أليست الكتابة نسيان ذكرياتنا؟
مناهل السهوي 26 يناير 2023
آراء
(gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قد يبدو النسيان بمثابة الحالة السلبية للذاكرة، الجانب الأسود لها، ومقبرتها، لكن على العكس، وجد بعض العلماء خلال العقود الماضية نتائج صادمة: الدماغ بُني لينسى، لم يوجد الدماغ ليتذكر، فهذا العضو الصغير يعمل من دون انقطاع بهدف النسيان، المدهش أنه وتبعًا لعدد من التجارب، فحتى الحيوانات تمتلك ذات الأمر، فإن الحالة الطبيعية لدماغ الكائنات الحيّة هي النسيان لا التذكر، وهذا ما يجعل من الذكريات هي التحدي بالنسبة للدماغ (علميًا). ببساطة بدل أن يكون الجزء المنسي خللًا في الذاكرة، بات هناك توجه علميّ يعزز من فرضية تقول، إن القدرة على النسيان أمر بالغ الأهمية لكيفية عمل الدماغ.
في الكتابة هل أنا أنسى أم أتذكر؟ الأمر مرعب ومثير في الوقت ذاته، أن تملك اللحظة وتمنحها للنسيان، هناك رابط خفي بين الذاكرة والأدب، فلم تكن منيموسين آلهة الذاكرة فقط، كانت أيضًا والدة آلهات الفنون المختلفة كالشعر والموسيقى. هذه العلاقة المركبة بين الذكريات والنسيان وكيف نكتبهما في الأدب، يمكن أن ندركها من تجارب الكتّاب حول العالم، يكتب البعض الشعر لينسى حتى لو بدا العكس، اقترح طبيب آن سكستون عليها الكتابة كنوع من العلاج النفسي، لكن هل فكرنا أنها تكتب ما يرفض مغادرتها وما يزيد من معاناتها النفسية؟ إذا كانت الكتابة تعمل بآلية العقل وتحوّل الذكريات إلى مقبرة النسيان، إذًا فالكتابة فيها شيء من النسيان والذي تحتاجه أدمغتنا، ولذلك نشعر بالراحة حينما نقرأ قصيدة تعبّر عن حالة تخصنا، فالكتابة فعلت ما عجز النسيان عنه، رمي هذه الذكريات للخلف قليلًا. تتحول الكتابة فيما لو نبشنا فيها إلى الذاكرة والنسيان في آن واحد.
أن تكون ذكرياتنا هي أنفسنا هو أمر شديد الحساسية، من نحن من دون ذكريات؟ على سبيل المثال تظهر مدى سلطة النسيان في حالة الزهايمر، إذ لا يمكن المقارنة بين قوة الذكرى والنسيان، الزهايمر هو تسليمنا الكامل للآخر ولكلّ ما يقوله عنا، فنحن ما يقول من حولنا لأننا اندثرنا مع ذكرياتنا، ما الذي يبقى منا لو بقينا مجردين من ذكرياتنا، هل يصح أن نتحول إلى لا شيء؟ ببساطة عُدنا إلى حقيقتنا وهي النسيان، ما يعني أن حقيقتنا ليست ما تفعله الذكريات إنما ما يقوم به النسيان.
حسنًا لا يمكن إنكار أن عمل الأدب الأكبر هو التذكر، تذكر مشاعرنا وحياتنا وتاريخنا وحكاياتنا ومنظورنا للحياة في فترات زمنية محددة، يمكن أخذ عمل "البحث عن الزمن المفقود" كنموذج مثالي للتحدث عن الزمن والذاكرة، إذ عزز مارسيل بروست تطور الذاكرة في روايته الذاتية الضخمة، ما هو عكس النسيان في هذا العمل؟ إنه طعم مادلين (كعكة صغيرة) مغموسة في الشاي. الكعكة هي مرجعية الذاكرة، التي ينطلق بروست منها ويبني عليها شبكة متداخلة من الذكريات، تتوسع لحظة الكعكة وتغدو حياةً كاملة، حسنًا وبقدر قوّة النسيان إلا أنه قد ينهار أمام تفصيل صغير كطعم أو رائحة. تقع البصلة الشميّة التي تعالج الروائح قريبًا من الحصين حيث يتم تخزين الذكريات، وهو أمر يدفعنا للتساؤل كيف يمكن أن يكون عدو الذكريات قريبًا إلى هذا الحد، ما يعني أن أيّ لحظة قد تحرك وحشًا يعيش داخلنا، لكن وجود البصلة الشميّة قرب مكان الذكريات ألا يعني أيضًا أن هناك رابطًا شديد القوة بين النسيان والحفاظ على اللحظات شديدة الحساسية بالنسبة لنا، سواء كانت ذكريات جيدة أم سيئة.
تمكّن بروست في هذا العمل من جلب الذاكرة وتحويلها من سلطة في النص إلى أداة يكتشف الكاتب نفسه من خلالها، المثير في العمل هو أن مادلين بروست أصبحت رمزًا لكيفية بقاء الذكريات محفوظة في الأذواق والأصوات والروائح. بالطبع لا يعني ذلك أن مادلين الخاصة بك هي رائحة بشكل خاص فقد تكون أي شيء، ما أود التركيز عليه هنا، إن فهم بروست للذاكرة معقد وطريقة تقديمه لها تدفعنا للتساؤل هل استحضار الذاكرة مجددًا يعني أننا حاربنا النسيان وانتصرنا عليه أم أننا ببساطة صنعنا ذكريات جديدة تتعلق باليوم الحاضر وهي الأخرى في طريقها للنسيان، بمعنى آخر نحن لا نحارب النسيان بل نمشي كما يخطط هو لنا!
وفي حين نعتقد أننا نستحضر ذكرياتنا، فإن الحقيقة هي أننا نخلط الماضي ونغيره، لنعتقد أننا نستطيع هزيمة النسيان لكن النسيان هو الثابت لا الذاكرة، على سبيل المثال تعتقد أن تذكرك لشخص رحل هو هزيمة لنسيانه إلا أنك تتجاهل أنك نسيته وقتًا أطول بينما تتذكره للحظة أو أقل. ربما يجب أن نتقبل فكرة مفادها أن النسيان هو نحن وأننا أفضل معه.
لطالما وصفنا النسيان بالأمر السيء، فنتساءل كيف يمكن لأحدهم أن ينسانا بسهولة، أو نلوم أنفسنا لنسيان أحباء لنا، لكن العلم اليوم يقف إلى جانبنا وجانب النسيان فيتساءل أوليفر هاردت، عالم النفس المعرفي الذي يدرس البيولوجيا العصبية للذاكرة في جامعة ماكغيل في مونتريال، كندا: "ما هي الذاكرة من دون نسيان؟ للحصول على وظيفة ذاكرة مناسبة، عليك أن تنسى". يقول هاردت إن النسيان ليس فشلًا في الذاكرة إنما وظيفة للدماغ فمن الممكن أن ينخرط دماغنا في القليل من النسيان المتحكم به من أجل منعنا من الانغماس في تجاربنا. ليس هذا وحسب إذ يمكن أن يؤدي فهم هذه الحالة بشكل أفضل إلى تطورات في علاجات حالات مثل القلق واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وحتى مرض الزهايمر، إذ أن المشكلة قد تكون في بعض الأحيان خللًا في النسيان، لا تعمل وظيفة النسيان على أتم وجه في بعض المواقع ما يعني تداعيات نفسية بسبب وجود ذكريات غير قابلة للمحي.
نحتاج الأدب كما النسيان، حيث يمتزجان مع ذكرياتنا ليصنعا لحظة لسنا متأكدين من زمنها، ربما هي الماضي أو الحاضر، لا شيء أكيدًا حين تكون الحقيقة الوحيدة التي نعرفها هي أن كل شيء ذاهب إلى النسيان الذي نود الإمساك به لكنه يختفي كلما اقتربنا منه.
مناهل السهوي 26 يناير 2023
آراء
(gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قد يبدو النسيان بمثابة الحالة السلبية للذاكرة، الجانب الأسود لها، ومقبرتها، لكن على العكس، وجد بعض العلماء خلال العقود الماضية نتائج صادمة: الدماغ بُني لينسى، لم يوجد الدماغ ليتذكر، فهذا العضو الصغير يعمل من دون انقطاع بهدف النسيان، المدهش أنه وتبعًا لعدد من التجارب، فحتى الحيوانات تمتلك ذات الأمر، فإن الحالة الطبيعية لدماغ الكائنات الحيّة هي النسيان لا التذكر، وهذا ما يجعل من الذكريات هي التحدي بالنسبة للدماغ (علميًا). ببساطة بدل أن يكون الجزء المنسي خللًا في الذاكرة، بات هناك توجه علميّ يعزز من فرضية تقول، إن القدرة على النسيان أمر بالغ الأهمية لكيفية عمل الدماغ.
في الكتابة هل أنا أنسى أم أتذكر؟ الأمر مرعب ومثير في الوقت ذاته، أن تملك اللحظة وتمنحها للنسيان، هناك رابط خفي بين الذاكرة والأدب، فلم تكن منيموسين آلهة الذاكرة فقط، كانت أيضًا والدة آلهات الفنون المختلفة كالشعر والموسيقى. هذه العلاقة المركبة بين الذكريات والنسيان وكيف نكتبهما في الأدب، يمكن أن ندركها من تجارب الكتّاب حول العالم، يكتب البعض الشعر لينسى حتى لو بدا العكس، اقترح طبيب آن سكستون عليها الكتابة كنوع من العلاج النفسي، لكن هل فكرنا أنها تكتب ما يرفض مغادرتها وما يزيد من معاناتها النفسية؟ إذا كانت الكتابة تعمل بآلية العقل وتحوّل الذكريات إلى مقبرة النسيان، إذًا فالكتابة فيها شيء من النسيان والذي تحتاجه أدمغتنا، ولذلك نشعر بالراحة حينما نقرأ قصيدة تعبّر عن حالة تخصنا، فالكتابة فعلت ما عجز النسيان عنه، رمي هذه الذكريات للخلف قليلًا. تتحول الكتابة فيما لو نبشنا فيها إلى الذاكرة والنسيان في آن واحد.
"وجد بعض العلماء خلال العقود الماضية نتائج صادمة: الدماغ بُني لينسى، لم يوجد الدماغ ليتذكر" |
حسنًا لا يمكن إنكار أن عمل الأدب الأكبر هو التذكر، تذكر مشاعرنا وحياتنا وتاريخنا وحكاياتنا ومنظورنا للحياة في فترات زمنية محددة، يمكن أخذ عمل "البحث عن الزمن المفقود" كنموذج مثالي للتحدث عن الزمن والذاكرة، إذ عزز مارسيل بروست تطور الذاكرة في روايته الذاتية الضخمة، ما هو عكس النسيان في هذا العمل؟ إنه طعم مادلين (كعكة صغيرة) مغموسة في الشاي. الكعكة هي مرجعية الذاكرة، التي ينطلق بروست منها ويبني عليها شبكة متداخلة من الذكريات، تتوسع لحظة الكعكة وتغدو حياةً كاملة، حسنًا وبقدر قوّة النسيان إلا أنه قد ينهار أمام تفصيل صغير كطعم أو رائحة. تقع البصلة الشميّة التي تعالج الروائح قريبًا من الحصين حيث يتم تخزين الذكريات، وهو أمر يدفعنا للتساؤل كيف يمكن أن يكون عدو الذكريات قريبًا إلى هذا الحد، ما يعني أن أيّ لحظة قد تحرك وحشًا يعيش داخلنا، لكن وجود البصلة الشميّة قرب مكان الذكريات ألا يعني أيضًا أن هناك رابطًا شديد القوة بين النسيان والحفاظ على اللحظات شديدة الحساسية بالنسبة لنا، سواء كانت ذكريات جيدة أم سيئة.
"يتساءل أوليفر هاردت، عالم النفس المعرفي: "ما هي الذاكرة من دون نسيان؟ للحصول على وظيفة ذاكرة مناسبة، عليك أن تنسى"" |
وفي حين نعتقد أننا نستحضر ذكرياتنا، فإن الحقيقة هي أننا نخلط الماضي ونغيره، لنعتقد أننا نستطيع هزيمة النسيان لكن النسيان هو الثابت لا الذاكرة، على سبيل المثال تعتقد أن تذكرك لشخص رحل هو هزيمة لنسيانه إلا أنك تتجاهل أنك نسيته وقتًا أطول بينما تتذكره للحظة أو أقل. ربما يجب أن نتقبل فكرة مفادها أن النسيان هو نحن وأننا أفضل معه.
لطالما وصفنا النسيان بالأمر السيء، فنتساءل كيف يمكن لأحدهم أن ينسانا بسهولة، أو نلوم أنفسنا لنسيان أحباء لنا، لكن العلم اليوم يقف إلى جانبنا وجانب النسيان فيتساءل أوليفر هاردت، عالم النفس المعرفي الذي يدرس البيولوجيا العصبية للذاكرة في جامعة ماكغيل في مونتريال، كندا: "ما هي الذاكرة من دون نسيان؟ للحصول على وظيفة ذاكرة مناسبة، عليك أن تنسى". يقول هاردت إن النسيان ليس فشلًا في الذاكرة إنما وظيفة للدماغ فمن الممكن أن ينخرط دماغنا في القليل من النسيان المتحكم به من أجل منعنا من الانغماس في تجاربنا. ليس هذا وحسب إذ يمكن أن يؤدي فهم هذه الحالة بشكل أفضل إلى تطورات في علاجات حالات مثل القلق واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وحتى مرض الزهايمر، إذ أن المشكلة قد تكون في بعض الأحيان خللًا في النسيان، لا تعمل وظيفة النسيان على أتم وجه في بعض المواقع ما يعني تداعيات نفسية بسبب وجود ذكريات غير قابلة للمحي.
نحتاج الأدب كما النسيان، حيث يمتزجان مع ذكرياتنا ليصنعا لحظة لسنا متأكدين من زمنها، ربما هي الماضي أو الحاضر، لا شيء أكيدًا حين تكون الحقيقة الوحيدة التي نعرفها هي أن كل شيء ذاهب إلى النسيان الذي نود الإمساك به لكنه يختفي كلما اقتربنا منه.