للتنقل في مصر والوصول إلى القاهرة لزيارة معالمها السياحية والعمرانية ولقاء علمائها وشخصياتها الثقافية والروحية.
وقد دوّن هؤلاء في يومياتهم ما شرد وما ورد من أخبار وملاحظات ومشاهدات فكان بعضها مكررا ومألوفا، وبعضها الآخر جديدا كل الجدة ومثيرا للقارئ والسامع في المغرب، وقد أسهمت هذه الكتابات إلى أبعد حد في تكوين صورة مصر والمشرق في المخيال المغربي. بل إن كتب الرحلة المغربية حول المشرق تشكّل، من وجهة نظر صاحب هذه الدراسة، أهم مصدر لمعرفة التاريخ المصري ودراسته خلال الفترة الحديثة والمعاصرة، حيث تميزت بكثرتها عدديا وزخم المعلومات كمّا ونوعا.
وقد استطاع الباحث أثناء دراسته للرحلات وصورة مصر إبراز الكثير من الجوانب في العلاقات بين دول المشرق بعضها ببعض، وعلاقات مصر بالإمبراطورية العثمانية والدول الأوروبية، وأخيرا علاقاتها السياسية مع المغرب التي دخلت عهدا جديدا. وقد خلص الباحث إلى استنتاجات بالغة الأهمية تتعلق بالأجزاء التي تتشكّل منها الصورة الحضارية لمصر في الفترة التي ركزت عليها الدراسة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عواد علي
كاتب عراقي