بخطى طليقة.. عن "إضراب البسكويت" في سجون الاحتلال الإسرائيلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بخطى طليقة.. عن "إضراب البسكويت" في سجون الاحتلال الإسرائيلي

    بخطى طليقة.. عن "إضراب البسكويت" في سجون الاحتلال الإسرائيلي
    عصمت منصور 13 نوفمبر 2022
    اجتماع
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    خاض الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي تجربة مميزة في سجن "بيت ليد"، بالرغم من قصر المدة التي قضوها في ذلك السجن. لقد أقدموا على خطوة استثنائية تمثلت في التوجه إلى القضاء الإسرائيلي، وطرق باب المحاكم، والاستناد إلى القوانين الإسرائيلية كمعيار، فتحولت تلك إلى سابقة لم تخلُ من الجدل الداخلي، ولكنها أثبتت نفسها بانتزاع قرار إغلاق السجن في عام 1976. التجربة كان لها الفضل في فتح أفق نضالي جديد ومعقد أمام الأسرى، وعدم الاكتفاء بما اعتادوا عليه من خيارات محصورة في ظروف معينة، حين يكون المطلب أكبر من إمكانياتهم، والخرق القانوني فيه واضح بالإضراب عن الطعام.
    الزمن الذي ترك أثره، وسُجل على شكل تجارب جديدة وعمليات تنقل وإعادة بناء داخلية لدى الأسرى، كان عاملًا لإفراغ أي إنجاز من مضمونه من قبل إدارة سجون الاحتلال، فما إن يفرغ الأسرى من خطوة وينتزعوا إنجازًا مهما كان صغيرًا، حتى تبدأ عملية الالتفاف عليه، أو حتى سحبه كليًا من قبل الإدارة مع مرور الزمن.
    حدث هذا مع تجربة سجل فيها الأسرى أول انتصار قانوني بارز قضى بإغلاق سجن بيت ليد (كفار يونا)، حيث ترقبت إدارة السجون الفرصة المواتية وانتهزتها ما بعد التبادل الذي جرى عام 1985، والذي تحرر فيه عدد كبير من قيادات الأسرى، وتقلص عددهم والشعور بالخيبة لدى معظم من لم يحالفهم الحظ بالتحرر، فقامت بإعادة افتتاح السجن مرة أخرى، وطبقت فيه ذات السياسة الهجومية من دون أن تدخل أي تحسينات على وضعه، أو تزيل الأسباب التي دعت إلى إغلاقه.

    "في سجن "بيت ليد" قرر الأسرى البدء بإضراب مفتوح عن الطعام تم الإعداد له في زمن قياسي لم يتجاوز الأسابيع، كما تم الاتفاق على أن ينطلق صوت الأسرى في سجن بيت ليد، وأن يعلن عن إضرابهم عبر إذاعة "صوت الثورة" لإيصال رسالة مفادها أنهم ليسوا وحدهم"



    ما إن وطأت أقدام الأسرى ساحات وأقسام السجن ذي السمعة السيئة، حتى أدركوا أنهم أمام واقع لا يمكنهم التعايش معه، وأن لا وقت أمامهم لالتقاط أنفاسهم، وكل ساعة تمضي ستعني قبولًا بالأمر الواقع الذي إذا ما تكرس سيعيدهم عقدًا من الزمان إلى الوراء.
    بادر الأسرى إلى إعلان حالة التعبئة، وشرعوا في إرسال رسائل التحذير إلى مدير السجن، ورسائل استغاثة إلى زملائهم في السجون الأخرى، ورسائل إضافية إلى المؤسسات الدولية وقيادتهم في الخارج. وتم الاتفاق في نهاية هذا السيل من الرسائل والردود على خوض إضراب مفتوح عن الطعام، تم الإعداد له في زمن قياسي لم يتجاوز الأسابيع، كما تم الاتفاق على أن ينطلق صوت الأسرى في سجن بيت ليد، وأن يعلن عن إضرابهم عبر إذاعة "صوت الثورة" لإيصال رسالة مفادها أنهم ليسوا وحدهم، وإعطاء الخطوة زخمًا إعلاميًا وشعبيًا يزيد من حظوظ نجاحها.
    تجاهل الأسرى في غمرة حماستهم واندفاعهم في مواجهة الظروف القاهرة التي وجدوا أنفسهم فيها عوامل حاسمة كان لها أثر كبير على نتيجة الإضراب، وأهمها:
    عنصر الزمن، وضرورة التروي كي يتسنى العمل على تعبئة القاعدة بشكل جيد، وتهيئتها لخوض الإضراب، وإعطائها الوقت الكافي كي تتبلور، وخاصة أن القاعدة (مجموع الأسرى) كانت متنوعة، وحوالي 90% منها لم يسبق لهم أن خاضوا تجربة الإضراب عن الطعام، كما أنه تم تجميع الأسرى من أكثر من سجن.
    حملة تضامنية مع الأسرى المضربين عن الطعام
    كذلك وجود عدد كبير في قسم (ب) من الحالات المترددة وغير المجربة، ويحتمل أن تكون مخترقة أمنيًا، والذين كان الاتصال معهم من بقية الأقسام شحيحًا.
    كانت مديرية السجون تعيش مرحلة انتقالية بسبب استقالة مدير مصلحة السجون (رافي سويسا)، ووجود مؤشرات إلى نية الحكومة تعيين ضابط فاشي ذي سمعة سيئة لدى الأسرى، هو ديفيد ميمون، الذي عرف بتاريخه الإجرامي، وتصلبه في مواجهة الأسرى.

    "تجاهل الأسرى في غمرة حماستهم واندفاعهم في مواجهة الظروف القاهرة التي وجدوا أنفسهم فيها عوامل حاسمة كان لها أثر كبير على نتيجة الإضراب، وأهمها: عنصر الزمن، وضرورة التروي كي يتسنى العمل على تعبئة القاعدة بشكل جيد"



    ما إن علمت إدارة السجن بنيّة الأسرى خوض إضراب عن الطعام، وقبل 24 ساعة من ساعة الصفر (التي كانت محدد في 29/9) حتى قامت بنقل تسعة من أبرز القيادات المؤثرة في السجن، ممن كان لهم الدور الأكبر في الإعداد للإضراب، وعزلتهم عن بقية زملائهم.
    لم تتراجع قيادة الأسرى عن قرارها بخوض الإضراب مهما كلف الثمن، خاصة أن أغلب الترتيبات جرت مع الخارج وبقية السجون، وبالفعل انطلق في الموعد المحدد له، ولاقى اهتمامًا إعلاميًا ومؤسساتيًا وصدى لدى السجون الأخرى، وهو ما شجع الأسرى على المضي به حتى النهاية.
    رفضت إدارة السجن تسلم قائمة مطالب الأسرى، وأعادتها لهم كلما حاولوا تسليمها، وهو إعلان مبطن عن نيتها عدم الاعتراف بالإضراب، أو التجاوب مع مطالبه.
    حتى اليوم الثالث، تجاهلت إدارة السجن قيادة الإضراب، وشنت حربًا نفسية وحملات تنكيل في قسم (ب) الذي يتواجد فيه أسرى جدد ممن لم يخوضوا تجربة الإضراب، بالإضافة إلى حالات مشبوهة وعملاء (من الذين سيصبحون نواة غرف العار)، وهذا أدى إلى كسر أسرى القسم للإضراب الواحد تلو الآخر.
    أخفت قيادة الأسرى الخبر عن بقية الأقسام لمدة يومين خشية حدوث انهيارات خاصة بين الأسرى الجدد، وكان يحدوها الأمل بأن يأتي اليوم الخامس والجسم الأكبر ما زال مع الإضراب، ويحافظ على صموده خاصة أن قرارًا انتزع من المحكمة العليا رأى أن وجبات الحليب لا تعد كسرًا للإضراب، وأن إدارة السجن ملزمة بتوزيعها بعد مرور 120 ساعة على الإضراب.
    الضربة التالية التي تلقاها الأسرى من إدارة السجن تمثلت في عدم تقديم الحليب، وتسريب خبر أنها سوف تعزل قسم (ب) عن بقية الأقسام، مع إعلان رفضها القاطع تسلم أي مطلب من الأسرى أو مناقشتهم.
    على الرغم من الإعياء، وتراجع كثير من الأسرى ممن اختاروا أن ينهوا إضرابهم، بقي الجسم الأكبر من الأسرى مستمرًا في الإضراب حتى اليوم الحادي عشر، وهو اليوم الذي جلس فيه مدير السجن لأول مرة مع الأسرى، وأعلن تجاوبه مع بعض مطالبهم، وهو ما عده الأسرى كافيًا لإنهاء الإضراب.
    أعلن الأسرى إنهاء اضرابهم عن الطعام، وأن هذا جاء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإعادة ترتيب أوراقهم، وتهيئة الظروف لخوض جولة جديدة.
    إدارة السجن من جانبها هي الأخرى تعمدت المماطلة، وعدم تنفيذ ما تعهدت به، متخذة سياسة تسويفية لا تقطع أمل الأسرى، ولكنها لا تقدم لهم شيئًا مما تعهدت به في اتفاق إنهاء الإضراب.
    أدرك الأسرى في سجن بيت ليد أنهم وقعوا ضحية ظروف سيئة، وإدارة حاقدة، وقاعدة غير متجانسة، وغير جاهزة نفسيًا وجسديًا، وأن قدرتهم على خوض إضراب جديد محدودة إن لم تكن معدومة.
    كانوا يعون تمامًا أن حالة الضعف هذه قد تفقدهم كرامتهم، ناهيك عن بقية مكتسباتهم، وأن هذا لن يقتصر على سجن بيت ليد وحده، بل سيمتد إلى بقية السجون.
    ما بين خوض خطوة (انتحارية) والاستسلام، انبثقت فكرة خوض خطوات تكتيكية صغيرة، مثل إرجاع وجبات طعام محددة، أو الامتناع عن الخروج إلى ساحة السجن، ومقاطعة العيادة، وغيرها من الأساليب التي لا ترقى إلى مستوى مواجهة مفتوحة، لكنها تكفي كي توصل رسالة رفض واضحة للأمر الواقع، كما أنها تساهم في صقل وإعداد القاعدة وإكسابها خبرة، وإبقائها في حالة من الجهوزية والتعبئة.
    الزمن مرة أخرى يتحول إلى حبل يشده كل طرف إلى حلبته، ويريد من خلاله أن يحسم المعركة.

    "بدلًا من الخبز والطعام المقدم من إدارة السجن، أقدم الأسرى على تناول المواد المتوفرة لديهم في زنازينهم، واقتناء ما يسدون به جوعهم من مقصف السجن. جمعت قيادة الأسرى في السجن كل ما لديها من أموال في صناديق جماعية، واشترت بها (بسكويتًا)، وقامت بتوزيعه على الأسرى"



    خلال فترة التوتر التي امتدت قرابة الشهرين، وفد إلى السجن أسرى من ذوي الخبرة، كما أن الأسرى أنفسهم في سجن بيت ليد تعرفوا على بعضهم بعضًا بشكل أعمق، وهذا كان كفيلًا بتهيئة الظروف لخوض خطوة جديدة، ورد الكرة لإدارة السجن.
    أعلن الأسرى عن إضراب فريد من نوعه، وأطلقوا عليه اسم (الإضراب الجزئي عن الطعام)، وهو نوع جديد من الإضرابات أرادوا من خلاله أن يخوضوا معركة طويلة، وأن يحيّدوا الجوع والزمن معًا، وذلك من خلال رفض الطعام المطبوخ الذي تقدمه إدارة السجن، وتناول الخبز فقط.
    واجهت إدارة السجن الإضراب الجزئي تمامًا كما واجهت الإضراب المفتوح، وامتنعت عن إحضار الخبز: (إما كل الطعام، أو لا شيء).
    بديلًا من الخبز والطعام المقدم من إدارة السجن، أقدم الأسرى على تناول المواد المتوفرة لديهم في زنازينهم، واقتناء ما يسدون به جوعهم من كانتين (مقصف) السجن.
    جمعت قيادة الأسرى في السجن كل ما لديها من أموال في صناديق جماعية، واشترت بها (بسكويتًا)، وقامت بتوزيعه على الأسرى.
    أطلق الأسرى بعد ذلك على هذه التجربة التي فتحت الباب واسعًا للاجتهاد والتنويع في وسائل النضال، اسم "إضراب البسكويت"، وهو إضراب استمر لمدة 11 يومًا، وحقق مطالب مهمة أبرزها الاعتراف بممثل واحد عن الأسرى يختارونه هم بأنفسهم لتمثيلهم أمام مدير السجن، وفتح باب التنقل بين الأقسام، وكسر العزلة الداخلية بين المناضلين في السجن الواحد، كما تم تحسين الطعام، وتوسعة الشبابيك، وفتح مجال للتهوية، والاهتمام أكثر بالحالات المرضية، وبكبار السن، ووقف كلي للعنف الجسدي والتفتيش المذل، وإدخال صحف يومية بالعربية، وعدم مصادرة ما يكتبه الأسرى، ومنها إنتاجاتهم الأدبية والفكرية.


    *أسير مُحرّر وروائي فلسطيني. وهذا النصّ فصل آخر من محاولة كتابة سيرة اجتماعية ـ ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
يعمل...
X