من المفكرة التي اسمها رفعت عطفة
نبيل سليمان 28 يناير 2023
آراء
رفعت عطفة (1947 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
بين الكثير الذي كُتب في الأيام المعدودة التي انطوت على رحيل الكاتب والمترجم وصديق العمر رفعت عطفة- أبو زيدون (رحل يوم 24/ 1/ 2023)، تألق وصف جعفر العلوني لترجمات رفعت عطفة عن الإسبانية بأنها كونشيرتو. وكذلك وصفه لحياة رفعت عطفة بأنها تاريخ آخر للترجمة.
وقد هداني وصف العلوني ـ وهو المترجم النادر أيضًا عن الإسبانية ـ إلى أن أقول/ أرى في رفعت عطفة (كيانًا) آخر، كيانًا مختلفًا، ليس للترجمة وحدها، بل للثقافة ـ لماذا لا أقول: للحضارة؟ ـ بما هي نمط للعيش، نمطٌ للحياة الأسرية والاجتماعية، للعمل وللنشاط الثقافي، وهو ما خبرته بأدق التفاصيل منذ خمسة وأربعين عامًا.
قدمتْ سورية وتقدم أعلامًا للترجمة إلى العربية ومنها، ليس ابتداءً بسامي الدروبي، وصياح الجهيم، عن الفرنسية، ولا انتهاءً بثائر ديب، أو ممدوح عدوان، عن الإنكليزية، أو عصام سليمان عن الألمانية، أو رفعت عطفة عن الإسبانية. وقد تفاوتت أرقام ترجمات (أبو زيدون) في ما كُتب عنه بعد رحيله، بين الستين والمئة كتاب. ومهما يكن شأن العدد فترجماته ذخائر، منذ بدأت عام 1978 بكتاب "التساؤلات" لبابلو نيرودا، وازدانت بأبهى روايات إيزابيل الليندي، وماركيز، وأنطونيو غالا، ومانويل روخاس سبوليدا، ودافيد توسكانا... وقد كان من نِعَم الزمان على الترجمة العربية حتى عام 2019 أن اجتمع لها عن الإسبانية عطاء رفعت عطفة الذي ودعناه للتو، وعطاء الصديق الفلسطيني ـ السوري صالح علماني، الذي ودعناه عام 2019. كم كان وأذكر للمترجمين المتنافسين من النبالة، ابتداءً بالروايات التي حظيتْ بترجمة كل منهما لها، مثل "ابنة الحظ"، و"صورة عتيقة" لإيزابيل الليندي، وكذلك "نعيشها لنروي"، و"ذكرى عاهراتي الحزينات" لماركيز، واللتين عَنْوَنهما صالح علماني بـ"عشت لأروي" و"ذاكرة غانياتي". أما درّة ترجمات رفعت عطفه فهي درّة ميغيل ثربانتس "دون كيخوته"، وكان قد ذكر أن من دوافعه إلى ترجمتها ما كان قد سبقها من ترجمة عبد الرحمن بدوي لها. أما ترجمة سليمان العطار، فقد ذكر أبو زيدون أنه لم يطلع عليها، وأحسب أن ترجمته وترجمة العطار تتنافسان في التميز.
من أين لمثلي أن يبدأ بالكتابة عن رفعت عطفة، بينما تتناهب الكتابةَ سنواتٌ وأسفارٌ ومحاوراتٌ وأنشطةٌ، واختلافات من النوع الذي أسميه (الاختلاف المخصب، لا المدمر)، سواء في الصداقة، أم الحب، أم الفكر، أم... وأراني أهرب من جواب، فيجبهني هذا النزيف الروحي الذي غيّب خلال أقل من سنة ميشيل كيلو، وخيري الذهبي، وعادل محمود، وعماد شيحة، وصبحي الدسوقي، ووليد إخلاصي و... رفعت عطفة.
لعل الأَوْلى هو ما يومض به الآن بيت رفعت عطفة في مصياف، التي أدار فيها المركز الثقافي منذ 1987 حتى 2004. وكنت قد عرفته قبل ذلك بسنوات، منذ أصدر مجموعته القصصية "الرجل الذي لم يمت"، وكتابه المترجم الأول. وكما صار بيت (أبو زيدون) بيتي أيضًا ـ وهو في مصياف وأنا في اللاذقية، وبينهما 110 كم ـ صار بيته بيت مئات، أجل: مئات، الشعراء والفنانين والمترجمين والروائيين والنقاد و... الذين استضافهم المركز الثقافي طوال سبع عشرة سنة نافست مصياف خلالها ـ إن لم أقل: بزّت ـ بأنشطتها الثقافية دمشق العاصمة، وأية مدينة أخرى في سورية. وقد استنّ أبو زيدون سنّة دعوة أي ضيف تزدهي به المراكز والأنشطة الثقافية في العاصمة دمشق، أو سواها. ولم تكن تكتمل محاضرة، أو ندوة، أو أمسية شعرية، أو موسيقية، في المركز الثقافي إلا بالسهرة في بيت رفعت عطفة. وفي البيت نفسه يبات ليلته الضيف، أو الضيوف، لكأن المثل الشعبي القائل (البيت الضيّق يجمع ألف صديّق) ما قيل إلا من أجل بيت (أبو زيدون) الذي تتزين جدرانه بعشرات اللوحات المهداة من الفنانين التشكيليين، وفي الصدارة لوحات الفنان الفلسطيني الكبير الراحل مصطفى الحلاج، والفنانين الإسبانيين خوسيه ألكسانكو، ولويس فاخاردو. ومثل جدران البيت الصغير الكبير التي تزدان بالصور، يزدهي بأنفاس غالب هلسا، وعبد الرحمن منيف، وممدوح عدوان، وشوقي بغدادي، وحيدر حيدر، ووليد إخلاصي، ونديم البيطار، وغازي أبو عقل، ومحمد عمران، ومظفر النواب و... وقد كرّم المركز الثقافي في مصياف على عهد رفعت عطفة الشاعر العراقي مظفر النواب، والشاعر السوري ممدوح عدوان، والموسيقار السوري محمد محسن، وكذلك الفنان مصطفى الحلاج. وكان ملتقى مصياف النحتي الأول 2004، والذي تم تمويله ذاتيًا، هو البذرة التي ستنتشر من بعد في مدينة المنكّب الإسبانية.
بعد المركز الثقافي في مصياف، أسس رفعت عطفة المركز الثقافي السوري في مدريد، وأداره من 2004 حتى 2008. وكان قد درس الأدب الإسباني في جامعة مدريد المستقلة بين 1968 و1974، حيث حصل على الماجستير، ومن بعد (1982 ـ 1983) أعدّ الدكتوراة في جامعة كومبلوتنس. ومن إسبانيا حمل رفعت عطفة ميدالية المخرجين المسرحيين الإسبان، دورة 2007، ودرع المستعربين الإسبان، وأصدقاء المركز الثقافي السوري في مدريد عام 2008.
كما في مصياف، كان شأن رفعت عطفة في بيته، وفي المركز الثقافي في مدريد. وكنت قد قضيت بصحبته وصحبة أسرته الكريمة أسبوعين في أيلول عام 2007، افتتحهما بالعبارة التي لا أنساها: تعال إلى قدس الأقداس الإسباني والعالمي، فتبعته، في صباح يومي الثاني في مدريد، من دون أن أسأل عن هذا القدس، وإذا بنا بعد ثلاثين كيلومترًا، إلى الشرق من مدريد في مدينة ألكالا دي إيناريس.
هنا، قال أبو زيدون، ولد ميغيل دي ثربانتس، فتهجدت: قدس أقداس الرواية، وهذا صوت (أبو زيدون) يتهجّد أيضًا: مدينة المائدة، قلعة النار، وادي الحجارة، بعد أسابيع ستحتفل المدينة بعيد ميلاد ثربانتس، كيف تدعي أنك زرت مدريد عام 1995، ولم تزر ألكالا دي إيناريس؟
ما بقي في الذاكرة نزر: الجامعة التي تشتهر بدراسة أعمال ثربانتس، يُقام في ذكرى رحيل ثربانتس في 23 أبريل/ نيسان حفلُ إعلان الجائزة الأرفع: جائزة ثربانتس، هنا تغني وترقص الشوارع في مهرجان بلانكا، امش، ممنوع التعب، لا استراحة، نحن في حي لاغارينا، صلّ في كنيسة سانتا ماريا، برج تنوريو، صورة، صور، ولكن ليس بكاميرا الموبايل، بل بالقلب.
في السنة التالية، كان لرفعت عطفة ياما كان، فعمدة مدينة المنكب (من سوار غرناطة على مسافة 60 كم) ينظم الاحتفال بمرور 1250 سنة على نزول عبد الرحمن الداخل على الشاطئ في شهر أغسطس/ آب سنة 755م. ورفعت عطفة ينظم ملتقى للنحت، وملتقى تشكيليا، ومعرضًا للمهن اليدوية السورية، وجناحًا للمطبخ السوري، بينما الموسيقى السورية تصدح. أما ملتقى النحت فقد توالي أربع سنوات حتى بات لمدينة المنكب (واسمها الإسلامي الآخر المونيكار) حدائقها النحتية التي سيخصص لها أكثم عبد الحميد كتابه "الحدائق النحتية السورية".
لا أعرف أحدًا قاوم المرض (السرطان في أشرس حالاته) كما قاومه رفعت عطفة سنة بعد سنة. وعندما بدأ جلسات العلاج بالكيماوي كان يأتي مرة كل شهر محفوفًا بالأصدقاء إلى مشفى تشرين في اللاذقية، وبعد الجلسة يؤثر الجلوس في مقهى مطل على البحر، وأحيانًا يزورني في البيت، أو في المكتب مع الأصدقاء من مرافقيه، لا يتوجع ولا يشكو، لكأنه يهوّن علينا. وبعد ما أقعده المرض، اقترحت على الأصدقاء: الشاعر منذر مصري، والكاتب والمترجم غازي أبو عقل، والصديق (القارئ) منذر مرهج، زيارة (أبو زيدون)، وهكذا كان لنا ذلك اللقاء الأخير في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهذه هي أم زيدون، صاحبة الصوت السوبرانو، تغالب الفجيعة، ورفعت مسجى على السرير: أعزيكم بصديقكم، وها هي تكشف عن وجهه وتخاطبني: ألا تودع صديقك؟ فأقبل جبين راحلٍ لأول مرة، ومن سكينة رفعت أرى الموت وجهًا لوجه أول لمرة، وأراه ينزاح حقًا، وأرى الكتب تحف برفعت من الجانبين، عائلة باسكوال دوارت لكاميلو خوسيه ثيل، وطن لفرناندو أرامبورو، ليل تشيلي لروبرتو بولانيو، البيت الأخضر لماريو بارغاس يوسا، البحث عن إستيلا لأوليبيرو كولو و... ورواية رفعت نفسه "قربان"، وديواني رفعت أيضًا بالعربية وبالإسبانية (إغفاءات على حلم متكرر ـ قصائد الحب والأمل)، وأرى التاج على رأس رفعت: دون كيخوته.
نبيل سليمان 28 يناير 2023
آراء
رفعت عطفة (1947 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
بين الكثير الذي كُتب في الأيام المعدودة التي انطوت على رحيل الكاتب والمترجم وصديق العمر رفعت عطفة- أبو زيدون (رحل يوم 24/ 1/ 2023)، تألق وصف جعفر العلوني لترجمات رفعت عطفة عن الإسبانية بأنها كونشيرتو. وكذلك وصفه لحياة رفعت عطفة بأنها تاريخ آخر للترجمة.
وقد هداني وصف العلوني ـ وهو المترجم النادر أيضًا عن الإسبانية ـ إلى أن أقول/ أرى في رفعت عطفة (كيانًا) آخر، كيانًا مختلفًا، ليس للترجمة وحدها، بل للثقافة ـ لماذا لا أقول: للحضارة؟ ـ بما هي نمط للعيش، نمطٌ للحياة الأسرية والاجتماعية، للعمل وللنشاط الثقافي، وهو ما خبرته بأدق التفاصيل منذ خمسة وأربعين عامًا.
قدمتْ سورية وتقدم أعلامًا للترجمة إلى العربية ومنها، ليس ابتداءً بسامي الدروبي، وصياح الجهيم، عن الفرنسية، ولا انتهاءً بثائر ديب، أو ممدوح عدوان، عن الإنكليزية، أو عصام سليمان عن الألمانية، أو رفعت عطفة عن الإسبانية. وقد تفاوتت أرقام ترجمات (أبو زيدون) في ما كُتب عنه بعد رحيله، بين الستين والمئة كتاب. ومهما يكن شأن العدد فترجماته ذخائر، منذ بدأت عام 1978 بكتاب "التساؤلات" لبابلو نيرودا، وازدانت بأبهى روايات إيزابيل الليندي، وماركيز، وأنطونيو غالا، ومانويل روخاس سبوليدا، ودافيد توسكانا... وقد كان من نِعَم الزمان على الترجمة العربية حتى عام 2019 أن اجتمع لها عن الإسبانية عطاء رفعت عطفة الذي ودعناه للتو، وعطاء الصديق الفلسطيني ـ السوري صالح علماني، الذي ودعناه عام 2019. كم كان وأذكر للمترجمين المتنافسين من النبالة، ابتداءً بالروايات التي حظيتْ بترجمة كل منهما لها، مثل "ابنة الحظ"، و"صورة عتيقة" لإيزابيل الليندي، وكذلك "نعيشها لنروي"، و"ذكرى عاهراتي الحزينات" لماركيز، واللتين عَنْوَنهما صالح علماني بـ"عشت لأروي" و"ذاكرة غانياتي". أما درّة ترجمات رفعت عطفه فهي درّة ميغيل ثربانتس "دون كيخوته"، وكان قد ذكر أن من دوافعه إلى ترجمتها ما كان قد سبقها من ترجمة عبد الرحمن بدوي لها. أما ترجمة سليمان العطار، فقد ذكر أبو زيدون أنه لم يطلع عليها، وأحسب أن ترجمته وترجمة العطار تتنافسان في التميز.
"قدمتْ سورية أعلامًا للترجمة إلى العربية ومنها، ليس ابتداءً بسامي الدروبي، وصياح الجهيم، عن الفرنسية، ولا انتهاءً بممدوح عدوان، عن الإنكليزية، أو عصام سليمان عن الألمانية، أو رفعت عطفة عن الإسبانية" |
من أين لمثلي أن يبدأ بالكتابة عن رفعت عطفة، بينما تتناهب الكتابةَ سنواتٌ وأسفارٌ ومحاوراتٌ وأنشطةٌ، واختلافات من النوع الذي أسميه (الاختلاف المخصب، لا المدمر)، سواء في الصداقة، أم الحب، أم الفكر، أم... وأراني أهرب من جواب، فيجبهني هذا النزيف الروحي الذي غيّب خلال أقل من سنة ميشيل كيلو، وخيري الذهبي، وعادل محمود، وعماد شيحة، وصبحي الدسوقي، ووليد إخلاصي و... رفعت عطفة.
لعل الأَوْلى هو ما يومض به الآن بيت رفعت عطفة في مصياف، التي أدار فيها المركز الثقافي منذ 1987 حتى 2004. وكنت قد عرفته قبل ذلك بسنوات، منذ أصدر مجموعته القصصية "الرجل الذي لم يمت"، وكتابه المترجم الأول. وكما صار بيت (أبو زيدون) بيتي أيضًا ـ وهو في مصياف وأنا في اللاذقية، وبينهما 110 كم ـ صار بيته بيت مئات، أجل: مئات، الشعراء والفنانين والمترجمين والروائيين والنقاد و... الذين استضافهم المركز الثقافي طوال سبع عشرة سنة نافست مصياف خلالها ـ إن لم أقل: بزّت ـ بأنشطتها الثقافية دمشق العاصمة، وأية مدينة أخرى في سورية. وقد استنّ أبو زيدون سنّة دعوة أي ضيف تزدهي به المراكز والأنشطة الثقافية في العاصمة دمشق، أو سواها. ولم تكن تكتمل محاضرة، أو ندوة، أو أمسية شعرية، أو موسيقية، في المركز الثقافي إلا بالسهرة في بيت رفعت عطفة. وفي البيت نفسه يبات ليلته الضيف، أو الضيوف، لكأن المثل الشعبي القائل (البيت الضيّق يجمع ألف صديّق) ما قيل إلا من أجل بيت (أبو زيدون) الذي تتزين جدرانه بعشرات اللوحات المهداة من الفنانين التشكيليين، وفي الصدارة لوحات الفنان الفلسطيني الكبير الراحل مصطفى الحلاج، والفنانين الإسبانيين خوسيه ألكسانكو، ولويس فاخاردو. ومثل جدران البيت الصغير الكبير التي تزدان بالصور، يزدهي بأنفاس غالب هلسا، وعبد الرحمن منيف، وممدوح عدوان، وشوقي بغدادي، وحيدر حيدر، ووليد إخلاصي، ونديم البيطار، وغازي أبو عقل، ومحمد عمران، ومظفر النواب و... وقد كرّم المركز الثقافي في مصياف على عهد رفعت عطفة الشاعر العراقي مظفر النواب، والشاعر السوري ممدوح عدوان، والموسيقار السوري محمد محسن، وكذلك الفنان مصطفى الحلاج. وكان ملتقى مصياف النحتي الأول 2004، والذي تم تمويله ذاتيًا، هو البذرة التي ستنتشر من بعد في مدينة المنكّب الإسبانية.
بعد المركز الثقافي في مصياف، أسس رفعت عطفة المركز الثقافي السوري في مدريد، وأداره من 2004 حتى 2008. وكان قد درس الأدب الإسباني في جامعة مدريد المستقلة بين 1968 و1974، حيث حصل على الماجستير، ومن بعد (1982 ـ 1983) أعدّ الدكتوراة في جامعة كومبلوتنس. ومن إسبانيا حمل رفعت عطفة ميدالية المخرجين المسرحيين الإسبان، دورة 2007، ودرع المستعربين الإسبان، وأصدقاء المركز الثقافي السوري في مدريد عام 2008.
كما في مصياف، كان شأن رفعت عطفة في بيته، وفي المركز الثقافي في مدريد. وكنت قد قضيت بصحبته وصحبة أسرته الكريمة أسبوعين في أيلول عام 2007، افتتحهما بالعبارة التي لا أنساها: تعال إلى قدس الأقداس الإسباني والعالمي، فتبعته، في صباح يومي الثاني في مدريد، من دون أن أسأل عن هذا القدس، وإذا بنا بعد ثلاثين كيلومترًا، إلى الشرق من مدريد في مدينة ألكالا دي إيناريس.
"أسس رفعت عطفة المركز الثقافي السوري في مدريد، وأداره من 2004 حتى 2008" |
هنا، قال أبو زيدون، ولد ميغيل دي ثربانتس، فتهجدت: قدس أقداس الرواية، وهذا صوت (أبو زيدون) يتهجّد أيضًا: مدينة المائدة، قلعة النار، وادي الحجارة، بعد أسابيع ستحتفل المدينة بعيد ميلاد ثربانتس، كيف تدعي أنك زرت مدريد عام 1995، ولم تزر ألكالا دي إيناريس؟
ما بقي في الذاكرة نزر: الجامعة التي تشتهر بدراسة أعمال ثربانتس، يُقام في ذكرى رحيل ثربانتس في 23 أبريل/ نيسان حفلُ إعلان الجائزة الأرفع: جائزة ثربانتس، هنا تغني وترقص الشوارع في مهرجان بلانكا، امش، ممنوع التعب، لا استراحة، نحن في حي لاغارينا، صلّ في كنيسة سانتا ماريا، برج تنوريو، صورة، صور، ولكن ليس بكاميرا الموبايل، بل بالقلب.
في السنة التالية، كان لرفعت عطفة ياما كان، فعمدة مدينة المنكب (من سوار غرناطة على مسافة 60 كم) ينظم الاحتفال بمرور 1250 سنة على نزول عبد الرحمن الداخل على الشاطئ في شهر أغسطس/ آب سنة 755م. ورفعت عطفة ينظم ملتقى للنحت، وملتقى تشكيليا، ومعرضًا للمهن اليدوية السورية، وجناحًا للمطبخ السوري، بينما الموسيقى السورية تصدح. أما ملتقى النحت فقد توالي أربع سنوات حتى بات لمدينة المنكب (واسمها الإسلامي الآخر المونيكار) حدائقها النحتية التي سيخصص لها أكثم عبد الحميد كتابه "الحدائق النحتية السورية".
لا أعرف أحدًا قاوم المرض (السرطان في أشرس حالاته) كما قاومه رفعت عطفة سنة بعد سنة. وعندما بدأ جلسات العلاج بالكيماوي كان يأتي مرة كل شهر محفوفًا بالأصدقاء إلى مشفى تشرين في اللاذقية، وبعد الجلسة يؤثر الجلوس في مقهى مطل على البحر، وأحيانًا يزورني في البيت، أو في المكتب مع الأصدقاء من مرافقيه، لا يتوجع ولا يشكو، لكأنه يهوّن علينا. وبعد ما أقعده المرض، اقترحت على الأصدقاء: الشاعر منذر مصري، والكاتب والمترجم غازي أبو عقل، والصديق (القارئ) منذر مرهج، زيارة (أبو زيدون)، وهكذا كان لنا ذلك اللقاء الأخير في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهذه هي أم زيدون، صاحبة الصوت السوبرانو، تغالب الفجيعة، ورفعت مسجى على السرير: أعزيكم بصديقكم، وها هي تكشف عن وجهه وتخاطبني: ألا تودع صديقك؟ فأقبل جبين راحلٍ لأول مرة، ومن سكينة رفعت أرى الموت وجهًا لوجه أول لمرة، وأراه ينزاح حقًا، وأرى الكتب تحف برفعت من الجانبين، عائلة باسكوال دوارت لكاميلو خوسيه ثيل، وطن لفرناندو أرامبورو، ليل تشيلي لروبرتو بولانيو، البيت الأخضر لماريو بارغاس يوسا، البحث عن إستيلا لأوليبيرو كولو و... ورواية رفعت نفسه "قربان"، وديواني رفعت أيضًا بالعربية وبالإسبانية (إغفاءات على حلم متكرر ـ قصائد الحب والأمل)، وأرى التاج على رأس رفعت: دون كيخوته.