شقراء" أندرو دومينيك: لماذا يشوّه مارلين مونرو؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شقراء" أندرو دومينيك: لماذا يشوّه مارلين مونرو؟

    شقراء" أندرو دومينيك: لماذا يشوّه مارلين مونرو؟
    جورج كعدي 27 ديسمبر 2022
    آراء
    (Getty Images, 1955)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    لمن شاهد فيلم "شقراء"̸ Blonde على "نتفليكس" أن يعيد تصويب النظرة، وفق ما سأورده، إلى سيرة النجمة الساطعة مارلين مونرو (1926 - 1962) المولودة كنورما جين مورتنسون، والتي نعتها البعض بـ"الشقراء الساذجة"! وهي ليست شقراء وليست ساذجة، ففي الشكل ليست ذات شعر أشقر في الأصل بل فرض المنتجون وضرورات النجوميّة صبغ شعرها بهذا اللون، وفي المضمون كانت مارلين على قدرٍ عالٍ ووافٍ من الذكاء، أو ما كانت لتتمكّن من أداء الأدوار الكوميديّة والتراجيديّة بسويّة واحدة من الاقتدار والبراعة، وما كان ليقترن بها ويحتضنها عاطفيًّا ومعنويًّا كاتب مهمّ مثل آرثر ميلر، وما كان ليتبنّاها أيضًا إعدادًا تثقيفيًا وتمثيليًا شخص بوزن مايكل تشيخوف، الممثل القدير والمخرج والمؤلّف الروسيّ الأصل ونسيب الكاتب الروسيّ الكبير الخالد أنطون تشيخوف. فمايكل آمن بمارلين وبذكائها وحماستها لتطوير ثقافتها وموهبتها... هذا يناقض أي كلام منافق وكاذب عن سذاجة أو "حماقة" حاول كثر إلصاقها بالجميلة ذات الطفولة والسيرة الحزينتين، إذ عاشت مأساة عدم معرفة الأب، والمرض العصبيّ الذي كابدته الأمّ، وحياة الميتم والعيش في كنف العديد من العائلات التي تبنّتها لفترات متقطعة، معانيةً الفقر والجوع والحرمان، عدا التحرّشات بطفلة يافعة طريّة العود، خائفة، لا أب يحميها ولا أمّ.
    "ماذا فعل المخرج الأستراليّ أندرو دومينيك حين أمعن تشويهًا وتدميرًا في الأيقونة الجميلة التي يعشقها ملايين البشر"
    أوّلًا، ماذا فعل هذا المخرج الأستراليّ أندرو دومينيك̸ Andrew Dominik سيئ القصد والنيّة حين أمعن تشويهًا وتدميرًا في الأيقونة الجميلة التي يعشقها ملايين البشر، إذا لم نقل المليارات منهم، وعلى نحو فظّ، وقح، وعصابيّ؟ استند أندرو هذا إلى سيرة متخيّلة لمارلين مونرو، غير موثّقة وغير واقعيّة، لكاتبة أميركيّة ملفِّقة ورعناء تدعى جويس كارول أوتس̸ Oates صدرت عام 2000، وهي تمامًا نقيض السيرة الموثّقة، الجميلة والعميقة والمنصفة، التي وضعها لمارلين الكاتب الأميركي القدير والمشهور جدًا وصاحب العديد من سيناريوات الأفلام المهمّة في العصر الذهبي لهوليوود، بن هِكْت̸ Ben Hecht، مستقيًا وقائع من سيرة حياة مارلين نفسها. وفي هذه الحال مَنْ نصدّق؟ الكاتبة التي تخيّلت للنجمة، بسوء نيّة ولتحقيق أوسع انتشار لكتابها، سيرةً ملفّقةً ومؤذية؟ أم السيرة التي وضعها كاتب مبدع ومعروف وإن يكن، ويا للأسف، صهيونيّ الهوى والانتماء؟ الإجابة أكيدة: نصدّق بنْ هِكْت القدير والرزين ككاتب (لا كمعتنق للفكرة الصهيونية) ولا نصدّق أوتس الانتهازيّة المدمّرة التي توسّلها المخرج دومينيك مرتكزًا لفيلمه المسيء والمدمّر لصورة النجمة الحقيقيّة.
    أندرو دومينيك (Getty Images, Hollywood, 13/9/2022)
    يقدّم إلينا أندرو دومينيك رؤية سوداء قاتمة جدًا عن حياة مارلين مونرو المأساوية، إذ لم تعش أكثر من ستّة وثلاثين عامًا وتوفّت في ظروف غامضة لم تُكشف أسبابها حتى اليوم وتعدّدت الروايات حولها وتناقضت. والمؤسف أيضًا أنّ شريط دومينيك لم يعرض في صالات السينما بل عبر "تدفّق" (ستريمنغ) "نتفليكس"، ومن إنتاج شركة "Plan B" التي يملكها ويديرها الممثل بْراد بيت (أعتبره أيضًا شريكًا في جريمة تشويه صورة النجمة الخالدة)، والأدهى أنّ مهرجان البندقية السينمائيّ الدوليّ العريق تبنّى عرض الفيلم الملعون في مسابقته الرسميّة العام الفائت، بعد رفض مهرجان كانّ استضافته. والفيلم هو كل شيء سوى الحقيقة عن مارلين، فهو فيلم منحرف مهشِّم، ملفّق (عن سيرة ملفّقة)، مندفع في خطّ الاستفزاز والمبالغات، وحتّى الإروتيكية التي تلامس البورنوغرافيّة المهينة للوجه التاريخيّ الأسطوريّ، المملوء جمالًا ورقّة ورهافةً وسحرًا وفتونًا أنثويًّا لا يُضاهى وموهبة أكيدة وطموحًا إلى الأجود والأفضل سينمائيًا... تلك بعضٌ من صفات مارلين مونرو التي يُمعن فيها تشويهًا وتمزيقًا، كمن يطعن جسدًا ميتًا بالسكاكين، أو كمن يستميت في محو الأسطورة وصورتها العالقة في القلوب والعقول والمشاعر! أضف أنّ الممثلة الكوبيّة الأصل آنا دي آرماس̸ Ana de Armas، ورغم براعتها التمثيليّة التي أجمع عليها الجمهور والنقّاد، لا تصل إلى عشرة في المئة من صورة مونرو، وذلك ببساطة: لأنّ مارلين لا أحد يمكن أن يشبهها، جسدًا وروحًا، جمالًا ورقّةً، فالفراشة لها فرادتها ولا تُقَلّد.
    "عن طفولتها الأولى البائسة روت مارلين لبِنْ هِكْت، في ما روت، الآتي: "كنت أخال أن اللذين عشت معهما هما والديَّ، أناديهما (ماما) و(بابا). وقالت لي المرأة يومًا: لا تناديني (ماما)، أنت كبيرة بما يكفي لتميّزي الأمور على نحو أفضل. لا علاقة لي بك بأيّ شكل"!"
    صورة مارلين مونرو وفق ما يقدّمها هذا الفيلم القبيح هي صورة "اللحم الرخيص" ( بحسب تعبير الإخوة المصريين)، فهي امرأة سهلة المنال للرجال، تمارس الجنس بسهولة يمنةً ويسرةً، شبقة لا هاجس لديها سوى الجنس، تنتقل بيسر من رجل إلى آخر، ومن زوج إلى زوج، عُصابيّة̸ Nevrotic تصاب بنوبات هستيريّة وتتخاصم مع المخرجين (بالأخصّ بيلي وايلدر، مخرج التحفة التي شاركت مارلين فيها بشخصية رائعة مليئة جمالًا ورقّة أنثويّة خالصة، أي "البعض يفضله ساخنًا" ̸ Some like it hot الكوميديا البلا مثيل إبداعًا من إنتاج عام 1959)، مدمنة على الكحول والأدوية المهدّئة، مزاجيّة، عدوانيّة، متقلّبة المزاج، إلخ... يقذفها أندرو دومينيك بشريطه التافه (وقبله ارتكبت الكاتبة أوتس الجريمة نفسها) بأقذع الصفات وأقبحها، ولماذا؟! وماذا يجني من ذلك؟! هل أكثر من النجاح ولو على حساب سمعة إنسانة عاشت كلّ صنوف الحرمان والعذابات وماتت شابة بعد نجاح هائل وساحق وفي ظروف لُغزيّة غامضة؟! أليس واضحًا: تحقيق شهرة عبر التحريض والاستفزاز (Provocation) لحصد المال والنجاح والشهرة؟ هنا سوء النيّة في أوضح تجلّياته ولا أدنى شك في ذلك. أمّا البرهان المعاكس لما شاهدناه فيكمن في العودة إلى السيرة المنصفة، الرزينة، الحقيقية، المستندة إلى وقائع ترويها مارلين بنفسها لبِنْ هِكْت، وفي السيرة الجميلة هذه تنجلي لنا الحقيقة كاملةً، فماذا في هذه السيرة (وإن غير المكتملة) التي تناقض كل ما صوِّر خطأ وخطلًا في فيلم أندرو دومينيك؟
    استند أندرو إلى سيرة متخيّلة لمارلين مونرو، غير موثّقة وغير واقعيّة، لكاتبة أميركيّة تدعى جويس كارول أوتس صدرت عام 2000
    عن طفولتها الأولى البائسة روت مارلين لبِنْ هِكْت، في ما روت، الآتي: "كنت أخال أن اللذين عشت معهما هما والديَّ، أناديهما (ماما) و(بابا). وقالت لي المرأة يومًا: لا تناديني (ماما)، أنت كبيرة بما يكفي لتميّزي الأمور على نحو أفضل. لا علاقة لي بك بأيّ شكل. أنتِ تسكنين هنا فحسب. أمّك قادمة غدًا لرؤيتك، تستطيعين مناداتها (ماما) لو شئتِ. أجبتها: شكرًا لكِ، لم أكن أسألها عن الرجل الذي كنتُ أناديه (أبي). كان ساعي بريد. ألفتُ الجلوس على حافّة حوض الاستحمام صباحًا لأراه يحلق ذقنه وأطرح عليه أسئلة من نوع: أين اتجاه الشرق وأين اتجاه الغرب؟ أو كم عدد سكان العالم؟ وكان الوحيد الذي يجيبني عن أيّ سؤال. اللذان كنتُ أظنّهما والديّ كان لديهما أطفالهما. لم يكونا بخيلين، بل فقيرين فحسب، وما كانا يملكان الكثير ليعطياه لأحد، ولا حتى لأطفالهما. ولم يكن يبقى شيء لي. كنتُ في السابعة من عمري، غير أنّي كنت أشارك بحصّتي في العمل، أغسل الأرض والأطباق وأقوم بمهمّات مختلفة. أتت إليّ أمي في اليوم التالي. كانت امرأة جذابة لا تبتسم البتّة. قابلتها مرارًا قبل ذلك، إنّما لم أكن أعرف بالتحديد ماذا تعمل. وحين بادرتها هذه المرّة بـ: أهلًا ماما حدّقت إليّ. لم تقبّلني مرّةً ولم تأخذني بين ذراعيها ولم تحدّثني. ما كنت آنذاك أعلم عنها شيئًا، ولكن بعد سنين عرفت بعض الأمور. الآن، حين أفكّر في أمي يوجعني قلبي أضعاف ما كان يوجعني في يفاعي ويتألّم لكلتَيْنا. زوِّجت أمي في الخامسة عشرة من عمرها وكان لديها طفلان – قبلي – وكانت تعمل مونتيرة (مولّفة) أفلام في استوديو سينمائيّ. ذات يوم عادت إلى المنزل في وقت أبكر من المعتاد لترى زوجها الشاب يمارس الحبّ مع امرأة أخرى. حصل بينهما شجار عنيف وطردت زوجها بالقوة من المنزل. وفيما كانت أمي تبكي زواجها المنهار، عاد زوجها متسللًا وخطف طفليها. أنفقت كامل مدخراتها لاستعادتهما ولحقت بهما لفترة طويلة، واقتفت أثرهما أخيرًا إلى ولاية كنتاكي وسافرت في سيارات عابرين غرباء سعيًا لرؤيتهما. كانت محطّمة وتفقد كلّ قواها لدى رؤية طفليها مجدّدًا. كانا يعيشان في منزل رائع إذ تزوّج والدهما ثانيةً وأضحى ميسورًا. قابلته ولم تطلب منه شيئًا ولا قبّلت حتى ولديها (...) إذ رأتهما يمرحان ويلعبان في منزل جميل بين أناس سعداء، ولا بدّ أنّها تذكّرت كم كان وضعها مختلفًا في طفولتها، فوالدها أُخِذَ ليموت بعيدًا في مستشفى للأمراض العقليّة في مدينة باتّون، وجدّتها ماتت كذلك في مستشفى للأمراض العقلية، وانتحر شقيقها (...) عادت أمي إلى هوليوود من دون طفليها لتعاود عملها في توليف الأفلام. لم أكن قد وُلدتُ بعد. اليوم، اصطحبتني أمي من منزل ساعي البريد لكي أزور بيتها، وكان اليوم السعيد الأوّل الذي أتذكّره في حياتي. كنتُ زرتها قبل ذلك يوم كانت مريضة وغير قادرة على رعايتي أو الاحتفاظ بعملها. كانت تعطي ساعي البريد خمسة دولارات في الأسبوع ليوفّر لي سكنًا مع عائلته (...). اعتدتُ أن أكون خائفة لدى زيارتها وكنتُ أمضي معظم وقتي في خزانة غرفتها مختبئة بين ملابسها. نادرًا ما كانت تحادثني سوى لتقول لي: {لا تُصدري الكثير من الضوضاء يا نورما}. كانت تقول ذلك حتى عندما كنت متمدّدة في السرير ليلًا أقلّب صفحات كتاب. حتّى صوت تقليب الصفحات كان يجعلها عصبيّة (...)".

    بن هِكْت وكتابه عن سيرة مونرو
    هذا الجزء المتعلّق بمأساة الأمّ المولِّد لمأساة الطفلة لم يعالجه شريط دومينيك بطريقة إنسانيّة، مبالغًا في تصوير هستيريا الأمّ، وغير مُحسنٍ إبراز أوجاع الإبنة النفسيّة، كأنّنا في فيلم رعب وجنون ومسّ شيطاني وليس في مأساة عائلية. أمّا غياب الأب الغائب فحوّله أندرو دومينيك إلى عقدة متمادية ومستمرّة طوال سرده المشهديّ، وفي ذلك جزء نزير مبتسر من الحقيقة لا يراعي عذابات نورما جين (مارلين) التي آلمها حقًا عدم لقاء والدها مرّة واحدة على الأقلّ في حياتها، وبالتالي معيب استغلال آلام إنسان بنوع من الهزء والشماتة! ولمعرفة قصّة الأب عن لسان مارلين مونرو، أو نورما الطفلة، مثلما روتها لهِكْت، مستعيدةً تلك الفترة المريرة من حياتها ومتذكرةً: "هناك شيء واحد في غرفة أمّي كان يفتنني باستمرار: صورة معلقة على الجدار. لم تكن ثمة صور أخرى معلّقة، إلا تلك الصورة الوحيدة الموضوعة في كادر. وحين كنت أزور أمي كنت أقف محدّقة إلى تلك الصورة، حابسةً أنفاسي خشية أن تأمرني بالتوقف عن إمعان النظر فيها. اكتشفتُ أن الناس لطالما كانوا يأمرونني بالكفّ عن أمور أرغب في فعلها. تلك المرّة أمسكت بي أمي أثناء تحديقي إلى الصورة، إلاّ أنّها لم تؤنّبني ورفعتني عوض ذلك إلى كرسيّ كي أراها على نحو أفضل. هذا (والدك) قالت لي. شعرتُ بحماسة شديدة وكدت أقع عن الكرسي. بدا الأمر مبعث سعادة غامرة لي، أن يكون لي أب وأن يسعني النظر إلى صورته، وأن أدرك أنني أنتمي إليه. ويا لروعة الصورة! كان معتمرًا قبعة متدلّية جانبيًّا بطريقة جذلة. وكانت ابتسامة تشعّ من عينيه، وكان ذا شاربين رفيعين، مثل كلارك غيبل. شعرت بدفء كبير لدى وقوفي أمام الصورة. قالت لي أمي: "لقد مات بحادث سيّارة في نيويورك". كنتُ أصدّق أي شيء يخبرني إيّاه الناس آنذاك، لكن هذه القصة لم أصدّقها. لم أصدّق أنّ أبي قضى دهسًا. ولمّا كنتُ أسأل أمي عن اسمه لم تكن تجيب بل كانت تدخل غرفة النوم وتغلق الباب على نفسها. لاحقًا، بعد سنين، اكتشفت ما كان اسمه وأمورًا كثيرة عنه وكيف ألف العيش في الشقّة ذاتها في المبنى الذي عاشت فيه أمي، وكيف نشأت علاقة الحب بينهما، ثم كيف غادر فجأة وهجرها على مشارف ولادتي، ولم يرني البتة. الغريب أنّ كلّ ما سمعته عنه أشعرني بمزيد من الدفء حياله. تلك الليلة التي أمعنت فيها تحديقًا إلى صورته مكثت أحلم بها في نومي. حلمت بها ألوف المرّات بعد ذلك. كانت تلك الفترة الأكثر بهجةً لي عقب وقوعي على صورة أبي. وكنت أتذكر دومًا ابتسامته وقبعته المائلة فأحسّ بالدفء وبأنّني لستُ وحيدة. وعندما بدأتُ أحفظ قصاصات الصور في العام التالي كانت أوّل صورة أحفظها هي صورة كلارك غيبل لكونه يشبه أبي، بشاربيه الرفيعين خاصةً وطريقة وضع قبعته. أدمنتُ أحلام اليقظة، لا عن مستر غيبل، بل عن أبي. ولدى عودتي من المدرسة سيرًا على قدميّ وتحت هطول المطر وفي حالٍ من الضيق النفسيّ الشديد كنت أتخيّل أنّ أبي ينتظرني وأنّه سيوبّخني على عدم انتعالي الحذاء المطاطيّ، ولم أمتلك قطّ حذاء كهذا، ولا البيت الذي كنت أؤوب إليه كان يشبه أي بيت. كان مكانًا أعمل فيه كطفلة خادمة تغسل الأطباق والملابس وتمسح الأرض وتقوم بكل المهمّات ملتزمة الصمت. لكن في حلم اليقظة نقفز فوق الواقع بيسر، تمامًا مثلما يقفز القطّ فوق الحواجز. أبي سيكون في انتظاري – بذلك كنتُ أحلم – وسأدخل المنزل والابتسامة ملء شدقيّ. ذات مرّة، رقدتُ في المستشفى إثر جراحة استئصال اللوزتين ومكابدتي مضاعفات ما بعد العملية الجراحية، فظلّ يعاودني طيلة أسبوع حلم أبي سائرًا في رواق المستشفى ومتّجهًا نحو سريري وسط نظرات مرضى آخرين لا يصدّقون ما يرونه ويحسدونني على هذا الزائر فائق الجاذبية، وكنت أعانقه لوقت طويل وهو منحنٍ فوق سريري وأدعه يقبّل جبيني وأتبادل وإيّاه الأحاديث. {ستكونين بخير بعد أيام قليلة يا نورما جين. إني شديد الافتخار بتصرّفك، فأنت لا تبكين طيلة الوقت مثل الفتيات الأخريات}. وكنتُ أرغب في الطلب إليه لو يقبل بنزع قبعته، غير أني لم أستطع البتة الوصول إلى ذلك، حتّى في أعمق الأحلام، أي أن ينزع قبعته عن رأسه ويجلس (...)".
    "ردّت مونرو تحرشات رجال هوليوود النافذين، خاصةً المنتجين، بقوّة ولم تخضع لابتزازهم ونظرتهم إليها كامرأة "سهلة" أو "مباحة"، ما يؤكد بطلان ما يدّعيه فيلم "شقراء" الذي سعى لتشويهٍ وتزويرٍ للحقائق، ولتدمير صورة مارلين الشديدة الذكاء، والباحثة عن المزيد من إثبات الذات في عالم مليء بالوحوش الضارية"
    هذا السينمائيِّ لطّخ أيضًا سمعة مارلين حين جعلها امرأة شبقة Nymphomane، مهووسة بالجنس وتمارسه بسهولة فائقة مع أي رجل، حتى بدت لنا بحسب الفيلم امرأة مباحة ومستباحة من الجميع! فيما الحقيقة بحسب السيرة الواقعية التي خطّها بِنْ هِكْت أنّ مارلين كانت، على العكس، تأنف من الرجال وتصدّهم، إلاّ حين تقرّر كأيّ امرأة عاديّة وسويّة أنّها معجبة حقًا برجل ما وترغب في الزواج منه، مثلما فعلت في حال نجم البيسبول جو ديماجيو الذي انجذبت إليه ووقع هو في حبّها وتزوّجا ولم يستمرّ زواجهما بسبب غيرة جو عليها ومحاصرتها بطلبات "الحشمة" لباسًا وتصرّفًا وعدم إكمال مشوارها السينمائيّ الذي كانت تعشقه. ومن ثمّ زواجها من الكاتب المشهور آرثر ميلر الذي لم تشمله السيرة التي وضعها هِكْت لأنّها عمل غير مكتمل ̸ inachevé وفق ما يرد على غلاف النسخة الفرنسية التي نعتمدها.
    لقطة من الفيلم
    كيف عبّرت مارلين لبِنْ هِكْت عن نظرتها إلى الرجال، ومن ثمّ إلى النساء أيضًا. عن الرجال تقول بصريح العبارة: "(...) ثمة نوع من الرجال لم يرقني البتّة هو ذاك الذي يخشى إهانتك وينتهي به الأمر إلى إهانتك على نحو أسوأ من أيّ امرئ آخر. أفضّل كثيرًا أن يكون الرجل ذئبًا، ولو أراد أن يتحرّش بي فليفعل على الفور وينتهي الأمر. بادئ ذي بدء، مراودة امرأة عن نفسها ليس أمرًا مستهجنًا كثيرًا، فالرجال الذين يفعلون ذلك هم عادةً ذوو فتون وطلّة رائعة. وبعد، ليست المرأة في حاجة إلى الجلوس هنا وهناك برفقة ذئب والاستماع إلى حديث طويل مراوغ عن أرباح الضرائب ومشكلة الموقف الدولي في الهند، في انتظار أن تأتي رجلًا كهذا شجاعة كافية ليشرع في المغازلة. والأسوأ من هؤلاء المراوغين أولئك المغازلون الذين يتصرّفون مثل السامريّ الصالح، فهم المهتمّون بعملي ويريدون القيام بشيء عظيم لأجلي. هم غالبًا متزوّجون. لا أعني أن سائر الرجال المتزوّجين منافقون. الكثير منهم ذئاب وصريحون، يطلبون إليك صراحةً تجاوز واقع أنهم مرتبطون بزوجات - يعشقنهم في الظاهر – وسيكملون من هذه النقطة. ثمة على الدوام تفاوت بين الرجال. حتى الذئاب منهم يختلف أحدهم عن الآخر قليلًا (...). مزاج المرأة وروحها هما ما يحتاج الرجل إلى استثارتهما لجعل الجنس أمرًا مثيرًا للاهتمام. العاشق الحقيقيّ هو القادر على إثارة قشعريرة في داخلك، حين يمسّ عقلك فقط، أو حين يبتسم لك، أو حين يحدّق إلى الفراغ فحسب".

    أمّا عن النساء فتقول مارلين: "(...) عرفت الغيرة، وليس فيها من مزاح (...) أخبرني الرجال الكثير عن النساء: كم أنّ مغازلتهنّ تعطب الرجل، كم يفتعلن حالة الهستيريا لاستجداء العطف، وكم يتذمّرن ليزداد التعلّق بهنّ. حين ينظرن إليّ يخالنّ أني مختلفة عنهنّ في أمور كهذه، ما يثير غضبهنّ. حين أرى النساء ينظرن إليّ عابسات وينتقدنني في ما بينهنّ، أشعر بالأسى حقًا، لا من أجلهنّ، بل من أجل رجالهنّ. لديّ إحساس بأنّ هؤلاء النسوة عاشقات مسكينات وعاجزات في أمور الجنس. الأمر الوحيد القادرات على وهبه للرجل هو إشعاره بمزيج معقّد من الشعور بالذنب، فلو استطعن إشعاره بأنّه زوج سيّىء، أو عاشق غير سعيد بوجودهنّ، يحسبن أنفسهنّ {ناجحات}".

    امرأة مثل مارلين تعرف الرجال والنساء، على السواء، وتملك نظرة عميقة وصريحة بهذا القدر، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون امرأة متهوّرة (كما يصوّرها فيلم دومينيك)، خفيفة ونزقة وسهلة الانقياد (أيضًا كما يصوّرها الفيلم ذاته)، بل هي امرأة حكيمة، رزينة، هادئة، متأملة ومراقبة لأحوال المجتمع والناس. أضف إلى ذلك أمرًا غاية في الأهميّة، صدّها لرجال هوليوود النافذين، خاصةً المنتجين وسواهم من الذين لطالما أغدقوا عليها العروض الجنسيّة، بل تحرّشوا بها بوقاحة وفجور، فردّتهم بقوّة وحسم ولم تخضع لابتزازهم ونظرتهم إليها كامرأة "سهلة" أو "مباحة"، ما يؤكد بطلان ما يدّعيه فيلم "شقراء" الذي سعى بكل ما أوتي من قوة إلى تشويهٍ وتزويرٍ للحقائق، وإلى تدمير صورة مارلين الشديدة الذكاء، القويّة، الموهوبة، الطموحة والعميقة والباحثة عن المزيد من المعرفة والثقافة وإثبات الذات في عالم مليء بالوحوش الضارية، كما هي الحال في هوليوود ماضيًا وحاضرًا، وحتى في عالمنا العربيّ المماثل.



    *ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
يعمل...
X