في قصيدة النثر: أصلُ الشِّعر
نادية هناوي 25 يناير 2023
آراء
كاليغراف للفنان الفلسطيني علي صلاح بلداوي، 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا خلاف في أن المعرفة عمومًا والعلوم والآداب تحديدًا تتضمن كثيرًا من الميادين المجسرة والفروع المتداخلة. وإذا أخذنا من العلوم علم الصوت ومن الآداب السرد، فإن الشعر سيكون هو الفن الذي يملك من المصنفات ما يمكن معه تقسيمها إلى أجناس. وفي كل جنس يجتمع العلمي الموسيقي بالأدبي السردي. وبذلك لا يكون الركون إلى الموسيقى وحدها هو الذي يجعل الشعر مضبوطًا ونظاميًا، بل يمكن الركون إلى الإيقاع أيضًا. وقد يكون الإيقاع وحده كافيًا لأن يجعل الشعر مضبوطًا أو مضافًا له ما هو دلالي.
وإذا كانت قصيدة النثر هي أصل الشعر وقاعدته قبل تقعيد الشعر وظهور أوزانه، فإن الموسيقى هي العامل الكلي الذي معه احتاجت القصيدة الغنائية إلى استعمال آلة موسيقية وبسبب جزئية الموسيقى احتاجت القصيدة الملحمية إلى التدوين وبسبب هذه الجزئية احتاجت القصيدة المسرحية إلى الحركات والرقص ثم فرضت كلية الموسيقى على القصيدة التعليمية توظيف العقل والذاكرة وليس العاطفة والحركة. ثم كان لغياب الموسيقى أن أعاد الشعر إلى أصوله الأُولى، أعني قصيدة النثر. وبذلك تكتمل تاريخية الشعر في دورة لا نهائية تبدأ من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ.
وإذ ظلت الموسيقى عنصرًا رئيسًا من عناصر شعرنا العربي على طول تاريخه، فإن بعض التغييرات الحداثية طرأت على هذا العنصر لا سيما حين استعاد السرد أهميته بوصفه أصل الآداب والعلوم وأخذت العلاقة الجدلية بين الشعر والنثر تتبدل تدريجيًا من ناحية الصوت وتعالقه بالمعنى والشكل وأثره في الدلالة. ومن ذلك التبدل أن صارت الموسيقى عنصرًا ثانويًا يمكن الاستغناء عنه بالدلالة السردية كمقتضى من مقتضيات هيمنة السرد في قصيدة النثر، ليكون المهم في الشعر هو وحدة الشكل والموضوع في التعبير عن المشاعر والخلجات وما توجبه هذه الوحدة من تخط للأذن والاعتماد بدل ذلك على العين في تلقي قصيدة النثر.
وما كان لقالب قصيدة النثر أن يكون عابرًا لولا هذه المقتضيات التي أعادت الشعر إلى أصوله السردية حتى لا فاصل في الأدب بين ما هو شعري وسردي وفني وموضوعي. بيد أن هذه المقتضيات لا تعني أن هذه القصيدة النثر فوق التجنيس أو أنها بنية متداخلة نصيًا وبلا إجناسية، بل إن لها تجنيسها المستقل والتام بقدرتين: قدرتها المرنة في أن تجمع الرسوخ والاتحاد والاستقلال بالاحتواء والتجسير والضم، وقدرتها في أن تعبر في حدود إطارية تجنيسها على غيرها من الأشكال والأنواع وحتى الأجناس لتضمها داخل قالبها.
وليست قصيدة النثر تشكيلًا بنائيًا خاليًا من الانتظام الإيقاعي على مستوى المقاطع أو الأسطر، ولا هي قصيدة النثر جنس نشأ من الفراغ وأن لا تراكمية أجناسية منها وُلد كيانها، بل بالعكس هي موقعة أو إيقاعية وقد يتعدى فيها الإيقاع ـــ بحثًا عن الإيجاز في التفعيلات والاتساع في الدلالات ــــ إلى أن يكون واقعًا في بحر من بحور ذات التفعيلة الواحدة كالوافر والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك.
ولا خلاف في أن القصيدة كشكل ومحتوى هي حصيلة مخاض أجناسي مارسه الشعراء وهم يحاولون التمرد على الأجناس السائدة والكبرى، سواء في ترابط القصائد مع بعضها بعضًا أو في تطورها وما يحكم هذا التطور من قوانين أعانت الشعراء على اختيار المجرى الشعري المناسب للنشاط التطويري الذي يمارسونه.
وقد يقال إن حتمية السبب والنتيجة ملغاة في حالة قصيدة النثر، بيد أن الصحيح هو أنهما حاضران ويعكسان الملامح الجوهرية والأكثر شمولية للعلاقة بين الشكل الجمالي للشعر والدلالة الموضوعية له وذلك بوصف الشكل نتيجة ومسببها الدلالة التي هي جوهر قصيدة النثر.
ولا يعني هذا أن قصيدة النثر مجرد ضرورة وصدفة ومن ثم لا حقيقة ترتكن إليها في عالم الفن وكل ما يرتبط بها من مقولات ومفاهيم لا علاقة لها بالإحساس الجمالي والانفعال الوجداني. فهذا مردود قلبًا وقالبًا بمقتضيات نبذ البعد الشفاهي للشعر والتركيز على البعد البصري والذهني اعتمادًا على التأمل وإدراكًا لأهمية العقل في التعبير عن العواطف والرؤى ضمن عالم موضوعي لم يعد للعواطف فيه مكان لا سيما إذا علمنا أن الفلاسفة القائلين بالمثالية الموضوعية أعاروا اللسان اهتمامًا فقط من ناحية المقولات النظرية بينما أولوا الفكرة وتطورها اهتمامًا بوصفها هي الروح الكلية بحسب هيغل.
وعلى وفق هذه الإيضاحات التي تبرئ قصيدة النثر من كثير من التقولات التي لا أساس لها من الصحة، يكون تأثير ما هو بصري قرائي على صعيد الإدراك الذهني أطول أمدًا من تأثير ما هو شفاهي مسموع على صعيد التلقي العاطفي.
ولا نريد أن نقول إن لا مكان بتاتًا للمشاعر في عالمنا اليوم، القاسي بماديته واستهلاكيته، لكننا نقول إن الواقع الموضوعي يفترض أن تكون فيه للعقل وظائف جديدة يتجرد فيها من بعض مثاليته، مغيرًا بعض ثوابت فروضه، وهو ما يتجسد عمليًا في قصيدة النثر التي معها تفاعل الخاص والعام حتى صار العام في الخاص والخاص في العام مشتركين في صفات ما زال بعض الجامدين يعتقدون أنها غير موجودة أو أن لا نموذج لها.
ولما كان اللسان معبرًا عن محتوى تغدو الكتابة معبرة عن شكل المحتوى الذي قد يكون محدودًا وقد يكون مكيفًا وفعالًا جدًا. أما السؤال أيهما يقرر الآخر الشكل أم المحتوى؟ فجوابه أنّ محتوى قصيدة النثر هو الذي يقرر الشكل، فلا سلبية إذًا في علاقة الشكل بالمحتوى بمعنى أن غياب الموسيقى كعنصر لن يؤثر في شكل المحتوى لقصيدة النثر بل سيعزز أحدهما الآخر ولن يعيقه.
إن (الدلالة) هي جوهر قصيدة النثر وهي أيضًا سبب الظاهرة الناجمة عنها كحاصل جمع العناصر بالوظائف وكسيادة تتأكد جدواها في تطور الإنتاج الشعري وتلقيه. ولا شك في أن الضرورة تنبع من الجوهر كما أن لا تمييز بين الجوهر والظاهرة لأن كليهما واحد يتمظهر في شكل المحتوى. وبذلك تكون قصيدة النثر تطبيقًا معرفيًا فعالًا للعالم الخارجي وقوانينه المؤثرة على الإنسان وأحاسيسه. ولقد تحدد نجاح قصيدتي العمود والتفعيلة بقدرتهما على تحقيق الإدراك الذاتي الحسي بالعالم. أما نجاح قصيدة النثر فيتوقف على الاستنفار الحسي لذلك الإدراك في تنمية الفكر والمعرفة في النظر للعالم الموضوعي. لتكون هذه الأجناس الشعرية الثلاثة هي المجسدة لمعرفتنا بالحقيقة النسبية الموضوعية في كليتها ومنطقية إدراكها الآني أيضًا.
وإذا كان التطبيق اللساني هو نفسه التطبيق الكتابي في تحصيل تلك الحقيقة فعندها لن تكون الإشكالية في الشعر إشكالية موسيقية صوتية بل هي في الأساس إشكالية فكرية دلالية.
(العراق).
نادية هناوي 25 يناير 2023
آراء
كاليغراف للفنان الفلسطيني علي صلاح بلداوي، 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا خلاف في أن المعرفة عمومًا والعلوم والآداب تحديدًا تتضمن كثيرًا من الميادين المجسرة والفروع المتداخلة. وإذا أخذنا من العلوم علم الصوت ومن الآداب السرد، فإن الشعر سيكون هو الفن الذي يملك من المصنفات ما يمكن معه تقسيمها إلى أجناس. وفي كل جنس يجتمع العلمي الموسيقي بالأدبي السردي. وبذلك لا يكون الركون إلى الموسيقى وحدها هو الذي يجعل الشعر مضبوطًا ونظاميًا، بل يمكن الركون إلى الإيقاع أيضًا. وقد يكون الإيقاع وحده كافيًا لأن يجعل الشعر مضبوطًا أو مضافًا له ما هو دلالي.
وإذا كانت قصيدة النثر هي أصل الشعر وقاعدته قبل تقعيد الشعر وظهور أوزانه، فإن الموسيقى هي العامل الكلي الذي معه احتاجت القصيدة الغنائية إلى استعمال آلة موسيقية وبسبب جزئية الموسيقى احتاجت القصيدة الملحمية إلى التدوين وبسبب هذه الجزئية احتاجت القصيدة المسرحية إلى الحركات والرقص ثم فرضت كلية الموسيقى على القصيدة التعليمية توظيف العقل والذاكرة وليس العاطفة والحركة. ثم كان لغياب الموسيقى أن أعاد الشعر إلى أصوله الأُولى، أعني قصيدة النثر. وبذلك تكتمل تاريخية الشعر في دورة لا نهائية تبدأ من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ.
وإذ ظلت الموسيقى عنصرًا رئيسًا من عناصر شعرنا العربي على طول تاريخه، فإن بعض التغييرات الحداثية طرأت على هذا العنصر لا سيما حين استعاد السرد أهميته بوصفه أصل الآداب والعلوم وأخذت العلاقة الجدلية بين الشعر والنثر تتبدل تدريجيًا من ناحية الصوت وتعالقه بالمعنى والشكل وأثره في الدلالة. ومن ذلك التبدل أن صارت الموسيقى عنصرًا ثانويًا يمكن الاستغناء عنه بالدلالة السردية كمقتضى من مقتضيات هيمنة السرد في قصيدة النثر، ليكون المهم في الشعر هو وحدة الشكل والموضوع في التعبير عن المشاعر والخلجات وما توجبه هذه الوحدة من تخط للأذن والاعتماد بدل ذلك على العين في تلقي قصيدة النثر.
وما كان لقالب قصيدة النثر أن يكون عابرًا لولا هذه المقتضيات التي أعادت الشعر إلى أصوله السردية حتى لا فاصل في الأدب بين ما هو شعري وسردي وفني وموضوعي. بيد أن هذه المقتضيات لا تعني أن هذه القصيدة النثر فوق التجنيس أو أنها بنية متداخلة نصيًا وبلا إجناسية، بل إن لها تجنيسها المستقل والتام بقدرتين: قدرتها المرنة في أن تجمع الرسوخ والاتحاد والاستقلال بالاحتواء والتجسير والضم، وقدرتها في أن تعبر في حدود إطارية تجنيسها على غيرها من الأشكال والأنواع وحتى الأجناس لتضمها داخل قالبها.
وليست قصيدة النثر تشكيلًا بنائيًا خاليًا من الانتظام الإيقاعي على مستوى المقاطع أو الأسطر، ولا هي قصيدة النثر جنس نشأ من الفراغ وأن لا تراكمية أجناسية منها وُلد كيانها، بل بالعكس هي موقعة أو إيقاعية وقد يتعدى فيها الإيقاع ـــ بحثًا عن الإيجاز في التفعيلات والاتساع في الدلالات ــــ إلى أن يكون واقعًا في بحر من بحور ذات التفعيلة الواحدة كالوافر والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك.
"لا يكون الركون إلى الموسيقى وحدها هو الذي يجعل الشعر مضبوطًا ونظاميًا، بل يمكن الركون إلى الإيقاع أيضًا. وقد يكون الايقاع وحده كافيًا لأن يجعل الشعر مضبوطًا أو مضافًا له ما هو دلالي" |
وقد يقال إن حتمية السبب والنتيجة ملغاة في حالة قصيدة النثر، بيد أن الصحيح هو أنهما حاضران ويعكسان الملامح الجوهرية والأكثر شمولية للعلاقة بين الشكل الجمالي للشعر والدلالة الموضوعية له وذلك بوصف الشكل نتيجة ومسببها الدلالة التي هي جوهر قصيدة النثر.
ولا يعني هذا أن قصيدة النثر مجرد ضرورة وصدفة ومن ثم لا حقيقة ترتكن إليها في عالم الفن وكل ما يرتبط بها من مقولات ومفاهيم لا علاقة لها بالإحساس الجمالي والانفعال الوجداني. فهذا مردود قلبًا وقالبًا بمقتضيات نبذ البعد الشفاهي للشعر والتركيز على البعد البصري والذهني اعتمادًا على التأمل وإدراكًا لأهمية العقل في التعبير عن العواطف والرؤى ضمن عالم موضوعي لم يعد للعواطف فيه مكان لا سيما إذا علمنا أن الفلاسفة القائلين بالمثالية الموضوعية أعاروا اللسان اهتمامًا فقط من ناحية المقولات النظرية بينما أولوا الفكرة وتطورها اهتمامًا بوصفها هي الروح الكلية بحسب هيغل.
وعلى وفق هذه الإيضاحات التي تبرئ قصيدة النثر من كثير من التقولات التي لا أساس لها من الصحة، يكون تأثير ما هو بصري قرائي على صعيد الإدراك الذهني أطول أمدًا من تأثير ما هو شفاهي مسموع على صعيد التلقي العاطفي.
ولا نريد أن نقول إن لا مكان بتاتًا للمشاعر في عالمنا اليوم، القاسي بماديته واستهلاكيته، لكننا نقول إن الواقع الموضوعي يفترض أن تكون فيه للعقل وظائف جديدة يتجرد فيها من بعض مثاليته، مغيرًا بعض ثوابت فروضه، وهو ما يتجسد عمليًا في قصيدة النثر التي معها تفاعل الخاص والعام حتى صار العام في الخاص والخاص في العام مشتركين في صفات ما زال بعض الجامدين يعتقدون أنها غير موجودة أو أن لا نموذج لها.
ولما كان اللسان معبرًا عن محتوى تغدو الكتابة معبرة عن شكل المحتوى الذي قد يكون محدودًا وقد يكون مكيفًا وفعالًا جدًا. أما السؤال أيهما يقرر الآخر الشكل أم المحتوى؟ فجوابه أنّ محتوى قصيدة النثر هو الذي يقرر الشكل، فلا سلبية إذًا في علاقة الشكل بالمحتوى بمعنى أن غياب الموسيقى كعنصر لن يؤثر في شكل المحتوى لقصيدة النثر بل سيعزز أحدهما الآخر ولن يعيقه.
إن (الدلالة) هي جوهر قصيدة النثر وهي أيضًا سبب الظاهرة الناجمة عنها كحاصل جمع العناصر بالوظائف وكسيادة تتأكد جدواها في تطور الإنتاج الشعري وتلقيه. ولا شك في أن الضرورة تنبع من الجوهر كما أن لا تمييز بين الجوهر والظاهرة لأن كليهما واحد يتمظهر في شكل المحتوى. وبذلك تكون قصيدة النثر تطبيقًا معرفيًا فعالًا للعالم الخارجي وقوانينه المؤثرة على الإنسان وأحاسيسه. ولقد تحدد نجاح قصيدتي العمود والتفعيلة بقدرتهما على تحقيق الإدراك الذاتي الحسي بالعالم. أما نجاح قصيدة النثر فيتوقف على الاستنفار الحسي لذلك الإدراك في تنمية الفكر والمعرفة في النظر للعالم الموضوعي. لتكون هذه الأجناس الشعرية الثلاثة هي المجسدة لمعرفتنا بالحقيقة النسبية الموضوعية في كليتها ومنطقية إدراكها الآني أيضًا.
وإذا كان التطبيق اللساني هو نفسه التطبيق الكتابي في تحصيل تلك الحقيقة فعندها لن تكون الإشكالية في الشعر إشكالية موسيقية صوتية بل هي في الأساس إشكالية فكرية دلالية.
(العراق).