في رحيل أندريه ميكيل: العربية عشيقته الأبدية
بوعلام رمضاني 4 يناير 2023
آراء
شارك هذا المقال
حجم الخط
ليس من السهل إطلاقًا أن أكتب عن الراحل أندريه ميكيل المبدع الإستثنائي بعقلانية شبه مطلقة وبرصانة مطلوبة مهنيًا، وسأحاول تبرير ذاتية يفرضها الحزن الذي يخترق جسدي وروحي في هذه اللحظة. لن أترك مشاعري تجرفني نحو شاطئ هلاك الذاتية المفرطة، وسأوظف العلاقة الشخصية التي ربطتنني به خدمة وتكريسًا للمقاربة الإبداعية ـ كما لم يحدث لي من قبل مع مبدع عربي أو أجنبي وفرنسي تحديدًا في ديار الغربة اللعينة في كل الأحوال بتقديري المتواضع. إنها العلاقة التي مكنتني من مقاربته انطلاقًا من خصوصيات وحقائق أخلاقية وشخصية خارقة وغير عادية، ومعلومات علمية وأدبية غير مسبوقة. حقائق انفردت بها "ضفة ثالثة " في شتاء عمر العظيم والمتواضع، ولا يعرفها عنه إلا من دخل بيته لمحاورته علميًا وصحافيًا على مدار أكثر من عام قبل أن يرحل بقليل بعد معاناة رهيبة مع العزلة والتهميش ونكران معظم أبناء وطنه لما قدمه للإنسانية كعالم وكاتب وأديب وباحث ومترجم يندر مثيله. كان الأمر التراجيدي كذلك، في وطن انطفأ جزء كبير من أنواره، والذي أضحى ظلاميًا كما أكد ذلك إعلام فرنسي متحدثًا بإسهاب عن رحيل بيليه ومذّكرًا بتعزيات الرئيس ماكرون ورؤساء وملوك المعمورة. هذا الإعلام الذي يعطي أصحابه دروسًا في المهنية، طمس وجود ميكيل ميتًا تمامًا كما تم معه حيًا، واقتصرت إطلالته على التناول الخبري التقليدي الذي فرضه الراحل عنوة على القنوات الإخبارية المعادية له بحكم توجهها الذي يستمر في ربط اللغة العربية والإسلام بالإرهاب عبر قنوات معروفة بأهدافها الظاهرة للعيان والآخرى المبطنة.
"العربية عشيقتي الأبدية"
ابن وطن موليير وفولتير وبودلير لم يقارب عالمنا العربي والإسلامي بكل أشكال التنميط الفولكلوري كما قاربه من قبل فيكتور هوغو وبروست وشاتوبريان ومعظم الفنانين التشكيليين الفرنسيين، وعلى رأسهم أوجين دولاكروا في لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" الناطقة بالشهوة والشبقية الجنسية خلافًا لبيكاسو الذي خلّد من خلالها لاحقًا ثورية نساء الجزائر، ومستشرقون بريطانيون تناولهم إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" على طريقة ما يقوم به اليوم ميشيل ولبيك وإريك زمور وألان فينكلكروت وبرنار هنري ليفي ومن لف لفهم من المثقفين المزيفين على حد تعبير باسكال بونيفاس الذي لم يعد قادرًا على انتقاد إسرائيل منذ أن هدّد بالموت في مطار بن غوريون. عشق الراحل ميكيل بصدق وحكمة في الوقت نفسه اللغة العربية وهام بها، وربطها بعالم أبدع جهابذته في مجالات علمية وأدبية عديدة قبل أساطين أوروبا وفرنسا بكثير، كما أكد لي في كتابي "أندري ميكيل: الحكيم عاشق الشرق" الصادر حديثًا عن دار الأمير بمرسيليا. وخلافًا لكاتب ياسين، الروائي الذي قال "اللغة العربية لغة ميتة"، ولكتاب غير قليلين من العرب المتنورين الذين قالوا إن العربية قاصرة إبداعيًا في المجال الأدبي ولغة احتشام ومحافظة، قال الراحل العام الماضي عن لغة الضاد (الحرف الذي وضعه بيني وبينه في شكل تحفة فنية أهدتها له اليونسكو) وأنا أحاوره في بيته الذي لن أستطيع دخوله بعد اليوم: "كنت وسأبقى عاشقًا للغة العربية التي سحرتني بتاريخها وبخصوصياتها الكثيرة مقارنة بلغات أخرى. ستبقى عشيقتي الأبدية برغم تقدمي في السن، وستبقى حية في قلبي، وستنتهي قصة حبي لها مع موتي. وحده الذي يدرس تاريخ اللغة العربية، والإنجازات العلمية والفكرية والفنية التي تمت بها، يعرف قيمة هذه اللغة والدور الحضاري الذي لعبته عالميًا وأوروبيًا. إن اللغة العربية التي أعشقها، ليست هي اللغة التي يحتقرها بعضهم، ويتحدث عنها البعض الآخر بطريقة غير سليمة. لقد قضيت حياتي أعمل بهذه اللغة مدّرسًا وباحثًا وشاعرًا ومترجمًا وكاتبًا، وأشهد أنني كنت أكتشف غناها المبهر في كل مرة ومن يوم لآخر".
قبل الموت بقليل
ربطتني بالراحل علاقة تاريخية غير مسبوقة في مسار حياتي المهنية كصحافي تحول إلى صديق لا يجامل، تمامًا مثل الراحل حينما يتعلق الأمر بأراء يؤمن بها، ويعاتب من خلالها كمحب صادق أهلها الضالين دون نفاق، وخاصة أولئك الذين ألحقوا بها الضرر تحت وطأة التطرف الوطني الشوفيني والقاتل. هذه العلاقة التي أعلقها وسامًا على صدري في زمن الأوسمة المزيفة، هي العلاقة التي مكنتني من الظفر بشكر جديد وصلني يوم الخامس عشر من الشهر الماضي عبر هاتف ابنته كلود. أصرت يومها كلود على أن أسمع صوت والدها لآخر مرة وهو في عمق سرير الموت على حد قولها في رسالة لاحقة، وفعلًا، أسمعني شكره الأخير وأنا أبكي متألمًا في لحظة لا أحسد عليها وأحسد عليها في الوقت نفسه. تحدث يومها بصعوبة كبيرة بسبب صعوبة التنفس مكررًا شكره لي كما كان يفعل في نهاية الحوارات التي جمعتني به لأكثر من عام على مرأى ومسمع ابنته كلود وصهره كريستوف، الزوج المثقف الذي كان يرافق زوجته في كثير من الأحيان لزيارة صهره أندريه الرجل العظيم، هو نفسه الذي رد على اتصالي صبيحة السابع والعشرين الماضي يوم وفاة مترجم كبار الشعراء العرب و"كليلة ودمنة" و"مجنون ليلى" و"ابن زيدون" و"ألف ليلة وليلة" ومؤلف كتاب "الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي " في أربع طبعات أخذت منه 15 عامًا وهو العمل الذي قال لي عنه في حوار نشرته "ضفة ثالثة" عام 2018: "إنه أهم عمل أعتز به، وسيخلد كتاباتي أكثر من أي عمل آخر". سقط علي خبر رحيله كالصاعقة وأنا في سوق الحميز شرق العاصمة الجزائرية مجبرًا على شراء مواد ضرورية لتنفيذ أشغال لا تمت بصلة للثقافة وللشعر ولو أنه بإمكان البناء أو الماصو (كما يقول المعربون والمفرنسون عن الشخص الذي يبني بيوتهم قبل إصابتهم بالجنون) أن يبدع ثقافيًا ما دام البناء ثقافة كما تعبر عن ذلك بنايات بديعة تسر الناظر وأخرى عن فساد وتدني الذوق وترعب وترهب مشاهديها بطريقة صلبة وناعمة.
هذا الرجل الفذ الذي التحق متأخرًا بزوجته في سن الثالثة والتسعين يوم السابع والعشرين من الشهر الماضي في دار للمسنين قريبة من بيته الكائن في الدائرة الخامسة عشرة بباريس كما كان يتمنى، وبابنه بيار الذي رثاه شعريًا باللغة العربية، خلّد عالمنا العربي والإسلامي بكافة ضروب الإبداع الأدبي والبحث العلمي على امتداد قرابة 70 عامًا بعشرات الكتب التي ستبقى مراجع تاريخية لا يمكن القفز عليها لمن يريد أن يعرف عربًا ومسلمين تركوا إرثًا علميًا وأدبيًا لا نجده في كتب عربية أو أجنبية بالشكل الذي قدمه بهم الراحل للعالم بلغتي موليير وسيبويه. ميكيل الذي دخل حياتي الخاصة والمهنية ليس كعالم وأديب ومؤرخ لا يشق له غبار فحسب، بل أيضًا كإنسان وصديق في قمة الود والأخلاق والرقة واللطف، كان يصر على إلباسي معطفي في مثل هذه اليوم قبل ثلاثة أعوام في سن التسعين قبل مغادرة بيته، والوقوف عند باب شقته حتى يطمئن من دخولي المصعد، كما كان الرجل الذي يسأل عن أحوال صحة أمي المقعدة، ويصر على تأجيل مواعيد حواراتنا حينما يدرك بحدسه أنني غير قادر على التنقل من ميتري موري الضاحية التي أقطن بها إلى باريس لسبب صحي أو طارئ شخصي أو عائلي أو مهني. وقصة كتابي عنه ـ الذي سأعود إليه في وقفة ثانية- ليست قصة عادية بكل المعايير. إنها القصة التي تؤرخ لرجل قضى حياته يمجّد تراثنا الأدبي وتاريخنا العلمي مضيئًا بصدق عن ما يجهله معظم الأوروبيين عن أمة أصبحت مرتبطة بالإرهاب فقط في زمن أشباه مثقفين يتقدمهم إريك زمور الذي كان يمقته الفقيد. قصة علاقتي مع المبدع العجيب والحكيم لن تموت رمزيًا ومهنيًا وأدبيًا وأخلاقيًا مثل صانعها، والفضل يعود في ذلك للصديق كاظم جهاد، الأستاذ في المعهد الوطني للدراسات الشرقية (إينالكو)، الذي سيمثلني في جنازته التي ستتم في القرية التي خلدّها شعريا إلى جانب الأستاذ الصديق الآخر فاروق مردم بك، مدير سلسلة سندباد العربية في دار "أكت سود" بباريس والصديقة الشاعرة لويزة ناظور. أنا المضطر أن أبقى جنب أمي المقعدة قدر المستطاع في الجزائر، حظيت بما لم أكن أحلم به يومًا ما خمس مرات. الأولى، حينما كان الراحل سبب تعرفي على الشاعرة المبدعة ناظور التي سمعته يتحدث عني بحب مثل ابنته كلود الفنانة التشكيلية التي رافقتها تشكيليًا في ديوانها الأخير. كانت المرة الثانية حينما راسلتني كلود إلكترونيًا تسأل عن تاريخ عودتي إلى باريس قائلة: "سيكون أبي سعيدًا لرؤيتك قبل رحيله فمتى تصل لأحجز لك زيارة لدار المسنين حيث يمكث أبي في عمق سرير الموت؟". وكانت المرة الثالثة حينما اتصلت بها للرد فوجدتها أمام والدها الذي شكرني لآخر مرة وهو يتحدث بنفس متّقطع عن الكتاب الذي ألفته عنه في شكل حوارات جمعتني به لأكثر من سنة. في المرة الرابعة اتصلت لتعزيتها باكيًا، وردّ زوجها كريستوف بدلها. كان ذلك صبيحة يوم وفاته، وعوض أن أسبقه لتعزيته راح يعزيني. وكانت المرة الخامسة والأخيرة عندما زار الصديق الأستاذ كاظم للمرة الثانية أو الثالثة الراحل حاملًا حاسوبه قبل أن يخبرني في رسالة قصيرة عبر واتساب أنه فتحه عمدًا حتى يتمكن الراحل ميكيل من رؤية كتابي وليعزيني، وكنت قد تلقيت رسالة ثانية من كلود جاء فيها: "بوعلام لا تحزن. لقد شاهد أبي كتابك الأخضر اللون عبر حاسوب الصديق كاظم، وقرأ عنوانه ورأى صورته جنب صورتك، ورحل سعيدًا بكتاب ألف عنه في حياته". هل سأطمح بالحصول على سعادة أكبر من السعادة التي مكنني منها من خلّد تراث وإبداع جلدتي الحضارية كما لم يفعل أحد قبله؟ لا بالتأكيد. معذرة أندريه... لن أتمكن من حضور جنازتك، وأعدك بأن أضع كتابي بنسختيه العربية والفرنسية على قبرك قامعًا دموعي قدر المستطاع بعد ترحمي عليك. لقد آمنت بالله رغم تربية علمانية لم تفرض عليك الإلحاد كما هو الشأن عند الكثير من العلمانيين، ولم يمنعك والدك العلماني لوسيان من مرافقة عمتك المتدينة إلى الكنيسة حينما كنت مراهقًا كما جاء ذلك في الفصل الثاني من كتابي الذي أسعدك. رحمك الله، وليس وداعًا.
بوعلام رمضاني 4 يناير 2023
آراء
شارك هذا المقال
حجم الخط
ليس من السهل إطلاقًا أن أكتب عن الراحل أندريه ميكيل المبدع الإستثنائي بعقلانية شبه مطلقة وبرصانة مطلوبة مهنيًا، وسأحاول تبرير ذاتية يفرضها الحزن الذي يخترق جسدي وروحي في هذه اللحظة. لن أترك مشاعري تجرفني نحو شاطئ هلاك الذاتية المفرطة، وسأوظف العلاقة الشخصية التي ربطتنني به خدمة وتكريسًا للمقاربة الإبداعية ـ كما لم يحدث لي من قبل مع مبدع عربي أو أجنبي وفرنسي تحديدًا في ديار الغربة اللعينة في كل الأحوال بتقديري المتواضع. إنها العلاقة التي مكنتني من مقاربته انطلاقًا من خصوصيات وحقائق أخلاقية وشخصية خارقة وغير عادية، ومعلومات علمية وأدبية غير مسبوقة. حقائق انفردت بها "ضفة ثالثة " في شتاء عمر العظيم والمتواضع، ولا يعرفها عنه إلا من دخل بيته لمحاورته علميًا وصحافيًا على مدار أكثر من عام قبل أن يرحل بقليل بعد معاناة رهيبة مع العزلة والتهميش ونكران معظم أبناء وطنه لما قدمه للإنسانية كعالم وكاتب وأديب وباحث ومترجم يندر مثيله. كان الأمر التراجيدي كذلك، في وطن انطفأ جزء كبير من أنواره، والذي أضحى ظلاميًا كما أكد ذلك إعلام فرنسي متحدثًا بإسهاب عن رحيل بيليه ومذّكرًا بتعزيات الرئيس ماكرون ورؤساء وملوك المعمورة. هذا الإعلام الذي يعطي أصحابه دروسًا في المهنية، طمس وجود ميكيل ميتًا تمامًا كما تم معه حيًا، واقتصرت إطلالته على التناول الخبري التقليدي الذي فرضه الراحل عنوة على القنوات الإخبارية المعادية له بحكم توجهها الذي يستمر في ربط اللغة العربية والإسلام بالإرهاب عبر قنوات معروفة بأهدافها الظاهرة للعيان والآخرى المبطنة.
"العربية عشيقتي الأبدية"
ابن وطن موليير وفولتير وبودلير لم يقارب عالمنا العربي والإسلامي بكل أشكال التنميط الفولكلوري كما قاربه من قبل فيكتور هوغو وبروست وشاتوبريان ومعظم الفنانين التشكيليين الفرنسيين، وعلى رأسهم أوجين دولاكروا في لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" الناطقة بالشهوة والشبقية الجنسية خلافًا لبيكاسو الذي خلّد من خلالها لاحقًا ثورية نساء الجزائر، ومستشرقون بريطانيون تناولهم إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" على طريقة ما يقوم به اليوم ميشيل ولبيك وإريك زمور وألان فينكلكروت وبرنار هنري ليفي ومن لف لفهم من المثقفين المزيفين على حد تعبير باسكال بونيفاس الذي لم يعد قادرًا على انتقاد إسرائيل منذ أن هدّد بالموت في مطار بن غوريون. عشق الراحل ميكيل بصدق وحكمة في الوقت نفسه اللغة العربية وهام بها، وربطها بعالم أبدع جهابذته في مجالات علمية وأدبية عديدة قبل أساطين أوروبا وفرنسا بكثير، كما أكد لي في كتابي "أندري ميكيل: الحكيم عاشق الشرق" الصادر حديثًا عن دار الأمير بمرسيليا. وخلافًا لكاتب ياسين، الروائي الذي قال "اللغة العربية لغة ميتة"، ولكتاب غير قليلين من العرب المتنورين الذين قالوا إن العربية قاصرة إبداعيًا في المجال الأدبي ولغة احتشام ومحافظة، قال الراحل العام الماضي عن لغة الضاد (الحرف الذي وضعه بيني وبينه في شكل تحفة فنية أهدتها له اليونسكو) وأنا أحاوره في بيته الذي لن أستطيع دخوله بعد اليوم: "كنت وسأبقى عاشقًا للغة العربية التي سحرتني بتاريخها وبخصوصياتها الكثيرة مقارنة بلغات أخرى. ستبقى عشيقتي الأبدية برغم تقدمي في السن، وستبقى حية في قلبي، وستنتهي قصة حبي لها مع موتي. وحده الذي يدرس تاريخ اللغة العربية، والإنجازات العلمية والفكرية والفنية التي تمت بها، يعرف قيمة هذه اللغة والدور الحضاري الذي لعبته عالميًا وأوروبيًا. إن اللغة العربية التي أعشقها، ليست هي اللغة التي يحتقرها بعضهم، ويتحدث عنها البعض الآخر بطريقة غير سليمة. لقد قضيت حياتي أعمل بهذه اللغة مدّرسًا وباحثًا وشاعرًا ومترجمًا وكاتبًا، وأشهد أنني كنت أكتشف غناها المبهر في كل مرة ومن يوم لآخر".
قبل الموت بقليل
ربطتني بالراحل علاقة تاريخية غير مسبوقة في مسار حياتي المهنية كصحافي تحول إلى صديق لا يجامل، تمامًا مثل الراحل حينما يتعلق الأمر بأراء يؤمن بها، ويعاتب من خلالها كمحب صادق أهلها الضالين دون نفاق، وخاصة أولئك الذين ألحقوا بها الضرر تحت وطأة التطرف الوطني الشوفيني والقاتل. هذه العلاقة التي أعلقها وسامًا على صدري في زمن الأوسمة المزيفة، هي العلاقة التي مكنتني من الظفر بشكر جديد وصلني يوم الخامس عشر من الشهر الماضي عبر هاتف ابنته كلود. أصرت يومها كلود على أن أسمع صوت والدها لآخر مرة وهو في عمق سرير الموت على حد قولها في رسالة لاحقة، وفعلًا، أسمعني شكره الأخير وأنا أبكي متألمًا في لحظة لا أحسد عليها وأحسد عليها في الوقت نفسه. تحدث يومها بصعوبة كبيرة بسبب صعوبة التنفس مكررًا شكره لي كما كان يفعل في نهاية الحوارات التي جمعتني به لأكثر من عام على مرأى ومسمع ابنته كلود وصهره كريستوف، الزوج المثقف الذي كان يرافق زوجته في كثير من الأحيان لزيارة صهره أندريه الرجل العظيم، هو نفسه الذي رد على اتصالي صبيحة السابع والعشرين الماضي يوم وفاة مترجم كبار الشعراء العرب و"كليلة ودمنة" و"مجنون ليلى" و"ابن زيدون" و"ألف ليلة وليلة" ومؤلف كتاب "الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي " في أربع طبعات أخذت منه 15 عامًا وهو العمل الذي قال لي عنه في حوار نشرته "ضفة ثالثة" عام 2018: "إنه أهم عمل أعتز به، وسيخلد كتاباتي أكثر من أي عمل آخر". سقط علي خبر رحيله كالصاعقة وأنا في سوق الحميز شرق العاصمة الجزائرية مجبرًا على شراء مواد ضرورية لتنفيذ أشغال لا تمت بصلة للثقافة وللشعر ولو أنه بإمكان البناء أو الماصو (كما يقول المعربون والمفرنسون عن الشخص الذي يبني بيوتهم قبل إصابتهم بالجنون) أن يبدع ثقافيًا ما دام البناء ثقافة كما تعبر عن ذلك بنايات بديعة تسر الناظر وأخرى عن فساد وتدني الذوق وترعب وترهب مشاهديها بطريقة صلبة وناعمة.
"خلافًا لكاتب ياسين، الروائي الذي قال "اللغة العربية لغة ميتة"، ولكتاب غير قليلين من العرب المتنورين الذين قالوا إن العربية قاصرة إبداعيًا في المجال الأدبي ولغة احتشام ومحافظة، قال ميكيل: "كنت وسأبقى عاشقًا للغة العربية التي سحرتني بتاريخها وبخصوصياتها الكثيرة مقارنة بلغات أخرى" |