عن الشيخوخة بين الزمن المفقود والأحلام المستعادة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عن الشيخوخة بين الزمن المفقود والأحلام المستعادة

    عن الشيخوخة بين الزمن المفقود والأحلام المستعادة
    فريد الزاهي 25 نوفمبر 2022
    اجتماع
    لوحة لرسام مجهول من المدرسة الإيطالية (القرن التاسع عشر)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط





    لقد ولى الزمن الذي كانت فيه العلاقات الاجتماعية تمنح إلى العجائز السلطة الكاملة في التحكم في العائلة ومصائر أفرادها. كان الجد أو الجدة، وهما في أعتى العمر، يمتلكان ناصية الأمور في إطار شبكة من العلاقات المنظمة، المحكومة بتراتبية يظل فيها الجد والأب متحكمين في أدق تفاصيل الحياة، من زواج الأبناء واختيار الزوجات حتى تسمية الأحفاد، ناهيك عن تسيير الأصول العقارية للعائلة. كان الإنسان وهو يشيخ تتصاعد قيمته في التراتبية الاجتماعية، والأم أو الجدة وهي تبلغ من العمر عتيًا، تتحكم في كافة الأمور الداخلية للعائلة الصغيرة والكبيرة. وقد انتبهت كامييّ لاكوست دو جاردان لهذه السلطة البطريركية (التي توازي في قوتها السلطة البطريركية لشيخ العائلة) في كتابها أمهات ضد النساء (1985)، محللة الدور الذي تلعبه الحماة ضد كنّتها، والمحن التي تذيقها إياها في غيبة الزوج أو حضوره.



    الشباب قيمةً اجتماعية

    بالرغم من السطوة التي لا زال يمارسها الأب والأم على أبنائهما، والتي تعود، فيما تعود إليه، إلى الدين والمعتقدات كما تعود إلى البنيات التقليدية للمبادلات الاجتماعية، فإن التحولات المتسارعة التي عرفتها العلاقات الاجتماعية، وتفكك بنيات العائلة وتراجع الزواج وتقويض سلطة الأب باعتباره وليا على البنت في الزواج، كما التغيرات التي جاءت بها العولمة، كلها ساهمت في نمو الفردانية خاصة في المجالات الحضرية وتفكك البنيات العائلية التقليدية المبنية على التواشج والتراتبية. وهكذا أضحت علاقة الفرد بذاته وجسده ومسير حياته أكثر تجذرًا، وبات اهتمامه بذاته وجسده أكثر وضوحًا، وتفكيره في مسيره الحياتي أشد حميمية.
    "انتبهت كامييّ لاكوست دو جاردان لهذه السلطة البطريركية (التي توازي في قوتها السلطة البطريركية لشيخ العائلة) في كتابها "أمهات ضد النساء" (1985)، محللة الدور الذي تلعبه الحماة ضد كنّتها، والمحن التي تذيقها إياها في غيبة الزوج أو حضوره"
    ولا ريب في أن عناصر الفردانية التي جاءت بها الحداثة، وإن لم تنجح في اكتساح مجمل العلاقات الاجتماعية في العالم العربي، إلا أنها بالتأكيد وجدت موطنا شاسعا لها جعل الفرد يولي من الاهتمام لمظهره ولعمره، في عمومية الحياة اليومية، ما لم يكن في الماضي سوى مظهر احتفالي بالعيد والمناسبات. ولعل النساء الحضريات في ذلك أعمق ارتباطًا بشبابهن وبكل ما يمكن أن يؤبده أو يؤخر انسحابه.

    تمنح الحداثة للشباب قيمة جوهرية في الحياة الاجتماعية، فجميع الرياضات رياضات شبابية لا يجاوز فيها المحترف سقف الشباب وعتبته الأخيرة. وكافة مواد التجميل توجه لجمال الشباب وحسنه، وتلك التي توجه للنساء اللاتي جاوزن الشباب تزعم لهن أنها ستعيد لهن شبابهن، وتحارب التجاعيد وترهل البشرة... حتى السياسة تراهن على الشباب وعلى آمالهم وطموحاتهم باعتبارهم رجال المستقبل، مع أن أغلب من يتربعون على كراسي الحكم والوزارات في البلدان العربية أغلبهم جاوز الستين، وبحيث لا تجد إلا في ما ندر قائدا سياسيا جماهيريا لا يتعدى الأربعين... أما العلوم الاجتماعية فإنها، بالرغم من تراجع الولادات منذ بضعة عقود، وبداية دبيب الشيخوخة في بعض المجتمعات العربية، لا زالت تركز على الشباب والتربية والتعليم والتكوين، فيما لا نرى منها اهتماما ولو طفيفًا بفئة المتقاعدين والعجائز، الذين يتركون لحالهم، يجترون ماضيهم غالبا في الوحدة القاتلة، بعد أن ينفضّ من حولهم الأبناء. إنها تنظر إليهم باعتبارهم عالة أو عاهة اجتماعية لا تستحق الدراسة أو الاهتمام السوسيولوجي والأنثربولوجي والنفساني، وكأن هذه الفئة قد دخلت مسلسل الموت قبل الأوان.

    كامييّ لاكوست دو جاردان (Getty, Paris, 1997)
    الشيخوخة تستعيد شبابها

    منذ بضع سنوات التقيت بالصدفة رجلًا بشوشًا رغم تقدمه في العمر يرتدي لباسًا "شبابيًا" يبين عن صدره وعن عضديه المتناسقين والرياضيين. مع مرور الوقت صرنا نتبادل المزح والدعابات عن حبه للحياة وعن ابنه الذي يكاد يكون في عمري. كان الرجل في شبابه بطلًا في كمال الأجساد، وهو يجاوز اليوم الثمانين، يحرص يوميا على تمارينه الرياضية وعلى الأكل الجيد، واللقاء بصديقته الثلاثينية، كما على تناول كأس من وقت لآخر... الرجل يبدو في مظهره ووجهه خمسينيًا، ويعيش حياته بالكثير من الشغف، وبطريقة شاعرية تجعلني أبدو أمامه أخاه الأكبر... إنه يذكرني، مجازًا، بكتاب النفزاوي عن رجوع الشيخ إلى صباه، بالرغم من الطابع الإيروسي الواضح لهذا المصنّف... الشيخوخة ليست إذن قدرًا اجتماعيًا حتميًا بالرغم من أن الجسد مع مرور الزمن يفقد العديد من ممكناته الذاتية، ويطبع على الوجه تحولاته، خاصة في نهاية الكهولة. الشيخوخة إحساس اجتماعي لدى الرجال كما النساء، حين يكون الاهتمام بالذات حاضرًا بقوة، انطلاقا من رغبة عارمة في الحياة، وفي الإنصات للنفس والجسد، وتفادي كل ما يعكر صفو الذهن، والبحث عن حلول لكل المعضلات النفسية والاجتماعية التي تحول العديد من الناس إلى شيوخ قبل الأوان.

    يحول التقاعد عن العمل العديد من الأفراد إلى "فضلات" اجتماعية تنتظر نهايتها بورع. أما أولئك الذين يجددون حياتهم بعد ذلك بالحصول على عمل جديد يلائم عمرهم، فهم يستمرون في عيش المرحلة الثالثة من حياتهم بنشاط وحدّة لا تكدرهما أحيانًا إلا الأمراض المستعصية ووهن الجسم. فالفعل الاجتماعي كيفما كان نوعه، مدرًا للدخل أو تطوعيًا، والتعامل مع الزمن باعتباره هبة مستمرة، كما الاهتمام بالمظهر وبالعلاقات والسفر واستكشاف ما لم تبحه سنوات الكد الطويلة، هو بشكل ما تحدّ مستمر للذات وتطويع لها كي تستنفر قواها باستمرار بهدف تمديد ممكنات الجسد والفكر.
    "لا شك في أن تفكير المرء في شيخوخته لا يبدأ دومًا من الوهن أو اشتعال الرأس شيبًا، وإنما في علاقته بوجهه، وبالتحولات التي يطبعها عليه الزمن. فالوجه الشاب الذي ثبَّتته الصور الفوتوغرافية في ما مضى، يُضحي في المرآة وجهًا مغايرًا، وكأنه ينتمي إلى شخص آخر"
    ولا شك في أن تفكير المرء في شيخوخته لا يبدأ دومًا من الوهن أو اشتعال الرأس شيبًا، وإنما في علاقته بوجهه، وبالتحولات التي يطبعها عليه الزمن. فالوجه الشاب الذي ثبَّتته الصور الفوتوغرافية في ما مضى، يُضحي في المرآة وجهًا مغايرًا، وكأنه ينتمي إلى شخص آخر. نحن في طويتنا لا نحس بالشيخوخة إلا حين نلتقي صديقًا للطفولة أو الشباب، فنرى فيه ما فعل الزمن بوجهه وكأنه انعكاس لنا يفصح عن هويتنا. بيد أننا في دخيلتنا لا نحس بالتغير ولا نستشعره لأننا نتآلف مع صورتنا، إلا عند مرض أو خلل جسماني يكون ناجمًا عن التقدم في العمر، أو عند ولادة حفيد، أو عند الإحالة للتقاعد. إننا لا نستشعره لأن الشيخوخة لا تحل بجسدنا ولا تنطبع على وجهنا ضربة واحدة، وإنما يومًا عن يوم، وهو ما يجعلنا متآلفين دومًا مع وجهنا وهيئتنا.

    بالمقابل تستشرف المرأة التقدم في العمر قبل الأوان، فتراها تراقب بدايات الشعر الأبيض في شعرها، وتحدق طويلًا في التجاعيد الأولى التي ترتسم على بشرتها، وفي الجيوب التي تغدو داكنة تحت هدبيها. وهي لذلك تسارع دومًا في الحفاظ على ذلك الوجه المرجعي (كما يقول بروطون) الذي يثبّتها في عنفوانها، تارة بالمساحيق وأخرى بمواد مقاومة التجعد، تغدو مصاحبة لها في حياتها المقبلة. فالجاذبية والاقتناع الذاتي بالجمال الشخصي يشكلان هوية لوجودها، واستمرارها في الرضى عن نفسها. لذلك فإن الشيخوخة تشكل لدى معظم النساء ضربًا من الانفصام والشرخ الوجودي لأنهن فيها لا يعدن يتعرفن على وجههن. تقول سيمون دو بوفوار بهذا الصدد: "الشيخوخة من أصعب ما يمكن أن يتحمله المرء في حياته، لأننا اعتبرناها دومًا كشيء غريب: فأنا صرت شخصًا آخر مع أني أبقى الشخص نفسه".

    دافيد لو بروطون
    هل الشيخوخة مرحلة موت بطيء؟

    إذا كان الوجه، باعتباره مركز الهوية وصدارتها في كافة مراحل الحياة، به نتعرف على الشخص وعلى تحولاته، فإن هذا الأخير يعيش جسده بشكل مغاير في مرحلة الشيخوخة. الجسد كما يقول دافيد لو بروطون: "يفقد بداهته في الشيخوخة، فهو يدخل في مرحلة ألفة مقلقة. إنه يُسمع صوته بشكل أشد أسى وإلحاحًا. ثمة الكثير من لحظات الحداد الصغيرة التي تتمّ في العلاقة بالعالم، لأن قدرات الشخص على المقاومة والرغبة والذاكرة والنظر والسمع تضعف ببطء. ثم إن الارتياد المتواصل للطبيب يغدو أمرًا مألوفًا. وتصبح الأمراض والآلام أمرًا مزمنًا، وعلى المرء أن يتكيف مع ظروف تحدّ من حرية حركته وتجعل طعم الحياة باهتًا. والشيخوخة التي تأتي ببطء من غير أن تغير طعم الحياة، تأتي معها بتغيرات جسدية لا تُحس. فالمرء لا يشعر بنفسه يشيخ إلا حين يصاب بمرض، أو بعد سقطة، أو حدث أليم يجعله يحس بالشيخوخة. ووفاة شريك (ة) الحياة يكون بهذا الصدد لحظة حاسمة تغذي لدى بعض الأشخاص القناعة بأن حياتهم انتهت، بالرغم من أن آخرين يعيدون بسرعة بناء صرح حياتهم اليومية واستعمال زمنهم وعلاقاتهم الاجتماعية". الشيخوخة إذًا سياق جسدي ونفسي واجتماعي. والمهنة التي يمارسها المرء تكون ذات أثر بالغ في ذلك. فإذا كان البناء لا يستطيع في مرحلة متقدمة من العمر أن يمارس البناء، فإن الكاتب أو الصحافي يستطيع ذلك حتى آخر رمق في الحياة، مديما بذلك علاقة دينامية مع ما يشكل صلب حياته. وإلى هؤلاء ندين بتلك الكتابات التي تصف من الداخل آلام الشيخوخة وانفصاماتها وهواجسها.
    "الجسد كما يقول دافيد لو بروطون: "يفقد بداهته في الشيخوخة، فهو يدخل في مرحلة ألفة مقلقة. إنه يُسمع صوته بشكل أشد أسى وإلحاحًا. ثمة الكثير من لحظات الحداد الصغيرة التي تتمّ في العلاقة بالعالم، لأن قدرات الشخص على المقاومة والرغبة والذاكرة والنظر والسمع تضعف ببطء""
    وإذا كان الناس في الغرب عند حصولهم على التقاعد، أي دخولهم مرحلة الشيخوخة، ينظمون حياتهم بشكل جديد، فذلك لأن أغلبهم يعتبر أن تلك الفترة هي مرحلة انتقام من سنين العمل. فترى الواحد منهم يفتح ورشة في قبوه يمارس فيها هواية لم يستطع التفرغ لها من قبل، أو يفكر في ارتياد العالم صحبة رفيقته وأصدقائه، مستكشفًا تلك البلدان التي لم يكن يسمح له وقته وإمكاناته بارتيادها، أو يحقق الحلم في اقتناء بيت بالبادية بعيدًا عن ضوضاء المدينة.

    في العالم العربي، أضحت الشيخوخة تشكل مرحلة انتظار للأجل المحتوم قد تكون طويلة الأمد. وإذا كانت النساء يدبّرن أمرها بشكل عملي، في الاهتمام بالأحفاد ما تيسر لهن ذلك وفي الزيارات العائلية، فإن الرجال يعيشون تقاعدهم في الغالب بين البيت والمسجد وشلة الأصدقاء من العمر نفسه، إذ نلاحظ في الأحياء الفقيرة تجمعاتهم حول لعبة "الضامة" أو لعبة الورق، وفي أحسن الأحوال لعبة الكرة الحديدية في النادي القروي أو في الأمكنة المخصصة لذلك. لكن حلم الجنسين معًا في هذه المرحلة يتمثل في الحج لبيت الله وزيارة قبر النبي. وفي ذلك يتساوى الموسرون والمعدمون. إنها نهاية رحلة الحياة الرمزية التي تكون مدخلًا آمنًا مطمئنًا للرحيل.




يعمل...
X