ثلاث رحلات من أفريقيا إلى أبوظبي وصولا إلى أوروبا
حكايات يرويها مسافر يمني وشاعر كويتي جوال وزعيم وطني سوري.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ثلاثة رحالة في أماكن عجيبة
لا يتوقف دور أدب الرحلة عند الكشف عن خفايا الشعوب والسفر في العادات والمميزات الحضارية والسفر بالقراء إلى عوالم مدهشة، بل هو أيضا يقوم على جماليات أدبية تساهم في إضفاء المتعة على النصوص الرحلية، التي باتت تزاحمها اليوم البرامج الوثائقية وغيرها من الوسائل التكنولوجية، لكن الرحلات تبقى لها قيمتها التاريخية والأدبية التي لا يمكن انتزاعها.
تصدرت جوائز ابن بطوطة للرحلات المحققة، التي منحها المركز العربي للأدب الجغرافي، ارتياد الآفاق في أبوظبي ضمن جوائز الدورة 19 لعامي 2020 و2021، رحلة “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر (سيرة الحبشة)” للرحالة اليمني الحسن بن أحـمد بن صلاح اليوسفي الحيمي (القرن 17)، و”الرحلة الشابورية من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936″ للرحالة الكويتي زين العابدين بن حسن باقر، و”الرحلة الأوروبية: من دمشق إلى روما، باريس، ميونخ، فيينا، بلغراد، بودابست، صوفيا، إسطنبول 1912 – 1911″ للزعيم الوطني السوري فخري البارودي.
وتأتي أهمية هذه الرحلات الثلاث من كونها تزخر بمادة جغرافية وتاريخية بالغة الأهمية، فضلا عن قيمتها الأدبية والجمالية، التي أهلتها للتتويج بالجائزة.
الواقعي والعجائبي
صور مشاهد وأخبار واقعية وعجيبة
تعد رحلة “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر (سيرة الحبشة)”، التي حققها وقدم لها الباحث اليمني الدكتور محمد عبده مسعد عياش، من أوائل الرحلات اليمنية المدونة، والتي اهتمت بها كتب التاريخ اليمني، فهي موجودة بتمامها أو مجتزأة في عدد من المظان اليمنية، ولاسيما في “تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار” للمطهر بن محمد الجرموزي، ولم يفت المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي الاهتمام بها، والحديث عنها في كتابه الضخم “تاريخ الأدب الجغرافي” الذي أرخ فيه للأدب الجغرافي العربي منذ تبلوره وانطلاقه في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين وحتى القرن السابع عشر.
وسبق لهذه الرحلة أن أخرجت إلى النور قبل أكثر من نصف قرن، على أن هذا التحقيق يمكن أن يكون الأنضج والأكمل حتى الآن لما قيّض له من معطيات لم تكن متوفرة في زمن تحقيقها الأول، إنْ على مستوى النسخ الخطية التي اعتمدت للرحلة أو الدراسات التي وضعت في مجالها.
وفي هذا السياق يشير المحقق إلى الصعوبات التي واجهته بدءا من صعوبة الحصول على نسخ للمخطوطة، وصولا إلى ندرة الكتب التي تتعلق بالأعلام، سواء في اليمن أو في الحبشة، ومعلوم أن كتب التراجم تشكل مراجع أساسية للمحققين.
وقد تميز عمل المحقق بدقة وأمانة وموضوعية، فقدم للقراء أدبا رحليا يغذي خيالهم، ويمتعهم بالمعارف والصور والمشاهد والأخبار الواقعية والعجيبة التي احتوى عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر سدّ ثغرة مهمة في تاريخ التواصل الحضاري بين بلد عربي وآخر أفريقي في حقبة زمنية مهمة تقاطعت فيها المصالح بين الحكام المحليين والقوى الدولية الكبرى، ممثلة هنا بالدولة العثمانية التي كانت تتحكم ببعض طرق السفر بين قارتي أفريقيا وآسيا.
الرحلة الشابورية
كتبت “الرحلة الشابورية من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936″، للشاعر الكويتي زين العابدين حسن باقر (ذو الرياستين)، وتحقيق وتقديم الباحث الإماراتي سلطان العميمي، نظما، حسب المخطوطة (الأرجوزة/ الرحلة) المؤرخة في (1354هــ/ 1936م).
وكان مؤلفها شاعرا مشهورا في بلده وعصره يكتب الشعر باللغتين العربية والفارسية، وقد وردت أخباره في العديد من المراجع والمظان الكويتية والخليجية. وحسب ما أورد معجم شعراء الكويت فإن بداية الشاعر مع قرض الشعر كانت مبكرة، ويذكر المعجم تصريحا للشاعر، ساقه المحقق في دراسته، “فوفقت بمرور الزمن وبفضل مطالعتي الكتب، حتى نظمت القصائد والفرائد على عناوين شتى في كل من التخميس والتضمين والترشيح والتشطير والتواريخ، وتكلمت بالعبارتين العربية والفارسية، وكان ابتدائي في الشعر قبل بلوغي أوان الحلم في سن الثانية عشرة من عمري”.
من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936
وتكشف الدراسة الضافية التي وضعها المحقق عن أن زين العابدين هذا كان شاعرا جوالا يتكسب من الشعر، وقد طاف بلادا كثيرة جريا وراء رزقه. أما أرجوزته هذه فقد نظمها على إثر رحلة بين الكويت وأبوظبي عبر بعض الجزر الإيرانية، وفي إمارة أبوظبي التقى بحاكمها الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان عام 1936، ومدحه بالأرجوزة التي هي موضوع التحقيق.
من الأسباب التي حدت بالمحقق إلى التعامل مع أرجوزة “علل الرحلة الشابورية” أنها “تفتح بابا على وجه يكاد يكون شبه غائب من المشهد الاجتماعي في إمارة أبوظبي في عقد الثلاثينات، وهو وصف الحياة الاجتماعية بهذه التفاصيل، خاصة في أيام العيد، وفي مرحلة كانت بداية التحول الاجتماعي والاقتصادي في الإمارة، وكانت السنة التي زار فيها الشاعر أبوظبي هي السنة التي وقع فيها الشيخ شخبوط، حاكم الإمارة، أول اتفاقية للتنقيب عن النفط فيها”.
المؤسف أن غالبية أعمال هذا الشاعر ذات الطابع الرحلي مفقودة، وهي كما جمع عناوينها المحقق من غير تاريخ أدبي “بهجة الناظر في أحوال المسافر”، “الرحلة العمانية”، “الرحلة القطرية”، “الرحلة العبادانية”، “الرحلة الهندية”، إلى جانب “علل الرحلة الشابورية”.
بلغ عدد الأبيات التي قالها الشاعر زين العابدين في وصف رحلته إلى إمارة أبوظبي ثلاثمئة وسبعة وخمسين بيتا، خصص لها المحقق في دراسته فصلا ذا طابع نثري، بدأه بوصف الرحلة التي قام بها الشاعر، وزمنها، ومسارها، والأشخاص الذين ذكرهم فيها، وكافة المظاهر المرتبطة بها، وذلك في قالب سردي على شكل يوميات، ويجد القارئ أن الوصف في هذه اليوميات لا يطابق، في تسلسله، التسلسل الذي ورد عليه في أبيات الأرجوزة، نظرا إلى قيام الشاعر في بعض أجزاء الأرجوزة باستعادة ذكريات سابقة حدثت في أول أيام وصوله إلى أبوظبي، اضطر المحقق إلى إعادة ترتيب الأحداث بما يتوافق مع تسلسلها وحدوثها يوميا.
وقد استعرض المحقق في دراسته أهم الأحداث التي وردت بإمارة أبوظبي في سنة زيارة الشاعر لها.
أما أرجوزة الشاعر في وصف رحلته، فقد عمل المحقق على تحقيق القصيدة الواردة في صورة مجتزأة عن المخطوطة وفق خطة أخذت في الاعتبار جملة من المسائل المتعلقة بالنص من حيث عدم التدخل في أخطائه اللغوية أو زلاته العروضية، أو في ما وظفه الشاعر من ألفاظ عامية، لكنه لاحظ ذلك في الدراسة، بما في ذلك الإشارة قدر المستطاع – في الهوامش – إلى أية معلومات تخص الأعلام الذين وردت أسماؤهم في الأبيات أو مقدمات الفصول، وكذلك شرح بعض المسميات الجغرافية وأنواع السفن والأطعمة والأدوات التي وردت في الأبيات.
ويرجح المحقق أن يكون اسم “الشابورية” منسوب إلى الميناء الذي انطلقت منه رحلة الشاعر، وهو بندر شابور، الذي يقع على السواحل الشرقية للخليج العربي، وتحديدا في عربستان، أو محافظة خوزستان في التسمية الفارسية، ومركزها مدينة الأحواز المعروفة بسكانها العرب.
الرحلة الأوروبية
نفحة من أمل وهبة من تطلع
تكتسب يوميات فخري البارودي، في رحلته لتي حققها وقدم لها الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين قيمة استثنائية لكونها تعبر في جوانب منها عن أحلام وتطلعات وأفكار شخصية نهضوية سورية ذات تطلع ليبرالي مبكر. فالرحلة إلى أوروبا كانت فرصة شخصية للبارودي الشاب ليمتحن أفكاره المدنية، ويجد لتطلعاته النهضوية نموذجا متحققا. فما وجد عليه مجتمعه الشرقي من مراوحة في كوابيس الماضي، وكان لا يزال جزءا من الإمبراطورية العثمانية المتداعية، اقترن في ذلك الوقت بأحلام الشباب السوري، وتطلعه إلى الخلاص من ربقة تلك العطالة الحضارية التي أسرت المجتمعات العربية وعزلتها عن ركب التطور الحضاري.
في كل سطر من سطور هذه اليوميات ثمة نفحة من أمل وهبة من تطلع، وطرفة تعبر عن روح تواقة إلى ابتكار ملامح جديدة وزمن جديد، عبرت عنهما هذه الشخصية، التي سرعان ما رجعت من أوروبا لتخوض غمار نضال مجتمعي متعدد الأوجه: ثقافي، فكري، فني، وسياسي، فالبارودي الشاب اليقظ ابن البيت الدمشقي العريق جعل من بيته في حي القنوات قبلة للأدباء والمفكرين والفنانين والزعماء السياسيين على مدار أكثر من نصف قرن من الحراك اليومي لأجل المستقبل، وإلى قلعة مقاتلة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والقوى الرجعية معا، وليتحول هو نفسه إلى أشهر زعيم دمشقي طوال النصف الأول من القرن العشرين، وبعض من نصفه الثاني.
هذه اليوميات والدراسة التي وضعت لها أحاطت بالبارودي رحالة شابا إلى أوروبا مستطلعا نهضتها، ورجلا مقيما في سوريا مناضلا شرسا لأجل تحقيق تحررها الوطني ونهضتها المجتمعية، وبين هذا وذلك وطنيا سيق إلى معتقلات الاحتلال الفرنسي أو لاجئا في دول الجوار، هاربا من اضطهاد المستعمر ونفاق الساسة المحليين.
وهي (اليوميات والدراسة) من ثمّ تستدعي إلى زمننا شخصية فريدة من نوعها لعبت أدوارا متعددة الأوجه في التاريخ السوري وأفقه العربي، وكانت الأبرز بين أبناء نخبه المثقفة ممّن اعتنقوا الأفكار الحديثة، وناضلوا لأجل وضع الأسس المجتمعية لصيغ الحياة الحديثة. وكما يطلعنا هذا الكتاب، فقد شغف البارودي بكل جديد، وقد ابتكر سبلا غير مسبوقة لنقل المجتمع السوري من كهوف القدامة إلى دنيا الحداثة.
حكايات يرويها مسافر يمني وشاعر كويتي جوال وزعيم وطني سوري.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ثلاثة رحالة في أماكن عجيبة
لا يتوقف دور أدب الرحلة عند الكشف عن خفايا الشعوب والسفر في العادات والمميزات الحضارية والسفر بالقراء إلى عوالم مدهشة، بل هو أيضا يقوم على جماليات أدبية تساهم في إضفاء المتعة على النصوص الرحلية، التي باتت تزاحمها اليوم البرامج الوثائقية وغيرها من الوسائل التكنولوجية، لكن الرحلات تبقى لها قيمتها التاريخية والأدبية التي لا يمكن انتزاعها.
تصدرت جوائز ابن بطوطة للرحلات المحققة، التي منحها المركز العربي للأدب الجغرافي، ارتياد الآفاق في أبوظبي ضمن جوائز الدورة 19 لعامي 2020 و2021، رحلة “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر (سيرة الحبشة)” للرحالة اليمني الحسن بن أحـمد بن صلاح اليوسفي الحيمي (القرن 17)، و”الرحلة الشابورية من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936″ للرحالة الكويتي زين العابدين بن حسن باقر، و”الرحلة الأوروبية: من دمشق إلى روما، باريس، ميونخ، فيينا، بلغراد، بودابست، صوفيا، إسطنبول 1912 – 1911″ للزعيم الوطني السوري فخري البارودي.
وتأتي أهمية هذه الرحلات الثلاث من كونها تزخر بمادة جغرافية وتاريخية بالغة الأهمية، فضلا عن قيمتها الأدبية والجمالية، التي أهلتها للتتويج بالجائزة.
الواقعي والعجائبي
صور مشاهد وأخبار واقعية وعجيبة
تعد رحلة “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر (سيرة الحبشة)”، التي حققها وقدم لها الباحث اليمني الدكتور محمد عبده مسعد عياش، من أوائل الرحلات اليمنية المدونة، والتي اهتمت بها كتب التاريخ اليمني، فهي موجودة بتمامها أو مجتزأة في عدد من المظان اليمنية، ولاسيما في “تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار” للمطهر بن محمد الجرموزي، ولم يفت المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي الاهتمام بها، والحديث عنها في كتابه الضخم “تاريخ الأدب الجغرافي” الذي أرخ فيه للأدب الجغرافي العربي منذ تبلوره وانطلاقه في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين وحتى القرن السابع عشر.
وسبق لهذه الرحلة أن أخرجت إلى النور قبل أكثر من نصف قرن، على أن هذا التحقيق يمكن أن يكون الأنضج والأكمل حتى الآن لما قيّض له من معطيات لم تكن متوفرة في زمن تحقيقها الأول، إنْ على مستوى النسخ الخطية التي اعتمدت للرحلة أو الدراسات التي وضعت في مجالها.
وفي هذا السياق يشير المحقق إلى الصعوبات التي واجهته بدءا من صعوبة الحصول على نسخ للمخطوطة، وصولا إلى ندرة الكتب التي تتعلق بالأعلام، سواء في اليمن أو في الحبشة، ومعلوم أن كتب التراجم تشكل مراجع أساسية للمحققين.
وقد تميز عمل المحقق بدقة وأمانة وموضوعية، فقدم للقراء أدبا رحليا يغذي خيالهم، ويمتعهم بالمعارف والصور والمشاهد والأخبار الواقعية والعجيبة التي احتوى عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر سدّ ثغرة مهمة في تاريخ التواصل الحضاري بين بلد عربي وآخر أفريقي في حقبة زمنية مهمة تقاطعت فيها المصالح بين الحكام المحليين والقوى الدولية الكبرى، ممثلة هنا بالدولة العثمانية التي كانت تتحكم ببعض طرق السفر بين قارتي أفريقيا وآسيا.
الرحلة الشابورية
كتبت “الرحلة الشابورية من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936″، للشاعر الكويتي زين العابدين حسن باقر (ذو الرياستين)، وتحقيق وتقديم الباحث الإماراتي سلطان العميمي، نظما، حسب المخطوطة (الأرجوزة/ الرحلة) المؤرخة في (1354هــ/ 1936م).
وكان مؤلفها شاعرا مشهورا في بلده وعصره يكتب الشعر باللغتين العربية والفارسية، وقد وردت أخباره في العديد من المراجع والمظان الكويتية والخليجية. وحسب ما أورد معجم شعراء الكويت فإن بداية الشاعر مع قرض الشعر كانت مبكرة، ويذكر المعجم تصريحا للشاعر، ساقه المحقق في دراسته، “فوفقت بمرور الزمن وبفضل مطالعتي الكتب، حتى نظمت القصائد والفرائد على عناوين شتى في كل من التخميس والتضمين والترشيح والتشطير والتواريخ، وتكلمت بالعبارتين العربية والفارسية، وكان ابتدائي في الشعر قبل بلوغي أوان الحلم في سن الثانية عشرة من عمري”.
من ميناء عربستان إلى أبوظبي 1936
وتكشف الدراسة الضافية التي وضعها المحقق عن أن زين العابدين هذا كان شاعرا جوالا يتكسب من الشعر، وقد طاف بلادا كثيرة جريا وراء رزقه. أما أرجوزته هذه فقد نظمها على إثر رحلة بين الكويت وأبوظبي عبر بعض الجزر الإيرانية، وفي إمارة أبوظبي التقى بحاكمها الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان عام 1936، ومدحه بالأرجوزة التي هي موضوع التحقيق.
من الأسباب التي حدت بالمحقق إلى التعامل مع أرجوزة “علل الرحلة الشابورية” أنها “تفتح بابا على وجه يكاد يكون شبه غائب من المشهد الاجتماعي في إمارة أبوظبي في عقد الثلاثينات، وهو وصف الحياة الاجتماعية بهذه التفاصيل، خاصة في أيام العيد، وفي مرحلة كانت بداية التحول الاجتماعي والاقتصادي في الإمارة، وكانت السنة التي زار فيها الشاعر أبوظبي هي السنة التي وقع فيها الشيخ شخبوط، حاكم الإمارة، أول اتفاقية للتنقيب عن النفط فيها”.
المؤسف أن غالبية أعمال هذا الشاعر ذات الطابع الرحلي مفقودة، وهي كما جمع عناوينها المحقق من غير تاريخ أدبي “بهجة الناظر في أحوال المسافر”، “الرحلة العمانية”، “الرحلة القطرية”، “الرحلة العبادانية”، “الرحلة الهندية”، إلى جانب “علل الرحلة الشابورية”.
بلغ عدد الأبيات التي قالها الشاعر زين العابدين في وصف رحلته إلى إمارة أبوظبي ثلاثمئة وسبعة وخمسين بيتا، خصص لها المحقق في دراسته فصلا ذا طابع نثري، بدأه بوصف الرحلة التي قام بها الشاعر، وزمنها، ومسارها، والأشخاص الذين ذكرهم فيها، وكافة المظاهر المرتبطة بها، وذلك في قالب سردي على شكل يوميات، ويجد القارئ أن الوصف في هذه اليوميات لا يطابق، في تسلسله، التسلسل الذي ورد عليه في أبيات الأرجوزة، نظرا إلى قيام الشاعر في بعض أجزاء الأرجوزة باستعادة ذكريات سابقة حدثت في أول أيام وصوله إلى أبوظبي، اضطر المحقق إلى إعادة ترتيب الأحداث بما يتوافق مع تسلسلها وحدوثها يوميا.
وقد استعرض المحقق في دراسته أهم الأحداث التي وردت بإمارة أبوظبي في سنة زيارة الشاعر لها.
أما أرجوزة الشاعر في وصف رحلته، فقد عمل المحقق على تحقيق القصيدة الواردة في صورة مجتزأة عن المخطوطة وفق خطة أخذت في الاعتبار جملة من المسائل المتعلقة بالنص من حيث عدم التدخل في أخطائه اللغوية أو زلاته العروضية، أو في ما وظفه الشاعر من ألفاظ عامية، لكنه لاحظ ذلك في الدراسة، بما في ذلك الإشارة قدر المستطاع – في الهوامش – إلى أية معلومات تخص الأعلام الذين وردت أسماؤهم في الأبيات أو مقدمات الفصول، وكذلك شرح بعض المسميات الجغرافية وأنواع السفن والأطعمة والأدوات التي وردت في الأبيات.
ويرجح المحقق أن يكون اسم “الشابورية” منسوب إلى الميناء الذي انطلقت منه رحلة الشاعر، وهو بندر شابور، الذي يقع على السواحل الشرقية للخليج العربي، وتحديدا في عربستان، أو محافظة خوزستان في التسمية الفارسية، ومركزها مدينة الأحواز المعروفة بسكانها العرب.
الرحلة الأوروبية
نفحة من أمل وهبة من تطلع
تكتسب يوميات فخري البارودي، في رحلته لتي حققها وقدم لها الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين قيمة استثنائية لكونها تعبر في جوانب منها عن أحلام وتطلعات وأفكار شخصية نهضوية سورية ذات تطلع ليبرالي مبكر. فالرحلة إلى أوروبا كانت فرصة شخصية للبارودي الشاب ليمتحن أفكاره المدنية، ويجد لتطلعاته النهضوية نموذجا متحققا. فما وجد عليه مجتمعه الشرقي من مراوحة في كوابيس الماضي، وكان لا يزال جزءا من الإمبراطورية العثمانية المتداعية، اقترن في ذلك الوقت بأحلام الشباب السوري، وتطلعه إلى الخلاص من ربقة تلك العطالة الحضارية التي أسرت المجتمعات العربية وعزلتها عن ركب التطور الحضاري.
في كل سطر من سطور هذه اليوميات ثمة نفحة من أمل وهبة من تطلع، وطرفة تعبر عن روح تواقة إلى ابتكار ملامح جديدة وزمن جديد، عبرت عنهما هذه الشخصية، التي سرعان ما رجعت من أوروبا لتخوض غمار نضال مجتمعي متعدد الأوجه: ثقافي، فكري، فني، وسياسي، فالبارودي الشاب اليقظ ابن البيت الدمشقي العريق جعل من بيته في حي القنوات قبلة للأدباء والمفكرين والفنانين والزعماء السياسيين على مدار أكثر من نصف قرن من الحراك اليومي لأجل المستقبل، وإلى قلعة مقاتلة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والقوى الرجعية معا، وليتحول هو نفسه إلى أشهر زعيم دمشقي طوال النصف الأول من القرن العشرين، وبعض من نصفه الثاني.
هذه اليوميات والدراسة التي وضعت لها أحاطت بالبارودي رحالة شابا إلى أوروبا مستطلعا نهضتها، ورجلا مقيما في سوريا مناضلا شرسا لأجل تحقيق تحررها الوطني ونهضتها المجتمعية، وبين هذا وذلك وطنيا سيق إلى معتقلات الاحتلال الفرنسي أو لاجئا في دول الجوار، هاربا من اضطهاد المستعمر ونفاق الساسة المحليين.
وهي (اليوميات والدراسة) من ثمّ تستدعي إلى زمننا شخصية فريدة من نوعها لعبت أدوارا متعددة الأوجه في التاريخ السوري وأفقه العربي، وكانت الأبرز بين أبناء نخبه المثقفة ممّن اعتنقوا الأفكار الحديثة، وناضلوا لأجل وضع الأسس المجتمعية لصيغ الحياة الحديثة. وكما يطلعنا هذا الكتاب، فقد شغف البارودي بكل جديد، وقد ابتكر سبلا غير مسبوقة لنقل المجتمع السوري من كهوف القدامة إلى دنيا الحداثة.