الانقسامية الثقافية خطر جزائري مسكوت عنه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الانقسامية الثقافية خطر جزائري مسكوت عنه

    الانقسامية الثقافية خطر جزائري مسكوت عنه
    بوعلام رمضاني 29 يناير 2023
    آراء
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    زاد ترددي على وطني بانتظام في الأعوام الأخيرة بسبب مرض أمي المقعدة من تألمي الشخصي بعد أن أصبح مقترنًا بمرض عام يهدد صحة أمة كاملة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا وأخلاقيًا وسيكولوجيًا. فالإنقسامية الثقافية التي قام بتفكيك بعض أوجهها المحلل الاجتماعي ناصر جابي في حديث نشرته "ضفة ثالثة" قبل ثلاثة أعوام، هي الداء الذي اتخذ مؤخرًا أبعادًا خطيرة ناتجة عن حرب كانت باردة نسبيًا قبل أن تلتهب مؤخرًا لتحرق أدنى تقارب ممكن بين حملة الشهادات الجامعية والأقلام الأدبية والفكرية والإعلامية. هذه الحرب التي تجاوزت بسخونتها غير المسبوقة كل مستويات المعقول، ولامست العبث في أبرز تجلياته، كشفت عن تناقض صارخ مع مشروع تغيير يتم بدونهم، في ظل اقتتال ناعم ومعلن في الوقت نفسه. حرب اشتعلت، وأتت بنيران أجهزت على الأخضر واليابس عبر وسائل تواصل اجتماعي كشفت عن مواقف غير ثقافية يمكن وضعها في خانة الحمق من الذين وجدوا في فيسبوك بوجه خاص منبرًا للشتم والقدح، على حد تعبير المبدع الإيطالي أمبرتو إكو، صاحب تحفة "اسم الوردة". شتم وقدح لم يشملا الجهلة وأشباه الأميين غير القادرين على الكتابة الفكرية، كما تفرضه الصحف والكتب، وطالا الأدباء والإعلاميين، الأمر الذي جمع الجهلة والمتعلمين المجهولي الهوية تحت رداء ذباب إلكتروني مرعب، ومتعلمين يتقاذفون ويتبادلون تهم التخوين والتغريب والتطبيل والتشويه والولاء الأعمى والتآمر بمنشورات قصيرة تكتب في لمح البصر، وتدخل الفضاء الإفتراضي غير قابلة للنقاش الهادىء والمتزن والنسبي الصحة، والبعيد عن روح التشفي والضغينة والتفرد بخطاب كله يقينية متناهية.


    استحالة السكوت
    بلغ هذا الأمر درجة من الخطورة بكيفيات أبعد ما تكون عن سلوك المثقف كما أفهمه، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يسكت عليه مثقف يؤمن بأن التعبير عن الرأي لا يعني التشنيع والتخوين والتشويه باسم تمثيل التوجه السليم تحت وطأة معتقد فكري واحد يجب أن يعم الوطن، وهو الأمر الذي تمثله أطراف تؤمن بأنها تمثل ثوابت هوية الأمة، مقابل أصحاب توجهات أيديولوجية موزعة بين تنويريين غير مختلفين فكريًا في الجوهر، ويرفضون التقوقع على هوية يحارب دعاتها الرأي والعرق المختلفين، والانفتاح على عالم ثقافي وإنساني عام لا يتناقض مع تاريخ مجتمع لم يكن أحادي الهوية يومًا ما كما يرى أنصار الديمقراطية والحرية والعدالة الذين يمثلون أقلية في نظر ممثلي أغلبية الهوية العربية والإسلامية.

    "يتقاذف جزائريون على وسائل التواصل الاجتماعي التخوين والتغريب والتطبيل والتشويه والولاء الأعمى والتآمر بمنشورات قصيرة تكتب في لمح البصر"


    حرب غير ثقافية باسم الثقافة التي أضحت عرضة لتصفية حسابات شخصية في ظل تراجع المنابر الأدبية والفكرية والأكاديمية التي تضمن الإبداع بالكتابة البحثية العميقة، ولا تسمح بتجاوز حدود أخلاقيات الانتماء لمهن إبداعية في شتى مجالات التعبير بالكلمة. فألفية شعرية بديعة أدبيًا بشكلها الكلاسيكي لصاحبها إبراهيم قارعلي، الإعلامي القدير والنائب السابق المكلف بالإعلام والثقافة في حزب جبهة التحرير، والخارج من معطف مفدي زكريا، كانت مؤخرًا نموذجًا حيًا على حرب "إخوة وأعداء"، نخبة لم تعد تحمل من معناها إلا الاسم بعد أن أخذت البذاءة والقذارة والغرور، والتفاخر بالمعتقد شبه الديني، والتشهير بالآخر المختلف، والحط من شأنه، واتهامه بلعب دور الحركي الجديد (المتواطئ الجديد مع الاستعمار) مكان الحوار الفكري والحجة الدامغة والمعلومة الصحيحة والاحترام المطلوب بين أصحاب موقع اجتماعي يفترض أن لا يلامس مفهوم الحرب القتالية. والاحتفال بعيد يناير الأمازيغي كان أقل وطأة قتالية بين "إخوة وأعداء" النخبة والرعاع (كلمة لا أحبها، وأستعملها مضطرًا في سياق التحليل) بسبب "تكتيك" سلطة سحبت البساط من تحت أرجل مؤيدين لها بشطط شعبوي تجاوز ما تحاول التوفيق فيه سياسيًا لقطع الطريق على الأمازيغ المتطرفين والانفصاليين الذين تعدهم إرهابيين وموالين لإسرائيل.


    حضور الشتم وغياب العمق الفكري
    في ظل وضع وطني وإقليمي دولي صعب على الصعيد الاقتصادي، يبقى الصراع حول تأثير قوة الثقافة الفكرية والفنية والإعلامية قائمًا لما له من انعكاس حاسم ومحدد على كيفية إدارته وتوجيهه وتبرير تلازمه الجدلي بكل ما يدور في أي مجتمع. المثقفون الذين يعدون خطوة اجتماعية ووظيفية متقدمة على المواطن العادي غير المؤهل فكريًا مثلهم، هم الذين يملكون نظريًا التبصر المرادف لوعي يعول عليه للتنظير لكل مشروع تطوير لا يمكن أن يساهم فيه أصحاب البصر الجسدي فقط، والمعول عليهم في مجالات لا تبرر وجود مثقفين فيها بحكم حاجتها للعضلات، ولثقافات مهنية تتطلب جسمًا سليمًا وقويًا بدنيًا. غياب المثقفين الجزائريين انطلاقًا من المنظور المثار سلفًا كما هو الأمر عربيًا بوجه عام، ليس سبقًا صحافيًا، لكنه يُعدُّ كذلك، إذا استندنا إلى تحول الغياب الفعلي والحقيقي عمليًا للمثقف ـ من دون تعميم كما يفعل الأحمق على حد تعبير شكسبير ـ إلى حضور جارف وعاصف بالأخلاق، وبالحد الأدنى من التعقل والإتزان والحكمة كصفات ملازمة لمن يدعي تمثيلها. حضور بعض المحسوبين على الثقافة والأدب في شكل فرق تفتيش وقضاة مكارثيين يحكمون بالإعدام على الذين يختلفون معهم أيديولوجيًا، تجاوز حدود مفاهيم اللياقة الإنسانية في أبسط معانيها، بعد أن أصبح التشفي في الأحياء والموتى من المثقفين والإعلاميين رياضة وطنية يمارسها حامل القلم ومدعي الإبداع وفاقده من الجهلة والأميين.
    العاجزون عن الكتابة والشرح والتحليل، وبالتالي الإقناع، وعلى إبداء الرأي بحرية وبهدوء وتعقل، رغم تاريخهم الحافل بالمسؤوليات وبالشهادات العلمية، يساهمون في تكريس ثقافة الشتم والتخوين بسكوتهم على منشورات قذرة تقطر عدائية وعنصرية وبغضًا وتنكرًا للآخر المختلف من هذه الفرقة، أو تلك. الوضع أضحى كارثيًا بعد أن أصبح يتم جهرًا، وبتشجيع من مهنيي التعاطي مع الكلمة، عبر وسائل تواصل أصبحت تعوض الكتابة الرصينة والتفكير الجاد والحوار الذي تتصدره الحجج الدامغة بشعارات أضحت مقدسة لا تقبل الطعن والتشكيك عند جهات راحت تنتهج البذاءة بدل احترام الفكر المختلف. الأمر التراجيدي لم يعد يتعلق بوطنية شعبوية يتلذذ أصحابها بعقيدة أقرب إلى روح دين رابع، لكن غير منزل، وطال أيضًا أصحاب توجهات مكونة من كوكتيل التعصب العرقي والديني والأيديولوجي في حلة مصلحية وانتهازية خالصة لا تمت بالخلاف الفكري الطبيعي في كثير من الأحيان، وتستجيب لمآرب تتجاوز حدود الوطن تكريسًا لحرب فكرية أصبحت تفسر الإرهاب وفق منظور اللوبيات المسيطرة على المشهد الإعلامي. رحيل عثمان سعدي، الكاتب والدبلوماسي العروبي المعروف بنضاله من أجل تعميم اللغة العربية في الجزائر، كان نموذجًا أقوى من نموذج الألفية الشعرية على روح الإقصاء المتبادل ثقافيًا بلغات سوقية وغير مؤدبة ومتطرفة لا مكان فيها للاعتدال وللمقاربات المتزنة والوازنة تعويضًا عن غياب قدرات فكرية وحوارية وأخلاقية وسيكولوجية معلقة حتى إشعار جديد. سكوت مطبق على رحيل المناضل التاريخي الشيوعي الأمازيغي الصادق هجرس لا يخرج عن نطاق المكارثية الجزائرية التي لم يعرفها حكم حزب الفكر الواحد إن وجد فعلًا.

    "هي حرب غير ثقافية باسم الثقافة التي أضحت عرضة لتصفية حسابات شخصية في ظل تراجع المنابر الأدبية والفكرية والأكاديمية التي تضمن الإبداع بالكتابة البحثية العميقة"


    أنت معي أيديولوجيًا أتفق معك وأقدّسك. أنت مخالف لي أيديولوجيًا... أمسخك وأهينك وأقصيك. رحيل علي الكنز ـ الشيوعي والمفرنس فقط عند حراس الهوية الشعبوية وليس المحلل الاجتماعي القدير، راح ضحية مشوهي وظيفة وسائل التواصل الاجتماعي، وهم المشوهون الذين تجاوزوا بحمقهم الأيديولوجي المتبادل حدود رمزية أكل الحمار للوردة بدل التمتع بعطرها.


    الترويج لحقائق شبه إلهية
    خلافًا لمثقفين أجانب ما زالوا يؤثرون في مجتمعاتهم رغم كل ما يقال عن تراجع دور المثقف العضوي، حسب غرامشي، أو الخصوصي، حسب فوكو، في ظل خفوت حضوره الأيديولوجي التقليدي، ورقمنة تواصل اجتماعي وثقافي أفقدته سلطته التاريخية، راح سادة فيسبوك من فاقدي القدرة على المواجهة الفكرية المسؤولة، يشتمون الإعلامي والأديب والأستاذ والخبير والمواطن العادي. يشتمون الذي يكتب عن قضايا من منظوره الفكري الخاص، علمًا أنه حر في تبني مقاربات لا تشبه في شيء مقاربات آخرين، ما دامت الحرية التي لا تضر بأحد حق كل الأطراف المتنازعة فكريًا ودينيًا ولغويًا. اليوم، تفاقم وضع المثقفين الجزائريين ليس بغيابهم الفعلي وطنيًا وإقليميًا ودوليًا فحسب، وبدل تحمل المسؤولية الأخلاقية في سياق تاريخي حافل بقضايا تستحق التفكير في خلفياتها ومعانيها مخرجاتها، راح غيابهم يعوض بحضور أقرب إلى العبث والحمق والبلاهة، بمشاركة آخرين من غير المثقفين مصطفين كالقطيع مع من يعتقدون أنه الأب الروحي فكريًا وإبداعيًا، لأنه يمثل الحقيقة السليمة تاريخيًا وأيديولوجيًا في حياة لا حقيقة فيها في المطلق، وهكذا تحول الالتزام الأدبي والفكري إلى التزام ديني وعرقي في الشكل وفي المضمون. في الوقت الذي أصبحت فيه الجزائر تفتقد لمجلات فكرية وأدبية رصينة كما شهدت على ذلك قبل ثلاثين عامًا، ولملاحق ثقافية صنعت مجد صحف لم تعد تذكر اليوم، ولندوات حوارية حقيقية تطرح فيها قضايا في صلب الماضي والحاضر والمستقبل، فتحت الأبواب على مصراعيها للتخوين والشتم والسخرية والأحكام والأوصاف السريعة الأقرب إلى روح الخطاب الشعبوي والعرقي والأيديولوجي الإقصائي، وبلغ أمر بعض الكتاب والإعلاميين نسج علاقات شخصية وحميمية مع أصدقاء وزملاء الخندق الأيديولوجي الواحد الذي يسمح برعاية وترويج منشورات تكتب في لحظات تعبيرًا على حقائق شبه إلهية.


    الوطن والإنسانية كضحيتين
    رغم أنني أعرف أن الأمر طبيعي إلى حد ما، وهو إفراز أمر واقع لا يمكن مقاومته، بحكم سلطة وسائل تواصل أثّرت على مناحي الحياة كافة، لا أعتقد أن تصرفات كثير من المحسوبين على الثقافة والأيديولوجية، بوجه عام، في ساحة ما يسمى بالنخبة، مقبولة بدعوى تأثير وسائل التواصل، بعد أن أصبحت درجة ونوعية العبث والحمق والإزدراء بالآخر المختلف بكلمات قليلة عادة منتظمة يفخر بعض أصحابها بتعبير زامل بدل زميل. هذا مثال من عشرات الأمثلة التي أصبحت تعبر عن انقسامية ثقافية قوامها خلاف أيديولوجي بين من يدعون تمثيل هوية الثوابت، أي الإسلام واللغة العربية والوطن، وآخرين يدعون إلى مدنية تسمح بالانتماء والتفكير الحُرين، وتعد الدين قضية شخصية بين الإنسان وخالقه، ويعملون على تكريس انفتاح على ثقافات الآخر مهما كانت لغته وتوجهه. الانقسامية الثقافية التي تميز الجزائر بحدة خطيرة لم تعد طبيعية، باعتبارها تركة استعمارية بشكل أو بآخر، بعد أن أصبحت مرادفة لتلهية مبرمجة تحدث عنها اللغوي العالمي الشهير نعوم تشومسكي. هذه التلهية أصبحت مهنة أساتذة وصحافيين وكتاب وأدباء يجتمعون في الفضاء الافتراضي كمليشيات تصنعها قناعات شبه دينية لم تعد تطمس الضعف الفكري والقدرة على التحاور الرصين في ظل اختلاف طبيعي لا يؤدي حتمًا إلى حرب إلكترونية قوامها البغض والكره والشتم والسب كما مرّ معنا. الانقسامية الثقافية في الجزائر تفرعّت، ولم تعد حبيسة ميليشيات اللغات العربية والأمازيغية والفرنسية، وامتدت إلى الخندق الواحد، وبلغ أمر بعض الوطنيين المعرّبين إلى إدانة زملاء معربين لغويًا مثلهم، وهم غير وطنيين في تقديرهم، لأنهم أصحاب طريقة فكرية منفتحة على العالم في الوقت الذي يقدّسون فيه الجزائر كهوية لا تقبل الآخر المختلف. الميليشيات الإلكترونية اخترقت المعسكر المعرب، ودخلت معسكر المفرنسين الذين يبدون أقل حدة وعنفًا من أعدائهم المعربين، وأنا معرب غير عنيف. هم يعملون في الظل بهدوء لا يطمس وجودهم الذكي والشفاف، وحدث لكاتب هذه السطور أن تأكد من ذلك في مجال النشر الذي أضحى أسير انقسامية ثقافية خطيرة تعادي مفهوم الثقافة بامتياز، ولولا القلة القليلة المؤدبة والمهذبة المنفتحة على المعسكرين المتحاربين في علاقة واضحة مع أطراف سياسية ظاهرة وخفية، لانفجرت هذه الانقسامية التي اتخذت بعدًا تراجيديًا خلال العشرية السوداء، وقبل وبعد الحراك الذي سيحل بذكرى اندلاعه الرابعة في الشهر المقبل. في انتظار أن يبادر بعض العقلاء إلى رأب الصدع بين أخوة وأعداء النخبة التي يفترض أن تنير درب غير الواعين بالمزالق الخطيرة، تبقى الجزائر والإنسانية ضحية انقسامية ثقافية عاصفة بأمة كاملة في زمن لا سلام فيه لمن يدعو لإقصاء الآخر المختلف مهما كان لون تفكيره ولغته ومعتقده.
يعمل...
X