أبرز عوامل قراءة الأدب وتلقّيه
أسامـة الصغيـر 20 ديسمبر 2022
آراء
(GettyImages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا توجد باعتقادي دراسات مُتخصِّصة تُوفِّر قاعدةَ مُعطيات حول مَقروئية الأدب في العالم العربي، والمغربُ جزءٌ من هذا الوضع، وبالتالي لا يُمكنُنا مقاربةُ إشكاليةِ التلقي على ضوء قاعدةِ مُعطياتٍ دقيقة، لكن باعتماد الملاحظة والتداوُل كواحدة من معايير الدراسة والاستِبيان حول الظواهر المُجتمعية، يُمكن أن نُسلِّط َالكاشفَ بدرجةٍ مُعيَّنة حول سُؤال تَلقّي الأدب، كَشِقٍّ من سُؤال القراءة الأكبر. في هذا السياق، كثيرا ما نَسمع امتعاضَ الكُتّاب والمُهْتَمِّين بقطاعِ الثقافة والنشر من النِّسَبِ الضَّحْلة للتَّلقي والقراءة، أي تقلُّصُ مجال التلقي بعد عبور النص مجالَ الكتابة والنشر، ولا شك في أن أُفول القارئ يُنذِر بمنظومةٍ سلوكيةٍ وقيمية بديلة تَغْزُو وتجتاحُ المجتمعَ أُفقيًا وعموديًا، سيما مع انتشار إبدالات الميديا في الزمن المرئي.
عند البحث في أسباب الإضراب الجماعي عن الكِتاب، نكاد نَسمع صوتًا نمَطيًا واحدًا، يُلقي اللائمةَ على القارئ/ المتلقّي المُتكاسل اللاهث خلف الماديات بديلًا عن الرمزيات، ومعه الجهات الرسمية من حيثُ غياب السياسات العمومية الداعمة والحافزة على القراءة، لكن كثيرًا وغالبًا ما لا نَجرُؤ على مُساءلة المُنجَز الكتابي في حد ذاته، ولنتَّفق مَبدئيًا على تَخصيص النقاش هنا حول الأدب، بالتالي فإننا نغفل أُسًّا مُهمًّا في محاولةِ تحليل وفهمِ عملية التلقّي والقراءة، وهو الأسُّ الأهمُّ والأجدر بالاستحضار والمُناقشة، لأنه أسٌّ يستطيعُ بدرجةٍ ما أن يتجاوز أعطابَ العُزوف الجماعي ويُخلخلَ رهاناتِ السياسات الرسمية بفعلٍ إبداعي مُقاوِم. إن نَصًّا قويًا جديرٌ بأن يَسموا على أعطاب المرحلة ولو بمقياس، وقَمينٌ بأن يَفتح كُوّةً للمُقاومة الثقافية الرمزية، ولنا في العديد من التجارب براهين ثابتة، وهو ما يَشي أن هناك خلايا قراءة نائمة تَنشط عندما تجدُ نَصَّها المُشتهى، فنكون في وضعيةِ الإثارة الإبداعية مُقابل الاستجابة القرائية التفاعُلية، وهو ما استوجبَ الوقوفَ عند حالةِ الروائي المغربي عبد الكريم جويطي نموذجًا.
على سبيل التوطِئة، فهو روائي أصدر سنة 1992 "ليل الشمس"، باكورة نُصوصه الروائية، فحازت جائزةَ اتحاد كُتّاب المغرب للأدباء الشباب، وبَشّرت بميلادِ كاتب نادر، ثم أصدر "زغاريد الموت" سنة 1996، و"زهرة الموريلا الصفراء" سنة 2003، ثم "كتيبة الخراب" سنة 2007، حيث كانت طفرةً جمالية في مساره السردي واختيرتْ ضمن القائمة الطويلة لأول نسخة من جائزة البوكر العربية سنة 2008، وصولًا إلى "المغاربة" سنة 2016، التي خَلخلت ثوابتَ التلقي الأدبي بالمغرب بعد أن كانت ضمن القائمة الطويلة للبوكر وحازت جائزةَ المغرب للكتاب، ونالت خمس طبعات وما لا يَقِلُّ عن مائتي مُتابعة ودراسة وحلقة نقاش وبحث جامعي في زمنٍ قياسي لم يتجاوز 4 سنوات. أما روايتُه "ثورة الأيام الأربعة"، فهي التي صدرت منذ أيام عن المركز الثقافي العربي بعد طول اعتكافٍ وعميقِ اشتغال، في أُفق إصدار أجزائها الثلاثة الأخرى، إذ هي مشروعُ أول رُباعية مغربية، وهو ما استرعى الانتباهَ للوقوف عند "ظاهرة" الكاتب جويطي.
صار إصدارُ روايةٍ لهذا الكاتب بمثابة عيد أدبي يَتُوقُ إليه قُرّاءُ الأدب ويَتسقّطون بَشائرَه، كاتبٌ له إمكانيةُ الإيقاظ وخلق الباعث في خلايا القراءة النائمة، حتى إن كُتُبَه بدءًا من "كتيبة الخراب" تُشكِّل منصّةً تواصُلية تلتقي فيها الطبقات والأجيال والفئات الاجتماعية والمهنية على اختلافها بشكل مُثير وفريد، تتداعى إليها كأنها أغوار المُواطَنة المغربية والأُفُق المُشترك في ظلِّ غيابِ منصّاتٍ للتداوُل والنقاش العمومي. وحتى نَفهم حالةَ جويطي أكثر نستحضرُ أنه ليس جامعيًا، ولا نجمَ ميديا، ليس صاحب منبر ثقافي، ولا رئيس لجنة تحكيم، ليس عضو جمعية مُمتدّة، وقليل الأسفار خارج مدينته الأُثيرة ولا ينتمي إلى المراكز الحضرية الكُبرى، أي ليس لديه ما يُغري الآخرين أو يَخلُق حولَه دائرةَ حواريين، بمعنى آخر لا يستطيعُ توجيهَ التلقي لأنه ليس وسائِطيًا في الإبداع والذُيُوع، له مَهابة الإبداع وسُلطة النص وحدها. وإذا كان المُفكر الأدبي الياباني هاسومي شيجاهيكو يرى أن الناقد هو الذي يوقظُ علامات نائمة داخل النص، فإن جويطي يُنجز هذه المهمّة بشكل ديالكتيكي، إنه يوقِظ ُعلامات وخلايا نائمة داخل المُجتمع، ونصُّه لا يحتاج وساطةَ الناقد ولا يَرجو شفاعتَه من حيثُ الوصول إلى المُتلقّي، لأنه نصٌّ حافلٌ بالنقد الواقعي، ينطلقُ من ذاتِ المُبدع إلى النشر ثم إلى التداوُل الواقعي العام دونما وساطة النقد، فيتقلّصُ دورُ الناقد أمام نَصِّ جويطي ويقتصر على التوثيق ضمن التجربة المغربية والعربية في تاريخ الأدب، لأن الشرطَ الجمالي الأعلى والأثرَ التنويري والمُكاشَفة يَتحقَّقان في التفاعُل المُباشر والعفوي مع القارئ، فَنَصُّهُ واحدٌ من هِبَات العناية السردية النادرة إلى الأدب المغربي المعاصر.
اعتمادًا على مُؤشِّرات التداوُل في مجال الأدب، يبدو أن نُصوص الأسماء التي تَكرّستْ بناءً على التراكُم الرمزي المُتَحَقِّق لديها، لا تُحقق أكثرَ من بِضع مئة نُسخةٍ مَبيعة عن كل كتاب في أحسن الأحوال، ورُبما نَرفع سقفَ النُسَخ قليلًا، سيما مع نصٍّ حظي بجائزة، لكن الأمر يتطلّب سنوات للتصريف، وهو استثناءٌ لا يُمكن القياسُ عليه. ولو أخذنا حالةَ الكاتب جويطي، نجد أن نصَّه "كتيبة الخراب"، قد خلق لذاتِه سُوقًا تداوُلية جديدة لدى القُرّاء بعد أن صدرت له طبعة ثانية مطلعَ 2021 سرعان ما ارتفع عليها الإقبال والطلبُ من نقاط البيع، عِلما أنه نصٌّ صدر منذ 2007 وسطَ مئات النصوص الصادرة سنويا في الوطن العربي والمغرب، مما يُؤشِّر على أنه نصٌّ يَملكُ القدرةَ الجمالية على الاستمرار وعُبور الزمن، بينما نجد أن رائعَتَه "المغاربة" قد صدرت سنة 2016، لتؤكد قُدرةَ النص المُتفرِّد على إعادة مُساءلة أزمة التلقّي، وإسقاط القناع الذي يُخفي ضحالةَ المُنجز الروائي، لنُدركَ أن المسألة ترتبط بأزمةِ كتابةٍ أيضًا وأساسا إضافة إلى باقي الأسباب الأخرى في ظاهرةٍ مُركَّبة. على سبيل الإيضاح قد بلغت هذه الروايةُ طبعتَها الخامسة في أقل من أربع سنوات، وما يزال تداوُلها وأثرُها مُستمِرَّيْن في ساحةِ الأدب والتناوُل النقدي والجامعي. بالوصول إلى اللحظة الراهنة، فقد صدرت لعاشق بني ملال روايةُ "ثورة الأيام الأربعة"، كجزء أول من مشروعِ رُباعيةٍ روائية، ولم يَكد يمضي على طبعتِها الأولى شهر، حتى صدرت طبعتُها الثانية، وانتشرت في أوساط مجتمعِ القراءة بشكل يُشبه كرنفالَ قراءة مفتوح، وارتفع عليها الطلبُ لدى كُبرَيات المكتبات ونقاط البيع في مختلف مُدن المغرب. وإذ نَستحضر هذه المؤشرات والمُعطيات، فنحن نَستحضر بشكل مِرآوي مُحدِّدات العلاقة بين الناشر والمؤلف في البنية العربية المأزومة من حيث المَخفي والمُعلَن. لا يُفهَمُ من هذه المقالة ادعاءَ الرضى عن مَنسوب تَلقّي الكتاب الأدبي ونِسب القراءة والتفاعُل مع الرواية نتيجةَ آلاف النُسَخ التي يُحققُها الطلبُ على نَصِّ جويطي، بل غرضُها كشفُ الجانب الضمني والمؤثِّر في الأزمة، وتأكيد أن تجويد منسوب القراءة يكون بتجويد نوعية الكتابة.
إن هذا الساحر الجمالي المَلّالي يُبدع نَصًّا بمُستوياتِ كتابة مُتعدِّدة، بالتالي يَمنح مُستوياتِ قراءةٍ متعدِّدة، ويُوفّرُ لكل قارئ قصدَه الأدبي، مِن راغبٍ في المُتعة، وراغبٍ في الفهم، وراغبٍ في المعرفة، وراغبٍ مُركَّب. إنه إذًا يَجمع في نَصٍّ ما َتفرَّق في نُصوص، ويأخذ القُرّاءَ إلى الكَينونة الجمعية، ويَجعلُهم أمام قضاياهم الوئيدة، يُدْنِيهُم من ذواتِهم وقد أضاعوا إليها السُّبُلَ في التيه العام. وبعبارة المفكر عبد الله العروي عن كل روائي بارع، قد استطاع هذا الساحرُ أن "يجعل وَكْدَه في تجسيد هـذه الــعـقدة التي تــشـغـل بــال المجتمع"، فهل يستطيع أن يتخلّفَ عن نصِّ جويطي قارئٌ يجدُ بعضًا من ذاتِه هناك؟
باستطاعتنا القول إن هذا الكاتبَ يُعلِّمنُا الاستخفافَ بالوسائط، يَحُثُّنا على الوفاء لعظمة فعلِ الكتابة والقراءة، إنه يَعمل شُغلَه الأدبي ويُتْقِنُه بكامل الطقوسية الصادقة. وبقدر ما يكون هذا الرأيُ تَثمينا لفعلِ الكتابة لدى جويطي، فالأمرُ لا يعني أنه وصلَ المُنتهى، فلا مُنتهى في الجمالي، بل نؤكد أنها كتابةٌ مفتوحة قابلة للتجاوُز، وتلك عظمتُها وقيمتُها الفنية، فهي حمّالةُ روحِ المعرفة والأسئلة، وليست دوغمائية مُحَنَّطة أُحادية، وهل تكون الكتابةُ معرفيةً إذا لم تَحمل في ذاتِها ابستيمَ التجاوز؟
أسامـة الصغيـر 20 ديسمبر 2022
آراء
(GettyImages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا توجد باعتقادي دراسات مُتخصِّصة تُوفِّر قاعدةَ مُعطيات حول مَقروئية الأدب في العالم العربي، والمغربُ جزءٌ من هذا الوضع، وبالتالي لا يُمكنُنا مقاربةُ إشكاليةِ التلقي على ضوء قاعدةِ مُعطياتٍ دقيقة، لكن باعتماد الملاحظة والتداوُل كواحدة من معايير الدراسة والاستِبيان حول الظواهر المُجتمعية، يُمكن أن نُسلِّط َالكاشفَ بدرجةٍ مُعيَّنة حول سُؤال تَلقّي الأدب، كَشِقٍّ من سُؤال القراءة الأكبر. في هذا السياق، كثيرا ما نَسمع امتعاضَ الكُتّاب والمُهْتَمِّين بقطاعِ الثقافة والنشر من النِّسَبِ الضَّحْلة للتَّلقي والقراءة، أي تقلُّصُ مجال التلقي بعد عبور النص مجالَ الكتابة والنشر، ولا شك في أن أُفول القارئ يُنذِر بمنظومةٍ سلوكيةٍ وقيمية بديلة تَغْزُو وتجتاحُ المجتمعَ أُفقيًا وعموديًا، سيما مع انتشار إبدالات الميديا في الزمن المرئي.
عند البحث في أسباب الإضراب الجماعي عن الكِتاب، نكاد نَسمع صوتًا نمَطيًا واحدًا، يُلقي اللائمةَ على القارئ/ المتلقّي المُتكاسل اللاهث خلف الماديات بديلًا عن الرمزيات، ومعه الجهات الرسمية من حيثُ غياب السياسات العمومية الداعمة والحافزة على القراءة، لكن كثيرًا وغالبًا ما لا نَجرُؤ على مُساءلة المُنجَز الكتابي في حد ذاته، ولنتَّفق مَبدئيًا على تَخصيص النقاش هنا حول الأدب، بالتالي فإننا نغفل أُسًّا مُهمًّا في محاولةِ تحليل وفهمِ عملية التلقّي والقراءة، وهو الأسُّ الأهمُّ والأجدر بالاستحضار والمُناقشة، لأنه أسٌّ يستطيعُ بدرجةٍ ما أن يتجاوز أعطابَ العُزوف الجماعي ويُخلخلَ رهاناتِ السياسات الرسمية بفعلٍ إبداعي مُقاوِم. إن نَصًّا قويًا جديرٌ بأن يَسموا على أعطاب المرحلة ولو بمقياس، وقَمينٌ بأن يَفتح كُوّةً للمُقاومة الثقافية الرمزية، ولنا في العديد من التجارب براهين ثابتة، وهو ما يَشي أن هناك خلايا قراءة نائمة تَنشط عندما تجدُ نَصَّها المُشتهى، فنكون في وضعيةِ الإثارة الإبداعية مُقابل الاستجابة القرائية التفاعُلية، وهو ما استوجبَ الوقوفَ عند حالةِ الروائي المغربي عبد الكريم جويطي نموذجًا.
"عند البحث في أسباب الإضراب الجماعي عن الكِتاب، نكاد نَسمع صوتًا نمَطيًا واحدًا، يُلقي اللائمةَ على القارئ المُتكاسل اللاهث خلف الماديات، ومعه الجهات الرسمية من حيثُ غياب السياسات العمومية الحافزة على القراءة، لكن كثيرًا وغالبًا ما لا نَجرُؤ على مُساءلة المُنجَز الكتابي في حدّ ذاته" |
صار إصدارُ روايةٍ لهذا الكاتب بمثابة عيد أدبي يَتُوقُ إليه قُرّاءُ الأدب ويَتسقّطون بَشائرَه، كاتبٌ له إمكانيةُ الإيقاظ وخلق الباعث في خلايا القراءة النائمة، حتى إن كُتُبَه بدءًا من "كتيبة الخراب" تُشكِّل منصّةً تواصُلية تلتقي فيها الطبقات والأجيال والفئات الاجتماعية والمهنية على اختلافها بشكل مُثير وفريد، تتداعى إليها كأنها أغوار المُواطَنة المغربية والأُفُق المُشترك في ظلِّ غيابِ منصّاتٍ للتداوُل والنقاش العمومي. وحتى نَفهم حالةَ جويطي أكثر نستحضرُ أنه ليس جامعيًا، ولا نجمَ ميديا، ليس صاحب منبر ثقافي، ولا رئيس لجنة تحكيم، ليس عضو جمعية مُمتدّة، وقليل الأسفار خارج مدينته الأُثيرة ولا ينتمي إلى المراكز الحضرية الكُبرى، أي ليس لديه ما يُغري الآخرين أو يَخلُق حولَه دائرةَ حواريين، بمعنى آخر لا يستطيعُ توجيهَ التلقي لأنه ليس وسائِطيًا في الإبداع والذُيُوع، له مَهابة الإبداع وسُلطة النص وحدها. وإذا كان المُفكر الأدبي الياباني هاسومي شيجاهيكو يرى أن الناقد هو الذي يوقظُ علامات نائمة داخل النص، فإن جويطي يُنجز هذه المهمّة بشكل ديالكتيكي، إنه يوقِظ ُعلامات وخلايا نائمة داخل المُجتمع، ونصُّه لا يحتاج وساطةَ الناقد ولا يَرجو شفاعتَه من حيثُ الوصول إلى المُتلقّي، لأنه نصٌّ حافلٌ بالنقد الواقعي، ينطلقُ من ذاتِ المُبدع إلى النشر ثم إلى التداوُل الواقعي العام دونما وساطة النقد، فيتقلّصُ دورُ الناقد أمام نَصِّ جويطي ويقتصر على التوثيق ضمن التجربة المغربية والعربية في تاريخ الأدب، لأن الشرطَ الجمالي الأعلى والأثرَ التنويري والمُكاشَفة يَتحقَّقان في التفاعُل المُباشر والعفوي مع القارئ، فَنَصُّهُ واحدٌ من هِبَات العناية السردية النادرة إلى الأدب المغربي المعاصر.
اعتمادًا على مُؤشِّرات التداوُل في مجال الأدب، يبدو أن نُصوص الأسماء التي تَكرّستْ بناءً على التراكُم الرمزي المُتَحَقِّق لديها، لا تُحقق أكثرَ من بِضع مئة نُسخةٍ مَبيعة عن كل كتاب في أحسن الأحوال، ورُبما نَرفع سقفَ النُسَخ قليلًا، سيما مع نصٍّ حظي بجائزة، لكن الأمر يتطلّب سنوات للتصريف، وهو استثناءٌ لا يُمكن القياسُ عليه. ولو أخذنا حالةَ الكاتب جويطي، نجد أن نصَّه "كتيبة الخراب"، قد خلق لذاتِه سُوقًا تداوُلية جديدة لدى القُرّاء بعد أن صدرت له طبعة ثانية مطلعَ 2021 سرعان ما ارتفع عليها الإقبال والطلبُ من نقاط البيع، عِلما أنه نصٌّ صدر منذ 2007 وسطَ مئات النصوص الصادرة سنويا في الوطن العربي والمغرب، مما يُؤشِّر على أنه نصٌّ يَملكُ القدرةَ الجمالية على الاستمرار وعُبور الزمن، بينما نجد أن رائعَتَه "المغاربة" قد صدرت سنة 2016، لتؤكد قُدرةَ النص المُتفرِّد على إعادة مُساءلة أزمة التلقّي، وإسقاط القناع الذي يُخفي ضحالةَ المُنجز الروائي، لنُدركَ أن المسألة ترتبط بأزمةِ كتابةٍ أيضًا وأساسا إضافة إلى باقي الأسباب الأخرى في ظاهرةٍ مُركَّبة. على سبيل الإيضاح قد بلغت هذه الروايةُ طبعتَها الخامسة في أقل من أربع سنوات، وما يزال تداوُلها وأثرُها مُستمِرَّيْن في ساحةِ الأدب والتناوُل النقدي والجامعي. بالوصول إلى اللحظة الراهنة، فقد صدرت لعاشق بني ملال روايةُ "ثورة الأيام الأربعة"، كجزء أول من مشروعِ رُباعيةٍ روائية، ولم يَكد يمضي على طبعتِها الأولى شهر، حتى صدرت طبعتُها الثانية، وانتشرت في أوساط مجتمعِ القراءة بشكل يُشبه كرنفالَ قراءة مفتوح، وارتفع عليها الطلبُ لدى كُبرَيات المكتبات ونقاط البيع في مختلف مُدن المغرب. وإذ نَستحضر هذه المؤشرات والمُعطيات، فنحن نَستحضر بشكل مِرآوي مُحدِّدات العلاقة بين الناشر والمؤلف في البنية العربية المأزومة من حيث المَخفي والمُعلَن. لا يُفهَمُ من هذه المقالة ادعاءَ الرضى عن مَنسوب تَلقّي الكتاب الأدبي ونِسب القراءة والتفاعُل مع الرواية نتيجةَ آلاف النُسَخ التي يُحققُها الطلبُ على نَصِّ جويطي، بل غرضُها كشفُ الجانب الضمني والمؤثِّر في الأزمة، وتأكيد أن تجويد منسوب القراءة يكون بتجويد نوعية الكتابة.
إن هذا الساحر الجمالي المَلّالي يُبدع نَصًّا بمُستوياتِ كتابة مُتعدِّدة، بالتالي يَمنح مُستوياتِ قراءةٍ متعدِّدة، ويُوفّرُ لكل قارئ قصدَه الأدبي، مِن راغبٍ في المُتعة، وراغبٍ في الفهم، وراغبٍ في المعرفة، وراغبٍ مُركَّب. إنه إذًا يَجمع في نَصٍّ ما َتفرَّق في نُصوص، ويأخذ القُرّاءَ إلى الكَينونة الجمعية، ويَجعلُهم أمام قضاياهم الوئيدة، يُدْنِيهُم من ذواتِهم وقد أضاعوا إليها السُّبُلَ في التيه العام. وبعبارة المفكر عبد الله العروي عن كل روائي بارع، قد استطاع هذا الساحرُ أن "يجعل وَكْدَه في تجسيد هـذه الــعـقدة التي تــشـغـل بــال المجتمع"، فهل يستطيع أن يتخلّفَ عن نصِّ جويطي قارئٌ يجدُ بعضًا من ذاتِه هناك؟
باستطاعتنا القول إن هذا الكاتبَ يُعلِّمنُا الاستخفافَ بالوسائط، يَحُثُّنا على الوفاء لعظمة فعلِ الكتابة والقراءة، إنه يَعمل شُغلَه الأدبي ويُتْقِنُه بكامل الطقوسية الصادقة. وبقدر ما يكون هذا الرأيُ تَثمينا لفعلِ الكتابة لدى جويطي، فالأمرُ لا يعني أنه وصلَ المُنتهى، فلا مُنتهى في الجمالي، بل نؤكد أنها كتابةٌ مفتوحة قابلة للتجاوُز، وتلك عظمتُها وقيمتُها الفنية، فهي حمّالةُ روحِ المعرفة والأسئلة، وليست دوغمائية مُحَنَّطة أُحادية، وهل تكون الكتابةُ معرفيةً إذا لم تَحمل في ذاتِها ابستيمَ التجاوز؟