هل نعيش عصر العبودية للوقت والسلعة؟
جورج كعدي 17 نوفمبر 2022
اجتماع
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
هنا الجزء الثاني والأخير (الجزء الأوّل نُشر في "ضفّة ثالثة" بتاريخ 07̸11̸2022) من القراءة في كتاب عالم الاجتماع الألمانيّ هَرْتموت روزا Hartmut Rosa "استلاب وتسريع" (Aliénation et accéléation) في ترجمته الفرنسية، والذي يحلّل فيه آفتي عصرنا الحديث، التسريع، والاستلاب، أو العبوديّة والارتهان، اللذين يعيشهما الإنسان المعاصر نتيجة التسريع في مختلف مجالات الحياة ومناحيها.
نستكمل، قبل الوصول إلى قضيّة الاستلاب، مسألة التسريع، وبينهما التبطيء (décélération)، إذ يرى روزا أنّ "ثمة، ويا للأسف، واقع أنّ تسريع إيقاع الحياة والتسريع التقني مرتبطان، فالتسريع التقنيّ يمكن النظر إليه بوصفه (ردًّا) اجتماعيًا على مشكلة خلخلة الوقت، أي تسريع (إيقاع الحياة). عندما نتفحّص العلاقات السببّية بين الدوائر الثلاث للتسريع الاجتماعيّ، نكتشف الوجود غير المتوقّع لحلقة تغذّي نفسها: التسريع التقني، المرتبط غالبًا بظهور التكنولوجيات الجديدة (كالآلة البخاريّة، السكّة الحديد، السيارة، التلغراف، الكمبيوتر أو الإنترنت)، يجلب معه على نحوٍ لا يمكن تلافيه كمًّا من التغييرات في الممارسات الاجتماعيّة وبنى الواصل وأشكال الحياة المتلائمة. مثلًا، لم يضاعف الإنترنت سرعة التبادلات التواصلية و(افتراضيّة Virtualisation) السيرورات الاقتصادية والإنتاجيّة، فحسب، بل أرسى هيكليّات مهنيّة، اقتصاديّة وتواصليّة، فاتحًا الدرب لأشكال جديدة من التفاعل الاجتماعيّ، وحتّى لأشكال جديدة من الهويّة الاجتماعيّة (...) أكثر من ذلك، إذا كان تسريع التحوّل الاجتماعيّ يفضي إلى (ضغط الحاضر) فإنّه يؤدّي طبيعيًّا إلى تسريع (إيقاع الحياة). يتجلّى هذا الأمر في ظاهرة شائعة جدًا في مجال الإنتاج الرأسماليّ الذي نستطيع أن نُطلق عليه (ظاهرة المنحدر الانزلاقيّ) لمجتمع المنافسة: الرأسماليّ غير قادر على التوقّف أو أخذ وقت للراحة، ولا يسعه إيقاف السباق وتثبيت موقعه لكونه محكومًا بالصعود أو بالهبوط. لا نقطة توازن، فالبقاء بلا حركة يوازي السقوط إلى المنافسة، وفي ظلّ التحوّل الاجتماعيّ المتسارع في مناحي الحياة كلّها، يشعر الأفراد بأنّهم فوق (منحدرات انزلاقيّة): أخذ استراحة مديدة أضحى من الماضي، وهو غير متّسق مع تجربة الفرد ومعرفته وأدواته وتوجّهاته، وحتّى مع لغته. إذا كان القارئ أو القارئة يبحثان عن تجسيد لهذه الظاهرة في الحياة اليوميّة، يكفيهما التفكير ببساطة في رسائلهما الإلكترونيّة. عقب جلسة طويلة لمعالجة ال e - mails ، نستطيع بلوغ قمّة المسكوكات: كلّ الرسائل المفيدة قُرئت وأُنجز الردّ على كلّ الرسائل المهمّة (...) ويمتلئ ذلك مجدّدًا بلا توقّف، وبصمت، فيُشعرنا بأننا مثل سيزيف".
جوابًا عن سؤال "ما هو التبطيء الاجتماعي؟" الذي منحه هَرْتموت روزا عنوانًا للفصل الثالث من بحثه، يرى أنّ ثمّة خمسة أشكال مختلفة من التبطيء والسكون تخترق مباشرة دوائر التسريع المحدّدة في الفصل الأوّل من البحث. أوّل هذه الأشكال "الحدود الطبيعيّة للسرعة"، إذ يلحظ أنّ هناك سيرورات لا يمكن تسريعها بسبب خطر تدميرها أو تعديلها جدًّا على مستوى النوعيّة، كسرعة الإدراك والمعالجة في أدمغتنا وأجسادنا، أو الوقت اللازم لإنتاج معظم الموارد الطبيعيّة. وعلى نحو مماثل، اليوم أو السنة محدّدان بانتظامات فلكيّة ولا يمكن بالتالي تسريعهما. أقصى ما نستطيع فعله هو خلق إيقاع اصطناعيّ للنور والظلام لثلاث وعشرين ساعة، ما يدفع الدجاج إلى إنتاج مزيد من البيض. في المقابل، كلّ المحاولات لتسريع الشفاء السريع من الزكام، أو فترة الحَمْل، لم تنجح إلى الآن. الشكل الثاني هو "واحات التبطيء" كما في الجزر النائية التي تحيا فيها مجموعات بشريّة مُقصاة اجتماعيًّا، أو أتباع مذاهب دينيّة منسحبة من الحياة المعاصرة مثل الـ Amich. في واحات كهذه يبدو الزمن "متوقّفًا". الشكل الثالث هو "التبطيء كنتيجة للافاعليّة التسريع الاجتماعيّ" ومَثَلُهُ الأبرز زحمة السير التي تتسبّب بجمود في الحركة منبعه سعي كلّ فرد إلى الانتقال بسرعة. كذلك في مجال علم الأمراض حيث تشير الاكتشافات العلميّة الحديثة إلى أن بعض أشكال الانهيار العصبيّ النفسيّة المرضيّة ينبغي فهمها كردود فعل فرديّة (بطيئة) على ضغوط التسريع اللامحدودة. ويُلحظ بطريقة لافتة أنّ أنواع الانهيارات والتعب ازدادت على نحو جدّ معبّر في العقود الأخيرة المنصرمة في سائر نواحي الحداثة المعولمة. ويُضاف إلى ذلك الإبعاد المنهجيّ للعمل في دوائر الإنتاج، الناجم غالبًا عن عدم قدرتهم على التأقلم مع ما تفرضه المرونة والسرعة في الاقتصادات الغربيّة المعاصرة، أي أنّهم مبطئون بسبب عجزهم عن امتلاك تنافسيّتهم. والمُبعد (أو المطرود) يكابد أقصى درجات البطء كعاطل عن العمل لفترة طويلة. وإلى ذلك، فإنّ ظواهر الركود الاقتصاديّ – المسمّاة بنباهة تباطؤًا اقتصاديًا في العالم الانكلوساكسونيّ – يمكن إدراجها في قراءةٍ مماثلة للواقع. أمّا الشكل الرابع فهو البطء المتعمّد الذي شهدته مختلف المراحل التاريخيّة على أيدي الحركات الأيديولوجيّة المعرضة للتسريع في الزمن الحديث وتأثيراته... ولكن في كلّ الحالات، وإلى الآن، فشلت هذه الحركات المعارضة (...). والشكل الخامس والأخير يتعلّق بالوجه الآخر للتسريع الاجتماعيّ، أي بالجمود البنيويّ والثقافيّ. ففي الواقع، لم يبق ثمّة مجال لتغيير حقيقيّ. إذ ينغلق نظام (système) المجتمع الحديث على نفسه ويقترب التاريخ إلى نهاية تأخذ شكل (الجمود إلى أقصى درجاته) أو "الجمود القطبيّ". والمؤيّدون لهذا التشخيص لمجتمعات التسريع الحديثة هم بول ڨيريليو Virilio، جان بودريّار Baudrillard، فريدريك جيمسونJameson وفرنسِسْ فوكويوما Fukuyama . جميعهم يؤكدون أنّ لا تصوّرات ولا طاقات جديدة متاحة للمجتمع الحديث، وبالتالي فإنّ السرعة الخارقة للحوادث والتحوّلات تبدو أنّها مجرّد ظاهرة سطحيّة، بالكاد تغطّي الجمود الثقافيّ والبنيويّ العميق في عصرنا، فمثلّث التنافس والنموّ والتسريع صلب إلى حدّ أنّ أي أمل في التغيير الثقافيّ أو السياسيّ هو بلا طائل (...)".
بالنسبة إلى هَرْتموت روزا، الأمور تتغيّر لكنّها لا تتطوّر ولا تصل إلى أي مكان، مطلقًا صفة "توتاليتاريّة التسريع"، ففي كل جوانبها تتبدّل العلاقات الإنسانيّة في المجتمع الحديث بحيث تغدو إشكاليّة قائمة نتيجة التسريع. وبقدر ما يبدو الزمن عابرًا بسرعة ونادرًا في الحياة المعاصرة، بقدر ما يبدو المكان متقلّصًا أو متناقضًا مع الزمن. ويوضح روزا مقصده قائلًا: "إنّني لا أستخدم مصطلح التوتاليتاريّة هنا كما حين أفعل لدى التحدث عن ديكتاتور سياسيّ أو ديكتاتوريّة فريق أو ديكتاتوريّة طبقة أو حزب، فالنظام التوتاليتاريّ في المجتمع الحديث المعاصر هو بالأحرى مبدأٌ مجردٌ يستعبد كلّ الذين يحيون تحت سلطته. نستطيع أن نعتبر السلطة توتاليتاريّة حين تمارس ضغطًا على إرادة الخاضعين لها وأفعالهم، وحين نعجز عن الفرار منها لكونها مؤثّرة في كلّ المسائل، وحين يكون حضورها طاغيًا وذا تأثير غير محدود في هذا أو ذاك من مجالات الحياة الاجتماعية، وحين يمسي صعبًا بل مستحيلًا انتقادها أو محاربتها. ندعو نظامًا ما توتاليتاريًّا عندما يفضي بالإنسان إلى الاستيقاظ ليلًا خائفًا ومذعورًا ويتملّكه شعور بالضغط وإحساس بأنّه سيموت للتوّ، ويكون متعرّق الجبين وقلبه يخفق بضربات سريعة (...) حتى الديكتاتوريّات السياسيّة الوحشية لا تتسبّب بعدد من تلك العوارض وثمة إمكان في ظلّها، بهذه الطريقة أو تلك، للنجاة أو الفرار أو المواجهة، حتّى من الأجهزة الاستخباريّة السرّية للطغاة. وهذه التوتاليتاريّات السياسيّة لا تستطيع، على الأقلّ، التحكّم في أدقّ تفاصيل الحياة اليومية. مع التسريع الاجتماعيّ الأمر مختلف: تكاد لا تنجو حلقة واحدة في الحياة الاجتماعية من تأثير السرعة واستبدادها. طالما أنّ تنامي التسريع الاجتماعيّ يُحدث تحوّلًا في نظامنا المكانيّ – الزمانيّ، يمكننا اعتباره بسهولة تامّة طاغي الحضور ومجتاحًا. إنّ هذا التسريع يمارس ضغطه مثيرًا الخوف المستمرّ من احتمال خسارتنا المعركة، ومن احتمال عجزنا عن اللحاق بالإيقاع، أي إرضاء كلّ الحاجات (المتنامية باستمرار) التي نواجهها، ومن احتمال أن نحتاج إلى استراحة فنُستبعد من السباق الجنونيّ. أو، على العكس من ذلك، ما يتعلّق بالعاطل عن العمل أو المريض، فإنّ الخوف لديهما هو عدم امتلاك القدرة على اللحاق بالذين يخوضون السباق (...) إنّها المجموعات الاجتماعية الجديدة من فئة المبعدين الذين يسمّون بالطبقة الاجتماعيّة الأدنى (précariat)".
يؤكد هَرْتموت روزا على أنّ عصر الحداثة أخلّ بوعوده (promesses) المتعلّقة بسعادة الإنسان وجودة الحياة من خلال توفير الموارد الضروريّة وتحقيق الاكتفاء الذاتيّ للفرد والعدالة والتطوّر والاستدامة، إلخ. بل على العكس من ذلك كلّه، فإنّ الأحلام، والأهداف، والرغبات، والمشاريع لدى الأفراد استخدمت لتغذية آلة التسريع، فأمسى التحدّي الأساسيّ للإنسان المعاصر أن يتكيّف مع مستلزمات "البقاء في السباق" والحفاظ على قدرته التنافسيّة، وعدم الوقوع في عجلة الهامستر. أكثر فأكثر، حتى الممارسات الدينيّة، وشركاء الحياة والعائلة، والهوايات والقواعد الصحيّة، خضعت للتصنيف تبعًا لمنطق المنافسة.
استلاب وارتهان وعبوديّة
يعود هَرْتموت روزا إلى ماركس شابًّا يوم قال إنّ استلابًا خماسيّ الوجه يكابده الإنسان نتيجة نظام الإنتاج الرأسماليّ: استلاب متعلّق بنشاطاته (العمل)، بالمنتجات (الأشياء)، بالطبيعة، بالبشر الآخرين (العالم الاجتماعيّ)، وفي النهاية بنفسه أو بنفسها. ورأى ماركس أن الحداثة الرأسماليّة سوف تنتهي إلى خلق أوضاع اجتماعيّة يتناقض فيها الناس على نحو قاسٍ لجهة علاقتهم بـ"العالم" نفسه، فهم يصبحون مُسْتَلبين بالنسبة إلى العوالم الذاتيّة والموضوعيّة والاجتماعيّة. ويضيف روزا بالاستناد إلى قول ماركس: "أحاول تبيان أنّ الاستلاب الاجتماعيّ بلغ حدّ تخطّي عتبات يغدو البشر بعدها مستلبين حكمًا، ليس بالنسبة إلى نشاطاتهم وأعمالهم، والأشياء التي يعيشون ويعملون بها، والطبيعة، والعالم الاجتماعيّ وكينونتهم الخاصة، إنّما كذلك بالنسبة إلى الزمان والمكان" (...). إنّ الاستلاب يدلّ على اعوجاج شديد وبنيويّ في العلاقات بين الذات والعالم، في الطرائق التي ينوجد بها الإنسان في العالم. ولكون البشر هم بالضرورة ذوات مجسّدة، لا يمكنهم أن يحسّوا بالعالم إلاّ بكونه ممتدًّا في المكان كما لا يسعهم تصوّر ذواتهم سوى متموضعين في المكان. وقد لاحظ بول ڨيريليو وآخرون كثر، أنّ التقارب بين الاجتماعيّ والجسديّ في زمن العولمة الرقميّة يزداد افتراقًا: القريبون منّا اجتماعيًّا لم يبقوا في حاجة إلى أن يكونوا قريبين منّا اجتماعيًّا، والعكس صحيح. وعلى نحو مماثل، الاهتمام الاجتماعيّ يزداد افتراقًا عن القُرب المكانيّ. وهكذا فإنّ الكثير من المسارات الاجتماعيّة، إن لم يكن معظمِها، لم يبق مكان وجودها أو وضعها المكانيّ وثيق الصلة أو محدّدًا.
الزمان والمكان، بحسب ما يقول أنطوني غيدينزGiddens ، يغدوان غير مندمجين ̸ désencastrés (...). لكي نتآلف مع مكان معيّن، ولكي نشعر بأنّنا في بيتنا ضمن عالم مكانيّ، نحن في حاجة إلى بعض أشكال الحميميّة المتشكّلة (في الفندق مثلًا). بيد أنّ أشكال الحميميّة والأُلفة تحتاج إلى وقت لتتطوّر. فإن كنت تبدّل مكان سكنك باستمرار فإنّك تفقد الاتصال بمكان جغرافي اجتماعيّ ̸ géosocial قائم بذاته، وتحتاج في موقع سكنك الجديد إلى معرفة أين هو السوبرماركت، ومحلّ الخضار والفاكهة، والمدرسة، وقاعة الرياضة... غير أنّ المسافات التي تفرّق بينها تظلّ (صامتة) بمعنى (اللا – مكان ̸ non - lieux) لو عدنا إلى عنوان كتاب مارك أوجيه ̸ Augé. تلك الأمكنة لا تروي أي تاريخ، لا تحمل أيّ ذكرى، ليست منشبكة بهويتك. ينطبق ذلك أيضًا على أمكنة حياتك الأكثر حميميّة، مثل تجهيزات مطبخك: إذا كنتَ تحتفظ بالثلاّجة نفسها والفرن ذاته طوال عقود فإنّك تحفظ شكلهما، وبمَ يتأثّران، وكيف هو صوت الثلاّجة ورنين جرس الفرن، وتعرف أيضًا عيوبهما وطبيعة أعطالهما. بينما لو كنت تبدّلهما مرتين في السنة، فإنّ سماتهما الخاصة لا تثير اهتمامك: تروم فحسب معرفة كيف تعمل تلك الآلات اللعينة. هكذا يخلق التسريع الاجتماعيّ حركيّة أوسع واستقلالية أكبر من المكان المحسوس، إلاّ أنّه يضاعف استلابنا في ما يتعلق بالمحيط الطبيعيّ أو الماديّ".
ثمة استلاب أو عبوديّة تمارسها الحاجات الماديّة أو المقتنيات على الإنسان، لشدّة تعلّقه بها، ويقدّم روزا هنا بعض الأمثلة: "(...) لو احتفظتَ بسيارتك أو الراديو المحمول أو هاتفك أو جهاز الكمبيوتر، طوال سنوات، حتى تهلك أو يطول استخدامها، ثمة احتمال قويّ لأن تمسي جزءًا من نفسك، أو العكس، تصبح أنت جزءًا منها. إنّك تستثمرها وتنظر إليها في كلّ أبعادها المحسوسة، وتحمل هي علامات تتركها أنت فيها. تصير جزءًا متمِّمًا من حياتك اليوميّة، من هويتك وتاريخك. بهذا المعنى، تتمدّد الذات إلى عالم الأشياء، والأشياء تسكن بدورها ذاتك. ولو استخدمنا مصطلحًا للفيلسوف الكندي شارل تايلور ̸ Taylor، يسعنا التأكيد أنّ الذات تبقى (مَسَاميّة̸ poreux) إلى حدّ ما: التخلّص من هذه الأشياء هو فعل يمسّ بهويتك. ولكن، في مجتمع التسريع، لم نعد نُصلح الأشياء، ففي حين نستطيع بيسر تسريع الإنتاج، لسنا بقادرين على تسريع خدمات الصيانة بما يكفي. وبالتالي، فإنّ إصلاح الأشياء أو صيانتها أكثر فأكثر كلفة قياسًا بشراء منتج بديل منها. أضف إلى ذك أنّ معظم المنتجات باتت تقنيًّا أكثر فأكثر تعقيدًا، وبالتالي فقدنا المعرفة العمليّة الضروريّة لإصلاحها بأنفسنا. في النهاية، طالما أنّ سرعة التحوّل الاجتماعيّ تزداد فإنّ الاستهلاك المعنويّ للأشياء يتجاوز دومًا استهلاكها الماديّ: نميل إلى رمي واستبدال السيارات، الكمبيوترات، الملابس، الهواتف، قبل أن تتلف ماديًّا (...) إنّه النظام المهيمن الذي نعيه بوضوح في مجال الخبرة في العمل. أنا نفسي، أعطيتُ كمبيوتري الأول اسمًا. كنت متيقّنًا من أنني سأحتفظ به لمدّة طويلة، وحاولتُ أن أجعل منه صديقًا. إنّ منح اسم لشيء هو دليل حاسم على أنّنا نحاول التآلف مع هذا الشيء، تملّكه. أحسستُ بضيق عندما انتهى بي الأمر إلى ضرورة التخلّص منه بسبب الاستهلاك المعنويّ. حتى أنّني لا أدري اليوم أيّ نوع من الكمبيوترات أستخدم، مثلما لا أدري أي رائحة يبعثها أو ماذا يشبه حين لا أكون في مكتبي، أو أي صوت يُحدث. لا تقلقني معرفة كم من الوقت سأحتفظ به. الأمر عينه يحصل بالنسبة إلى هاتفي المحمول (...) مع هاتفي القديم كنت أعرف كيف أبدّل نغمة رنينه، إنّما ليس مع هذا الجديد. هكذا في حين تغدو الأشياء أكثر تعقيدًا أغدو أنا أكثر غباءً في ما يتعلّق بها. في الواقع، أفقد بعض معارفي الثقافيّة والعمليّة. إنّها نتيجة طبيعيّة لاستمرار فقدان قيمة التجربة بفعل التحديث. أصبح كذلك مستلبًا إزاء الأشياء التي أملكها، بمعنى أنني أشعر بضيق من كوني لا أعاملها جيدًا. بل أشعر بالأحرى بالذنب حيالها. إنها ذات قيمة عالية وذكاء رفيع، وأشعر بنفسي كالأبله. ويا للأسف، لا ينطبق ذلك على الأدوات فحسب، إنّما أيضًا على البرامج. كنت متعوّدًا فعليًّا على برنامج Word - Dos وأعرف كلّ ميزة فيه وأدق تفاصيله. كان يسعني استخدامه لكل ما أحتاج إليه. كان متآلفًا كذلك مع نظام XP وأُحسن جيدًا استعماله لحاجاتي اليوميّ. بيد أنّني أشعر بذاتي أمّيًا تمامًا حيال Vista ولم أعد أعرف كيف أستخدم الطرائق المختزلة وإدخال الرسوم البيانيّة، إلخ. في اختصار، أضحينا، البرنامج وأنا، مستلبَين أحدنا للآخر. والأمر عينه ينسحب على ساعتي الجديدة ipod والمايكروويف (...) إننا نحيا ونتطوّر ونعمل في بيئات تبقى غريبة لنا (...) أستقلّ الطائرة من فيينا إلى زوريخ ولا أشعر بأنّني واثق من الإجراءات التي عليّ اتّباعها. الأمر ذاته يحصل مع تصريحي الضريبيّ. ومع العديد من الاستمارات التي ينبغي أن أملأها. الاستلاب يكمن في أننا لا نعثر أبدًا على الوقت للاستعلام فعليًّا عمّا يتعلّق بنا. أيّ إرشاد تطبيقيّ، أيّ عقد نوقّعه (خاصة عبر الإنترنت)، يفرضان علينا تحذيرًا مماثلًا (شكرًا لقراءتك جيدًا المعلومات الآتية قبل الإقدام على أي خطوة) – ونحن بالتأكيد لا نقرأ الدليل الإرشاديّ كاملًا، ولا العقد وشروطه العامة، ولا ورقة الدواء، قبل استخدامها. إذًا، فائض المعلومات هو أحد أسباب شعورنا بالاستلاب (سواء أسميناه كذلك أو لا) في العالم المعاصر. ولا يسري ذلك على الأشياء التكنولوجية والقرارات البسيطة، بل أيضًا على الخيارات الكبرى في الحياة: فلننظر مثلًا إلى حالة تلميذ متخرّج من المدرسة الثانوية حديثًا وهو يتساءل أي اختصاص جامعيّ يختار. أي مرشد يطلب استشارته يعطيه النصيحة الساذجة عينها: (حدّد أولًا ما ترغب في فعله تمامًا وما تحتاج إليه لكي تتوصل إلى تحقيقه. ثم ادرس في تمعّن الكتيّبات والبرامج الدراسيّة المتاحة لدى الجامعات التي تقترح عليك المواد التي تحث عنها). نصيحة عظيمة! ففي البدء، المتخرّجون من المرحلة الثانوية يعانون غالبًا المشكلة الآتية: إنّهم لا يدرون بالتحديد ما يحتاجون إليه وما يبغون فعله في حياتهم. ثانيًا، حتى لو قرّروا مادّة الدراسة، أيّ جامعات تهبهم فعليًا ما هم في حاجة إليه؟ ثالثًا، لن يتاح لهم الوقت الكافي لدراسة ومقارنة البرامج المقترحة. يبدأون هكذا بوعي سيّئ، يرمون بأنفسهم نصفيًّا في المجهول فيما كانوا قادرين وكان جديرًا بهم الاستعلام جيّدًا قبل ذلك.
ويمكننا ملاحظة الوضع نفسه في معظم القرارات الأخرى في الحياة: هل حصلنا على المعلومات بالعمق لمعرفة ماذا تقول أيّ ديانة حول موضوع معيّن وبالتالي معرفة أيّ ديانة تلائم فعليًّا وعلى النحو الأفضل اقتناعاتنا؟ وهل نحن متيقّنون من أنّنا نعيش مع الشريك الأفضل؟ أو، على صعيد أبسط: شركة التأمين خاصّتك، مصرفك، وبرنامج تقاعدك (أو، لذويك، خدمات الرعاية في المنزل) هل هي أفضل ما أمكنك العثور عليه؟ كذلك، لو كنّا أكثر طموحًا، هل أنتَ واثق من أنّ الشروط التي تعرضها عليك شركة التأمين والمصرف وبرنامج التقاعد هي ذات مستوى مقبول؟ إذا لم تكن الحال هكذا: كيف يسعك أن تشعر بالأمان لدى مواجهتك هذه المشاكل؟ (...) حدّدتُ الاستلاب بدءًا بوصفه ذاك الشعور بعدم الرغبة فعلًا في إنجاز ما نعمل عليه، فيما نحن نتصرّف بحرّية، تبعًا لقراراتنا الشخصيّة وإرادتنا الخاصة. تأمّلوا معي يومًا عاديًا في المكتب أو حتى في المنزل: غالبًا ما نشغّل الكمبيوتر مع نيّة حاسمة بإتمام شيء نجده مفيدًا حقًا ومهمًّا ونرغب بوضوح في إنجازه. مثلًا، شغّلت كمبيوتري اليوم إذ أبغي إنهاء هذا الكتاب عن التسريع والاستلاب، ولست واثقًا في الواقع من أنّني راغب حقًا في فعل ذلك بهذه اللحظة تحديدًا – لعلّي أفضّل الاستماع إلى ألبوم U2 الذي اشتريته لتوّي – لكنّ مخطوطة كتابي كان ينبغي أنّ أسلّمها قبل سنتين! ومع ذلك، قبل الشروع في الكتابة، أبحرتُ سريعًا في بعض مواقع الإنترنت التي أعود إليها عادةً، ثم ألقيتُ نظرةً على CNN، ونظرة أخرى على صفحة متعلقة بآخر أخبار الروك الحديث. والحقيقة أنّني لستُ متأكدًا من أنّني كنت أرغب حقًا في الإبحار على هذا النحو، وكان يساورني شعور غريب لدى قيامي بذلك، والإحساس الخفيف بعدم الرضى كان يزداد مع كل قفزة أُقدم عليها، إذ لم أكن أُكمل أبدًا قراءة موضوع حتى آخره. يمكنكم القول إنّ تلك مشكلتي الشخصيّة وإنّه ضعف في الإرادة لديّ وإنّ المسألة لا تتعلّق بالبنى الاجتماعية المُسْتَلِبة. حسنٌ، أستطيع الردّ بقوّة فأقول إنّها التجربة المُسْتَلِبة والممتصّة ذاتها التي يتقاسمها ملايين بل مليارات مدمني الإنترنت، وبالتالي، من الصعب إرجاعها إلى ضعفي الفرديّ وحده (...)".
إلى الوقت، الذي يستلبُ الإنسان في زمننا الراهن، فهو يحصل، بحسب هَرْتموت روزا، في سائر ميادين الحياة والنشاط الإنسانيّ: "(...) الموظّفون (أيضًا أصحاب العمل) يشكون تناقص الوقت الذي يخصّصونه فعليًّا لنشاطهم الأساسيّ، كما يتجلّى ذلك في الوقت الذي يمضيه الطبيب مع مرضاه، والأساتذة في التعليم أو التثقيف، والعلماء في أبحاثهم، إلخ. في النهاية، مسألة أن لا إمكان للتوصل إلى إنجاز ما نرغب في إنجازه تمتدّ سنويًّا في سائر مجالات الحياة. (تصنّع الالتزام ̸ rhétorique de l'obligation) واضح الدلالة على وجود ذاك الشعور العميق بالاستلاب (...) هذا الشكل الغريب والجديد كلّيًا للاستلاب بالنسبة إلى نشاطاتنا الخاصة ينجم في رأيي أيضًا عن الاندفاعات الذاتيّة للمنافسة والتسريع. في عالم قائم على ضرورات السرعة. لسنا مضطرّين فحسب إلى تحقيق رغباتنا سريعًا (كمشاهدة التلفزيون) بدلًا من تحقيقها برويّة (كالعزف على الكمان)، بل نُقاد أيضًا، على ما ذكرتُ آنفًا، إلى شراء (الموجودات بالقوّة) والممكنات أكثر منها الأشياء النافعة، والتعويض عن الزهد بالاستهلاك عبر زيادة التسوّق. لا نجد الوقت لقراءة "الإخوة كارامازوف" (...) نقتني مزيدًا من الكتب والـ CD والـ DVD والتلسكوبات وآلات البيانو، إلخ، أكثر من الماضي، بيد أنّنا لا نستطيع هضمها لأنّ (الهضم) يتطلّب وقتًا طويلًا فيما نشعر بحاجة ماسّة ومتنامية إلى تعويض النقص الزمنيّ، ونعوّض أكثر فأكثر في الاستهلاك الذي لا ينتهي. هذا حسنٌ ربما للاقتصاد لكنّه سيّئ للحياة الطيّبة، وهذه بالتأكيد نقطة انطلاق واعدة لإعادة النظر في مفهوم (الحاجات الزائفة) (...)".
ثمّة في جانب آخر الاستلاب حيال الذات والآخرين، فالكائن في الزمن الحديث يلتقي أناسًا (في زحمة السير، عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، إلخ) في وقت قصير إلى حدّ الإشباع. تستطيع أن تتبادل المعلومات مع الآخرين، لكن آخر ما ترغب فيه هو الإصغاء إلى مشاكل حياتهم الشخصية. فلنذهب لاحتساء كأس معًا، ولكن فلنحاول ألاّ نتحدّث في قضايا شخصيّة وألاّ نقيم علاقات مكثّفة. نحن نعيش في زمن اللقاءات سريعة التبدّل. إذًا، الاستلاب حيال الذات وحيال الآخرين وجهان لعملة واحدة. من المؤكّد أنّ البنى الإدراكيّة في تصوّرنا لعلاقة أنا – العالم هي ذات تأثير على أسلوب عيشنا. لو اعتقدتَ مثلًا بأنّ الشيطان يختبئ في كلّ زوايا الشارع تستطيع البدء في اعتبار العالم مكانًا عدوانيًّا. وإذا كنت تعتقد بنظريات الخيار العقلانيّ التي تؤكّد على أنّ الهدف الأوحد للبشر هو إرضاء ميولهم ومنافعهم، يجب ألاّ تفاجأ عندئذ بأن يبدو العالم "صامتًا" تمامًا.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
جورج كعدي 17 نوفمبر 2022
اجتماع
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
هنا الجزء الثاني والأخير (الجزء الأوّل نُشر في "ضفّة ثالثة" بتاريخ 07̸11̸2022) من القراءة في كتاب عالم الاجتماع الألمانيّ هَرْتموت روزا Hartmut Rosa "استلاب وتسريع" (Aliénation et accéléation) في ترجمته الفرنسية، والذي يحلّل فيه آفتي عصرنا الحديث، التسريع، والاستلاب، أو العبوديّة والارتهان، اللذين يعيشهما الإنسان المعاصر نتيجة التسريع في مختلف مجالات الحياة ومناحيها.
نستكمل، قبل الوصول إلى قضيّة الاستلاب، مسألة التسريع، وبينهما التبطيء (décélération)، إذ يرى روزا أنّ "ثمة، ويا للأسف، واقع أنّ تسريع إيقاع الحياة والتسريع التقني مرتبطان، فالتسريع التقنيّ يمكن النظر إليه بوصفه (ردًّا) اجتماعيًا على مشكلة خلخلة الوقت، أي تسريع (إيقاع الحياة). عندما نتفحّص العلاقات السببّية بين الدوائر الثلاث للتسريع الاجتماعيّ، نكتشف الوجود غير المتوقّع لحلقة تغذّي نفسها: التسريع التقني، المرتبط غالبًا بظهور التكنولوجيات الجديدة (كالآلة البخاريّة، السكّة الحديد، السيارة، التلغراف، الكمبيوتر أو الإنترنت)، يجلب معه على نحوٍ لا يمكن تلافيه كمًّا من التغييرات في الممارسات الاجتماعيّة وبنى الواصل وأشكال الحياة المتلائمة. مثلًا، لم يضاعف الإنترنت سرعة التبادلات التواصلية و(افتراضيّة Virtualisation) السيرورات الاقتصادية والإنتاجيّة، فحسب، بل أرسى هيكليّات مهنيّة، اقتصاديّة وتواصليّة، فاتحًا الدرب لأشكال جديدة من التفاعل الاجتماعيّ، وحتّى لأشكال جديدة من الهويّة الاجتماعيّة (...) أكثر من ذلك، إذا كان تسريع التحوّل الاجتماعيّ يفضي إلى (ضغط الحاضر) فإنّه يؤدّي طبيعيًّا إلى تسريع (إيقاع الحياة). يتجلّى هذا الأمر في ظاهرة شائعة جدًا في مجال الإنتاج الرأسماليّ الذي نستطيع أن نُطلق عليه (ظاهرة المنحدر الانزلاقيّ) لمجتمع المنافسة: الرأسماليّ غير قادر على التوقّف أو أخذ وقت للراحة، ولا يسعه إيقاف السباق وتثبيت موقعه لكونه محكومًا بالصعود أو بالهبوط. لا نقطة توازن، فالبقاء بلا حركة يوازي السقوط إلى المنافسة، وفي ظلّ التحوّل الاجتماعيّ المتسارع في مناحي الحياة كلّها، يشعر الأفراد بأنّهم فوق (منحدرات انزلاقيّة): أخذ استراحة مديدة أضحى من الماضي، وهو غير متّسق مع تجربة الفرد ومعرفته وأدواته وتوجّهاته، وحتّى مع لغته. إذا كان القارئ أو القارئة يبحثان عن تجسيد لهذه الظاهرة في الحياة اليوميّة، يكفيهما التفكير ببساطة في رسائلهما الإلكترونيّة. عقب جلسة طويلة لمعالجة ال e - mails ، نستطيع بلوغ قمّة المسكوكات: كلّ الرسائل المفيدة قُرئت وأُنجز الردّ على كلّ الرسائل المهمّة (...) ويمتلئ ذلك مجدّدًا بلا توقّف، وبصمت، فيُشعرنا بأننا مثل سيزيف".
"يرى روزا أنّ "ثمة، ويا للأسف، واقع أنّ تسريع إيقاع الحياة والتسريع التقني مرتبطان، فالتسريع التقنيّ يمكن النظر إليه بوصفه (ردًّا) اجتماعيًا على مشكلة خلخلة الوقت، أي تسريع (إيقاع الحياة)" |
بالنسبة إلى هَرْتموت روزا، الأمور تتغيّر لكنّها لا تتطوّر ولا تصل إلى أي مكان، مطلقًا صفة "توتاليتاريّة التسريع"، ففي كل جوانبها تتبدّل العلاقات الإنسانيّة في المجتمع الحديث بحيث تغدو إشكاليّة قائمة نتيجة التسريع. وبقدر ما يبدو الزمن عابرًا بسرعة ونادرًا في الحياة المعاصرة، بقدر ما يبدو المكان متقلّصًا أو متناقضًا مع الزمن. ويوضح روزا مقصده قائلًا: "إنّني لا أستخدم مصطلح التوتاليتاريّة هنا كما حين أفعل لدى التحدث عن ديكتاتور سياسيّ أو ديكتاتوريّة فريق أو ديكتاتوريّة طبقة أو حزب، فالنظام التوتاليتاريّ في المجتمع الحديث المعاصر هو بالأحرى مبدأٌ مجردٌ يستعبد كلّ الذين يحيون تحت سلطته. نستطيع أن نعتبر السلطة توتاليتاريّة حين تمارس ضغطًا على إرادة الخاضعين لها وأفعالهم، وحين نعجز عن الفرار منها لكونها مؤثّرة في كلّ المسائل، وحين يكون حضورها طاغيًا وذا تأثير غير محدود في هذا أو ذاك من مجالات الحياة الاجتماعية، وحين يمسي صعبًا بل مستحيلًا انتقادها أو محاربتها. ندعو نظامًا ما توتاليتاريًّا عندما يفضي بالإنسان إلى الاستيقاظ ليلًا خائفًا ومذعورًا ويتملّكه شعور بالضغط وإحساس بأنّه سيموت للتوّ، ويكون متعرّق الجبين وقلبه يخفق بضربات سريعة (...) حتى الديكتاتوريّات السياسيّة الوحشية لا تتسبّب بعدد من تلك العوارض وثمة إمكان في ظلّها، بهذه الطريقة أو تلك، للنجاة أو الفرار أو المواجهة، حتّى من الأجهزة الاستخباريّة السرّية للطغاة. وهذه التوتاليتاريّات السياسيّة لا تستطيع، على الأقلّ، التحكّم في أدقّ تفاصيل الحياة اليومية. مع التسريع الاجتماعيّ الأمر مختلف: تكاد لا تنجو حلقة واحدة في الحياة الاجتماعية من تأثير السرعة واستبدادها. طالما أنّ تنامي التسريع الاجتماعيّ يُحدث تحوّلًا في نظامنا المكانيّ – الزمانيّ، يمكننا اعتباره بسهولة تامّة طاغي الحضور ومجتاحًا. إنّ هذا التسريع يمارس ضغطه مثيرًا الخوف المستمرّ من احتمال خسارتنا المعركة، ومن احتمال عجزنا عن اللحاق بالإيقاع، أي إرضاء كلّ الحاجات (المتنامية باستمرار) التي نواجهها، ومن احتمال أن نحتاج إلى استراحة فنُستبعد من السباق الجنونيّ. أو، على العكس من ذلك، ما يتعلّق بالعاطل عن العمل أو المريض، فإنّ الخوف لديهما هو عدم امتلاك القدرة على اللحاق بالذين يخوضون السباق (...) إنّها المجموعات الاجتماعية الجديدة من فئة المبعدين الذين يسمّون بالطبقة الاجتماعيّة الأدنى (précariat)".
"أمسى التحدّي الأساسيّ للإنسان المعاصر أن يتكيّف مع مستلزمات "البقاء في السباق" والحفاظ على قدرته التنافسيّة، وعدم الوقوع في عجلة الهامستر" |
يعود هَرْتموت روزا إلى ماركس يوم قال إنّ استلابًا خماسيّ الوجه يكابده الإنسان نتيجة نظام الإنتاج الرأسماليّ |
يعود هَرْتموت روزا إلى ماركس شابًّا يوم قال إنّ استلابًا خماسيّ الوجه يكابده الإنسان نتيجة نظام الإنتاج الرأسماليّ: استلاب متعلّق بنشاطاته (العمل)، بالمنتجات (الأشياء)، بالطبيعة، بالبشر الآخرين (العالم الاجتماعيّ)، وفي النهاية بنفسه أو بنفسها. ورأى ماركس أن الحداثة الرأسماليّة سوف تنتهي إلى خلق أوضاع اجتماعيّة يتناقض فيها الناس على نحو قاسٍ لجهة علاقتهم بـ"العالم" نفسه، فهم يصبحون مُسْتَلبين بالنسبة إلى العوالم الذاتيّة والموضوعيّة والاجتماعيّة. ويضيف روزا بالاستناد إلى قول ماركس: "أحاول تبيان أنّ الاستلاب الاجتماعيّ بلغ حدّ تخطّي عتبات يغدو البشر بعدها مستلبين حكمًا، ليس بالنسبة إلى نشاطاتهم وأعمالهم، والأشياء التي يعيشون ويعملون بها، والطبيعة، والعالم الاجتماعيّ وكينونتهم الخاصة، إنّما كذلك بالنسبة إلى الزمان والمكان" (...). إنّ الاستلاب يدلّ على اعوجاج شديد وبنيويّ في العلاقات بين الذات والعالم، في الطرائق التي ينوجد بها الإنسان في العالم. ولكون البشر هم بالضرورة ذوات مجسّدة، لا يمكنهم أن يحسّوا بالعالم إلاّ بكونه ممتدًّا في المكان كما لا يسعهم تصوّر ذواتهم سوى متموضعين في المكان. وقد لاحظ بول ڨيريليو وآخرون كثر، أنّ التقارب بين الاجتماعيّ والجسديّ في زمن العولمة الرقميّة يزداد افتراقًا: القريبون منّا اجتماعيًّا لم يبقوا في حاجة إلى أن يكونوا قريبين منّا اجتماعيًّا، والعكس صحيح. وعلى نحو مماثل، الاهتمام الاجتماعيّ يزداد افتراقًا عن القُرب المكانيّ. وهكذا فإنّ الكثير من المسارات الاجتماعيّة، إن لم يكن معظمِها، لم يبق مكان وجودها أو وضعها المكانيّ وثيق الصلة أو محدّدًا.
"إنّ الاستلاب يدلّ على اعوجاج شديد وبنيويّ في العلاقات بين الذات والعالم، في الطرائق التي ينوجد بها الإنسان في العالم" |
ثمة استلاب أو عبوديّة تمارسها الحاجات الماديّة أو المقتنيات على الإنسان، لشدّة تعلّقه بها، ويقدّم روزا هنا بعض الأمثلة: "(...) لو احتفظتَ بسيارتك أو الراديو المحمول أو هاتفك أو جهاز الكمبيوتر، طوال سنوات، حتى تهلك أو يطول استخدامها، ثمة احتمال قويّ لأن تمسي جزءًا من نفسك، أو العكس، تصبح أنت جزءًا منها. إنّك تستثمرها وتنظر إليها في كلّ أبعادها المحسوسة، وتحمل هي علامات تتركها أنت فيها. تصير جزءًا متمِّمًا من حياتك اليوميّة، من هويتك وتاريخك. بهذا المعنى، تتمدّد الذات إلى عالم الأشياء، والأشياء تسكن بدورها ذاتك. ولو استخدمنا مصطلحًا للفيلسوف الكندي شارل تايلور ̸ Taylor، يسعنا التأكيد أنّ الذات تبقى (مَسَاميّة̸ poreux) إلى حدّ ما: التخلّص من هذه الأشياء هو فعل يمسّ بهويتك. ولكن، في مجتمع التسريع، لم نعد نُصلح الأشياء، ففي حين نستطيع بيسر تسريع الإنتاج، لسنا بقادرين على تسريع خدمات الصيانة بما يكفي. وبالتالي، فإنّ إصلاح الأشياء أو صيانتها أكثر فأكثر كلفة قياسًا بشراء منتج بديل منها. أضف إلى ذك أنّ معظم المنتجات باتت تقنيًّا أكثر فأكثر تعقيدًا، وبالتالي فقدنا المعرفة العمليّة الضروريّة لإصلاحها بأنفسنا. في النهاية، طالما أنّ سرعة التحوّل الاجتماعيّ تزداد فإنّ الاستهلاك المعنويّ للأشياء يتجاوز دومًا استهلاكها الماديّ: نميل إلى رمي واستبدال السيارات، الكمبيوترات، الملابس، الهواتف، قبل أن تتلف ماديًّا (...) إنّه النظام المهيمن الذي نعيه بوضوح في مجال الخبرة في العمل. أنا نفسي، أعطيتُ كمبيوتري الأول اسمًا. كنت متيقّنًا من أنني سأحتفظ به لمدّة طويلة، وحاولتُ أن أجعل منه صديقًا. إنّ منح اسم لشيء هو دليل حاسم على أنّنا نحاول التآلف مع هذا الشيء، تملّكه. أحسستُ بضيق عندما انتهى بي الأمر إلى ضرورة التخلّص منه بسبب الاستهلاك المعنويّ. حتى أنّني لا أدري اليوم أيّ نوع من الكمبيوترات أستخدم، مثلما لا أدري أي رائحة يبعثها أو ماذا يشبه حين لا أكون في مكتبي، أو أي صوت يُحدث. لا تقلقني معرفة كم من الوقت سأحتفظ به. الأمر عينه يحصل بالنسبة إلى هاتفي المحمول (...) مع هاتفي القديم كنت أعرف كيف أبدّل نغمة رنينه، إنّما ليس مع هذا الجديد. هكذا في حين تغدو الأشياء أكثر تعقيدًا أغدو أنا أكثر غباءً في ما يتعلّق بها. في الواقع، أفقد بعض معارفي الثقافيّة والعمليّة. إنّها نتيجة طبيعيّة لاستمرار فقدان قيمة التجربة بفعل التحديث. أصبح كذلك مستلبًا إزاء الأشياء التي أملكها، بمعنى أنني أشعر بضيق من كوني لا أعاملها جيدًا. بل أشعر بالأحرى بالذنب حيالها. إنها ذات قيمة عالية وذكاء رفيع، وأشعر بنفسي كالأبله. ويا للأسف، لا ينطبق ذلك على الأدوات فحسب، إنّما أيضًا على البرامج. كنت متعوّدًا فعليًّا على برنامج Word - Dos وأعرف كلّ ميزة فيه وأدق تفاصيله. كان يسعني استخدامه لكل ما أحتاج إليه. كان متآلفًا كذلك مع نظام XP وأُحسن جيدًا استعماله لحاجاتي اليوميّ. بيد أنّني أشعر بذاتي أمّيًا تمامًا حيال Vista ولم أعد أعرف كيف أستخدم الطرائق المختزلة وإدخال الرسوم البيانيّة، إلخ. في اختصار، أضحينا، البرنامج وأنا، مستلبَين أحدنا للآخر. والأمر عينه ينسحب على ساعتي الجديدة ipod والمايكروويف (...) إننا نحيا ونتطوّر ونعمل في بيئات تبقى غريبة لنا (...) أستقلّ الطائرة من فيينا إلى زوريخ ولا أشعر بأنّني واثق من الإجراءات التي عليّ اتّباعها. الأمر ذاته يحصل مع تصريحي الضريبيّ. ومع العديد من الاستمارات التي ينبغي أن أملأها. الاستلاب يكمن في أننا لا نعثر أبدًا على الوقت للاستعلام فعليًّا عمّا يتعلّق بنا. أيّ إرشاد تطبيقيّ، أيّ عقد نوقّعه (خاصة عبر الإنترنت)، يفرضان علينا تحذيرًا مماثلًا (شكرًا لقراءتك جيدًا المعلومات الآتية قبل الإقدام على أي خطوة) – ونحن بالتأكيد لا نقرأ الدليل الإرشاديّ كاملًا، ولا العقد وشروطه العامة، ولا ورقة الدواء، قبل استخدامها. إذًا، فائض المعلومات هو أحد أسباب شعورنا بالاستلاب (سواء أسميناه كذلك أو لا) في العالم المعاصر. ولا يسري ذلك على الأشياء التكنولوجية والقرارات البسيطة، بل أيضًا على الخيارات الكبرى في الحياة: فلننظر مثلًا إلى حالة تلميذ متخرّج من المدرسة الثانوية حديثًا وهو يتساءل أي اختصاص جامعيّ يختار. أي مرشد يطلب استشارته يعطيه النصيحة الساذجة عينها: (حدّد أولًا ما ترغب في فعله تمامًا وما تحتاج إليه لكي تتوصل إلى تحقيقه. ثم ادرس في تمعّن الكتيّبات والبرامج الدراسيّة المتاحة لدى الجامعات التي تقترح عليك المواد التي تحث عنها). نصيحة عظيمة! ففي البدء، المتخرّجون من المرحلة الثانوية يعانون غالبًا المشكلة الآتية: إنّهم لا يدرون بالتحديد ما يحتاجون إليه وما يبغون فعله في حياتهم. ثانيًا، حتى لو قرّروا مادّة الدراسة، أيّ جامعات تهبهم فعليًا ما هم في حاجة إليه؟ ثالثًا، لن يتاح لهم الوقت الكافي لدراسة ومقارنة البرامج المقترحة. يبدأون هكذا بوعي سيّئ، يرمون بأنفسهم نصفيًّا في المجهول فيما كانوا قادرين وكان جديرًا بهم الاستعلام جيّدًا قبل ذلك.
"نميل إلى رمي واستبدال السيارات، الكمبيوترات، الملابس، الهواتف، قبل أن تتلف ماديًّا (...) إنّه النظام المهيمن الذي نعيه بوضوح في مجال الخبرة في العمل" |
يؤكد هَرْتموت روزا على أنّ عصر الحداثة أخلّ بوعوده (promesses) المتعلّقة بسعادة الإنسان (Getty Images) |
ثمّة في جانب آخر الاستلاب حيال الذات والآخرين، فالكائن في الزمن الحديث يلتقي أناسًا (في زحمة السير، عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، إلخ) في وقت قصير إلى حدّ الإشباع. تستطيع أن تتبادل المعلومات مع الآخرين، لكن آخر ما ترغب فيه هو الإصغاء إلى مشاكل حياتهم الشخصية. فلنذهب لاحتساء كأس معًا، ولكن فلنحاول ألاّ نتحدّث في قضايا شخصيّة وألاّ نقيم علاقات مكثّفة. نحن نعيش في زمن اللقاءات سريعة التبدّل. إذًا، الاستلاب حيال الذات وحيال الآخرين وجهان لعملة واحدة. من المؤكّد أنّ البنى الإدراكيّة في تصوّرنا لعلاقة أنا – العالم هي ذات تأثير على أسلوب عيشنا. لو اعتقدتَ مثلًا بأنّ الشيطان يختبئ في كلّ زوايا الشارع تستطيع البدء في اعتبار العالم مكانًا عدوانيًّا. وإذا كنت تعتقد بنظريات الخيار العقلانيّ التي تؤكّد على أنّ الهدف الأوحد للبشر هو إرضاء ميولهم ومنافعهم، يجب ألاّ تفاجأ عندئذ بأن يبدو العالم "صامتًا" تمامًا.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.