الأنا في نتاجات شعرية نسائية: عن الحب وأمور أخرى
رباب دبس 27 يناير 2023
آراء
من اليمين: بيضون، حوماني، حسين، سبيتي وعواضة
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ سبعينيات القرن العشرين المنصرم، طغت على الساحة الثقافية اللبنانية نتاجات أدبية شعرية ونثرية نسائية برزت فيها "الأنا" فاعلًا أول، وما ميّز هذه الإصدارات المتوالية، تخطيها الصورة النمطية التي احتكم إليها الشعر النسائي لحقبات سابقة، ولم تعد مواضيعها محصورة بالحب والهيام والبحث عن الرجل. بل إنها ذهبت إلى السياسة والدين والأيديولوجيا والتحولات الاجتماعية وتوصيف المدن والطبيعة، ما يشي بإشباع هذه الأنا من التعبير عما يدور في دواخلها، وتفاعلها مع ما يجري في العالم من حوادث ووقائع فرضت نفسها على الشاعر فما استطاع منها فكاكًا.
نعاين هنا في هذه المقالة بعض نماذج لشاعرات من مراحل عمرية مختلفة تفيدنا بهذا التحول في اللانشغال، من وجهة نظر اجتماعية.
سيرة المرأة الرافضة لكل نمط ورتيب وعادي
تستدعي الشاعرة والروائية جميلة حسين المنتمية إلى جيل الستينيات في ديوانها "أشياء من عالم يختفي"، الصادر عن دار النهضة في 2023، صورًا من ماضي حياتها تقارب في مجموعها سيرة ذاتية، تبرز فيها الأنا التي تنسب الفعل الى كاتبته دون مواربة، ابتداء من أمومتها المبكرة، الى عثراتها وانتصاراتها، موقفها من الحب والخيانة والعشق والزمن، المدينة والتقاليد الاجتماعية. إنها حياة الشاعرة بحلوها ومرها تبسطها في ديوانها منذ قصة ولادتها التي شكلت فيها رقم 9 بعد 8 من الأخوات اللاتي سبقنها و"لم يأت الصبي الذي بقي الأمل المنقذ من إغلاق كتاب الحياة".
تكسر حسين عبر أناها المعترفة بالأفعال، الصورة النمطية للأم التي لا تتكرس قدسيتها إلا بقدر ما تعانيه من عذابات وتضحية، هذا التلازم بين الأمومة - القهر - الألم، تعكسه الشاعرة في رسالة توجهها إلى ولدها البكر تحت عنوان "أولًا وأخيرًا":
"كنت صغيرة، لا أفقه شيئًا من شيء…
لا أعرف معنى أن تورق نبتة في جوفي ستبدّل حياتي وتكسر مراهقتي وتأخذ مني الغفوة.
جئت كالحلم تتأمل العالم وبلاهتي
جعلتني أمًا غير حاضرة، أما في غير اكتمالها"...
"كلانا في خطواته الأولى،
أنت تحبو في أشهرك الأولى،
وأنا أحبو نحو أمومتي المبتدئة".
الزمن والحياة في قصائد حسين جرس إنذار يدفعها كي تحدد موقفها من الأشياء الزائلة، فتستدعيها كلها، بأضدادها التي تحمل في عمقها فكرة الحياة نفسها، غير عابئة بعداد المجتمع وقوانينه:
"فكرة أنه لا يجب أن أخطئ تخيفني"...
"هذا يعني أنني لن أعيش"...
"على سريري حكايا كثيرة"...
"أحلم برسائل ستعود كي أوثق قبلاتي الأولى"...
الدعوة الى الحياة التي تطلقها الشاعرة، تأتي كردة فعل على حياة حافلة بالأحداث عاشتها وشهدت عليها، فيها من الحروب والتعقيدات والأيديولوجيات وتقديس الشخصيات والحلول المؤجلة، ما يجعلها صورًا مكروهة ومحنطة ومرفوضة:
"أكره البطولات
وأحيانًا الثورات
وتقديس الأحياء
وحتى الشهداء"...
"التظاهرات والاحتجاجات
والملاحق الإخبارية"
تستنزف البروتوكولات والأنماط المجتمعية المكرسة، والسلوكيات، من طاقة الشاعرة، بل إنها تحد من حرية عيشها، ما يدفعها للتخلي عنها والإفصاح عن نمط عيش ترغب هي به، فالحياة لا تكون برأيها إلا خارج كل ما هو نمطي وروتيني وعادي:
"أريد أن أتحرك بحرية في روايتي عن نفسي
وأن أعيش بخفة شخصياتي
لا بطل ولا بطولة
لا قوة ولا إبهار"...
"على مقلب الستين
إهمال الواجبات
إهمال مراضاة الأصدقاء"...
"التلذذ بالكسل والسهر
هجران الزوابع والمنعطفات
على مقلب الستين
لا موانع ولا اعتذارات".
يلطف اللون الأخضر في قصائد حسين كل ما من شأنه أن ينحو بالحياة الى القسوة، بل إن الأشجار والغابات والأزهار تحل ككائنات لطيفة وشفافة وعذبة، هي امرأة ونديم وولادة في حياة هجرها كل ما هو جميل:
"أوشوش خيال شجرة مقابل نافذتي"، "أنا ظل شجرة تشهد تبدل الفصول"، "قدماي وردتان بأشواك حادة... أزرعهما اسفل فراشي... فتنبت شجرة بشرايين خضراء"، "فاجأ الطلق أمي فأنجبتني تحت شجرة... ألبستني ظلها… فصرته، شجرة لا تعرف الانحناء"، "تتكىء الشجرة على خصر النهر… ترمي شعرها على كتفيه، تشعره بشهوتها الدائمة لصحبته".
حب وفقراء وأحداث من العالم
تستدعي أغنار عواضه في ديوانها "طعم الحب"، الصادر عن دار الفارابي في 2022، حياتها أيضًا بصيغة الأنا المعترفة بالفعل، من قصة حبها التي تتلازم مع روحها، وموقفها من السياسات العالمية، والأيديولوجيات، لتنتهي إلى أحداث عالمية وقعت في عدد من المدن، ثم إلى الشعر والموسيقى والطبيعة...
"علي أن أمرّن
أصابعي على الاحتراق
وفمي على لثم أكواز الصبر المرّة
وأن أخلق لغة جديدة
ووسائد وثيرة لرأسي المتعب
من زنودي المضمومة إلى قلبي"...
"عليّ أن أبحث عن فستان
للحنين العاري لبرد اقترب
اقترب كثيرًا
يعود الغياب
من إجازته الصيفية"…
تنحاز عواضة إلى الفقراء كانحيازها إلى الحب، وتستحضر في هذا الانحياز ثلاثية، قوامها الحب والفقر والعمال، مع تساؤلات حول جدوى النضال من أجل حياة أقل قسوة:
"في المرة الأولى دهسني قطار بومباي
أتذكره محملًا بالعمال المتعرقين،
رائحة الكاري امتزجت بالدماء،
مع ذلك متنا جائعين
تحت الشمس".
"في المرة الثانية مت سوداء في رواندا
في ظلمة من الأعلام وبلا صور
لم يذكرنا العالم ولم يجتمع مجلس الأمن"…
"كنت أدافع عن حبي
عن أرضي، عن ترابي، عن مائي، عن ظلالي
عن شمسي، عن شعبي، عن نهري، عن أولادي،
حسنًا استحق موتي
وأميركا تحكم هذا العالم"….
للشاعرة موقف من السياسات الاقتصادية العالمية، تستحضر فيه الفوارق الشاسعة بين طبقة البروليتاريا والفقراء، العمال الذين يصنعون الجمال ويتقاضون أجورًا زهيدة لقاء عملهم، والأغنياء الذين يتمتعون ويستهلكون كل ما ينتجه الفقراء بدون أن يحسوا بعذاباتهم.
"الذين يزرعون الشاي في حقول سيريلنكا
المغروسة أرجلهم في طينها
هل يعرف طعمه في فناجين الخزف
وفي الأطقم الصينية المرسومة باليد؟
عذاب البروليتاريا"...
"كنت في الخامسة حين أغرمت بلعبة خلف زجاج
أمي قالت لا نستطيع شراء اللعب"...
"ما زلت أكره الفقر
ولعبة الباربي وشعرها الأشقر الطويل
ورئيس حكومة العالم
وأحب الفقراء".
لم تنج عواضة من تداعيات الحرب اللبنانية ونتائجها، فتستعيدها بكل ما خلفته من انكسارات على ساكني هذه البلاد الذين لشدة ما حملوا من عذابات صارت لكل منهم حيوات عديدة تسميها عواضة "أنواتي"...
"وقد تختفي رهافتي
ونصف رومنسيتي
وأذوي خجلًا
ويظل الخاطف مجهولًا
والفاعل مجهولًا
كما السبعة عشر ألف مفقود ومخطوف في الحرب
وآلاف المهجرين الذين لم يعودوا
وبضعة آلاف بين جريح ومقعد
يا صديقي
كدت أكون رقمًا بين هؤلاء
ولا أعلم إن كنت قد نجوت".
في قصائد عواضة شخصيات عالمية، روائيون وفنانون وشعراء ومنظرون: "يساريون يعدون لك أزمة أساطير"، "الدينيون يتخذون من العلم سبيلًا"، الروائية أليف شافاك ورواية "لقيطة إسطنبول" ثم "حلاق إشبيلية" والفنانة فريدا كالو والشاعر "المتنبي الذي يتدلى سيفه من خصر الحمداني"، والبحر الذي لا يغيب عن معظم القصائد.
الزمن والولادة، الخارج والداخل... أضداد ملتبسة
ينعقد ديوان بانة بيضون "حارس الوهم"، الصادر عن دار النهضة في 2013، على سلسلة من القصائد تدور في معظمها حول الولادة والوجود، الجسد، الخارج والداخل، الوقت. أضداد تطرحها الشاعرة بصيغ تتولد في كل منها ألغاز وشيفرات ورموز:
"بعض القصص لا تغلق أبوابها
كالأشباح لا تعرف من أين أتت
عالقة إلى الأبد في سيناريو غير مكتمل
كل يوم تروي لها الذاكرة
نفس القصة الحزينة التي كانت سبب ولادتها
وهي تظن أنها تسمعها للمرة الأولى
تحس بوخزة ما في مكان ما
تبحث عن جسدها، لا تجده
كيف لجرح لا تراه أن يؤلم بهذا القدر؟"….
الزمن والجسد في قصائد بيضون توأمان يبحثان عن معنى وعن شكل، يتوالى الزمن ليصبح مسافات وبرهات وأوقاتًا ودقائق، كما تتعدد الأجساد في وضعيات منها نائمة ومنها منتظرة ومنها متقوقعة محدقة:
"الساعات تزحف على نفس الوتيرة
تحصد الدقائق وتتقدم ببطء...
لم يتحرك الوقت
رغم أن وقتًا آخر كان يدفعه ويحثه على المضي
لكنه كان سعيدًا في المكان الذي اختاره
يجلس بيننا كطفل مدلل
يعرف أننا أجبن من أن نقتله…
جسد متقوقع يجلس على كنبة عرجاء
يظن نفسه عدو الوقت
وينتظر المواجهة
تمر من جانبه الساعات فلا تراه
وتكمل زحفها…
لم يكن هذ الوقت ليتدخل في اللقاءات والوداعات
وما تحبسه الأمكنة من فراغات نسي أصحابها تمريرها تحت العداد…
معًا ننتقل من نهار إلى آخر
ننفض تلك الأطياف عن صدورنا ونزرع مكانها حديقة لطفل يتسلى بخدوشه"…
"الرواية التي تموت آخر كل ليلة
وتبعث في النهار التالي
إنها كأبواب المنازل التي عشت فيها
دائما مخلوعة".
تلتبس المسافة بين الخارج والداخل في شعر بيضون، فهي تستشعرها، كما يستشعرها كل البشر الذين لكل منهم مقياسه الخاص، حول هذا الداخل وذلك الخارج:
"المسافة بين عالمين
في العالم الحقيقي في الخارج
أحدهم يتذوق الشراب الأسود في هذه اللحظة
وامرأة تجلس منذ ساعات تحدق بانعكاسها على الزجاج…
في العالم الحقيقي في الخارج
لا شيء يبدو حقيقيًا
إلا نثرة الخشب التي أكونها في الداخل".
لا يتسع جسد واحد في شعر بيضون لكل أفعال البشر، بل إن الإنسان يحتاج عددًا من الأجساد لتحمل التعديات السيئة التي تقع عليه:
"أستيقظ والسقف عال وكل شيء يبدو أكثر اتساعًا
حتى عيوني وشراييني…
تستلمني قوى النهار عبر دفعات
قدم من طين...
ليست هذه حالنا
نعيش حياة واحدة نتطفل على جسد واحد
وحتى حين نختفي
علينا أن نحفر عميقًا حتى يصبح الوجع هيكلًا
والقلب فجوة
وحتى عندها
لا ننجح في إخفاء أجسادنا
ونورثها لمتطفلين آخرين".
الشعر والموسيقى والفلسفة في مواجهة الأيديولوجيا والتكنولوجيا
تواجه دارين حوماني في ديوانها "أشجار غير آمنة"، الصادر عن دار النهضة في 2022، التحولات العقائدية والتكنولوجية التي تكتسح العالم، عبر دعوتها إلى ممارسة الفنون على أنواعها، فالآلة تكاد أن تجرد البشر من أحاسيسهم، فيما العقائد الدينية تفرض قوانينها الصارمة عليهم، وتعمي أبصارهم، فلا خلاص برأيها سوى في ما يمارسه البشر من فنون، ومنها كتابة الشعر التي تتصدر أولوية في كل ما عداها:
"اكتبي الشعر أولًا
قبل أن تأخذي مقاس ضغطك
قبل أن تعلمي أطفالك الدروس اليومية
وقبل أن تبدأي التفكير
بالرؤوس الملفوفة باالسواد
قريبًا ستتوقف الحضارة
عن تنشق الشتاء
وسنقبع بلا معنى
داخل عالم إلكتروني
يفصل بيننا صحن طائر".
الحب الكبير لمدينة بيروت تعكسه حوماني في قصائدها التي تضمر في الوقت نفسه نقمة على كل من ساهم في دمار بيروت وأفقدها ذاكرتها ودمر أشجارها ومبانيها وفرق نسيجها الاجتماعي والثقافي، ولا تستثني من هذه النقمة رجال الدين أصحاب العمامات واللحى، الذين تسائلهم كمساهمين في هذا الخراب في فرضهم المحرمات التي سلبت روح المدينة:
"أريد أن أتحدث
عن الأشياء السيئة السمعة
بالإمكان رؤيتها من ثقب عميق
لا يندمل في الرأس
عليك أن تقرأها أمام الأشجار المقطوعة
أو على سفينة مدينة محطمة
أو على طاولة شعراء تتناقص
عامًا تلو عام
دعها تقول نفسها
قفد حولت حياتنا
إلى خراب لا يتوقف….
الجميع يؤدي مراسم النفاق…
هل يحدث
إن موسيقى وقليلًا من النبيذ
أشد خطورة على هذه المدينة
من نفوسهم
التي لا تستقيم دون كراهية؟!"
لحوماني إله خاص ناصع مسالم لا محرمات في قاموسه، وهي في هذا التوصيف تنتقد من نصبوا أنفسهم رقباء على رؤوس البشر وأجسادهم وطعامهم وسلوكهم، فيما يتبع الخائفون من الناس نظرياتهم دون فهمها:
"الرؤوس الملفوفة
بشريط لاصق من الموت
هل تدري كم هي بائسة….
ازدواج رؤية
لا تفاهم مع نظريات الدين والوجود...
الدين قاس هنا بما يكفي
ليؤنبنا لذنوب لم نقترفها
لأننا نفكر في الغناء والرقص والحب...
الأزقة ضيقة داخل الرؤوس
مظلمة بما يكفي لتستجلب لنا
الحزن العميق"….
"ممارسة الدين في هذه البلاد
مثل ارتداء سراويل رديئة
مرة أخرى
الله في مكان آخر"…
ترفض الشاعرة كل ما يرغمها على فعل لا ترتضيه، مرة أخرى تعلن عن إلهها الخاص الذي ترتضيه بين كتب الفلاسفة والشعراء والموسيقيين والنحاتين والروائيين:
"لا دين سيرغمني بعد
على إضافة حزن جديد إلى رأسي
أحتاج جدًا الى الله الآخر…
دوستويفسكي، كونديرا، كامو
رامبو، ريلكه، بورخيس
إليوت، بريشت، غوته، نيتشه".
المرأة حاضرة في قصائد حوماني، بالتلازم مع قوانين وأعراف المجتمع والدين التي تحد من حريتها وتحاسبها على جسدها وزيها وحياتها:
"الجنس أحجية منطقية
لكن في بلادي الجنس ظاهرة حزينة
لنساء لم يتزوجن
متن كما جئن الى هذا العالم
عفة تامة خوفًا من هؤلاء البشر القذرين...
المرأة تطلب الرحمة من الكائنات والأديان
ثم تمضي دون قناع
بهذا الحزن العميق".
أحياء مكتظة ووعود بالجنة وأطفال
ترصد لوركا سبيتي في ديوانها "مصح عقلي"، الصادر عن دار الفارابي في 2016، وقائع معيشية وعمرانية عاينتها في ضاحية بيروت الجنوبية حيث أقامت الشاعرة في عدد من أحيائها. من العناصر التي رصدتها سبيتي، الحارات والأحياء والأيديولوجيات الدينية، التي أحدثت تحولًا هائلًا في نمط عيش الناس. ها هم الأطفال الفقراء في الأحياء يكبرون على عجل بعد أن حرمهم التمدد العشوائي للمدينة ملاعب كانت ملاذًا وحيدًا لهم، الشمس هي الأخرى حجبت أشعتها عن وجوههم ومنازلهم، فذهبوا باكرًا إلى العمل، بعد أن اعتنقوا ما اعتقدوا أنه سوف ينسيهم فقرهم، ذهبوا إلى وعود وأحلام لا يتطلب تحقيقها انتظارًا طويلًا منهم.
"إلى الجنة
كانوا في طفولتهم
يحبون الرسم وسماع ألحان
تشبه الاستيقاظ الباكر…
في طريقهم إلى العمر
نسوا شغفهم وضاعوا
وسط ما لا يحبون…
كبلوا أياديهم حتى عن المصافحة…
إلى الجنة ساروا…
لا مقاعد ولا انتظارات ولا فواتير"…
تستحضر سبيتي وصفها لموقع منزلها، ما آلت إليه المدينة وضواحيها، حيث يعيش فيها مئات الألوف من السكان بدون أي تنظيم يذكر، وتوازي الشاعرة منزلها بمنزلة الوطن التي لا تغفل عن ذكر خرابه وحروبه المتكررة، وغاباته وأشجاره المنقرضة وفوضى الأحياء التي لا حدود لها.
"هنا بيتي هنا وطني
ووراء السيارات المتراكمة
على الرصيف وإلى جانبه
عند الشجرتين الوحيدتين...
وسط الريح التي توصل
إما الى حرب وإما الى حرب
على الدروب التي تؤدي إلى
إما إلى حفر تضحك
بفمها الملآن وأسنانها المهترئة
وإما إلى طريق غير نافذ، مغلق
يقع بيتي".
لا سبيل الى إحداث تغيير في الأحياء المكتظة التي تستحضرها سبيتي، وهي تعكس في وصفها نموذج عيش الجماعات الذي لشدة رسوخه وتكراره يصبح عاديًا وسائدًا بل مألوفًا:
"هنا حيث الناس الصابرون
على ما لا جلد لهم عليه
القائمون بأقل الأشياء
المكررون أخطاء الماضي
التابعون لزعيم القبيلة
الأغنياء بما لا يملكون
الصاخبون
في أحسن الأحوال
المفتقرون إلى كل أنواع الحلم
يقع بيتي…
هنا
حيث لا جماعات
بل أفراد غفيرة
من الطين المجبول
بالعقائد والطقوس
والأنانية والتسليم
وكلام لا ينصت
وتعب عابق بالموت المحبب...
يموتون في سبيل وعد
وهم
فكرة...
مخدرين بمعجزات
بكتب منزلة
بحكاية عن بطل…
يقع بيتي
يقع وطني"..
توجه سبيتي في ديوانها رسائل إلى الله، تخبره فيها عن أحوال بلادها الصعبة، وعن النساء الصابرات اللاتي يتشحن بالسواد، وعن صور الشهداء التي لشدة كثرتها وعددها أصبحت رغم قساوتها عادية:
"أين أنت يا الله؟
هل تفرحك أحزان بلادي
أطفال ينتظرون العيد ولا يأتي
نساء ماهرات بالصبر
متشحات بالسواد
مزينات بصور مؤطرة
ومتعبات من طول الانتظار…
أين تسكن يا الله
وأين بيتك المسور بالخرافة…
الفائض بالاستعارات...
تركتنا وحيدين
حيث لا حنان
ولا نافذة للنسيان
فكل كوة نقطع رأس
من يطل منها"...
"أما زلت شاعرًا يا الله
فلتعد النظر في كتابك
أرّقتنا وأخفتنا
وتركتنا نصر على مواقفنا…
يا الله
من أين لك كل هذه القسوة
كي لا تأبه لنا؟
أم أنك مت حقًا
حين أماتتك رحمتك؟"...
رباب دبس 27 يناير 2023
آراء
من اليمين: بيضون، حوماني، حسين، سبيتي وعواضة
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ سبعينيات القرن العشرين المنصرم، طغت على الساحة الثقافية اللبنانية نتاجات أدبية شعرية ونثرية نسائية برزت فيها "الأنا" فاعلًا أول، وما ميّز هذه الإصدارات المتوالية، تخطيها الصورة النمطية التي احتكم إليها الشعر النسائي لحقبات سابقة، ولم تعد مواضيعها محصورة بالحب والهيام والبحث عن الرجل. بل إنها ذهبت إلى السياسة والدين والأيديولوجيا والتحولات الاجتماعية وتوصيف المدن والطبيعة، ما يشي بإشباع هذه الأنا من التعبير عما يدور في دواخلها، وتفاعلها مع ما يجري في العالم من حوادث ووقائع فرضت نفسها على الشاعر فما استطاع منها فكاكًا.
نعاين هنا في هذه المقالة بعض نماذج لشاعرات من مراحل عمرية مختلفة تفيدنا بهذا التحول في اللانشغال، من وجهة نظر اجتماعية.
سيرة المرأة الرافضة لكل نمط ورتيب وعادي
تستدعي الشاعرة والروائية جميلة حسين المنتمية إلى جيل الستينيات في ديوانها "أشياء من عالم يختفي"، الصادر عن دار النهضة في 2023، صورًا من ماضي حياتها تقارب في مجموعها سيرة ذاتية، تبرز فيها الأنا التي تنسب الفعل الى كاتبته دون مواربة، ابتداء من أمومتها المبكرة، الى عثراتها وانتصاراتها، موقفها من الحب والخيانة والعشق والزمن، المدينة والتقاليد الاجتماعية. إنها حياة الشاعرة بحلوها ومرها تبسطها في ديوانها منذ قصة ولادتها التي شكلت فيها رقم 9 بعد 8 من الأخوات اللاتي سبقنها و"لم يأت الصبي الذي بقي الأمل المنقذ من إغلاق كتاب الحياة".
تكسر حسين عبر أناها المعترفة بالأفعال، الصورة النمطية للأم التي لا تتكرس قدسيتها إلا بقدر ما تعانيه من عذابات وتضحية، هذا التلازم بين الأمومة - القهر - الألم، تعكسه الشاعرة في رسالة توجهها إلى ولدها البكر تحت عنوان "أولًا وأخيرًا":
"كنت صغيرة، لا أفقه شيئًا من شيء…
لا أعرف معنى أن تورق نبتة في جوفي ستبدّل حياتي وتكسر مراهقتي وتأخذ مني الغفوة.
جئت كالحلم تتأمل العالم وبلاهتي
جعلتني أمًا غير حاضرة، أما في غير اكتمالها"...
"كلانا في خطواته الأولى،
أنت تحبو في أشهرك الأولى،
وأنا أحبو نحو أمومتي المبتدئة".
الزمن والحياة في قصائد حسين جرس إنذار يدفعها كي تحدد موقفها من الأشياء الزائلة، فتستدعيها كلها، بأضدادها التي تحمل في عمقها فكرة الحياة نفسها، غير عابئة بعداد المجتمع وقوانينه:
"فكرة أنه لا يجب أن أخطئ تخيفني"...
"هذا يعني أنني لن أعيش"...
"على سريري حكايا كثيرة"...
"أحلم برسائل ستعود كي أوثق قبلاتي الأولى"...
الدعوة الى الحياة التي تطلقها الشاعرة، تأتي كردة فعل على حياة حافلة بالأحداث عاشتها وشهدت عليها، فيها من الحروب والتعقيدات والأيديولوجيات وتقديس الشخصيات والحلول المؤجلة، ما يجعلها صورًا مكروهة ومحنطة ومرفوضة:
"أكره البطولات
وأحيانًا الثورات
وتقديس الأحياء
وحتى الشهداء"...
"التظاهرات والاحتجاجات
والملاحق الإخبارية"
تستنزف البروتوكولات والأنماط المجتمعية المكرسة، والسلوكيات، من طاقة الشاعرة، بل إنها تحد من حرية عيشها، ما يدفعها للتخلي عنها والإفصاح عن نمط عيش ترغب هي به، فالحياة لا تكون برأيها إلا خارج كل ما هو نمطي وروتيني وعادي:
"أريد أن أتحرك بحرية في روايتي عن نفسي
وأن أعيش بخفة شخصياتي
لا بطل ولا بطولة
لا قوة ولا إبهار"...
"على مقلب الستين
إهمال الواجبات
إهمال مراضاة الأصدقاء"...
"التلذذ بالكسل والسهر
هجران الزوابع والمنعطفات
على مقلب الستين
لا موانع ولا اعتذارات".
يلطف اللون الأخضر في قصائد حسين كل ما من شأنه أن ينحو بالحياة الى القسوة، بل إن الأشجار والغابات والأزهار تحل ككائنات لطيفة وشفافة وعذبة، هي امرأة ونديم وولادة في حياة هجرها كل ما هو جميل:
"أوشوش خيال شجرة مقابل نافذتي"، "أنا ظل شجرة تشهد تبدل الفصول"، "قدماي وردتان بأشواك حادة... أزرعهما اسفل فراشي... فتنبت شجرة بشرايين خضراء"، "فاجأ الطلق أمي فأنجبتني تحت شجرة... ألبستني ظلها… فصرته، شجرة لا تعرف الانحناء"، "تتكىء الشجرة على خصر النهر… ترمي شعرها على كتفيه، تشعره بشهوتها الدائمة لصحبته".
حب وفقراء وأحداث من العالم
تستدعي أغنار عواضه في ديوانها "طعم الحب"، الصادر عن دار الفارابي في 2022، حياتها أيضًا بصيغة الأنا المعترفة بالفعل، من قصة حبها التي تتلازم مع روحها، وموقفها من السياسات العالمية، والأيديولوجيات، لتنتهي إلى أحداث عالمية وقعت في عدد من المدن، ثم إلى الشعر والموسيقى والطبيعة...
"علي أن أمرّن
أصابعي على الاحتراق
وفمي على لثم أكواز الصبر المرّة
وأن أخلق لغة جديدة
ووسائد وثيرة لرأسي المتعب
من زنودي المضمومة إلى قلبي"...
"عليّ أن أبحث عن فستان
للحنين العاري لبرد اقترب
اقترب كثيرًا
يعود الغياب
من إجازته الصيفية"…
تنحاز عواضة إلى الفقراء كانحيازها إلى الحب، وتستحضر في هذا الانحياز ثلاثية، قوامها الحب والفقر والعمال، مع تساؤلات حول جدوى النضال من أجل حياة أقل قسوة:
"في المرة الأولى دهسني قطار بومباي
أتذكره محملًا بالعمال المتعرقين،
رائحة الكاري امتزجت بالدماء،
مع ذلك متنا جائعين
تحت الشمس".
"في المرة الثانية مت سوداء في رواندا
في ظلمة من الأعلام وبلا صور
لم يذكرنا العالم ولم يجتمع مجلس الأمن"…
"كنت أدافع عن حبي
عن أرضي، عن ترابي، عن مائي، عن ظلالي
عن شمسي، عن شعبي، عن نهري، عن أولادي،
حسنًا استحق موتي
وأميركا تحكم هذا العالم"….
للشاعرة موقف من السياسات الاقتصادية العالمية، تستحضر فيه الفوارق الشاسعة بين طبقة البروليتاريا والفقراء، العمال الذين يصنعون الجمال ويتقاضون أجورًا زهيدة لقاء عملهم، والأغنياء الذين يتمتعون ويستهلكون كل ما ينتجه الفقراء بدون أن يحسوا بعذاباتهم.
"الذين يزرعون الشاي في حقول سيريلنكا
المغروسة أرجلهم في طينها
هل يعرف طعمه في فناجين الخزف
وفي الأطقم الصينية المرسومة باليد؟
عذاب البروليتاريا"...
"كنت في الخامسة حين أغرمت بلعبة خلف زجاج
أمي قالت لا نستطيع شراء اللعب"...
"ما زلت أكره الفقر
ولعبة الباربي وشعرها الأشقر الطويل
ورئيس حكومة العالم
وأحب الفقراء".
لم تنج عواضة من تداعيات الحرب اللبنانية ونتائجها، فتستعيدها بكل ما خلفته من انكسارات على ساكني هذه البلاد الذين لشدة ما حملوا من عذابات صارت لكل منهم حيوات عديدة تسميها عواضة "أنواتي"...
"وقد تختفي رهافتي
ونصف رومنسيتي
وأذوي خجلًا
ويظل الخاطف مجهولًا
والفاعل مجهولًا
كما السبعة عشر ألف مفقود ومخطوف في الحرب
وآلاف المهجرين الذين لم يعودوا
وبضعة آلاف بين جريح ومقعد
يا صديقي
كدت أكون رقمًا بين هؤلاء
ولا أعلم إن كنت قد نجوت".
في قصائد عواضة شخصيات عالمية، روائيون وفنانون وشعراء ومنظرون: "يساريون يعدون لك أزمة أساطير"، "الدينيون يتخذون من العلم سبيلًا"، الروائية أليف شافاك ورواية "لقيطة إسطنبول" ثم "حلاق إشبيلية" والفنانة فريدا كالو والشاعر "المتنبي الذي يتدلى سيفه من خصر الحمداني"، والبحر الذي لا يغيب عن معظم القصائد.
"ذهبت نتاجات أدبية شعرية ونثرية نسائية إلى السياسة والدين والأيديولوجيا والتحولات الاجتماعية وتوصيف المدن والطبيعة، ما يشي بإشباع هذه الأنا من التعبير عما يدور في دواخلها، وتفاعلها مع ما يجري في العالم" |
ينعقد ديوان بانة بيضون "حارس الوهم"، الصادر عن دار النهضة في 2013، على سلسلة من القصائد تدور في معظمها حول الولادة والوجود، الجسد، الخارج والداخل، الوقت. أضداد تطرحها الشاعرة بصيغ تتولد في كل منها ألغاز وشيفرات ورموز:
"بعض القصص لا تغلق أبوابها
كالأشباح لا تعرف من أين أتت
عالقة إلى الأبد في سيناريو غير مكتمل
كل يوم تروي لها الذاكرة
نفس القصة الحزينة التي كانت سبب ولادتها
وهي تظن أنها تسمعها للمرة الأولى
تحس بوخزة ما في مكان ما
تبحث عن جسدها، لا تجده
كيف لجرح لا تراه أن يؤلم بهذا القدر؟"….
الزمن والجسد في قصائد بيضون توأمان يبحثان عن معنى وعن شكل، يتوالى الزمن ليصبح مسافات وبرهات وأوقاتًا ودقائق، كما تتعدد الأجساد في وضعيات منها نائمة ومنها منتظرة ومنها متقوقعة محدقة:
"الساعات تزحف على نفس الوتيرة
تحصد الدقائق وتتقدم ببطء...
لم يتحرك الوقت
رغم أن وقتًا آخر كان يدفعه ويحثه على المضي
لكنه كان سعيدًا في المكان الذي اختاره
يجلس بيننا كطفل مدلل
يعرف أننا أجبن من أن نقتله…
جسد متقوقع يجلس على كنبة عرجاء
يظن نفسه عدو الوقت
وينتظر المواجهة
تمر من جانبه الساعات فلا تراه
وتكمل زحفها…
لم يكن هذ الوقت ليتدخل في اللقاءات والوداعات
وما تحبسه الأمكنة من فراغات نسي أصحابها تمريرها تحت العداد…
معًا ننتقل من نهار إلى آخر
ننفض تلك الأطياف عن صدورنا ونزرع مكانها حديقة لطفل يتسلى بخدوشه"…
"الرواية التي تموت آخر كل ليلة
وتبعث في النهار التالي
إنها كأبواب المنازل التي عشت فيها
دائما مخلوعة".
تلتبس المسافة بين الخارج والداخل في شعر بيضون، فهي تستشعرها، كما يستشعرها كل البشر الذين لكل منهم مقياسه الخاص، حول هذا الداخل وذلك الخارج:
"المسافة بين عالمين
في العالم الحقيقي في الخارج
أحدهم يتذوق الشراب الأسود في هذه اللحظة
وامرأة تجلس منذ ساعات تحدق بانعكاسها على الزجاج…
في العالم الحقيقي في الخارج
لا شيء يبدو حقيقيًا
إلا نثرة الخشب التي أكونها في الداخل".
لا يتسع جسد واحد في شعر بيضون لكل أفعال البشر، بل إن الإنسان يحتاج عددًا من الأجساد لتحمل التعديات السيئة التي تقع عليه:
"أستيقظ والسقف عال وكل شيء يبدو أكثر اتساعًا
حتى عيوني وشراييني…
تستلمني قوى النهار عبر دفعات
قدم من طين...
ليست هذه حالنا
نعيش حياة واحدة نتطفل على جسد واحد
وحتى حين نختفي
علينا أن نحفر عميقًا حتى يصبح الوجع هيكلًا
والقلب فجوة
وحتى عندها
لا ننجح في إخفاء أجسادنا
ونورثها لمتطفلين آخرين".
الشعر والموسيقى والفلسفة في مواجهة الأيديولوجيا والتكنولوجيا
تواجه دارين حوماني في ديوانها "أشجار غير آمنة"، الصادر عن دار النهضة في 2022، التحولات العقائدية والتكنولوجية التي تكتسح العالم، عبر دعوتها إلى ممارسة الفنون على أنواعها، فالآلة تكاد أن تجرد البشر من أحاسيسهم، فيما العقائد الدينية تفرض قوانينها الصارمة عليهم، وتعمي أبصارهم، فلا خلاص برأيها سوى في ما يمارسه البشر من فنون، ومنها كتابة الشعر التي تتصدر أولوية في كل ما عداها:
"اكتبي الشعر أولًا
قبل أن تأخذي مقاس ضغطك
قبل أن تعلمي أطفالك الدروس اليومية
وقبل أن تبدأي التفكير
بالرؤوس الملفوفة باالسواد
قريبًا ستتوقف الحضارة
عن تنشق الشتاء
وسنقبع بلا معنى
داخل عالم إلكتروني
يفصل بيننا صحن طائر".
الحب الكبير لمدينة بيروت تعكسه حوماني في قصائدها التي تضمر في الوقت نفسه نقمة على كل من ساهم في دمار بيروت وأفقدها ذاكرتها ودمر أشجارها ومبانيها وفرق نسيجها الاجتماعي والثقافي، ولا تستثني من هذه النقمة رجال الدين أصحاب العمامات واللحى، الذين تسائلهم كمساهمين في هذا الخراب في فرضهم المحرمات التي سلبت روح المدينة:
"أريد أن أتحدث
عن الأشياء السيئة السمعة
بالإمكان رؤيتها من ثقب عميق
لا يندمل في الرأس
عليك أن تقرأها أمام الأشجار المقطوعة
أو على سفينة مدينة محطمة
أو على طاولة شعراء تتناقص
عامًا تلو عام
دعها تقول نفسها
قفد حولت حياتنا
إلى خراب لا يتوقف….
الجميع يؤدي مراسم النفاق…
هل يحدث
إن موسيقى وقليلًا من النبيذ
أشد خطورة على هذه المدينة
من نفوسهم
التي لا تستقيم دون كراهية؟!"
لحوماني إله خاص ناصع مسالم لا محرمات في قاموسه، وهي في هذا التوصيف تنتقد من نصبوا أنفسهم رقباء على رؤوس البشر وأجسادهم وطعامهم وسلوكهم، فيما يتبع الخائفون من الناس نظرياتهم دون فهمها:
"الرؤوس الملفوفة
بشريط لاصق من الموت
هل تدري كم هي بائسة….
ازدواج رؤية
لا تفاهم مع نظريات الدين والوجود...
الدين قاس هنا بما يكفي
ليؤنبنا لذنوب لم نقترفها
لأننا نفكر في الغناء والرقص والحب...
الأزقة ضيقة داخل الرؤوس
مظلمة بما يكفي لتستجلب لنا
الحزن العميق"….
"ممارسة الدين في هذه البلاد
مثل ارتداء سراويل رديئة
مرة أخرى
الله في مكان آخر"…
ترفض الشاعرة كل ما يرغمها على فعل لا ترتضيه، مرة أخرى تعلن عن إلهها الخاص الذي ترتضيه بين كتب الفلاسفة والشعراء والموسيقيين والنحاتين والروائيين:
"لا دين سيرغمني بعد
على إضافة حزن جديد إلى رأسي
أحتاج جدًا الى الله الآخر…
دوستويفسكي، كونديرا، كامو
رامبو، ريلكه، بورخيس
إليوت، بريشت، غوته، نيتشه".
المرأة حاضرة في قصائد حوماني، بالتلازم مع قوانين وأعراف المجتمع والدين التي تحد من حريتها وتحاسبها على جسدها وزيها وحياتها:
"الجنس أحجية منطقية
لكن في بلادي الجنس ظاهرة حزينة
لنساء لم يتزوجن
متن كما جئن الى هذا العالم
عفة تامة خوفًا من هؤلاء البشر القذرين...
المرأة تطلب الرحمة من الكائنات والأديان
ثم تمضي دون قناع
بهذا الحزن العميق".
أحياء مكتظة ووعود بالجنة وأطفال
ترصد لوركا سبيتي في ديوانها "مصح عقلي"، الصادر عن دار الفارابي في 2016، وقائع معيشية وعمرانية عاينتها في ضاحية بيروت الجنوبية حيث أقامت الشاعرة في عدد من أحيائها. من العناصر التي رصدتها سبيتي، الحارات والأحياء والأيديولوجيات الدينية، التي أحدثت تحولًا هائلًا في نمط عيش الناس. ها هم الأطفال الفقراء في الأحياء يكبرون على عجل بعد أن حرمهم التمدد العشوائي للمدينة ملاعب كانت ملاذًا وحيدًا لهم، الشمس هي الأخرى حجبت أشعتها عن وجوههم ومنازلهم، فذهبوا باكرًا إلى العمل، بعد أن اعتنقوا ما اعتقدوا أنه سوف ينسيهم فقرهم، ذهبوا إلى وعود وأحلام لا يتطلب تحقيقها انتظارًا طويلًا منهم.
"إلى الجنة
كانوا في طفولتهم
يحبون الرسم وسماع ألحان
تشبه الاستيقاظ الباكر…
في طريقهم إلى العمر
نسوا شغفهم وضاعوا
وسط ما لا يحبون…
كبلوا أياديهم حتى عن المصافحة…
إلى الجنة ساروا…
لا مقاعد ولا انتظارات ولا فواتير"…
تستحضر سبيتي وصفها لموقع منزلها، ما آلت إليه المدينة وضواحيها، حيث يعيش فيها مئات الألوف من السكان بدون أي تنظيم يذكر، وتوازي الشاعرة منزلها بمنزلة الوطن التي لا تغفل عن ذكر خرابه وحروبه المتكررة، وغاباته وأشجاره المنقرضة وفوضى الأحياء التي لا حدود لها.
"هنا بيتي هنا وطني
ووراء السيارات المتراكمة
على الرصيف وإلى جانبه
عند الشجرتين الوحيدتين...
وسط الريح التي توصل
إما الى حرب وإما الى حرب
على الدروب التي تؤدي إلى
إما إلى حفر تضحك
بفمها الملآن وأسنانها المهترئة
وإما إلى طريق غير نافذ، مغلق
يقع بيتي".
لا سبيل الى إحداث تغيير في الأحياء المكتظة التي تستحضرها سبيتي، وهي تعكس في وصفها نموذج عيش الجماعات الذي لشدة رسوخه وتكراره يصبح عاديًا وسائدًا بل مألوفًا:
"هنا حيث الناس الصابرون
على ما لا جلد لهم عليه
القائمون بأقل الأشياء
المكررون أخطاء الماضي
التابعون لزعيم القبيلة
الأغنياء بما لا يملكون
الصاخبون
في أحسن الأحوال
المفتقرون إلى كل أنواع الحلم
يقع بيتي…
هنا
حيث لا جماعات
بل أفراد غفيرة
من الطين المجبول
بالعقائد والطقوس
والأنانية والتسليم
وكلام لا ينصت
وتعب عابق بالموت المحبب...
يموتون في سبيل وعد
وهم
فكرة...
مخدرين بمعجزات
بكتب منزلة
بحكاية عن بطل…
يقع بيتي
يقع وطني"..
توجه سبيتي في ديوانها رسائل إلى الله، تخبره فيها عن أحوال بلادها الصعبة، وعن النساء الصابرات اللاتي يتشحن بالسواد، وعن صور الشهداء التي لشدة كثرتها وعددها أصبحت رغم قساوتها عادية:
"أين أنت يا الله؟
هل تفرحك أحزان بلادي
أطفال ينتظرون العيد ولا يأتي
نساء ماهرات بالصبر
متشحات بالسواد
مزينات بصور مؤطرة
ومتعبات من طول الانتظار…
أين تسكن يا الله
وأين بيتك المسور بالخرافة…
الفائض بالاستعارات...
تركتنا وحيدين
حيث لا حنان
ولا نافذة للنسيان
فكل كوة نقطع رأس
من يطل منها"...
"أما زلت شاعرًا يا الله
فلتعد النظر في كتابك
أرّقتنا وأخفتنا
وتركتنا نصر على مواقفنا…
يا الله
من أين لك كل هذه القسوة
كي لا تأبه لنا؟
أم أنك مت حقًا
حين أماتتك رحمتك؟"...