الخامات وتوظيفها في فنون ما بعد الحداثة بين المألوف المُتخيّل والواقعي الغريب
بشرى بن فاطمة
حوّلت فنون ما بعد الحداثة النظرة العامة للفن ومفاهيمه بشكل اختلف بدرجات ملحوظة على مستوى المحتوى والفلسفة البصرية والشكل والمحمل والوسائط والخامات، تلك التي اعتُبرت أكثر التفاصيل التعبيرية جدلا على مستوى القيمة الفنية والجمالية والتفاعلية التعبيرية في مستوياتها العامة، فبين المتخيّل المألوف في الخامة والواقعي الغريب في التعبير تصادمت الرؤى التفسيرية حسب تناقضات المرحلة المعاصرة التي أسّست قيمها الجديدة وأثّرت من خلالها على الحركة الفنية وعلى فكرة الفن ككل.
*ليلى الشوا
فكيف عبر الفنان من خلال الأسلوب مراحل التعبير البصري من الفكرة الخيالية إلى المشاهد ومن رؤى التفسير إلى القيم المفهومية على مستوى الخامة والقيمة الجمالية والمفهوم؟
اعتبر النصف الثاني من القرن العشرين عصر الثورة في كل القطاعات والمجالات وبالخصوص الفنية التي تماهت مع التقنية والمفاهيمية والتعبيرية والمادية حيث خلقت صدمة الحروب والانقسام القطبي والايديولوجي روحا جديدة وأيديولوجيات اختلفت حسب درجات التعبير والتمرد التي ابتكرت فيها أساليب فنية جديدة وأيضا خامات مختلفة كانت دخيلة أو خارجة عن مجال الفن، لدرجة أنه لم يُعترف بها كمواد صالحة لإنشاء عمل فني.
ولكنها كانت نتاج المراحل التي نفذت من خلالها وهي تنسج خيوطها وتحيك قصصها البصرية من منطلق حسي جديد قوامه الانسان والأرض التقنية والعلم وهنا اتسمت المرحلة بالتجديد مع الفوضى، بالتمرّد والامتداد وبالتفاعل مع الغرائبي للوصول إلى الانعكاس الحقيقي في مستويات التعبير الجديدة.
*بلال قبلان
وهو ما أحدث تغيرات جوهرية تدعّمت مع فكرة التجريب والمغامرة بالبحث وترويض صيغ الجماليات حسب التقنية والتفعيل الذي حمل القيم الفنية والمواد الأوّلية من مجرد ألوان وأشكال إلى خامات جامدة واشتغال في الفراغ وتصميم للحركة والأداء.
وهنا اختار الفنانون رؤى التجريب حتى يكون للمواد والخامات دور للتعبير في حد ذاتها عن ذاتها في الوجود والواقع بخلق تماس حركي بينها وبين حضورها البصري، وهو ما جعل العالم يعترف بما قدّمه Marcel Duchamp 1887-1969 الذي اعتبر أن “أن العمل الفني هو حقيقة تحاكي الذهن دون سواه”.
*رؤوف رفاعي
ما دفع بما نادى به إلى أن يكون حافزا أسّس للتغيير الفكري والبصري والجمالي لفنون ما بعد الحداثة كما أسّس لحركات تمرّدت على صور الفن النمطيّة وكسرت كل المفاهيم التي تفاعلت موضوعيا مع مخلّفات الحروب وما لحق بها في العالم على مستوى العواطف والأفكار ودرجات التلقي الذهني من حيث البناء والتصميم والفكرة والتوظيف مثل المواد المنزلية والعشب والخشب القمامة والجلود والأقمشة والتراب والحجارة والاسمنت والمطاط والزجاج الأشياء القديمة والفتوغرافيا والورق والقصاصات والكتب وغيرها من المواد التي شكّلت علامات فارقة على مستوى التوظيف التفاعلي مع خامات الفن المعتادة التي ساهمت في تأسيس الفعل والموقف والفكرة.
*رولا حلواني
فالأسلوب الذي اندمج مع عصره تفرّع واختلف في مصطلحاته وانتمائه فكان الفن المعاصر الذي تحدّث لغة تجاوزت مفاهيم الحداثة من حيث الفكر والأسلوب والتقنية والخامة والأداء ما جعل تصنيف المرحلة الجديدة يتحوّل إلى تيار فنون ما بعد الحداثة Postmodern Art.
*بسام كيرلس
خاصة وأنها صاغت المرحلة الحالية وعبّرت عنها بالكثير من الخامات التي تجدّدت بدورها حسب عصرها منذ انطلاقاتها في الستينات إلى الفترة الحالية التي تميّزت بالرقميات والعالم الافتراضي، فتمّ توظيفها بحسب الاختلافات الواقعية لتتناسب مع تطرّف الفكرة أحيانا حتى تتوازى في التعبير عنها مع واقع ما بعد الحرب الباردة وانهيار سياسة الأقطاب وبالتالي تزداد الهوّة الجمالية والبصرية بينها وبين التصوّرت المألوفة، فقد تغيّرت النظرة للواقع والانسان والوجود والأرض وتقنيات العصر مع سيطرة العالم الرقمي وتوظيفه في خدمة الأفكار الفنية.
*نبيل نجدي
فهذا التوجّه خلق تحوّلات بصرية استطاعت أن تفكّك تفاعلاتها الجمالية وتبتكر من الخامات المختلفة تعابيرها التي نفت السائد وفكرة المألوف إلى اللامألوف في صياغة المعنى بحيث قلبت واقع الفن بالواقع المعبّر عنه بدرجاته التي اختلفت حسب كل موقف وقضية تمت معالجتها مفهوميا من خلال الخامات والوسائط مثل فنون الصورة والواقعية المفرطة والفيديو آرت والفيديو التجريبي والأداء التميلي.
*جورج سامرجيان
فالتجربة الفلسطينية كثيرا ما اعتمدت أسلوب ما بعد الحداثة بتطويع الخامة وتحديد المفهوم والتفاعل معه حسب القيم الفنية من حيث التفصيل التقني، الخامة تطريز وأقمشة تراب وأحجار وصور وكل ما يمكن له أن يعبّر عن الأرض والانسان في تفاصيلها الداخلية، ما خلق حوارا بين المادة الخامة والفكرة المفهوم لتتماهى وتتبلور وترسّخ صورها مع طبيعة الإنتاج الفني حيث عمل الفنان بذاتية وبمراجع لم تخضعه لسلطة القالب والقاعدة بل مهّدت له الاحتمالات التجريبية ومكّنته من اكتساب قواعد خاصة.
*سليمان منصور
قد يرى بعض النقاد الرافضين لفكرة اللافن واللاقاعدة واللاالتزام بها في مرحلة ما بعد الحداثة وخاماتها أنها تمهّد الطريق لخلق هذا التمشي الهجين الذي لا يرتقي للتاريخ الفني خاصة أمام بعض الظواهر التي باتت تبحث عن الإثارة وتستسخف المواقف الجمالية وتعلي من درجات التوظيف الاستهلاكي والبذخ العام للرأسمالية في مزاجياتها أمام منطق البيع والشراء والعرض الاستعراضي على غرار الموزة الشهيرة للفنان “كاتلان” أو التوظيف العام للمجوهرات عند “داميان هيرست” خاصة وأن التوجهات العامة تجعل من أسلوب الخامة يبدو مُمنهجا بشكل مزاجي وذاتي، يفتقد للتناسق التوظيفي والإنساني للموقف من الانتماء للإنسان وقضاياه، منحاز للاستفزاز والتطرف في المواقف والفردانية أحيانا.
*ماري توما
ولكن رغم كل النقد إلا أن الكثير من التجارب العربية بالخصوص حملت توجها بحثيا وتجريبيا مختلفا في مسألة توظيف الخامات واعتباراتها الجمالية وتكميلياتها المتوافقة مع الفكرة والمفهوم، إذ لا يقتصر الفن على مُجرد التقليد بل يرتقي للموقف من الفن نفسه حتى لو بدا التعبير به ومن خلاله صادما وغير محافظ على الفكرة الاعتيادية المألوفة للجمال.
*بثينة ملحم
فالخامات المعتمدة تحتوي لغة تعبيرية جديدة غيّرت الجزئيات الإبداعية واحتضنت المواقف رغما عن كل التيارات النقدية لأن الموقف أصبح يحدّد المفهوم والمفهوم الذي بناه الواقع الذي بدوره بالغ في خلق الهوّة الفعلية لمنهج الحياة ولغة الإنسانية التي استنزفتها الحروب والاستغلال والمجازر والأحداث السياسية والتفاوت الاقتصادي وهو يحوّل فكرة الفن نحو الوجود وصفات الكينونة التي حدّدت قمته حسب الموجود وتناقضه مع المنشود فكلما كان الأسلوب المطوّع للخامة غرائبيّ التوظيف والاستعمال كلما كان الموقف جدليا وعميقا من حيث الوساطة والمفهوم.
*أشرف فواخري
إن التجارب اختلفت حسب توجّه كل منطقة وكل مدرسة على غرار التجارب التي حملت تصورات تعلّقت بالأرض والموقف والصدام والحروب مثل التجربة الفلسطينية واللبنانية والعراقية والسورية حيث حاكت أحداث الواقع السياسي بالكثير من الاطلاع الداخلي على الحياة وتفاصيلها في الذاكرة والحنين وفي الملامح والعادات وفي العناد والانتماء والاندماج مع الطبيعة والمقاومة الفعلية بكل الأثر الثقافي والارث التقليدي وهنا نذكر تجارب متعددة مثل تجربة بثنية ملحم التي شكّلت جغرافيا وطنها فلسطين بالثوب والتطريز والدبابيس وأضفت على قماش العمل صباغات مختلفة الروائح والألوان مثل القهوة والزعتر والزيت حتى تعبّر مساحة القماش عن الأرض بكل تفاصيلها وتجربة سليمان منصور وأشرف فواخري وراجي الكوك ومرفت عيسى حيث تشكيل الخامة من الأرض ومن العنصر الموجود في الطبيعة حجارة والطين حيث العمل التشكيلي وكذلك النحتي يوازي التمازج المادي والفكري في المشهد المنجز مثل تجربة بسام كيرلس مع القوالب الاسمنتية التي من خلالها جسد أو تخيّل فكرة الهدم بعد البناء على مستوى عمارة الحرب وأثر التداعي فيها بصريا من خلال تشويه الهندسة وجمالياتها.
*راجي الكوك
كما تعاملت الصورة الفتوغرافية أيضا مع فكرة الخامة المفهوم من حيث التأسيس للعمق المشهدي بتصورات أسلوب الواقعية المفرطة أو السريالية في الفتوغرافية لكشف ماورائيات الصورة وخلق توليفات بين الأحداث وانعكاسها في خيال الحضور من نفس الأشياء المجسّدة فيها بتلقائية أحيانا أو بأداء مقصود في الصورة مثل تجربة الفتوغرافيين اللبنايين في فترة الحرب اللبنانية.
*أشرف فواخري
كما نجد بعض التجارب المختلفة التي اشتغلت على الفوتوغرافيا كخامة مثل تجربة رولا حلواني التي وظّفت الفيلم النيجاتيف ومازجت فيه الظلال والضوء والعتمة والحضور لتبدو في المنجز متفاعلة مع واقعها بسواد مفرط وأمل غير مقطوع.
*بلال قبلان
من خلال الخامات يلجأ الفنان إلى انتشال الجمود بداخله من خلال الخيال والتجريب والجرأة في التنفيذ وهنا يقوم بإعادة التوظيف الجمالي للأشياء حسب فكرته فيخلق أسلوبا يوازن بين كل ذلك بطريقة تخترق المعتاد الجمالي من حيث العلاقة بين كل جزئية باعتماد انطلاقاته وحريّته التي تزداد مع الفضاء المعبّر فيه دون أن يعزل تصوراته عن طبيعتها العامة في تشكيل المفهوم أو إلغاء محاولاتها في الاقتراب من طرق الانتظام والتعبير عن العالم الواقعي فحتى لو كانت الأعمال تشكّل الواقع بدرجات غامضة إلا أنها تعلي من الفكرة وفلسفاتها بصريا ليبدو العالم مفكّكا يسوده الفراغ المعتمد على الحركة والاتجاه نحو تحقيق المعنى من خلاله.
بشرى بن فاطمة
حوّلت فنون ما بعد الحداثة النظرة العامة للفن ومفاهيمه بشكل اختلف بدرجات ملحوظة على مستوى المحتوى والفلسفة البصرية والشكل والمحمل والوسائط والخامات، تلك التي اعتُبرت أكثر التفاصيل التعبيرية جدلا على مستوى القيمة الفنية والجمالية والتفاعلية التعبيرية في مستوياتها العامة، فبين المتخيّل المألوف في الخامة والواقعي الغريب في التعبير تصادمت الرؤى التفسيرية حسب تناقضات المرحلة المعاصرة التي أسّست قيمها الجديدة وأثّرت من خلالها على الحركة الفنية وعلى فكرة الفن ككل.
*ليلى الشوا
فكيف عبر الفنان من خلال الأسلوب مراحل التعبير البصري من الفكرة الخيالية إلى المشاهد ومن رؤى التفسير إلى القيم المفهومية على مستوى الخامة والقيمة الجمالية والمفهوم؟
اعتبر النصف الثاني من القرن العشرين عصر الثورة في كل القطاعات والمجالات وبالخصوص الفنية التي تماهت مع التقنية والمفاهيمية والتعبيرية والمادية حيث خلقت صدمة الحروب والانقسام القطبي والايديولوجي روحا جديدة وأيديولوجيات اختلفت حسب درجات التعبير والتمرد التي ابتكرت فيها أساليب فنية جديدة وأيضا خامات مختلفة كانت دخيلة أو خارجة عن مجال الفن، لدرجة أنه لم يُعترف بها كمواد صالحة لإنشاء عمل فني.
ولكنها كانت نتاج المراحل التي نفذت من خلالها وهي تنسج خيوطها وتحيك قصصها البصرية من منطلق حسي جديد قوامه الانسان والأرض التقنية والعلم وهنا اتسمت المرحلة بالتجديد مع الفوضى، بالتمرّد والامتداد وبالتفاعل مع الغرائبي للوصول إلى الانعكاس الحقيقي في مستويات التعبير الجديدة.
*بلال قبلان
وهو ما أحدث تغيرات جوهرية تدعّمت مع فكرة التجريب والمغامرة بالبحث وترويض صيغ الجماليات حسب التقنية والتفعيل الذي حمل القيم الفنية والمواد الأوّلية من مجرد ألوان وأشكال إلى خامات جامدة واشتغال في الفراغ وتصميم للحركة والأداء.
وهنا اختار الفنانون رؤى التجريب حتى يكون للمواد والخامات دور للتعبير في حد ذاتها عن ذاتها في الوجود والواقع بخلق تماس حركي بينها وبين حضورها البصري، وهو ما جعل العالم يعترف بما قدّمه Marcel Duchamp 1887-1969 الذي اعتبر أن “أن العمل الفني هو حقيقة تحاكي الذهن دون سواه”.
*رؤوف رفاعي
ما دفع بما نادى به إلى أن يكون حافزا أسّس للتغيير الفكري والبصري والجمالي لفنون ما بعد الحداثة كما أسّس لحركات تمرّدت على صور الفن النمطيّة وكسرت كل المفاهيم التي تفاعلت موضوعيا مع مخلّفات الحروب وما لحق بها في العالم على مستوى العواطف والأفكار ودرجات التلقي الذهني من حيث البناء والتصميم والفكرة والتوظيف مثل المواد المنزلية والعشب والخشب القمامة والجلود والأقمشة والتراب والحجارة والاسمنت والمطاط والزجاج الأشياء القديمة والفتوغرافيا والورق والقصاصات والكتب وغيرها من المواد التي شكّلت علامات فارقة على مستوى التوظيف التفاعلي مع خامات الفن المعتادة التي ساهمت في تأسيس الفعل والموقف والفكرة.
*رولا حلواني
فالأسلوب الذي اندمج مع عصره تفرّع واختلف في مصطلحاته وانتمائه فكان الفن المعاصر الذي تحدّث لغة تجاوزت مفاهيم الحداثة من حيث الفكر والأسلوب والتقنية والخامة والأداء ما جعل تصنيف المرحلة الجديدة يتحوّل إلى تيار فنون ما بعد الحداثة Postmodern Art.
*بسام كيرلس
خاصة وأنها صاغت المرحلة الحالية وعبّرت عنها بالكثير من الخامات التي تجدّدت بدورها حسب عصرها منذ انطلاقاتها في الستينات إلى الفترة الحالية التي تميّزت بالرقميات والعالم الافتراضي، فتمّ توظيفها بحسب الاختلافات الواقعية لتتناسب مع تطرّف الفكرة أحيانا حتى تتوازى في التعبير عنها مع واقع ما بعد الحرب الباردة وانهيار سياسة الأقطاب وبالتالي تزداد الهوّة الجمالية والبصرية بينها وبين التصوّرت المألوفة، فقد تغيّرت النظرة للواقع والانسان والوجود والأرض وتقنيات العصر مع سيطرة العالم الرقمي وتوظيفه في خدمة الأفكار الفنية.
*نبيل نجدي
فهذا التوجّه خلق تحوّلات بصرية استطاعت أن تفكّك تفاعلاتها الجمالية وتبتكر من الخامات المختلفة تعابيرها التي نفت السائد وفكرة المألوف إلى اللامألوف في صياغة المعنى بحيث قلبت واقع الفن بالواقع المعبّر عنه بدرجاته التي اختلفت حسب كل موقف وقضية تمت معالجتها مفهوميا من خلال الخامات والوسائط مثل فنون الصورة والواقعية المفرطة والفيديو آرت والفيديو التجريبي والأداء التميلي.
*جورج سامرجيان
فالتجربة الفلسطينية كثيرا ما اعتمدت أسلوب ما بعد الحداثة بتطويع الخامة وتحديد المفهوم والتفاعل معه حسب القيم الفنية من حيث التفصيل التقني، الخامة تطريز وأقمشة تراب وأحجار وصور وكل ما يمكن له أن يعبّر عن الأرض والانسان في تفاصيلها الداخلية، ما خلق حوارا بين المادة الخامة والفكرة المفهوم لتتماهى وتتبلور وترسّخ صورها مع طبيعة الإنتاج الفني حيث عمل الفنان بذاتية وبمراجع لم تخضعه لسلطة القالب والقاعدة بل مهّدت له الاحتمالات التجريبية ومكّنته من اكتساب قواعد خاصة.
*سليمان منصور
قد يرى بعض النقاد الرافضين لفكرة اللافن واللاقاعدة واللاالتزام بها في مرحلة ما بعد الحداثة وخاماتها أنها تمهّد الطريق لخلق هذا التمشي الهجين الذي لا يرتقي للتاريخ الفني خاصة أمام بعض الظواهر التي باتت تبحث عن الإثارة وتستسخف المواقف الجمالية وتعلي من درجات التوظيف الاستهلاكي والبذخ العام للرأسمالية في مزاجياتها أمام منطق البيع والشراء والعرض الاستعراضي على غرار الموزة الشهيرة للفنان “كاتلان” أو التوظيف العام للمجوهرات عند “داميان هيرست” خاصة وأن التوجهات العامة تجعل من أسلوب الخامة يبدو مُمنهجا بشكل مزاجي وذاتي، يفتقد للتناسق التوظيفي والإنساني للموقف من الانتماء للإنسان وقضاياه، منحاز للاستفزاز والتطرف في المواقف والفردانية أحيانا.
*ماري توما
ولكن رغم كل النقد إلا أن الكثير من التجارب العربية بالخصوص حملت توجها بحثيا وتجريبيا مختلفا في مسألة توظيف الخامات واعتباراتها الجمالية وتكميلياتها المتوافقة مع الفكرة والمفهوم، إذ لا يقتصر الفن على مُجرد التقليد بل يرتقي للموقف من الفن نفسه حتى لو بدا التعبير به ومن خلاله صادما وغير محافظ على الفكرة الاعتيادية المألوفة للجمال.
*بثينة ملحم
فالخامات المعتمدة تحتوي لغة تعبيرية جديدة غيّرت الجزئيات الإبداعية واحتضنت المواقف رغما عن كل التيارات النقدية لأن الموقف أصبح يحدّد المفهوم والمفهوم الذي بناه الواقع الذي بدوره بالغ في خلق الهوّة الفعلية لمنهج الحياة ولغة الإنسانية التي استنزفتها الحروب والاستغلال والمجازر والأحداث السياسية والتفاوت الاقتصادي وهو يحوّل فكرة الفن نحو الوجود وصفات الكينونة التي حدّدت قمته حسب الموجود وتناقضه مع المنشود فكلما كان الأسلوب المطوّع للخامة غرائبيّ التوظيف والاستعمال كلما كان الموقف جدليا وعميقا من حيث الوساطة والمفهوم.
*أشرف فواخري
إن التجارب اختلفت حسب توجّه كل منطقة وكل مدرسة على غرار التجارب التي حملت تصورات تعلّقت بالأرض والموقف والصدام والحروب مثل التجربة الفلسطينية واللبنانية والعراقية والسورية حيث حاكت أحداث الواقع السياسي بالكثير من الاطلاع الداخلي على الحياة وتفاصيلها في الذاكرة والحنين وفي الملامح والعادات وفي العناد والانتماء والاندماج مع الطبيعة والمقاومة الفعلية بكل الأثر الثقافي والارث التقليدي وهنا نذكر تجارب متعددة مثل تجربة بثنية ملحم التي شكّلت جغرافيا وطنها فلسطين بالثوب والتطريز والدبابيس وأضفت على قماش العمل صباغات مختلفة الروائح والألوان مثل القهوة والزعتر والزيت حتى تعبّر مساحة القماش عن الأرض بكل تفاصيلها وتجربة سليمان منصور وأشرف فواخري وراجي الكوك ومرفت عيسى حيث تشكيل الخامة من الأرض ومن العنصر الموجود في الطبيعة حجارة والطين حيث العمل التشكيلي وكذلك النحتي يوازي التمازج المادي والفكري في المشهد المنجز مثل تجربة بسام كيرلس مع القوالب الاسمنتية التي من خلالها جسد أو تخيّل فكرة الهدم بعد البناء على مستوى عمارة الحرب وأثر التداعي فيها بصريا من خلال تشويه الهندسة وجمالياتها.
*راجي الكوك
كما تعاملت الصورة الفتوغرافية أيضا مع فكرة الخامة المفهوم من حيث التأسيس للعمق المشهدي بتصورات أسلوب الواقعية المفرطة أو السريالية في الفتوغرافية لكشف ماورائيات الصورة وخلق توليفات بين الأحداث وانعكاسها في خيال الحضور من نفس الأشياء المجسّدة فيها بتلقائية أحيانا أو بأداء مقصود في الصورة مثل تجربة الفتوغرافيين اللبنايين في فترة الحرب اللبنانية.
*أشرف فواخري
كما نجد بعض التجارب المختلفة التي اشتغلت على الفوتوغرافيا كخامة مثل تجربة رولا حلواني التي وظّفت الفيلم النيجاتيف ومازجت فيه الظلال والضوء والعتمة والحضور لتبدو في المنجز متفاعلة مع واقعها بسواد مفرط وأمل غير مقطوع.
*بلال قبلان
من خلال الخامات يلجأ الفنان إلى انتشال الجمود بداخله من خلال الخيال والتجريب والجرأة في التنفيذ وهنا يقوم بإعادة التوظيف الجمالي للأشياء حسب فكرته فيخلق أسلوبا يوازن بين كل ذلك بطريقة تخترق المعتاد الجمالي من حيث العلاقة بين كل جزئية باعتماد انطلاقاته وحريّته التي تزداد مع الفضاء المعبّر فيه دون أن يعزل تصوراته عن طبيعتها العامة في تشكيل المفهوم أو إلغاء محاولاتها في الاقتراب من طرق الانتظام والتعبير عن العالم الواقعي فحتى لو كانت الأعمال تشكّل الواقع بدرجات غامضة إلا أنها تعلي من الفكرة وفلسفاتها بصريا ليبدو العالم مفكّكا يسوده الفراغ المعتمد على الحركة والاتجاه نحو تحقيق المعنى من خلاله.