بخطى طليقة.. التبادل
عصمت منصور 12 أكتوبر 2022
اجتماع
عبد الرحمن قطناني، فلسطين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا تؤدي الجدران في السجن سوى وظيفة ثانوية، وهي بقدر ما تكون منيعة ومعادية من الخارج، فإنها رخوة وقابلة للتشكيل وإعادة البناء لدورها ووظيفتها من الداخل، وفق صراع الإرادات الناشئ بين ثناياها.
بعد تجريد المقاتل من سلاحه، يتم عزله عن العالم، بين أربعة جدران، يتناوب فيها السجان والزمن على مهمة تحويل هذا المقاتل المنطلق والذي كسر قيوده النفسية وتحرر من خوفه وتمرد على الواقع الذي حشر فيه، إلى أسير، خاضع ومكسور غارق في اليأس ومستسلم لإرادة السجان.
بعد أن خاضوا أول إضراب، واهتدوا إلى السلاح الذي حرر أرادتهم، وبعد أن عمّدوا وحدتهم ولحمتهم بدماء أول شهيد هو عبد القادر أبو الفحم، لان جدار السجن، وتعرّت هشاشته، ولم يعد وظيفيا قادرا على حبس الأسرى أو احتوائهم.
الخطوات في ساحات السجن أصبحت أخفّ وأكثر ثقة، والأهم من ذلك، بات لها هدف وغاية.
المجموعة المبعثرة أخذت شكلًا منظمًا، وتحولت إلى جسم لديه لوائحه ومنظومته الثورية والقيمية، وأنتجت المجموعة رموزها وقادتها الذين شكلوا عناوين تعبر عن عناصرها داخليًا، وتمثلها أمام إدارة السجن وتقود خطواتها نحو أرضية أكثر صلابة وقوة.
تستطيع الجدران أن تلتف حول الجسد، لكنها تصغر تمامًا أمام الأفكار والمبادئ والإلهام، وهذا ما أتقنه الأسرى الذين أطلوا برؤوسهم فوق أسلاك السجن الشائكة، وأسواره العالية المحصنة.
مهما كانت الأفكار خلاقة وقوية ومنغرسة عميقًا في النفوس، تبقى بحاجة إلى مرساة وخيط يربطها بأرض الواقع، وهذه المرساة كانت افتراضية نظرية في بداية الاعتقال، قائمة على الربط بين الأسير الفرد داخل الأسر وما بين الثورة وفصائلها والمكانة التي تحتلها يوميًا عبر نضالها العسكري والسياسي والوطني في مواجهة دولة الاحتلال.
الربط العملي الواقعي الأول الذي وثق الصلة وجعلها ملموسة ما بين حركة الثورة وما بين الأسرى، تجلى في عمليات تبادل الأسرى التي أجرتها الثورة وفصائلها مع دولة الاحتلال.
التبادل ليس عملية شكلية تقاس بالأرقام وكم تحرر منهم في كل دفعة، بل مد قبضة الثورة إلى السجن وتبديد سطوته وظلمته، والاستخفاف بقوانينه وأحكامه التي كانت تصدر من محاكم الاحتلال.
لم تعد الأحكام الرادعة والمنظومة القضائية ذات صلة، وأصبح قرار التحرر والإفراج بيد الثورة.
لم يعد للسجن والسجان هيبة وجبروت بعد أن أصبح هناك معادل قوي قادر على إنهاء حكمهما.
شهد الصراع العربي الإسرائيلي عشرات عمليات التبادل ما قبل عام 1968 والذي يمكن اعتباره الحد الفاصل بين نمطين وعالمين.
عمليات التبادل التي كانت تتم بين دول عربية وإسرائيل كانت (حتى هذا التاريخ) تتم بين دول قائمة وجيوش نظامية متحاربة، وتأخذ بعدا شكليا إنسانيا بعد صمت المدافع، وانقشاع غبار المعارك، وهي بذلك إنما كانت مجردة من أي حمولة أيديولوجية معنوية ولا تحظى بأي رمزية خاصة.
في عام 1968 اختطفت مجموعة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الرفيق يوسف الرضيع والرفيقة ليلى خالد التي ذاع صيتها بعد هذه العملية، طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، وأجبرتها على تغيير مسار رحلتها التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وبدل ذلك التوجه إلى الجزائر.
كان في داخل أول طائرة إسرائيلية يتم اختطافها من قبل فصيل فلسطيني أكثر من مائة راكب، وأفضت هذه العملية إلى إبرام أول صفقة تبادل مع دولة الاحتلال تم تنسيقها من خلال الصليب الأحمر الدولي وتضمنت بنودها: الإفراج عن الركاب المحتجزين في الطائرة المخطوفة مقابل (37) أسيرًا فلسطينيًا.
هذا الحدث يمكن اعتباره والنظر إليه على أنه اللحظة التي مات فيها السجن معنويًا، وتقزم السجان، وأرسى الأساس المادي الذي ربط الأسرى والأفكار التي يحملونها مع حركة الثورة ونضالها في الخارج، خاصة وأن هذا الحدث لم يكن يتيمًا ولا منفردًا إذ تبعته بعد عدة أعوام عملية تبادل أخرى بشكل جديد أكثر وفرة وقابلية للتطبيق.
عملية التبادل الثانية جرت بين منظمة التحرير (حركة فتح) وما بين دولة الاحتلال، وأنجزت في عام 1971 وتم فيها إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطفته الحركة قبلها بعامين بأول أسير فتحاوي هو محمود بكر حجازي.
تحرر حجازي الذي كان صدر بحقه حكم بالإعدام قبل ذلك عبر رأس الناقورة ومنها إلى بيروت للالتحاق بصفوف الثورة، لم يحمل دلالات رمزية فقط بل جسّد الأمل والرغبات الدفينة وجعلها واقعًا أنعش الأسرى وحفز إرادتهم، وملّكهم سلاحًا تعبويًا داخليًا أعطى للتنظيم ومن يقف على رأسه هيبة وقوة، تحول المعتقل الفلسطيني في سجون الاحتلال من مجرد أسير يحمل أفكارا عامة، وينظّر لثورة بعيدة ويبشر بالنصر الحتمي، إلى قائد يمتلك سلطة فعلية وأداة ضبط للخطى التي زادت رسوخًا وخفة في حركتها في ساحات السجون المغلقة.
توالت عمليات التبادل وهي إلى جانب كل المكاسب المعنوية والرمزية التي قدمتها للأسرى الذين لم يحالفهم الحظ بأن يكونوا ضمن المشمولين فيها، فتحت لهم نافذة واسعة للأمل.
تنبه منظر الحركة الأسيرة ومفكرها الأكثر حضورًا في مراحل تكوينها الجنينية الأولى، الشهيد عمر القاسم، والذي استشهد في الأسر بعد 21 عامًا من الاعتقال، إلى الوظيفة المعنوية والرمزية لعمليات التبادل وضرورة توظيفها في ضبط حركة الأسرى الداخلية ومدهم بالأمل اللازم الذي يمكن استقاؤه منها.
حدّد القاسم من خلال تطبيق معارفه العلمية والفكرية وخلفيته اليسارية ومنهجه الديالكتيكي وثقافته الواسعة وتحرر عقله، أن الاسير يعيش عمليا أزمتين، أزمة تأقلم وأزمة تحرر.
اعتبر القاسم أن أزمة التحرر يمكن حلها موضوعيًا من خلال انتصار الثورة وتحقيق أهدافها، أو - وهنا ظهر أثر التبادل- من خلال تبادل الأسرى الذي اعتبر حلًا جزئيًا ومرحليًا لأزمة الحرية كونه غير شامل ولا يضمن عدم إعادة ملء السجون مع تصاعد حركة الثورة.
الربط العبقري الذي ساهم به القاسم، والذي منح قيادات الأسرى سلطة على الجسم الذي يقودونه، لم يكن في وضع معايير موضوعية للأولويات التي تحدد من يجب أن يشملهم التبادل أولا، بل كان من خلال اعتبار أن أزمة التكيف (التي لا تعني التكيف السلبي مع ظروف الاعتقال والأسر بل تكيفها لتصبح أكثر إنسانية وملاءمة لحياة مقاتلين متفوقين أخلاقيًا على سجانهم) تحتاج إلى مقاييس أخلاقية ووطنية ونضالية شخصية عالية، تؤهل الأسرى لأن يرتقوا في سلوكهم إلى مرتبة جيش ثوري أسير، يتصاعد فعله ونضاله من النضال المطلبي اليومي إلى أن يصل إلى مرحلة النضال السياسي التحرري الذي يضطر السجان في نهايته للاعتراف بالأسرى كأسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية.
وفق رؤية عمر القاسم، التي أصبحت العنوان العريض لنضال الأسرى، تتقاطع مرحلة بلوغ الثورة لأهدافها وما تحققه من إنجازات، مع اكتمال مرحلة تكييف الأسر، وهو ما يفضي في النهاية إلى حل أزمة الحرية، وتلاشي السجون والظروف التي أنتجتها.
تضافر سلاح الجوع والاعتماد على الإرادة مع تبلور قيادة صلبة ذات رؤية وبصيرة ثورية، مع حصول أول عملية تبادل للأسرى، خلق الأرضية الصلبة التي أطلقت خطى الأسرى وحررتهم داخليا ومكنتهم من إفراغ الجدران من وظيفتها بحيث لم تعد تسجن الرؤوس ولا تكبل الخطى، وهذا ما فتح الباب واسعًا لثورة داخلية معرفية ونضالية وتنظيمية تم التعبير عنها من خلال اللوائح والبيانات والأدبيات التي أنتجت في تلك الفترة، وعلى الروح التي سادت والتي انعكست حتى على الاهتمام ببنية الجسد والهندام واللغة اليومية التي ارادت أن تتمثل في كل تفصيل صغير صورة المقاتل المثالية وأن تزيد من الهوة بين الأسير والسجان كونهما ممثلين لطرفي صراع ومنظومتين أخلاقيتين وإنسانيتين.
* أسير مُحرّر وروائي فلسطيني. وهذا النصّ فصل آخر من محاولة كتابة سيرة اجتماعية ـ ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
عصمت منصور 12 أكتوبر 2022
اجتماع
عبد الرحمن قطناني، فلسطين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا تؤدي الجدران في السجن سوى وظيفة ثانوية، وهي بقدر ما تكون منيعة ومعادية من الخارج، فإنها رخوة وقابلة للتشكيل وإعادة البناء لدورها ووظيفتها من الداخل، وفق صراع الإرادات الناشئ بين ثناياها.
بعد تجريد المقاتل من سلاحه، يتم عزله عن العالم، بين أربعة جدران، يتناوب فيها السجان والزمن على مهمة تحويل هذا المقاتل المنطلق والذي كسر قيوده النفسية وتحرر من خوفه وتمرد على الواقع الذي حشر فيه، إلى أسير، خاضع ومكسور غارق في اليأس ومستسلم لإرادة السجان.
بعد أن خاضوا أول إضراب، واهتدوا إلى السلاح الذي حرر أرادتهم، وبعد أن عمّدوا وحدتهم ولحمتهم بدماء أول شهيد هو عبد القادر أبو الفحم، لان جدار السجن، وتعرّت هشاشته، ولم يعد وظيفيا قادرا على حبس الأسرى أو احتوائهم.
الخطوات في ساحات السجن أصبحت أخفّ وأكثر ثقة، والأهم من ذلك، بات لها هدف وغاية.
المجموعة المبعثرة أخذت شكلًا منظمًا، وتحولت إلى جسم لديه لوائحه ومنظومته الثورية والقيمية، وأنتجت المجموعة رموزها وقادتها الذين شكلوا عناوين تعبر عن عناصرها داخليًا، وتمثلها أمام إدارة السجن وتقود خطواتها نحو أرضية أكثر صلابة وقوة.
تستطيع الجدران أن تلتف حول الجسد، لكنها تصغر تمامًا أمام الأفكار والمبادئ والإلهام، وهذا ما أتقنه الأسرى الذين أطلوا برؤوسهم فوق أسلاك السجن الشائكة، وأسواره العالية المحصنة.
مهما كانت الأفكار خلاقة وقوية ومنغرسة عميقًا في النفوس، تبقى بحاجة إلى مرساة وخيط يربطها بأرض الواقع، وهذه المرساة كانت افتراضية نظرية في بداية الاعتقال، قائمة على الربط بين الأسير الفرد داخل الأسر وما بين الثورة وفصائلها والمكانة التي تحتلها يوميًا عبر نضالها العسكري والسياسي والوطني في مواجهة دولة الاحتلال.
عام 1968 اختطفت مجموعة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطينبقيادة الرفيق يوسف الرضيع والرفيقة ليلى خالد، التي ذاع صيتها بعد هذه العملية، طائرة إسرائيلية |
الربط العملي الواقعي الأول الذي وثق الصلة وجعلها ملموسة ما بين حركة الثورة وما بين الأسرى، تجلى في عمليات تبادل الأسرى التي أجرتها الثورة وفصائلها مع دولة الاحتلال.
التبادل ليس عملية شكلية تقاس بالأرقام وكم تحرر منهم في كل دفعة، بل مد قبضة الثورة إلى السجن وتبديد سطوته وظلمته، والاستخفاف بقوانينه وأحكامه التي كانت تصدر من محاكم الاحتلال.
لم تعد الأحكام الرادعة والمنظومة القضائية ذات صلة، وأصبح قرار التحرر والإفراج بيد الثورة.
لم يعد للسجن والسجان هيبة وجبروت بعد أن أصبح هناك معادل قوي قادر على إنهاء حكمهما.
شهد الصراع العربي الإسرائيلي عشرات عمليات التبادل ما قبل عام 1968 والذي يمكن اعتباره الحد الفاصل بين نمطين وعالمين.
عمليات التبادل التي كانت تتم بين دول عربية وإسرائيل كانت (حتى هذا التاريخ) تتم بين دول قائمة وجيوش نظامية متحاربة، وتأخذ بعدا شكليا إنسانيا بعد صمت المدافع، وانقشاع غبار المعارك، وهي بذلك إنما كانت مجردة من أي حمولة أيديولوجية معنوية ولا تحظى بأي رمزية خاصة.
في عام 1968 اختطفت مجموعة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الرفيق يوسف الرضيع والرفيقة ليلى خالد التي ذاع صيتها بعد هذه العملية، طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، وأجبرتها على تغيير مسار رحلتها التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وبدل ذلك التوجه إلى الجزائر.
"اختطاف الطائرة الإسرائيلية عام 1968 يمكن اعتباره والنظر إليه على أنه اللحظة التي مات فيها السجن معنويًا، وتقزم السجان، وأرسى الأساس المادي الذي ربط الأسرى والأفكار التي يحملونها مع حركة الثورة ونضالها في الخارج" |
هذا الحدث يمكن اعتباره والنظر إليه على أنه اللحظة التي مات فيها السجن معنويًا، وتقزم السجان، وأرسى الأساس المادي الذي ربط الأسرى والأفكار التي يحملونها مع حركة الثورة ونضالها في الخارج، خاصة وأن هذا الحدث لم يكن يتيمًا ولا منفردًا إذ تبعته بعد عدة أعوام عملية تبادل أخرى بشكل جديد أكثر وفرة وقابلية للتطبيق.
عملية التبادل الثانية جرت بين منظمة التحرير (حركة فتح) وما بين دولة الاحتلال، وأنجزت في عام 1971 وتم فيها إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطفته الحركة قبلها بعامين بأول أسير فتحاوي هو محمود بكر حجازي.
تحرر حجازي الذي كان صدر بحقه حكم بالإعدام قبل ذلك عبر رأس الناقورة ومنها إلى بيروت للالتحاق بصفوف الثورة، لم يحمل دلالات رمزية فقط بل جسّد الأمل والرغبات الدفينة وجعلها واقعًا أنعش الأسرى وحفز إرادتهم، وملّكهم سلاحًا تعبويًا داخليًا أعطى للتنظيم ومن يقف على رأسه هيبة وقوة، تحول المعتقل الفلسطيني في سجون الاحتلال من مجرد أسير يحمل أفكارا عامة، وينظّر لثورة بعيدة ويبشر بالنصر الحتمي، إلى قائد يمتلك سلطة فعلية وأداة ضبط للخطى التي زادت رسوخًا وخفة في حركتها في ساحات السجون المغلقة.
توالت عمليات التبادل وهي إلى جانب كل المكاسب المعنوية والرمزية التي قدمتها للأسرى الذين لم يحالفهم الحظ بأن يكونوا ضمن المشمولين فيها، فتحت لهم نافذة واسعة للأمل.
تنبه منظر الحركة الأسيرة ومفكرها الأكثر حضورًا في مراحل تكوينها الجنينية الأولى، الشهيد عمر القاسم، والذي استشهد في الأسر بعد 21 عامًا من الاعتقال، إلى الوظيفة المعنوية والرمزية لعمليات التبادل وضرورة توظيفها في ضبط حركة الأسرى الداخلية ومدهم بالأمل اللازم الذي يمكن استقاؤه منها.
"وفق رؤية عمر القاسم، التي أصبحت العنوان العريض لنضال الأسرى، تتقاطع مرحلة بلوغ الثورة لأهدافها وما تحققه من إنجازات، مع اكتمال مرحلة تكييف الأسر، وهو ما يفضي في النهاية إلى حل أزمة الحرية، وتلاشي السجون والظروف التي أنتجتها" |
اعتبر القاسم أن أزمة التحرر يمكن حلها موضوعيًا من خلال انتصار الثورة وتحقيق أهدافها، أو - وهنا ظهر أثر التبادل- من خلال تبادل الأسرى الذي اعتبر حلًا جزئيًا ومرحليًا لأزمة الحرية كونه غير شامل ولا يضمن عدم إعادة ملء السجون مع تصاعد حركة الثورة.
الربط العبقري الذي ساهم به القاسم، والذي منح قيادات الأسرى سلطة على الجسم الذي يقودونه، لم يكن في وضع معايير موضوعية للأولويات التي تحدد من يجب أن يشملهم التبادل أولا، بل كان من خلال اعتبار أن أزمة التكيف (التي لا تعني التكيف السلبي مع ظروف الاعتقال والأسر بل تكيفها لتصبح أكثر إنسانية وملاءمة لحياة مقاتلين متفوقين أخلاقيًا على سجانهم) تحتاج إلى مقاييس أخلاقية ووطنية ونضالية شخصية عالية، تؤهل الأسرى لأن يرتقوا في سلوكهم إلى مرتبة جيش ثوري أسير، يتصاعد فعله ونضاله من النضال المطلبي اليومي إلى أن يصل إلى مرحلة النضال السياسي التحرري الذي يضطر السجان في نهايته للاعتراف بالأسرى كأسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية.
وفق رؤية عمر القاسم، التي أصبحت العنوان العريض لنضال الأسرى، تتقاطع مرحلة بلوغ الثورة لأهدافها وما تحققه من إنجازات، مع اكتمال مرحلة تكييف الأسر، وهو ما يفضي في النهاية إلى حل أزمة الحرية، وتلاشي السجون والظروف التي أنتجتها.
تضافر سلاح الجوع والاعتماد على الإرادة مع تبلور قيادة صلبة ذات رؤية وبصيرة ثورية، مع حصول أول عملية تبادل للأسرى، خلق الأرضية الصلبة التي أطلقت خطى الأسرى وحررتهم داخليا ومكنتهم من إفراغ الجدران من وظيفتها بحيث لم تعد تسجن الرؤوس ولا تكبل الخطى، وهذا ما فتح الباب واسعًا لثورة داخلية معرفية ونضالية وتنظيمية تم التعبير عنها من خلال اللوائح والبيانات والأدبيات التي أنتجت في تلك الفترة، وعلى الروح التي سادت والتي انعكست حتى على الاهتمام ببنية الجسد والهندام واللغة اليومية التي ارادت أن تتمثل في كل تفصيل صغير صورة المقاتل المثالية وأن تزيد من الهوة بين الأسير والسجان كونهما ممثلين لطرفي صراع ومنظومتين أخلاقيتين وإنسانيتين.
* أسير مُحرّر وروائي فلسطيني. وهذا النصّ فصل آخر من محاولة كتابة سيرة اجتماعية ـ ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.