ملابس وخناجر.. لماذا تهتم الإمبراطوريات بملابس النساء؟
رافيا زكريا 10 سبتمبر 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
كره المبشّرون البريطانيون الساتي، وأرادت النسويات الأميركيات منع البرقع. فلماذا تهتم الإمبراطوريات بملابس النساء إلى هذا الحدّ؟
عام 1820، في مدينة بِنارس الهندية، ساعد مبشّر إنكليزي معمداني يدعى سميث في إنقاذ امرأة من عادة الساتي (حرق الأرامل) الهندوسية. وقد وصف المشهد قائلًا: "ما أن لمستْها النيران، قفزت مبتعدة عن كومة الحرق. لكن البراهمة (كهنوت الهندوس) أمسكوا بها فورًا لكي يرجعوها إلى النيران. فصرختْ: "لا تقتلوني! لا أريد أن أُحرق!" وبسبب وجود ضباط الشركة هناك، تمت إعادتها إلى بيتها سالمة". بعدها، أوردت مجلة لندنية تقريرًا عن الجهود البطولية لشركة الهند الشرقية البريطانية تحت عنوان "إنقاذ امرأة". إذا كان ثمة شيء واحد عرفه أوروبيو القرن التاسع عشر عن الهند، فهو على الأرجح الساتي.
إن توصيف السيد سميث عام 1820 لإنقاذ الرجال البريطانيين الأشاوس لامرأة هندية من محرقة جنازة زوجها هو واحد من العديد من التقارير المعاصرة المشابهة. في ذلك الوقت، كانت شركة الهند الشرقية قد أصبحت لتوها سلطة حاكمة فاعلة في الهند. وكانت، كوجود تجاري، غير مكترثة بالثقافة. أما كوجود حاكم، فد انبرت لإصلاح العادات المحلية البربرية.
أما في مرحلة أحدث، فالنساء الأفغانيات هن من كنّ بحاجة إلى الإمبراطورية الأنغلو- أميركية لتنقذهن. في عام 2002، أرسل تجمّع منظمات نساء غربيات رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش طالبين منه "اتخاذ إجراءات طارئة لإنقاذ حياة النساء الأفغانيات وضمان مستقبلهن". وتضمنت قائمة الموقعين على الرسالة: إلينور سميل، رئيسة مؤسسة الغالبية النسوية في فيرجينيا، بالإضافة إلى نسويات بارزات أخريات مثل غلوريا ستاينم، إيف إنسلر، ميريل ستريب، وسوزان سارندون. إن النساء الأميركيات بأغلبيتهن يدعمن الحرب، أشارت الرسالة، لأن الحرب سوف "تحرر النساء الأفغانيات من سوء المعاملة والاضطهاد"!
وفي تموز/ يوليو عام 2004، أي بعد ثلاث سنوات من غزو أفغانستان، أعلن بوش النصر: "منذ ثلاث سنوات، كانت أصغر مظاهر الفرح محظورةً. وكانت النساء يُضرَبن جرّاء ارتدائهن أحذية زاهية الألوان. اليوم، نشهد انبعاث الثقافة الأفغانية النابضة". بعد ذلك، في آذار/ مارس عام 2015، وتحت عنوان: "خط الدفاع الواهن ضد جرائم الشرف"، تحدثت مجلة "نيويورك تايمز" عن النصر. "فهيمة... كانت واحدة من النساء المحظوظات"، كتبت المراسلة الأجنبية أليسا روبن، "فقد تمكنت من الوصول إلى واحد من مآوي طوارئ النساء". فالحرب التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان عنت بإنشاء "حوالي عشرين" مأوى للنساء "ممولة بالكامل تقريبًا من متبرعين غربيين". و"هذه المآوي...هي واحدة من التركات الأكثر نجاحًا – واستفزازًا- التي سيخلّفها الوجود الغربي في أفغانستان"، تشير روبن، "مبيّنةً أن النساء بحاجة إلى من يحميهن من عائلاتهن، وأنه يمكن لهن اتخاذ خياراتهن بأنفسهن".
إن وضع نهاية للساتي، أو حرق الأرامل، في هند القرن التاسع عشر، وإنشاء مآوي النساء لحمايتهن من جرائم الشرف في أفغانستان القرن الواحد والعشرين، هما حملتان تسندان قرنين من وقوف الأنغلو- أميركيين العادل ضد العادات المحلية المروّعة؛ أو على وجه التحديد: حماية النساء السمراوات من العادات المحلية البربرية. علاوة على ذلك، ما سجّله المبشر البريطاني في القرن التاسع عشر، وتقرير مجلة "نيويورك تايمز" في القرن الواحد والعشرين، كلاهما يرويان قصصًا ملحّة عن الأنغلو- أميركيين بوصفهم "خط الدفاع الواهن" الهش الذي يحمي نساءً محليات مستضعفات.
لكن، في واقع الأمر، وبعد أكثر من عقد على احتفاء الرئيس بوش بتحريرهن ومطالبة النسويات الأميركيات باستمرار الحملة الباسلة، النساء الأفغانيات لسن حُرّات. فبين عامي 2012 و2013، ازداد العنف ضد النساء في أفغانستان بنسبة 25%. والوكالات الأميركية المؤتمنة على مئات ملايين الدولارات لأجل النساء الأفغانيات عاجزة عن توضيح كيفية استخدام تلك النقود لتمكينهنّ. لقد تغير الكثير منذ أيام شركة الهند الشرقية حتى وقت التحالف الأحدث بين بوش ومؤسسة الغالبية النسوية، لكن لم يتغير كل شيء؛ فالتصوير الأنغلو- أميركي للغزو على أنه عمل خير دامَ.
لماذا إذًا التركيز بصورة خاصة على إنقاذ النساء المحليات؟
هل النساء، حريتهن، ملابسهن، وزيجاتهن، تشكّل منفذًا هامًا لإرساء الهيمنة؛ منهجًا لتصوير الغزاة الأجانب على أنهم خيّرون؟ الجواب الأكثر إقناعًا لهذا التساؤل هو أن الحركات النسوية الأفغانية والحركات النسوية في جنوب آسيا مشوبة بتواطؤ متخيَّل مع الاستعمارية والإمبريالية. بالتالي، تبيان كيف أن جوانب من حياة النساء - ملابسهن وزيجاتهن- قد وُضِعت في خدمة مشاريع سيطرة إمبريالية أنغلو- أميركية، ومدى ضآلة علاقة هذه المشاريع بالنساء الحقيقيات، هو خطوة باتجاه رفع عبء التواطؤ الإمبريالي على النسوية الأفغانية.
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، شدت آنيت أكرويد الرحال إلى كالكُتا لإنشاء مدرسة للفتيات الهندوسيات؛ وأكرويد هي امرأة بريطانية غير متزوجة تشاركت مع والدها المؤمن بالوحدانية تمسّكه القوي بالتعليم. وقد عرف الجميع يومها، من الصحافة البريطانية، أن نساءً هنديات يعشن في حالة بائسة. لكنْ، وما إن وصلت أكرويد إلى الهند، صدمتها العنصرية البريطانية. "لنجلسْ على الشرفة ونتخلص من المحليين"، قالت لها إحدى النساء. ومن رفاقها البريطانيين، وصلت أكرويد إلى استنتاج: "كيف يمكن لهذه الأرواح الأنثوية واللطيفة، ذات التعاطفات الرقيقة للغاية، أن تكون مفتقرة هكذا ليس إلى الإنسانية وحسب، بل كذلك إلى أبسط درجات الكياسة ومراعاة مشاعر الآخرين؛ تلك مشكلة لا أستطيع التظاهر بحلّها".
مع هذا، استشعرت حساسية أكرويد أيضًا إهانةً في ثياب النساء البنغاليّات. إن لباس الساري، حسب رأيها، يترك النساء البنغاليات نصف عاريات: لقد وجدتْهنّ سوقيات وغير محتشمات. "يجب أن يكون هنالك تغيير حازم فيما يخص أرديتهن السفلية"، كتبت. "لا يمكن لهن أن يظهرن في العلن بمثل تلك الأزياء". وعلى وجه الخصوص، صدمت امرأة بنغالية ثرية أكرويد بكونها: "همجية لم تسمع قط بالرزانة أو الاحتشام" بسبب الطريقة التي جلست بها، وطريقة لباسها "مرتدية حريرًا أحمر، من دون حذاء، من دون جوارب".
كذلك، بالنسبة إلى المبشرين الإنكليز الذين انتشروا عبر الهند في القرن التاسع عشر، كانت ملابس النساء الهنديات شغلًا شاغلًا. وفي ولاية كيرلا الهندية، اكتشف المبشرون والإدارة الاستعمارية أن عدم تغطية النساء لنهودهن هي دليل على الانحلال الأخلاقي. "بالتأكيد، ليس ثمة أي إخلاص بين الزوج والزوجة"، استنتج مراقبٌ من بدايات القرن التاسع عشر.
وبالعمل سوية، حثّ المبشرون البروتستانت والإداريون الاستعماريون البريطانيون نساءَ طبقة النادار على ارتداء ملابس أطول وأكثر "احتشامًا". وقد كان المسؤولون الإنكليز في الهند مهتمين على وجه الخصوص بأن تقوم النساء المحليات اللاتي اعتنقن المسيحية بتغطية نهودهن.
ما ترتديه النساء، ومتى يرتدينه، غالبًا ما كان بمثابة علاماتِ تحديدٍ في منظومة الهند الثقافية المشهورة بتعقيدها. ويمكن أيضًا أن تشير ملابس النساء إلى مكانة دينية، كما كانت الحال، في ثقافة النادار، مع الأوشحة الطويلة وتغطية النهود. لكن، في عام 1813، ألغى الكولونيل جون مونرو، رئيس الوزراء البريطاني في ترافنكور، الأوامر الموجهة لنساء النادار لتغطية نهودهن بأوشحة. وبدلًا عن ذلك، ستقوم المبشرات الإنكليزيات بصنع جاكيتات للنساء الهنديات. لكن الجاكيتات لم تكتسب شعبية واسعة. وفضّلت نساء النادار أن يغطين أنفسهن بنوع معين من الأوشحة. لكن الوشاح كان يُخصَّص لنساء الطبقة العليا، وبالتالي، أثار استخدام نساء النادار له نزاعًا آخر. بعد ذلك، أصدرت الإدارة الاستعمارية المتخبطة أمرًا آخرَ مطالبةً نساء النادار هذه المرة بارتداء الجاكيت غير الرائجة ومنعهن فعليًا من ارتداء الوشاح الذي شجعه البريطانيون أول الأمر.
وبحلول وقت الاستقلال الهندي عام 1947، كان البريطانيون قد أحرزوا بعض النجاح في تغيير طريقة ملابس النساء الهنديات. وخصوصًا بالنسبة إلى أولئك اللاتي كنّ يطمحن إلى أن يظهرن "متحضرات"، وأكثر شبهًا بالنساء الإنكليزيات، حلّ محلّ الساري المثير جدًا قمصانٌ نسائية طويلة الأكمام وتنانير. هكذا، مثّلت النساء الهنديات بتلك الملابس اعترافًا ظاهرًا بالسلطة الاستعمارية البريطانية؛ اعترافًا رمزيًا، حميميًا، وعلنيًا في الآن ذاته.
كذلك تضمنت الحرب الأحدث التي قادتها أميركا في أفغانستان اهتمامًا خاصًا بملابس نساء جنوب آسيا. على سبيل المثال، عضو الكونغرس كارولين مالوني، وهي ديمقراطية من نيويورك، حوّلت المسألةَ إلى دراما عندما وقفت على أرض مجلس النواب الأميركي مرتدية برقعًا أزرق في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001. "من الصعب التنفس"، روت مالوني، "على وجه الخصوص، من الصعب الرؤية، ثمة شبكٌ أمام العينين والأمر أشبه بوجود خمسة عشر بابًا شبكيًا أمام وجهك. الأمر مهين للغاية، كما لو أنك بلا هوية". لقد ارتدت مالوني البرقع لتبيّن وجهة نظر معينة، وهي أن تلك الحرب كانت الـ"حرب العادلة التي لا خيار لنا (نحن الأميركيين) سوى شنّها".
هكذا، ولأكثر من عقد، كان البرقع الأزرق رمزًا لاضطهاد النساء في أفغانستان. ونالت مقاومة النساء للبرقع الأزرق على الدوام احتفاءَ وسائل الإعلام الأميركية، فكانت كل امرأة تقاومه تُكرَّس تلقائيًا كبطلة. في أيار/ مايو عام 2015، كتبت مجلة "نيويورك تايمز" عن مالينا سليمان، وهي رسامة غرافيتي أفغانية، واصفةً إياها في العنوان الرئيسي كامرأة "تخاطر بحياتها لتتحدى البرقع في ظل حكم طالبان"، في حين أن التفاصيل الأخرى من حياتها اعتُبِرت ثانوية ليس إلا.
علاوة على ذلك، منعت بعض الحكومات في الغرب البرقع. ففي أيار/ مايو عام 2015، بعد يومين من نشر المقالة عن مالينا سليمان، منع البرلمان الهولندي ارتداء البرقع في الأماكن العامة. وأدلى رئيس مجلس الوزراء الهولندي مارك روته بتصريح قائلًا إن "المنع قد فُرِض مع وضع الأمان بعين الاعتبار". وقبل سنة من ذلك، في تموز/ يوليو عام 2014، كانت محكمة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان قد أيدت منع البرقع في فرنسا، رافضةً مناقشاتِ امرأة مسلمة قالت بأن ذلك ينافي حريتها في الاختيار.
لقد سعت النسويات الغربيات إلى إضفاء عمق وجودي ومسحة من الأصالة على هذه المسألة. وها هي روبن من جديد، واصفة هذه المرة شعور ارتداء البرقع في أفغانستان لمجلة "نيويورك تايمز" في أيار/ مايو عام 2011: "شعرتُ وبرقعي على وجهي بأني منبوذة، كما لو أني لا أليق بالظهور في العلن. اتكأتُ إلى المقعد الخلفي وشعرت بموجة من السلبية تسيطر عليّ. لم يكن مطلوبًا مني سوى الصمت".
إن حرية النساء، عندما يتعلق الأمر بالبرقع، تعني ارتداء ما تريده "الإمبراطورية". غير أن معلِّقاتٍ أخريات على المسألة عبّرن عن تشككهن إزاء دعم حقوق النساء واستخدامها كذريعة للحرب. على سبيل المثال، كتبت مورين داود في مجلة "نيويورك تايمز" في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2001 قائلة: "إنها هدية ترويجية، طريقة سهلة لإرضاء النسويات (الأميركيات) اللاتي غضبن عندما أوقفت الإدارة تمويل مجموعاتِ تنظيمِ الأسرة الدولية التي تدعم الإجهاض". مع هذا، لم تصل داود إلى حد التحذير فعليًا ضد استخدام أوامر يُزعَم أنها نسوية كوسيلة لتطريز رغبات التحكم التي تشكّل أساس الإمبراطورية. كما لفتت الانتباه إلى الإخضاع المستمر الذي تتعرض له النساء السعوديات في ظلّ نظامٍ ليست الولايات المتحدة راغبة بانتقاده على ارتكاب آثام مماثلة لآثام طالبان. وبدلًا عن ذلك التحذير، تنهي داود حديثها بسطرٍ يبدو أنه يقدّم الحجج لتوسع الولايات المتحدة: "ملايين النساء المسلمات لا يزلن يُعتبَرن متاعًا. يجب أن تفكر السيدة الأولى بتوسيع حملتها أبعد من أفغانستان". إن وخزة ضمير داود، إذًا، ليست بسبب إساءة الاستخدام الماكرة لقضايا النساء كذريعة للحرب، بل هي دعوة إلى استخدام أوسع لهنّ بناء على معرفةٍ غير آسفة لما يعتقد الغرب أنه أفضل لبقية العالم.
وسواء أكانت تغطية النهدين في جنوب الهند أو ارتداء البراقع في أفغانستان، شكّل سلوك النساء وملابسهن اختزالًا قويًا عاطفيًا لكل ما هو خطأ في الثقافة المحلية ولكل ما يجب أن يُصحَّح من قبل الإمبراطورية. وتمامًا كما انطوت تغطية أو عدم تغطية النهود على أهمية تتجاوز ما كانت تعنيه للمسؤولين الإمبرياليين البريطانيين، كان البرقع في الواقع مظهرًا ثابتًا في الحياة الأفغانية قبل وقت طويل من ظهور طالبان. لقد انتقد ناشطو حقوق النساء الأفغانيات هوسَ الغرب بالبرقع. وفي عام 2001، صرّحت الجمعية الثورية لنساء أفغانستان أن إنهاء الارتداء الإلزامي للبرقع "لم يكن بأي حال من الأحوال مؤشرًا على حقوق النساء وحرياتهن في أفغانستان". غير أن أفكار النساء الأفغانيات حول حياتهن كانت أقل أهمية للغرب من البرقع بوصفه مبررًا أخلاقيًا رمزيًا للحرب والتحكم الإمبريالي.
بالنتيجة، ولكي يكون لمهمة استعمارية وزنٌ أخلاقي، يجب أن يبدو أنها "تحسّن" حياة المستعمَرين. ويجب على وكلاء الإمبراطورية، سواء أكانوا ضباط شركة الهند الشرقية البريطانية أو جنود الولايات المتحدة في أفغانستان، أن يؤمنوا بالشرعية المحسومة لقضيتهم. إن تصوير الساتي كرمز للمجتمع الهندي كان يعني تصوير الرجال الهندوسيين كبربريين وكأشرار. فأي نوع آخر من الرجال يحرق أرملة؟ هكذا، يصبح الاستعمار نوعًا من الرؤية الأخلاقية التي تحمي نساء هندوسيات ضعيفات من رجال هندوسيين أشرار.
الواقع الأكثر تعقيدًا
غير أن الواقع، بالطبع، كان أكثر تعقيدًا. صحيحٌ أن الساتي كان بربريًا، لكن، كما عرف المسؤولون الاستعماريون البريطانيون تمام المعرفة، بعض أجزاء الهند لم تكن تمارسه على الإطلاق؛ في بعض المناطق كان مقتصرًا على طبقات معينة، وفي أخرى ظلّ يحتفظ بشعبية نسبية. لكنه بالكاد يستحق أن يكون الشيء الوحيد الذي عرفه معظم الأوروبيين عن الهند. غير أن المسؤولين الاستعماريين عززوا التصور البريطاني الخاطئ القائل بأن كل الهندوس قد تمت تربيتهم على اعتباره الفعلَ "الأكثر جدارة بالتقدير في العالم والأكثر فائدة لنفس من تنفذه وأرواح كل أقربائها". وحتى في عام 1843 - بعد أربعة عشر عامًا على المنع التشريعي لهذه الممارسة- تلقى المسؤولون الاستعماريون أوامر بأن يروجوا للمنع على نطاق واسع، وبأن يشددوا على وحشية الساتي، وبأن ينزلوا عقوبات صارمة بالذين فشلوا في منع ممارسة التضحية بالنفس حرقًا.
يظهر الساتي أيضًا في مغامرة جول فيرن "حول العالم في ثمانين يومًا" (1873)، إذ يصادف بطل رواية فيرن، فيلياس فوج، تلك الممارسة وهي على وشك الحدوث في أعماق الغابة الهندية. وكما يقول له رفيق سفره: "نعم... حُرِقت وهي حيّة. ولو لم تُحرَق، لا يمكنك أن تتخيل أي معاملة ستضطر للخضوع لها من قبل أقاربها. سيحلقون شعرها، يطعمونها حصّة قليلة من الأرز، يعاملونها بازدراء؛ سيُنظَر إليها كمخلوق دنس، وستموت في إحدى الزوايا مثل كلب وضيع". لكن، كل شيء ينتهي على ما يرام في كتاب فيرن، ويتمكن فوغ من إنقاذ الأميرة أوودا، بفضل خطة ذكية نفذها خادمه المخلص جان باسبارتو.
لقد كان الساتي، في المخيلة الاستعمارية البريطانية، عملية غيبية، موجّهَة بـِ"الدين" و"الثقافة" على أنها شيء مبرم مثل الجاذبية الأرضية. وكان المستعمرون البريطانيون يتخيلون أن الهندوس منومون مغناطيسيًا بالنصوص البراهمانية وبالتالي غيرُ قادرين على عصيانها. هذا التصور للهندوس، كأشخاص مسيطَرٍ عليهم بهندوسية كتابية، هو بناء بريطاني. فالبريطانيون، من أجل أن يكرّسوا أنفسهم كورثة شرعيين للإمبراطورية المغولية المهزومة، هم من أمروا بالترجمة الكاملة للنصوص الهندوسية والفيدية، وأمروا بسنّها كـَ"قانون" ليتحكموا بتابعيها من الهندوس. لكن الترجمات البريطانية كانت في الواقع ترجمات رديئة في الغالب، كما أنها قامت بحذف عناصر أساسية من علم الكون الهندوسي اعتبر البريطانيون أن لا علاقة لها بالفقه.
كذلك، إن شهادات النساء الهندوسيات تدفع إلى التشكيك بالأساس الديني للساتي، بل وتشير إلى أن هموم الأرامل كانت بالدرجة الأولى مادية واجتماعية، وليست دينية. ولهذا، وفقًا للباحثة هندية المولد والمقيمة في الولايات المتحدة لاتا ماني، إن ترك ثنائية الديني والدنيوي الاستعمارية سيشير إلى أن لتلك الممارسة أساسًا ماديًا في المقام الأول، غير أنه أُعطي فيما بعد شكلًا دينيًا من خلال أداء الكهنة لمهامهم وتلاوة النصوص الدينية. كما أن التصور الاستعماري للدين على أنه "الأساس المُهيكِل" للمجتمع الهندوسي لم يترك مجالًا لتناول أوسع للمشقة المادية للترمّل وأبعاده الاجتماعية. وهكذا، فرض النظام الاستعماري طريقته الخاصة في الإسكات على النساء ذاتهن اللاتي سعى إلى حمايتهن.
وبعد شهر واحد من وقوف مالوني في الكونغرس مرتدية البرقع عام 2001، تحدثت السيدة الأولى لورا بوش عن أعمال طالبان الوحشية ضد النساء الأفغانيات، داعيةً "الناس المتحضرين حول العالم" للانضمام إلى المسعى الأميركي "لأنه في أفغانستان، نرى العالم الذي يريد الإرهابيون فرضه على بقيتنا". كذلك ارتدى بعض موظفي البيت الأبيض وأعضاء من الكونغرس قطعًا قماشية مقصوصة من براقع زرقاء ليظهروا دعمهم. لقد عثرت الولايات المتحدة على صرخة الحرب خاصتها؛ صرخة الحرب التبشيرية المُحضِّرة.
تمامًا كما رافقت حكايات الساتي المشروعَ الاستعماري البريطاني، رافق تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2001، حمل عنوان "حرب طالبان ضد النساء"، دعوةَ بوش إلى التحرك. وتمامًا كما المنع الاستعماري المفروض على الساتي قال في آخر الأمر إن الممارسة لم تكن في الواقع مفروضة من الكتاب المقدس الهندوسي، كذلك تجشّم تقرير وزارة الخارجية الأميركية عناء إثبات أن الإسلام ذاته لم يفرض العزل أو الحجاب أو إقصاء النساء عن الحياة العامة. بالنتيجة، في هند القرن التاسع عشر أو أفغانستان القرن الواحد والعشرين، كان العامل الكامن وراء الفرضية الإنكليزية هو أن رعايا الاستعمارية والإمبريالية مبرمجون بالكامل وفق معتقداتهم عن السلطة القائمة على الكتب المقدسة.
ومنذ بداية الدعوة للحرب عام 2001، دارت حكايات جرائم الشرف - التي يقتل فيها رجال أفغانيون زوجاتهم، بناتهم وأخواتهم اللاتي يتجرأن على عصيانهم- في وسائل الإعلام الإنكليزية. ففي آب/ أغسطس عام 2010، بعد تسع سنوات من الاحتلال، وعندما كانت الانتقادات ضد الحرب الأفغانية تكتسب زخمًا، صوّر غلاف مجلة "تايم" ملامح فتاة أفغانية مشوهة على نحو بشع، وأنفها مبتور على يد قيادي من طالبان. وتحت عنوان "ما الذي سيحدث إذا غادرنا أفغانستان؟"، رويت قصة عائشة ذات الثمانية عشر عامًا التي قاست هذا العقاب البشع لأنها هربت من أهل زوجها المؤذين. وانتهت قصة مجلة "تايم" بالإشارة إلى أن منظمة أميركية غير ربحية سوف تؤمن حصول عائشة على جراحة ترميمية. لقد بدا كما لو أن الولايات المتحدة وشعبها بإمكانهم إصلاح كل شيء، لا سيما وحشية الرجال الأفغانيين.
هكذا، عاودت سردية الإنقاذ من الساتي البريطانية/ الهندوسية من القرن التاسع عشر الظهورَ في القرن الواحد والعشرين على شكل فانتازيا الإنقاذ الأميركية/ الأفغانية من جرائم الشرف. وأعطيت الأهمية التي تستحقها في السردية الأميركية عن الحرب. على سبيل المثال، في تقرير للإذاعة الوطنية العامة عام 2012 حمل عنوان "مواجهة الموت، فتاة أفغانية تركض إلى الجيش الأميركي"، توصف لينا التي قالت إنها هربت من أخوتها لأنهم كانوا سيقتلونها بعد أن عثروا على هاتف خليوي معها. وتروي القصةُ البهجةَ المدوِّخة للفتاة الأفغانية التي تم إنقاذها في القاعدة العسكرية الأميركية، وهي تلتهم المثلجات ورقائق دوريتوس في الكافيتيريا، وتتعلم الإنكليزية بسرعة من الأفلام (والتي بفضلها "كانت كلمة قبلة كلمة جديدة مفضّلة لديها"). ثم تأتي مزيد من الدراما على شكل ناصحين أفغان يخبرون الجنودَ الأميركيين أن عليهم إرسال لينا إلى منزلها للمحافظة على علاقة ودية مع الجماعة. وفي النهاية، تم التوصل إلى تسوية بعد أن وافق مأوى للنساء في مدينة أفغانية أخرى وأكبر مساحة على استقبال لينا.
وكما في سرديات الساتي، سرديات جرائم الشرف تتكل على دوافع أحادية توجيهية منفصلة عن الظروف الاجتماعية أو المادية للمعنيين. وتقريبًا مثل فكرة "الذكر الهندوسيّ صعب التعامل معه"، الذكر الأفغاني الشرير يقف على النقيض من الأنثى الأفغانية المضطهَدة، وهو كسول، همجي، وعديم الإحساس. إنه مُوَّجه بالعرف الأخلاقي القروسطي الذي يجيز اضطهاد النساء. وهذا المنظور الفج يحلّ محل التفكير بأكثر من 100 ألف إصابة بين المدنيين الأفغان سبّبها الغزو الأميركي منذ عام 2001. وكما قصص إنقاذ النساء الهنديات من الساتي صرفت الانتباه عن عنف الاستعمارية البريطاني، كذلك فإن التركيز على عنف قصص جرائم الشرف يحوِّل الانتباه عن الغارات، التفجيرات، الاعتقالات غير القانونية وغير محددة الأجل، والتعذيب والوحشية العامة للحرب الأميركية في أفغانستان.
إنّ أي تحليل نزيه لجرائم الشرف في أفغانستان يجب أن يبدأ بالاعتراف بمجتمع تصدّعت بُناه العائلية والمؤسساتية بفعل خمسة عقود من التدخل الأجنبي السوفياتي والأميركي. وذلك النوع من التحليل النزيه سوف يُظهر أن "الخيار" المتعلق بالزواج ليس متاحًا، تقريبًا للجميع، ذكورًا أو إناثًا، في المجتمع الأفغاني. وسيستكشف الزواج كوسيلة لتدعيم العلاقات الجماعاتية المهترئة في بلد مزقتها الحرب، وليس كعلاقة رومانسية كتلك المتاحة لأبناء الغرب المترفين. أخيرًا، ذلك التحليل سوف يقرّ أيضًا بأن عنف الشريك الذي ارتكبه الرجال ضد النساء في أفغانستان له مئات آلاف النظائر التي ارتكبها الرجال ضد النساء في الولايات المتحدة.
لكن، بدلًا عن ذلك التحليل، تصوير "جرائم الشرف" على أنها ظاهرة غريبة عن مجتمع الولايات المتحدة، همجية على نحو شنيع، غير مفهومة، وموجهة بأوامر ثقافية غيبية، كلّ ذلك يجعل الاحتلال الأميركي يبدو ملحًّا ونزيهًا، وحتى بطوليًا. في حين أن الاعتراف بأن "جرائم الشرف" في أفغانستان يمكن أن تكون مماثلة لكل الجرائم الأخرى التي يستمر الرجال بارتكابها ضد النساء في كل مكان آخر سيُلقي بظلال من الشك على إحدى الدعائم الأخلاقية الأساسية للمسعى الإمبريالي. ومثل الساتي الهندوسي الهندي في القرن التاسع عشر، جرائمُ الشرف الإسلامية الأفغانية في القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون شريرة على نحو فريد.
لقد حوّل كلّ من البريطانيين في الهند والأميركيين في أفغانستان ملابسَ النساء والجرائم الجندرية إلى تواقيعِ ثقافةٍ بربرية أجنبية عنهم. لكن الحملات الأخلاقية ضد تلك الممارسات "المهينة" هي في الواقع تقنيات تحكم استعمارية محنكة. وبالنسبة إلى الشعوب "في الوطن"، تغدو النساء الهندوسيات عاريات الصدر والنساء الأفغانيات المغطيات بالبرقع رموزًا مؤاتية لكلٍّ من الغرابة والحاجة إلى غزو تصحيحيّ. أما عندما ترتدي المرأة الهندوسية قميصًا نسائيًا طويل الأكمام وتنورة، وعندما تتخلص المرأة الأفغانية من برقعها، فهذا يساوي النصر ونجاح المشروع الاستعماري.
دراما..
إن إفراد الجرائم الجندرية - الساتي في الهند وجرائم الشرف في أفغانستان- يحوّل آخريةَ الذكر الهندوسي أو الأفغاني إلى دراما؛ يصبح ذلك الذكر شرّ سكان أصليين يستلزم تدخلًا أجنبيًا بطوليًا. كما أن حذلقة هذا النوع من صنع العدو هو أنه يصيّر نصف السكان المحليين - ضحايا هذه الجرائم- حلفاءَ للاحتلال. لكن الأرامل الهندوسيات الحقيقيات والنساء الأفغانيات الحقيقيات نادرًا ما يُستَمع إليهن، إذا استُمِع إليهن قط، حيث أن تجاربهن ومنظورهن قد تعقّد الصمتَ الذي يمكن أن تصوّره الإمبراطورية الأنغلو- أميركية على أنه امتنان.
كما أن تصوير العنف والاحتلال الإمبرياليين على أنهما فعلُ تدخلٍ نسوي يستلزم، لكي يكون فعالًا، تعاونًا محليًا من الهنود أو الأفغان. وتمامًا كما صنع البريطانيون طبقةً من السماسرة الذين دعموا مشاريعهم الإصلاحية وكانوا توّاقين لاتخاذ الملابس البريطانية، التعليم البريطاني، وحتى الخدمة العسكرية في الجيش الاستعماري، كذلك أنفقت الولايات المتحدة مئات ملايين الدولارات لأجل صناعة ثقافةِ مساعدةٍ مبنية على المنظمات غير الحكومية (NGOs) في أفغانستان. وهذه المنظمات، ولكونها تعتمد ماليًا على الولايات المتحدة، تقبل وتدعم منظورًا تعدّ فيه البراقع وجرائم الشرف مشاكلَ جذرية في المجتمع الأفغاني.
إن الاستمرار الغريب لانشغالِ الإمبراطورية الإنكليزية بملابس النساء وأدوارهن الاجتماعية يُظهر أن السيطرة لا يمكن أن تعتمد على المعارك والقنابل وحدها. وأن ترويج رسوم كاريكاتورية إجمالية لأدوار جندرية محلية، لا سيما الأنثى المضطهدة المُذعِنة، يساعد في خلق دعم شعبي للمحتلين، ومساعديهم، وفي تصوريهم كخيّرين وكشجعان. وفي أثناء ذلك، يُعاد بناء الأساس الأخلاقي للمجتمع من أجل أن يُمنطِق الخضوع للقوة الأجنبية.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/ban-the-burqa...othing-matters
رافيا زكريا: محامية، وكاتبة سياسية. وهي أول أميركية مسلمة تكون عضوًا في مجلس إدارة منظمة العفو الدولية، أميركا. من كتبها: "زوجة الطابق العلوي: تاريخ حميميّ لباكستان" (2015)، "حجاب" (2017)، "ضد النسوية البيضاء: ملاحظات حول التفكّك" (2021).
رافيا زكريا 10 سبتمبر 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
كره المبشّرون البريطانيون الساتي، وأرادت النسويات الأميركيات منع البرقع. فلماذا تهتم الإمبراطوريات بملابس النساء إلى هذا الحدّ؟
عام 1820، في مدينة بِنارس الهندية، ساعد مبشّر إنكليزي معمداني يدعى سميث في إنقاذ امرأة من عادة الساتي (حرق الأرامل) الهندوسية. وقد وصف المشهد قائلًا: "ما أن لمستْها النيران، قفزت مبتعدة عن كومة الحرق. لكن البراهمة (كهنوت الهندوس) أمسكوا بها فورًا لكي يرجعوها إلى النيران. فصرختْ: "لا تقتلوني! لا أريد أن أُحرق!" وبسبب وجود ضباط الشركة هناك، تمت إعادتها إلى بيتها سالمة". بعدها، أوردت مجلة لندنية تقريرًا عن الجهود البطولية لشركة الهند الشرقية البريطانية تحت عنوان "إنقاذ امرأة". إذا كان ثمة شيء واحد عرفه أوروبيو القرن التاسع عشر عن الهند، فهو على الأرجح الساتي.
إن توصيف السيد سميث عام 1820 لإنقاذ الرجال البريطانيين الأشاوس لامرأة هندية من محرقة جنازة زوجها هو واحد من العديد من التقارير المعاصرة المشابهة. في ذلك الوقت، كانت شركة الهند الشرقية قد أصبحت لتوها سلطة حاكمة فاعلة في الهند. وكانت، كوجود تجاري، غير مكترثة بالثقافة. أما كوجود حاكم، فد انبرت لإصلاح العادات المحلية البربرية.
أما في مرحلة أحدث، فالنساء الأفغانيات هن من كنّ بحاجة إلى الإمبراطورية الأنغلو- أميركية لتنقذهن. في عام 2002، أرسل تجمّع منظمات نساء غربيات رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش طالبين منه "اتخاذ إجراءات طارئة لإنقاذ حياة النساء الأفغانيات وضمان مستقبلهن". وتضمنت قائمة الموقعين على الرسالة: إلينور سميل، رئيسة مؤسسة الغالبية النسوية في فيرجينيا، بالإضافة إلى نسويات بارزات أخريات مثل غلوريا ستاينم، إيف إنسلر، ميريل ستريب، وسوزان سارندون. إن النساء الأميركيات بأغلبيتهن يدعمن الحرب، أشارت الرسالة، لأن الحرب سوف "تحرر النساء الأفغانيات من سوء المعاملة والاضطهاد"!
"في عام 2002، أرسل تجمّع منظمات نساء غربيات رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش طالبين منه "اتخاذ إجراءات طارئة لإنقاذ حياة النساء الأفغانيات وضمان مستقبلهن!"" |
إن وضع نهاية للساتي، أو حرق الأرامل، في هند القرن التاسع عشر، وإنشاء مآوي النساء لحمايتهن من جرائم الشرف في أفغانستان القرن الواحد والعشرين، هما حملتان تسندان قرنين من وقوف الأنغلو- أميركيين العادل ضد العادات المحلية المروّعة؛ أو على وجه التحديد: حماية النساء السمراوات من العادات المحلية البربرية. علاوة على ذلك، ما سجّله المبشر البريطاني في القرن التاسع عشر، وتقرير مجلة "نيويورك تايمز" في القرن الواحد والعشرين، كلاهما يرويان قصصًا ملحّة عن الأنغلو- أميركيين بوصفهم "خط الدفاع الواهن" الهش الذي يحمي نساءً محليات مستضعفات.
لكن، في واقع الأمر، وبعد أكثر من عقد على احتفاء الرئيس بوش بتحريرهن ومطالبة النسويات الأميركيات باستمرار الحملة الباسلة، النساء الأفغانيات لسن حُرّات. فبين عامي 2012 و2013، ازداد العنف ضد النساء في أفغانستان بنسبة 25%. والوكالات الأميركية المؤتمنة على مئات ملايين الدولارات لأجل النساء الأفغانيات عاجزة عن توضيح كيفية استخدام تلك النقود لتمكينهنّ. لقد تغير الكثير منذ أيام شركة الهند الشرقية حتى وقت التحالف الأحدث بين بوش ومؤسسة الغالبية النسوية، لكن لم يتغير كل شيء؛ فالتصوير الأنغلو- أميركي للغزو على أنه عمل خير دامَ.
لماذا إذًا التركيز بصورة خاصة على إنقاذ النساء المحليات؟
هل النساء، حريتهن، ملابسهن، وزيجاتهن، تشكّل منفذًا هامًا لإرساء الهيمنة؛ منهجًا لتصوير الغزاة الأجانب على أنهم خيّرون؟ الجواب الأكثر إقناعًا لهذا التساؤل هو أن الحركات النسوية الأفغانية والحركات النسوية في جنوب آسيا مشوبة بتواطؤ متخيَّل مع الاستعمارية والإمبريالية. بالتالي، تبيان كيف أن جوانب من حياة النساء - ملابسهن وزيجاتهن- قد وُضِعت في خدمة مشاريع سيطرة إمبريالية أنغلو- أميركية، ومدى ضآلة علاقة هذه المشاريع بالنساء الحقيقيات، هو خطوة باتجاه رفع عبء التواطؤ الإمبريالي على النسوية الأفغانية.
"بعد أكثر من عقد على احتفاء الرئيس بوش بتحريرهن ومطالبة النسويات الأميركيات باستمرار الحملة الباسلة، النساء الأفغانيات لسن حُرّات. فبين عامي 2012 و2013، ازداد العنف ضد النساء في أفغانستان بنسبة 25%" |
مع هذا، استشعرت حساسية أكرويد أيضًا إهانةً في ثياب النساء البنغاليّات. إن لباس الساري، حسب رأيها، يترك النساء البنغاليات نصف عاريات: لقد وجدتْهنّ سوقيات وغير محتشمات. "يجب أن يكون هنالك تغيير حازم فيما يخص أرديتهن السفلية"، كتبت. "لا يمكن لهن أن يظهرن في العلن بمثل تلك الأزياء". وعلى وجه الخصوص، صدمت امرأة بنغالية ثرية أكرويد بكونها: "همجية لم تسمع قط بالرزانة أو الاحتشام" بسبب الطريقة التي جلست بها، وطريقة لباسها "مرتدية حريرًا أحمر، من دون حذاء، من دون جوارب".
كذلك، بالنسبة إلى المبشرين الإنكليز الذين انتشروا عبر الهند في القرن التاسع عشر، كانت ملابس النساء الهنديات شغلًا شاغلًا. وفي ولاية كيرلا الهندية، اكتشف المبشرون والإدارة الاستعمارية أن عدم تغطية النساء لنهودهن هي دليل على الانحلال الأخلاقي. "بالتأكيد، ليس ثمة أي إخلاص بين الزوج والزوجة"، استنتج مراقبٌ من بدايات القرن التاسع عشر.
وبالعمل سوية، حثّ المبشرون البروتستانت والإداريون الاستعماريون البريطانيون نساءَ طبقة النادار على ارتداء ملابس أطول وأكثر "احتشامًا". وقد كان المسؤولون الإنكليز في الهند مهتمين على وجه الخصوص بأن تقوم النساء المحليات اللاتي اعتنقن المسيحية بتغطية نهودهن.
"ما إن وصلت آنيت أكرويد إلى الهند، صدمتها العنصرية البريطانية. "لنجلسْ على الشرفة ونتخلص من المحليين"، قالت لها إحدى النساء" |
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، شدت آنيت أكرويد الرحال إلى كالكُتا لإنشاء مدرسة للفتيات الهندوسيات |
وبحلول وقت الاستقلال الهندي عام 1947، كان البريطانيون قد أحرزوا بعض النجاح في تغيير طريقة ملابس النساء الهنديات. وخصوصًا بالنسبة إلى أولئك اللاتي كنّ يطمحن إلى أن يظهرن "متحضرات"، وأكثر شبهًا بالنساء الإنكليزيات، حلّ محلّ الساري المثير جدًا قمصانٌ نسائية طويلة الأكمام وتنانير. هكذا، مثّلت النساء الهنديات بتلك الملابس اعترافًا ظاهرًا بالسلطة الاستعمارية البريطانية؛ اعترافًا رمزيًا، حميميًا، وعلنيًا في الآن ذاته.
كذلك تضمنت الحرب الأحدث التي قادتها أميركا في أفغانستان اهتمامًا خاصًا بملابس نساء جنوب آسيا. على سبيل المثال، عضو الكونغرس كارولين مالوني، وهي ديمقراطية من نيويورك، حوّلت المسألةَ إلى دراما عندما وقفت على أرض مجلس النواب الأميركي مرتدية برقعًا أزرق في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001. "من الصعب التنفس"، روت مالوني، "على وجه الخصوص، من الصعب الرؤية، ثمة شبكٌ أمام العينين والأمر أشبه بوجود خمسة عشر بابًا شبكيًا أمام وجهك. الأمر مهين للغاية، كما لو أنك بلا هوية". لقد ارتدت مالوني البرقع لتبيّن وجهة نظر معينة، وهي أن تلك الحرب كانت الـ"حرب العادلة التي لا خيار لنا (نحن الأميركيين) سوى شنّها".
هكذا، ولأكثر من عقد، كان البرقع الأزرق رمزًا لاضطهاد النساء في أفغانستان. ونالت مقاومة النساء للبرقع الأزرق على الدوام احتفاءَ وسائل الإعلام الأميركية، فكانت كل امرأة تقاومه تُكرَّس تلقائيًا كبطلة. في أيار/ مايو عام 2015، كتبت مجلة "نيويورك تايمز" عن مالينا سليمان، وهي رسامة غرافيتي أفغانية، واصفةً إياها في العنوان الرئيسي كامرأة "تخاطر بحياتها لتتحدى البرقع في ظل حكم طالبان"، في حين أن التفاصيل الأخرى من حياتها اعتُبِرت ثانوية ليس إلا.
"إن حرية النساء، عندما يتعلق الأمر بالبرقع، تعني ارتداء ما تريده "الإمبراطورية". غير أن معلِّقاتٍ أخريات على المسألة عبّرن عن تشككهن إزاء دعم حقوق النساء واستخدامها كذريعة للحرب" |
لقد سعت النسويات الغربيات إلى إضفاء عمق وجودي ومسحة من الأصالة على هذه المسألة. وها هي روبن من جديد، واصفة هذه المرة شعور ارتداء البرقع في أفغانستان لمجلة "نيويورك تايمز" في أيار/ مايو عام 2011: "شعرتُ وبرقعي على وجهي بأني منبوذة، كما لو أني لا أليق بالظهور في العلن. اتكأتُ إلى المقعد الخلفي وشعرت بموجة من السلبية تسيطر عليّ. لم يكن مطلوبًا مني سوى الصمت".
إن حرية النساء، عندما يتعلق الأمر بالبرقع، تعني ارتداء ما تريده "الإمبراطورية". غير أن معلِّقاتٍ أخريات على المسألة عبّرن عن تشككهن إزاء دعم حقوق النساء واستخدامها كذريعة للحرب. على سبيل المثال، كتبت مورين داود في مجلة "نيويورك تايمز" في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2001 قائلة: "إنها هدية ترويجية، طريقة سهلة لإرضاء النسويات (الأميركيات) اللاتي غضبن عندما أوقفت الإدارة تمويل مجموعاتِ تنظيمِ الأسرة الدولية التي تدعم الإجهاض". مع هذا، لم تصل داود إلى حد التحذير فعليًا ضد استخدام أوامر يُزعَم أنها نسوية كوسيلة لتطريز رغبات التحكم التي تشكّل أساس الإمبراطورية. كما لفتت الانتباه إلى الإخضاع المستمر الذي تتعرض له النساء السعوديات في ظلّ نظامٍ ليست الولايات المتحدة راغبة بانتقاده على ارتكاب آثام مماثلة لآثام طالبان. وبدلًا عن ذلك التحذير، تنهي داود حديثها بسطرٍ يبدو أنه يقدّم الحجج لتوسع الولايات المتحدة: "ملايين النساء المسلمات لا يزلن يُعتبَرن متاعًا. يجب أن تفكر السيدة الأولى بتوسيع حملتها أبعد من أفغانستان". إن وخزة ضمير داود، إذًا، ليست بسبب إساءة الاستخدام الماكرة لقضايا النساء كذريعة للحرب، بل هي دعوة إلى استخدام أوسع لهنّ بناء على معرفةٍ غير آسفة لما يعتقد الغرب أنه أفضل لبقية العالم.
وسواء أكانت تغطية النهدين في جنوب الهند أو ارتداء البراقع في أفغانستان، شكّل سلوك النساء وملابسهن اختزالًا قويًا عاطفيًا لكل ما هو خطأ في الثقافة المحلية ولكل ما يجب أن يُصحَّح من قبل الإمبراطورية. وتمامًا كما انطوت تغطية أو عدم تغطية النهود على أهمية تتجاوز ما كانت تعنيه للمسؤولين الإمبرياليين البريطانيين، كان البرقع في الواقع مظهرًا ثابتًا في الحياة الأفغانية قبل وقت طويل من ظهور طالبان. لقد انتقد ناشطو حقوق النساء الأفغانيات هوسَ الغرب بالبرقع. وفي عام 2001، صرّحت الجمعية الثورية لنساء أفغانستان أن إنهاء الارتداء الإلزامي للبرقع "لم يكن بأي حال من الأحوال مؤشرًا على حقوق النساء وحرياتهن في أفغانستان". غير أن أفكار النساء الأفغانيات حول حياتهن كانت أقل أهمية للغرب من البرقع بوصفه مبررًا أخلاقيًا رمزيًا للحرب والتحكم الإمبريالي.
بالنتيجة، ولكي يكون لمهمة استعمارية وزنٌ أخلاقي، يجب أن يبدو أنها "تحسّن" حياة المستعمَرين. ويجب على وكلاء الإمبراطورية، سواء أكانوا ضباط شركة الهند الشرقية البريطانية أو جنود الولايات المتحدة في أفغانستان، أن يؤمنوا بالشرعية المحسومة لقضيتهم. إن تصوير الساتي كرمز للمجتمع الهندي كان يعني تصوير الرجال الهندوسيين كبربريين وكأشرار. فأي نوع آخر من الرجال يحرق أرملة؟ هكذا، يصبح الاستعمار نوعًا من الرؤية الأخلاقية التي تحمي نساء هندوسيات ضعيفات من رجال هندوسيين أشرار.
الواقع الأكثر تعقيدًا
غير أن الواقع، بالطبع، كان أكثر تعقيدًا. صحيحٌ أن الساتي كان بربريًا، لكن، كما عرف المسؤولون الاستعماريون البريطانيون تمام المعرفة، بعض أجزاء الهند لم تكن تمارسه على الإطلاق؛ في بعض المناطق كان مقتصرًا على طبقات معينة، وفي أخرى ظلّ يحتفظ بشعبية نسبية. لكنه بالكاد يستحق أن يكون الشيء الوحيد الذي عرفه معظم الأوروبيين عن الهند. غير أن المسؤولين الاستعماريين عززوا التصور البريطاني الخاطئ القائل بأن كل الهندوس قد تمت تربيتهم على اعتباره الفعلَ "الأكثر جدارة بالتقدير في العالم والأكثر فائدة لنفس من تنفذه وأرواح كل أقربائها". وحتى في عام 1843 - بعد أربعة عشر عامًا على المنع التشريعي لهذه الممارسة- تلقى المسؤولون الاستعماريون أوامر بأن يروجوا للمنع على نطاق واسع، وبأن يشددوا على وحشية الساتي، وبأن ينزلوا عقوبات صارمة بالذين فشلوا في منع ممارسة التضحية بالنفس حرقًا.
"صحيحٌ أن الساتي كان بربريًا، لكن، كما عرف المسؤولون الاستعماريون البريطانيون تمام المعرفة، بعض أجزاء الهند لم تكن تمارسه على الإطلاق؛ وفي بعض المناطق كان مقتصرًا على طبقات معينة" |
لقد كان الساتي، في المخيلة الاستعمارية البريطانية، عملية غيبية، موجّهَة بـِ"الدين" و"الثقافة" على أنها شيء مبرم مثل الجاذبية الأرضية. وكان المستعمرون البريطانيون يتخيلون أن الهندوس منومون مغناطيسيًا بالنصوص البراهمانية وبالتالي غيرُ قادرين على عصيانها. هذا التصور للهندوس، كأشخاص مسيطَرٍ عليهم بهندوسية كتابية، هو بناء بريطاني. فالبريطانيون، من أجل أن يكرّسوا أنفسهم كورثة شرعيين للإمبراطورية المغولية المهزومة، هم من أمروا بالترجمة الكاملة للنصوص الهندوسية والفيدية، وأمروا بسنّها كـَ"قانون" ليتحكموا بتابعيها من الهندوس. لكن الترجمات البريطانية كانت في الواقع ترجمات رديئة في الغالب، كما أنها قامت بحذف عناصر أساسية من علم الكون الهندوسي اعتبر البريطانيون أن لا علاقة لها بالفقه.
كذلك، إن شهادات النساء الهندوسيات تدفع إلى التشكيك بالأساس الديني للساتي، بل وتشير إلى أن هموم الأرامل كانت بالدرجة الأولى مادية واجتماعية، وليست دينية. ولهذا، وفقًا للباحثة هندية المولد والمقيمة في الولايات المتحدة لاتا ماني، إن ترك ثنائية الديني والدنيوي الاستعمارية سيشير إلى أن لتلك الممارسة أساسًا ماديًا في المقام الأول، غير أنه أُعطي فيما بعد شكلًا دينيًا من خلال أداء الكهنة لمهامهم وتلاوة النصوص الدينية. كما أن التصور الاستعماري للدين على أنه "الأساس المُهيكِل" للمجتمع الهندوسي لم يترك مجالًا لتناول أوسع للمشقة المادية للترمّل وأبعاده الاجتماعية. وهكذا، فرض النظام الاستعماري طريقته الخاصة في الإسكات على النساء ذاتهن اللاتي سعى إلى حمايتهن.
"من الصعب التنفس"، روت عضو الكونغرس كارولين مالوني.. ارتدت مالوني البرقع لتبيّن وجهة نظر معينة، وهي أن تلك الحرب كانت الـ"حرب العادلة التي لا خيار لنا (نحن الأميركيين) سوى شنّها"! |
وبعد شهر واحد من وقوف مالوني في الكونغرس مرتدية البرقع عام 2001، تحدثت السيدة الأولى لورا بوش عن أعمال طالبان الوحشية ضد النساء الأفغانيات، داعيةً "الناس المتحضرين حول العالم" للانضمام إلى المسعى الأميركي "لأنه في أفغانستان، نرى العالم الذي يريد الإرهابيون فرضه على بقيتنا". كذلك ارتدى بعض موظفي البيت الأبيض وأعضاء من الكونغرس قطعًا قماشية مقصوصة من براقع زرقاء ليظهروا دعمهم. لقد عثرت الولايات المتحدة على صرخة الحرب خاصتها؛ صرخة الحرب التبشيرية المُحضِّرة.
تمامًا كما رافقت حكايات الساتي المشروعَ الاستعماري البريطاني، رافق تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2001، حمل عنوان "حرب طالبان ضد النساء"، دعوةَ بوش إلى التحرك. وتمامًا كما المنع الاستعماري المفروض على الساتي قال في آخر الأمر إن الممارسة لم تكن في الواقع مفروضة من الكتاب المقدس الهندوسي، كذلك تجشّم تقرير وزارة الخارجية الأميركية عناء إثبات أن الإسلام ذاته لم يفرض العزل أو الحجاب أو إقصاء النساء عن الحياة العامة. بالنتيجة، في هند القرن التاسع عشر أو أفغانستان القرن الواحد والعشرين، كان العامل الكامن وراء الفرضية الإنكليزية هو أن رعايا الاستعمارية والإمبريالية مبرمجون بالكامل وفق معتقداتهم عن السلطة القائمة على الكتب المقدسة.
ومنذ بداية الدعوة للحرب عام 2001، دارت حكايات جرائم الشرف - التي يقتل فيها رجال أفغانيون زوجاتهم، بناتهم وأخواتهم اللاتي يتجرأن على عصيانهم- في وسائل الإعلام الإنكليزية. ففي آب/ أغسطس عام 2010، بعد تسع سنوات من الاحتلال، وعندما كانت الانتقادات ضد الحرب الأفغانية تكتسب زخمًا، صوّر غلاف مجلة "تايم" ملامح فتاة أفغانية مشوهة على نحو بشع، وأنفها مبتور على يد قيادي من طالبان. وتحت عنوان "ما الذي سيحدث إذا غادرنا أفغانستان؟"، رويت قصة عائشة ذات الثمانية عشر عامًا التي قاست هذا العقاب البشع لأنها هربت من أهل زوجها المؤذين. وانتهت قصة مجلة "تايم" بالإشارة إلى أن منظمة أميركية غير ربحية سوف تؤمن حصول عائشة على جراحة ترميمية. لقد بدا كما لو أن الولايات المتحدة وشعبها بإمكانهم إصلاح كل شيء، لا سيما وحشية الرجال الأفغانيين.
"عنف الشريك الذي ارتكبه الرجال ضد النساء في أفغانستان له مئات آلاف النظائر التي ارتكبها الرجال ضد النساء في الولايات المتحدة" |
وكما في سرديات الساتي، سرديات جرائم الشرف تتكل على دوافع أحادية توجيهية منفصلة عن الظروف الاجتماعية أو المادية للمعنيين. وتقريبًا مثل فكرة "الذكر الهندوسيّ صعب التعامل معه"، الذكر الأفغاني الشرير يقف على النقيض من الأنثى الأفغانية المضطهَدة، وهو كسول، همجي، وعديم الإحساس. إنه مُوَّجه بالعرف الأخلاقي القروسطي الذي يجيز اضطهاد النساء. وهذا المنظور الفج يحلّ محل التفكير بأكثر من 100 ألف إصابة بين المدنيين الأفغان سبّبها الغزو الأميركي منذ عام 2001. وكما قصص إنقاذ النساء الهنديات من الساتي صرفت الانتباه عن عنف الاستعمارية البريطاني، كذلك فإن التركيز على عنف قصص جرائم الشرف يحوِّل الانتباه عن الغارات، التفجيرات، الاعتقالات غير القانونية وغير محددة الأجل، والتعذيب والوحشية العامة للحرب الأميركية في أفغانستان.
إنّ أي تحليل نزيه لجرائم الشرف في أفغانستان يجب أن يبدأ بالاعتراف بمجتمع تصدّعت بُناه العائلية والمؤسساتية بفعل خمسة عقود من التدخل الأجنبي السوفياتي والأميركي. وذلك النوع من التحليل النزيه سوف يُظهر أن "الخيار" المتعلق بالزواج ليس متاحًا، تقريبًا للجميع، ذكورًا أو إناثًا، في المجتمع الأفغاني. وسيستكشف الزواج كوسيلة لتدعيم العلاقات الجماعاتية المهترئة في بلد مزقتها الحرب، وليس كعلاقة رومانسية كتلك المتاحة لأبناء الغرب المترفين. أخيرًا، ذلك التحليل سوف يقرّ أيضًا بأن عنف الشريك الذي ارتكبه الرجال ضد النساء في أفغانستان له مئات آلاف النظائر التي ارتكبها الرجال ضد النساء في الولايات المتحدة.
"إنّ أي تحليل نزيه لجرائم الشرف في أفغانستان يجب أن يبدأ بالاعتراف بمجتمع تصدّعت بُناه العائلية والمؤسساتية بفعل خمسة عقود من التدخل الأجنبي السوفياتي والأميركي" |
لقد حوّل كلّ من البريطانيين في الهند والأميركيين في أفغانستان ملابسَ النساء والجرائم الجندرية إلى تواقيعِ ثقافةٍ بربرية أجنبية عنهم. لكن الحملات الأخلاقية ضد تلك الممارسات "المهينة" هي في الواقع تقنيات تحكم استعمارية محنكة. وبالنسبة إلى الشعوب "في الوطن"، تغدو النساء الهندوسيات عاريات الصدر والنساء الأفغانيات المغطيات بالبرقع رموزًا مؤاتية لكلٍّ من الغرابة والحاجة إلى غزو تصحيحيّ. أما عندما ترتدي المرأة الهندوسية قميصًا نسائيًا طويل الأكمام وتنورة، وعندما تتخلص المرأة الأفغانية من برقعها، فهذا يساوي النصر ونجاح المشروع الاستعماري.
دراما..
إن إفراد الجرائم الجندرية - الساتي في الهند وجرائم الشرف في أفغانستان- يحوّل آخريةَ الذكر الهندوسي أو الأفغاني إلى دراما؛ يصبح ذلك الذكر شرّ سكان أصليين يستلزم تدخلًا أجنبيًا بطوليًا. كما أن حذلقة هذا النوع من صنع العدو هو أنه يصيّر نصف السكان المحليين - ضحايا هذه الجرائم- حلفاءَ للاحتلال. لكن الأرامل الهندوسيات الحقيقيات والنساء الأفغانيات الحقيقيات نادرًا ما يُستَمع إليهن، إذا استُمِع إليهن قط، حيث أن تجاربهن ومنظورهن قد تعقّد الصمتَ الذي يمكن أن تصوّره الإمبراطورية الأنغلو- أميركية على أنه امتنان.
"حوّل كلّ من البريطانيين في الهند والأميركيين في أفغانستان ملابسَ النساء والجرائم الجندرية إلى تواقيعِ ثقافةٍ بربرية أجنبية عنهم. لكن الحملات الأخلاقية ضد تلك الممارسات "المهينة" هي في الواقع تقنيات تحكم استعمارية محنكة" |
إن الاستمرار الغريب لانشغالِ الإمبراطورية الإنكليزية بملابس النساء وأدوارهن الاجتماعية يُظهر أن السيطرة لا يمكن أن تعتمد على المعارك والقنابل وحدها. وأن ترويج رسوم كاريكاتورية إجمالية لأدوار جندرية محلية، لا سيما الأنثى المضطهدة المُذعِنة، يساعد في خلق دعم شعبي للمحتلين، ومساعديهم، وفي تصوريهم كخيّرين وكشجعان. وفي أثناء ذلك، يُعاد بناء الأساس الأخلاقي للمجتمع من أجل أن يُمنطِق الخضوع للقوة الأجنبية.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/ban-the-burqa...othing-matters
رافيا زكريا: محامية، وكاتبة سياسية. وهي أول أميركية مسلمة تكون عضوًا في مجلس إدارة منظمة العفو الدولية، أميركا. من كتبها: "زوجة الطابق العلوي: تاريخ حميميّ لباكستان" (2015)، "حجاب" (2017)، "ضد النسوية البيضاء: ملاحظات حول التفكّك" (2021).
- المترجم: سارة حبيب