أعمال إبراهيم النوباني: تجريد ناطق بالرمز والهوية
مليحة مسلماني 19 يناير 2023
تشكيل
إبراهيم النوباني
شارك هذا المقال
حجم الخط
"اندلعت الانتفاضة الأولى... الأحداث العامة دخلت إلى مرسمي، تمازجت ألوانها الدخانية والدموية بالأحداث الخاصة، كان هناك ثورة وغضب يتفجّران ليتجاوزا المربع والمثلث والدائرة"، إبراهيم النوباني[1]
إبراهيم النوباني واحد من أبرز فناني التجريد في المشهد التشكيلي الفلسطيني المعاصر. ولد من أبوين مُهجّريْن، فأبوه من إحدى قرى مدينة نابلس، أقام في حيفا، وبعد سقوط المدينة عام 1948 لجأ إلى عكا، أما أمه فقد هُجّرت من قرية "الكويكات" في الجليل الغربي، والتي تقوم على أنقاضها اليوم مستوطنة إسرائيلية. التحق بـ "أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم" الإسرائيلية، ومن ثم واصل مسيرته الفنية ضمن الوسط الفني التشكيلي الإسرائيلي. امتزجت الأحداث الخاصة والعامة في مسيرة النوباني، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، بدأت الأحداث بالدخول إلى مرسمه، على حدّ تعبيره، ومن ثمّ ترك الحياة في تل أبيب، وعاش في عزلة استمرت لسنوات طويلة في مرسمه في قرية المكر في عكا.
في الوقت الذي كان إبراهيم النوباني يعرّف نفسه كرسام، في فترة الدراسة في "بتسلئليل" وما بعدها، وهو تعريف لا يرتبط بمكان أو ثقافة محدّديْن، تتابع اندلاع الأحداث في فلسطين، وكان أبرزها انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية عام 2000)، وما تضمنّها من مجازر وعمليات قمع. لتفرض هذه الأحداث نفسها على الفنان والبحثَ في مسألة الهوية. وهي، أي عملية استشكاف الهوية وتعريفها، مسألة ميزت فلسطينيي 48 بعامّة خلال العقود التي تلت النكبة؛ فسياسات التمييز والعنصرية الإسرائيلية، والمستمرة تجاههم، عززت مبكرًا من وعيهم بهويتهم الفلسطينية. ينطبق ذلك بشكل جليّ على المبدعين منهم ومن بينهم الفنانون التشكيليون، فميدان الفن في إسرائيل لا يخرج، بشكل عام، عن إطاره المتناغم مع الرؤى الهُوياتية الصهيونية للدولة؛ وهو يرسّخ كذلك البعد الغربي ـ الأوروبي لتلك الهوية، والذي يمثّل ثقافة النخبة المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي.
من الطوباوية إلى الرمزية فالفوضوية
يرى نقّاد أن المعالجة التشكيلية لمسألة الهوية في أعمال النوباني مرت بثلاث مراحل ميزت مسيرته الفنية[2]. الأولى هي مرحلة الثمانينيات، حيث أنجز الفنان أعمالًا في التجريد الهندسي المرتبط بمفاهيم الطوباوية والصوفية. وتتجسد تلك المرحلة في لوحات لم يضع لها عناوين. وظل التجريد الهندسي أسلوبًا مرافقًا للفنان حتى أعماله المتأخرة. ثم تأتي مرحلة التسعينيات التي امتازت بالرمزية المحلية؛ إذ بدأت الرموز المحلية، كالبيت والقبّة والمزهرية والزخارف النباتية والقشّ المجدول وغيرها، تحتل مساحات أوسع في التجريد الهندسي في أعمال الفنان، مشكّلًا بها "قاموسًا رمزيًا شخصيًا ثابتًا".
تبدأ المرحلة الثالثة بعد عام 2000 وتمتد لما يقارب عشر سنوات، لتتخذ أعمال النوباني منحى تعبيريًا فوضويًا عبر الطرح البصري للأحداث الدموية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني آنذاك. وبدأت الأحداث المأساوية، بدخانها ودمويتها، تدخل المجال الهندسي الذي يقيمه الفنان على لوحات ذات حجم كبير، يحشد فيها رموزًا عربية وفلسطينية، في تأكيد على عروبة وفلسطينية المكان والإنسان. وأهم ما أثّر في أعمال النوباني في تلك المرحلة هو اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، واستشهاد ثلاثة عشر شابًا من الفلسطينيين في الداخل في أحداث "هبّة أكتوبر"، أو "هبّة الأقصى"، أثناء سلسلة من التظاهرات قام بها فلسطينيو 48.
قاموس رمزيّ تراثيّ
تحتوي أعمال النوباني، على قاموس غني من رموز التراث الثقافي الفلسطيني، الشعبي والديني. ويحشد الفنان في لوحاته زخارف من الفن الإسلامي، من تشكيلات أوراق النبات والأغصان والأزهار والنباتات المتشابكة المتفرعة والمجدولة، وفي بعض اللوحات تغطي هذه التشكيلات مساحات كاملة من العمل الفني لتشكل رؤية الفنان للهوية. في لوحة بعنوان "شجرتان وهدف" تظهر، إلى جانب تكوينات من الرموز النباتية، شجرتان من السّرو، وهي الشجرة التي تمتلئ بها الغابات في فلسطين، تظهر على الشجرتيْن دوائر حمراء متداخلة لتبدوان كهدفٍ لقنّاص؛ يشير الفنان برمز الشجرتين إلى هوية المكان والتراث الفلسطينيين التي تصبح هدفًا للاغتيال. كما تختزل اللوحة أيضًا دلالات حول التدمير الذي لحق بالمكان والطبيعة في فلسطين، على يد السلطات الإسرائيلية، بهدف إقامة المستوطنات والجدار والطرق الالتفافية.
يقوم إبراهيم النوباني بتعريب لوحة التجريد الغربية التي كان يرسمها في مرحلة الثمانينيات، وذلك عبر إدخال رموز من فنون الزخرفة والتجريد الإسلامية إلى أعماله، وهو يدمج بين الأساليب المختلفة في لوحات هندسية يحشد فيها رموزًا من الإرث البصري الفلسطيني. هذه المعالجات التشكيلية التي يقدمها النوباني تقوّض التعريفات والتصورات الغربية لمفهوم الفن، والتي استثنت الفنَّ الإسلامي من مصطلح "الفنون الجميلة" لتعتبره مجرد فنّ تنميق وتزيين، وتطلق عليه مصلحات مثل "الفنّ الشعبيّ" و"الفن والحِرَفيّ"، وغيرها من تسميات أكدت التمييز الثقافي والثنائية الحادة في الفكر الغربي الاستعماري، والتي حاول أن يفرضها في علاقته مع الشرق ورؤيته له، في موازاة لما تضمنته تلك الرؤية من تمييز اجتماعي وسياسي. فكما اشتمل الفكر الغربي على ثنائيات التمييز بين "أضداد ثقافية"، مثل الرجل الأبيض "المتحضّر" مقابل الشرقي "المتخلّف"، صُنّفت الفنون على الأساس العنصري الثنائي ذاته؛ فالفن "المتحضّر" مقابل الفن "البدائي"، والفن "الراقي" مقابل الفن "الهابط". يدمج الفنان في أعماله بين التجريد الهندسي والفنون العربية والإسلامية، في دلالة أيضًا على التضاد الذي تقع فيه هويته الموزعة بين عالميْن متباينيْن ثقافيًا وقوميًا[3].
يظهر البيت ذو القبّة، نصف الدائرية، كرمز يتواجد بكثرة في أعمال النوباني، ليشير به إلى البيت الفلسطيني التقليدي، والحديث عن البيت في أعمال الفنان يرتبط بشكل وثيق برؤيته للمكان الذي ينتمي إليه. أيضًا، يكثر الفنان من استخدام رمز الصليب الذي يظهر في أعماله في مختلف مراحل مسيرته الفنية، مطوّرًا دلالة الرمز من مرحلة إلى أخرى؛ فهو في مرحلة الثمانينيات رمزٌ هندسي مجرد يكاد يخلو من أية دلالات ثقافية أو سياسية سوى كونه شكلًا مجردًا، ثم يتحول في التسعينيات إلى رمز محلي ذي دلالة تاريخية دينية مسيحية. وفي أعمال أخرى يقوم الفنان بدمج رمز الصليب، كدلالة تاريخية، بالواقع السياسي الفلسطيني المعاصر بما يتضمنه من مجازر دموية وتهجير، ليصبح الصليب هو اللاجئ والخيمة.
البيت ـ الوطن
شغلت صورة المكان حيّزًا مهمًا في أعمال النوباني، الذي يقوم باختزال الوطن المفقود في أعماله في شكل البيت، وذلك من خلال رسم نموذج مُبسّط وطفولي للبيت؛ مربّع يعتليه نصف دائرة، وهو شكل مجرد للبيت القروي الفلسطيني ذي القبّة. في المقابل يطرح الفنان في أعماله نموذجًا آخر مغايرًا، مربّع يعتليه نصف مثلث، في دلالة على الشكل المجرد للبيت الغربي الذي يتمّ بناؤه في المستوطنات المقامة على أنقاض القرى الفلسطينية. يعالج الفنان في تلك الأعمال سياسات طمسِ هوية المكان وإحلالِ هويةٍ أخرى مكانها، ليمثل حالة الصراع حول الهوية، وعدم التصالح والتناغم في المشهد المكاني على الأرض في فلسطين نتيجةً للسياسات الاستعمارية.حول علاقة الفنان، وهو أحد اللاجئين في وطنهم، بالبيت، يقول مشبّهًا الحالة الذاتية بالعامة: "أشعر بأن لا بيت لي، وهو شعور يخلق حالة من عدم الاستقرار، تشبه الحالة الفلسطينية برمّتها، أن تكون مُهجّرًا أو ابنًا لعائلة مهجّرة يعني أنك تبقى مُهجّرًا..."[4].
فنٌّ مقاوِم
تنطوي أعمال النوباني، التي تمثل معالجات بصرية للأحداث الدموية التي تشهدها فلسطين، على مقاومة خفيّة أحيانًا ومباشرة أحيانًا أخرى. ومن بين هذه الأعمال "ثور جنين"، التي رافق إنجازها الاجتياح الكبير لمدينة جنين عام 2002، و لوحة "نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى"، وهو عنوان مقتبس من قصيدة وطنية مشهورة للشاعر حسن ضاهر بعنوان "ارحل" غنّاها الفنان أحمد قعبور. يتجلّى بُعْدُ المقاومة في هذه الأعمال من خلال المقاطع من الأغاني الوطنية المتضمَّنة فيها، والرموز الوطنية التي تحتويها كالعلم الفلسطيني، ومن خلال الحالة العامة للوحات التي تصور الصراع وما يحيط به من عنف ودماء دخان وآلام.
مقارنةً مع أعماله التجريدية السابقة، تأخذ أعمال النوباني بعد عام 2000 منحى سياسيًا مباشرًا، إذ يتجه فيها نحو معالجة بصرية واضحة للصراع السياسي. أما الأعمال التي يطرح فيها مسألة الهوية بتوظيف الرموز المحلية فهي تشير إلى أزمة أكثر مما تشير إلى صراع. غير أنه لا يمكن فهم هذا التوجه نحو المعالجة البصرية للصراع السياسي في أعمال النوباني بمعزل عن تطور وعي فلسطينيي 48 بمسألة الهوية من جهة، وعن التطور السياسي في الأراضي المحتلة عام 1967 بعد فشل اتفاقيات السلام، وبالتالي اندلاع انتفاضة الأقصى، ولا يمكن كذلك فهمها بمعزل عن صعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم في الكيان الصهيوني، وتحوّل المجتمع الإسرائيلي بشكل عام نحو اليمين والتطرف، ما أدى بدوره إلى تعاظم سياسات التمييز والقمع تجاه فلسطينيي 48.
تتجلى سيطرة الموضوع السياسي على الأعمال التي أنجزها الفنان خلال تلك الفترة، أولًا: من خلال العناوين التي يضعها للوحاته مثل: "نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى" (2004)، و"أنا كالخمر للنرجس العربي" (2004)، و"خارج المخيم" (2002)، و"موت في فلسطين" (2002)، و"جنين" (2002) وغيرها، وثانيًا: من خلال الرموز والتكوينات التي تحتوي عليها تلك الأعمال مثل: علم فلسطين، والجماجم، والدخان، واللون الأحمر الذي يحتل مساحات كبيرة كتعبير عن الأحداث الدموية التي رافقت اندلاع الانتفاضة الثانية، ما يُعتبر تطورًا في القاموس الرمزي للفنان.
يعكس ذلك أيضًا تطورًا في رؤية النوباني، كفنان فلسطيني يقيم في الكيان الصهيوني، لمفهوم الهوية؛ فالأعمال السابقة، التي أُنجزت في الثمانينيات والتسعينيات، احتوت على رموز تختزل دلالات تشير إلى هوية عربية ــ فلسطينية (محلية)، مثل القش المجدول، والقبّة، والعين، والنماذج النباتية، وهي، أي هذه الرموز، وإن كانت دلالاتها تشير إلى هوية متمايِزة عن السائد، الإسرائيلي ــ الغربي، إلا أنها لا تحيل ـ ضمن الحالة البصرية العامة للعمل، إلى تطور الأزمة إلى صراع دموي عنيف. لكن، وعندما بدأت رموز جديدة ذات دلالات على المقاومة والموت والصراع، مثل العلم الفلسطيني، والدخان، والدماء، والخيمة، تدخل إلى اللوحة، جنبًا إلى جنب مع الرموز التراثية، فذلك إشارة إلى اتساع مفهوم الهوية ليصبح عنصر الأزمة، والآخذ بالتطور إلى صراع، هو العنصر المسيطر على العمل الفني، وبالتالي على سؤال الهوية ودوائر انتمائها.
أخيرًا، تجنح أعمال النوباني التي أنجزها خلال السنوات الأخيرة إلى الهدوء النسبي من حيث طابعها العام، ولكنها في ذات الوقت لا تزال تحتفظ بغناها الرمزي وبدلالاتها على الهوية[5]. يحيل هذا الهدوء إلى مستوى من التوازن والنضج المعرفييْن في رؤية الفنان لمعطيات مثل المكان والصراع والهوية. يتأكد الهدوء البصري من خلال أعمال تجنح إلى الميناليزم أو التقليلية والإيجاز، في اللون والشكل، كما في عمل بعنوان "يوم مشمش"، استُخدم فيه اللون الأصفر فقط، وحشُدت فيه رموز وأشكال مجردة ومبسّطة وطفولية في معظمها تشكل بكلّيتها التكوين البصري العام للوحة. تمثل هذه اللوحة عودة إلى البساطة الناتجة عن عمقٍ معرفيّ، وتجاوزًا لأزمات عديدة، بالأمل.
هوامش
[1] إبراهيم النوباني، مقابلة شخصية أجرتها الكاتبة، رام الله، 10 حزيران/ يونيو 2006. ينظر: مليحة مسلماني، "حوار مع الفنان التشكيلي إبراهيم النوباني"، الحوار المتمدن، 21 حزيران/ يونيو 2006:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=68008
[2] إفرات ليفني، "شجرة حمراء مع صليب أسود: ثلاثة فصول من حياة إبراهيم النوباني وإبداعه"، في كتالوج: إبراهيم النوباني: الحيّز الوسطي، تل أبيب، متحف تل أبيب للفنون، 2004، ص 27 - 41.
[3] السابق، ص 35 – 37.
[4] النوباني، مقابلة..، مصدر سبق ذكره.
[5] يمكن الاطلاع على بعض أعمال إبراهيم النوباني الأخيرة عبر الرابط التالي (جاليري زاوية): https://zawyeh.net/tag/ibrahim-nubani/#
مليحة مسلماني 19 يناير 2023
تشكيل
إبراهيم النوباني
شارك هذا المقال
حجم الخط
"اندلعت الانتفاضة الأولى... الأحداث العامة دخلت إلى مرسمي، تمازجت ألوانها الدخانية والدموية بالأحداث الخاصة، كان هناك ثورة وغضب يتفجّران ليتجاوزا المربع والمثلث والدائرة"، إبراهيم النوباني[1]
إبراهيم النوباني واحد من أبرز فناني التجريد في المشهد التشكيلي الفلسطيني المعاصر. ولد من أبوين مُهجّريْن، فأبوه من إحدى قرى مدينة نابلس، أقام في حيفا، وبعد سقوط المدينة عام 1948 لجأ إلى عكا، أما أمه فقد هُجّرت من قرية "الكويكات" في الجليل الغربي، والتي تقوم على أنقاضها اليوم مستوطنة إسرائيلية. التحق بـ "أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم" الإسرائيلية، ومن ثم واصل مسيرته الفنية ضمن الوسط الفني التشكيلي الإسرائيلي. امتزجت الأحداث الخاصة والعامة في مسيرة النوباني، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، بدأت الأحداث بالدخول إلى مرسمه، على حدّ تعبيره، ومن ثمّ ترك الحياة في تل أبيب، وعاش في عزلة استمرت لسنوات طويلة في مرسمه في قرية المكر في عكا.
في الوقت الذي كان إبراهيم النوباني يعرّف نفسه كرسام، في فترة الدراسة في "بتسلئليل" وما بعدها، وهو تعريف لا يرتبط بمكان أو ثقافة محدّديْن، تتابع اندلاع الأحداث في فلسطين، وكان أبرزها انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية عام 2000)، وما تضمنّها من مجازر وعمليات قمع. لتفرض هذه الأحداث نفسها على الفنان والبحثَ في مسألة الهوية. وهي، أي عملية استشكاف الهوية وتعريفها، مسألة ميزت فلسطينيي 48 بعامّة خلال العقود التي تلت النكبة؛ فسياسات التمييز والعنصرية الإسرائيلية، والمستمرة تجاههم، عززت مبكرًا من وعيهم بهويتهم الفلسطينية. ينطبق ذلك بشكل جليّ على المبدعين منهم ومن بينهم الفنانون التشكيليون، فميدان الفن في إسرائيل لا يخرج، بشكل عام، عن إطاره المتناغم مع الرؤى الهُوياتية الصهيونية للدولة؛ وهو يرسّخ كذلك البعد الغربي ـ الأوروبي لتلك الهوية، والذي يمثّل ثقافة النخبة المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي.
من الطوباوية إلى الرمزية فالفوضوية
يرى نقّاد أن المعالجة التشكيلية لمسألة الهوية في أعمال النوباني مرت بثلاث مراحل ميزت مسيرته الفنية[2]. الأولى هي مرحلة الثمانينيات، حيث أنجز الفنان أعمالًا في التجريد الهندسي المرتبط بمفاهيم الطوباوية والصوفية. وتتجسد تلك المرحلة في لوحات لم يضع لها عناوين. وظل التجريد الهندسي أسلوبًا مرافقًا للفنان حتى أعماله المتأخرة. ثم تأتي مرحلة التسعينيات التي امتازت بالرمزية المحلية؛ إذ بدأت الرموز المحلية، كالبيت والقبّة والمزهرية والزخارف النباتية والقشّ المجدول وغيرها، تحتل مساحات أوسع في التجريد الهندسي في أعمال الفنان، مشكّلًا بها "قاموسًا رمزيًا شخصيًا ثابتًا".
تبدأ المرحلة الثالثة بعد عام 2000 وتمتد لما يقارب عشر سنوات، لتتخذ أعمال النوباني منحى تعبيريًا فوضويًا عبر الطرح البصري للأحداث الدموية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني آنذاك. وبدأت الأحداث المأساوية، بدخانها ودمويتها، تدخل المجال الهندسي الذي يقيمه الفنان على لوحات ذات حجم كبير، يحشد فيها رموزًا عربية وفلسطينية، في تأكيد على عروبة وفلسطينية المكان والإنسان. وأهم ما أثّر في أعمال النوباني في تلك المرحلة هو اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، واستشهاد ثلاثة عشر شابًا من الفلسطينيين في الداخل في أحداث "هبّة أكتوبر"، أو "هبّة الأقصى"، أثناء سلسلة من التظاهرات قام بها فلسطينيو 48.
قاموس رمزيّ تراثيّ
تحتوي أعمال النوباني، على قاموس غني من رموز التراث الثقافي الفلسطيني، الشعبي والديني. ويحشد الفنان في لوحاته زخارف من الفن الإسلامي، من تشكيلات أوراق النبات والأغصان والأزهار والنباتات المتشابكة المتفرعة والمجدولة، وفي بعض اللوحات تغطي هذه التشكيلات مساحات كاملة من العمل الفني لتشكل رؤية الفنان للهوية. في لوحة بعنوان "شجرتان وهدف" تظهر، إلى جانب تكوينات من الرموز النباتية، شجرتان من السّرو، وهي الشجرة التي تمتلئ بها الغابات في فلسطين، تظهر على الشجرتيْن دوائر حمراء متداخلة لتبدوان كهدفٍ لقنّاص؛ يشير الفنان برمز الشجرتين إلى هوية المكان والتراث الفلسطينيين التي تصبح هدفًا للاغتيال. كما تختزل اللوحة أيضًا دلالات حول التدمير الذي لحق بالمكان والطبيعة في فلسطين، على يد السلطات الإسرائيلية، بهدف إقامة المستوطنات والجدار والطرق الالتفافية.
"مقارنةً مع أعماله التجريدية السابقة، تأخذ أعمال النوباني بعد عام 2000 منحى سياسيًا مباشرًا، إذ يتجه فيها نحو معالجة بصرية واضحة للصراع السياسي. أما الأعمال التي يطرح فيها مسألة الهوية بتوظيف الرموز المحلية فهي تشير إلى أزمة أكثر مما تشير إلى صراع" |
يظهر البيت ذو القبّة، نصف الدائرية، كرمز يتواجد بكثرة في أعمال النوباني، ليشير به إلى البيت الفلسطيني التقليدي، والحديث عن البيت في أعمال الفنان يرتبط بشكل وثيق برؤيته للمكان الذي ينتمي إليه. أيضًا، يكثر الفنان من استخدام رمز الصليب الذي يظهر في أعماله في مختلف مراحل مسيرته الفنية، مطوّرًا دلالة الرمز من مرحلة إلى أخرى؛ فهو في مرحلة الثمانينيات رمزٌ هندسي مجرد يكاد يخلو من أية دلالات ثقافية أو سياسية سوى كونه شكلًا مجردًا، ثم يتحول في التسعينيات إلى رمز محلي ذي دلالة تاريخية دينية مسيحية. وفي أعمال أخرى يقوم الفنان بدمج رمز الصليب، كدلالة تاريخية، بالواقع السياسي الفلسطيني المعاصر بما يتضمنه من مجازر دموية وتهجير، ليصبح الصليب هو اللاجئ والخيمة.
البيت ـ الوطن
شغلت صورة المكان حيّزًا مهمًا في أعمال النوباني، الذي يقوم باختزال الوطن المفقود في أعماله في شكل البيت، وذلك من خلال رسم نموذج مُبسّط وطفولي للبيت؛ مربّع يعتليه نصف دائرة، وهو شكل مجرد للبيت القروي الفلسطيني ذي القبّة. في المقابل يطرح الفنان في أعماله نموذجًا آخر مغايرًا، مربّع يعتليه نصف مثلث، في دلالة على الشكل المجرد للبيت الغربي الذي يتمّ بناؤه في المستوطنات المقامة على أنقاض القرى الفلسطينية. يعالج الفنان في تلك الأعمال سياسات طمسِ هوية المكان وإحلالِ هويةٍ أخرى مكانها، ليمثل حالة الصراع حول الهوية، وعدم التصالح والتناغم في المشهد المكاني على الأرض في فلسطين نتيجةً للسياسات الاستعمارية.حول علاقة الفنان، وهو أحد اللاجئين في وطنهم، بالبيت، يقول مشبّهًا الحالة الذاتية بالعامة: "أشعر بأن لا بيت لي، وهو شعور يخلق حالة من عدم الاستقرار، تشبه الحالة الفلسطينية برمّتها، أن تكون مُهجّرًا أو ابنًا لعائلة مهجّرة يعني أنك تبقى مُهجّرًا..."[4].
فنٌّ مقاوِم
تنطوي أعمال النوباني، التي تمثل معالجات بصرية للأحداث الدموية التي تشهدها فلسطين، على مقاومة خفيّة أحيانًا ومباشرة أحيانًا أخرى. ومن بين هذه الأعمال "ثور جنين"، التي رافق إنجازها الاجتياح الكبير لمدينة جنين عام 2002، و لوحة "نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى"، وهو عنوان مقتبس من قصيدة وطنية مشهورة للشاعر حسن ضاهر بعنوان "ارحل" غنّاها الفنان أحمد قعبور. يتجلّى بُعْدُ المقاومة في هذه الأعمال من خلال المقاطع من الأغاني الوطنية المتضمَّنة فيها، والرموز الوطنية التي تحتويها كالعلم الفلسطيني، ومن خلال الحالة العامة للوحات التي تصور الصراع وما يحيط به من عنف ودماء دخان وآلام.
مقارنةً مع أعماله التجريدية السابقة، تأخذ أعمال النوباني بعد عام 2000 منحى سياسيًا مباشرًا، إذ يتجه فيها نحو معالجة بصرية واضحة للصراع السياسي. أما الأعمال التي يطرح فيها مسألة الهوية بتوظيف الرموز المحلية فهي تشير إلى أزمة أكثر مما تشير إلى صراع. غير أنه لا يمكن فهم هذا التوجه نحو المعالجة البصرية للصراع السياسي في أعمال النوباني بمعزل عن تطور وعي فلسطينيي 48 بمسألة الهوية من جهة، وعن التطور السياسي في الأراضي المحتلة عام 1967 بعد فشل اتفاقيات السلام، وبالتالي اندلاع انتفاضة الأقصى، ولا يمكن كذلك فهمها بمعزل عن صعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم في الكيان الصهيوني، وتحوّل المجتمع الإسرائيلي بشكل عام نحو اليمين والتطرف، ما أدى بدوره إلى تعاظم سياسات التمييز والقمع تجاه فلسطينيي 48.
تتجلى سيطرة الموضوع السياسي على الأعمال التي أنجزها الفنان خلال تلك الفترة، أولًا: من خلال العناوين التي يضعها للوحاته مثل: "نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى" (2004)، و"أنا كالخمر للنرجس العربي" (2004)، و"خارج المخيم" (2002)، و"موت في فلسطين" (2002)، و"جنين" (2002) وغيرها، وثانيًا: من خلال الرموز والتكوينات التي تحتوي عليها تلك الأعمال مثل: علم فلسطين، والجماجم، والدخان، واللون الأحمر الذي يحتل مساحات كبيرة كتعبير عن الأحداث الدموية التي رافقت اندلاع الانتفاضة الثانية، ما يُعتبر تطورًا في القاموس الرمزي للفنان.
يعكس ذلك أيضًا تطورًا في رؤية النوباني، كفنان فلسطيني يقيم في الكيان الصهيوني، لمفهوم الهوية؛ فالأعمال السابقة، التي أُنجزت في الثمانينيات والتسعينيات، احتوت على رموز تختزل دلالات تشير إلى هوية عربية ــ فلسطينية (محلية)، مثل القش المجدول، والقبّة، والعين، والنماذج النباتية، وهي، أي هذه الرموز، وإن كانت دلالاتها تشير إلى هوية متمايِزة عن السائد، الإسرائيلي ــ الغربي، إلا أنها لا تحيل ـ ضمن الحالة البصرية العامة للعمل، إلى تطور الأزمة إلى صراع دموي عنيف. لكن، وعندما بدأت رموز جديدة ذات دلالات على المقاومة والموت والصراع، مثل العلم الفلسطيني، والدخان، والدماء، والخيمة، تدخل إلى اللوحة، جنبًا إلى جنب مع الرموز التراثية، فذلك إشارة إلى اتساع مفهوم الهوية ليصبح عنصر الأزمة، والآخذ بالتطور إلى صراع، هو العنصر المسيطر على العمل الفني، وبالتالي على سؤال الهوية ودوائر انتمائها.
أخيرًا، تجنح أعمال النوباني التي أنجزها خلال السنوات الأخيرة إلى الهدوء النسبي من حيث طابعها العام، ولكنها في ذات الوقت لا تزال تحتفظ بغناها الرمزي وبدلالاتها على الهوية[5]. يحيل هذا الهدوء إلى مستوى من التوازن والنضج المعرفييْن في رؤية الفنان لمعطيات مثل المكان والصراع والهوية. يتأكد الهدوء البصري من خلال أعمال تجنح إلى الميناليزم أو التقليلية والإيجاز، في اللون والشكل، كما في عمل بعنوان "يوم مشمش"، استُخدم فيه اللون الأصفر فقط، وحشُدت فيه رموز وأشكال مجردة ومبسّطة وطفولية في معظمها تشكل بكلّيتها التكوين البصري العام للوحة. تمثل هذه اللوحة عودة إلى البساطة الناتجة عن عمقٍ معرفيّ، وتجاوزًا لأزمات عديدة، بالأمل.
هوامش
[1] إبراهيم النوباني، مقابلة شخصية أجرتها الكاتبة، رام الله، 10 حزيران/ يونيو 2006. ينظر: مليحة مسلماني، "حوار مع الفنان التشكيلي إبراهيم النوباني"، الحوار المتمدن، 21 حزيران/ يونيو 2006:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=68008
[2] إفرات ليفني، "شجرة حمراء مع صليب أسود: ثلاثة فصول من حياة إبراهيم النوباني وإبداعه"، في كتالوج: إبراهيم النوباني: الحيّز الوسطي، تل أبيب، متحف تل أبيب للفنون، 2004، ص 27 - 41.
[3] السابق، ص 35 – 37.
[4] النوباني، مقابلة..، مصدر سبق ذكره.
[5] يمكن الاطلاع على بعض أعمال إبراهيم النوباني الأخيرة عبر الرابط التالي (جاليري زاوية): https://zawyeh.net/tag/ibrahim-nubani/#