"مراحل" محمد عبلة.. 50 عامًا من التجريب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "مراحل" محمد عبلة.. 50 عامًا من التجريب

    "مراحل" محمد عبلة.. 50 عامًا من التجريب
    سارة عابدين 29 يونيو 2022
    تشكيل
    محمد عبلة خلال العمل على إحدى لوحاته
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    كثيرون لا يعرفون تمامًا إجابة السؤال الأشهر في عالم الفن: من أين تأتي الأفكار؟ بعض الفنانين لديه إجابة والبعض لا يعرف تمامًا سوى أنه يجرب حتى يصل إلى ما يريد. الاعتراف بالعمل كتجربة يحرر الفنان من الصرامة والجدية والرغبة في الكمال. المعرفة هي نتيجة التجريب حتى إذا لم يكن المنتج الفني النهائي مثاليًا. يستكشف الفنان من خلال التجريب أفكاره الأعمق وإمكاناته التقنية والأسلوب الفني الذي يفضله، حتى يكتشف نفسه في الأساس.

    في المعرض الاستعادي "مراحل" المقام حاليًا وحتى نهاية يونيو/ حزيران بغاليري ضي بالقاهرة للفنان التشكيلي المصري محمد عبلة، بمناسبة حصوله على وسام غوتة الألماني، يتضح أن عبلة اختار درب التجريب والاستكشاف منذ البداية، لكنه تجريب بعد التمكن من الرسم الكلاسيكي، كما يظهر في اللوحات التي رسمها في أثناء دراسته وأيضًا في مشروع تخرجه الذي كان بعنوان "المراكبي".
    "يتضح أن عبلة اختار درب التجريب والاستكشاف منذ البداية، لكنه تجريب بعد التمكن من الرسم الكلاسيكي، كما يظهر في اللوحات التي رسمها في أثناء دراسته وأيضًا في مشروع تخرجه الذي كان بعنوان "المراكبي""
    بعد تخرج عبلة من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام (1973) انطلق لمدة سبع سنوات في رحلة حول أوروبا وزار المتاحف المهمة في فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا، ودرس الرسم والنحت في فيينا وزيوريخ، وكان معرضه الأول في مدينة هامبورغ، ثم أقام ثلاثة معارض فنية في هولندا والسويد وإيطاليا حتى عام 1991. فاز في عام 1994 بالجائزة الأولى في بينالي الكويت، وفي عام 1997 فاز بالجائزة الأولى في بينالي الإسكندرية كما شارك في العديد من الأحداث الدولية مثل بينالي هافانا بكوبا.

    أسس عبلة أيضًا العديد من المؤسسات الفنية التي تربط الفنانين محليًا وإقليميًا من خلال روابط الإبداع والفن، أولها كان مركز الفيوم للفنون حيث يلتقي الفنانون ويتعاونون، كما أسس في 2009 أول متحف للكاريكاتير في الشرق الأوسط بالفيوم.







    رحلة من الاستكشافات

    بالعودة إلى التجريب والاستكشافات يقول عبلة في حوار له: "عندما أعمل لا أصنع اسكتشات أبدا، أنا أعمل على اللوحة مباشرة، ثم يتحول اللعب إلى العمل الفني؛ عندما يحركني شيء ما يصبح هو موضوعي، لأن الفن والرسم هو طريقتي الوحيدة للتعبير".

    من خلال مشاهدة اللوحات بتمهل يظهر بوضوح نزوع عبلة نحو استكشاف الوسائط المتعددة والنقوش والطباعة الخشبية والحجرية والكولاج. لا توجد تقريبا تقنية فنية إلا واستكشفها عبلة، وخرج منها بعمل فني يوثق للتجربة، حيث يمكن للصدفة أن تكون طريقة للبحث عن المهارة والوعي وتنمية الخيال. قرر عبلة منذ البداية عدم الالتزام بالحدود الفنية الكلاسيكية والاستمرار في اللعب.

    في بدايات عبلة يمكن أن نجد تأثير أساتذة سابقين مثل شخوص حامد ندا التي تظهر بشكل ما في لوحات الطباعة الخاصة بعبلة، وتعطي تأثير الأحلام خاصة مع التسطيح وألوان المونوكروم التي تؤكد على إحساس الحلم. لا يعتبر التأثر هنا علامة تقليد أو ما شابه، لكنه أمر طبيعي خاصة أنه كان في بداية مشوار عبلة الفني، إذ لا يمكن أن يبدأ فنان دون أن يتأثر بمن سبقوه حتى يجد طريقته الخاصة.

    بعد رحلته إلى أوروبا قرر عبلة العودة إلى مصر ليكون جزءًا من المشهد الفني المصري، وبعودته أصبحت السياسة موضوعًا مهمًا في لوحاته، وانخرط عبلة في المجتمع المصري البسيط ولم يكتف بالجلوس في المرسم الخاص به، وحاول التركيز على القضايا الاجتماعية والبيئية بطريقة بعيدة عن المباشرة والمدرسية.
    "بعد رحلته إلى أوروبا قرر عبلة العودة إلى مصر ليكون جزءًا من المشهد الفني المصري، وبعودته أصبحت السياسة موضوعًا مهمًا في لوحاته، وانخرط عبلة في المجتمع المصري البسيط ولم يكتف بالجلوس في المرسم الخاص به"
    الكولاج والتجريد

    في مكان بارز من القاعة تعرض لوحة "الجنة" من مجموعة "طريق الحرير"، حيث اختار عبلة التعبير من خلال اللوحات عن ثراء ذلك الطريق القديم الذي يجمع بين العراق وسورية والصين وروسيا والهند، عن طريقة تقنية الإبرو القديمة، وهي طريقة تقوم على إسقاط الطلاء في حوض ماء ونضع الأوراق على سطح الماء لتلتقط الأنماط الرخامية العشوائية. استخدم عبلة تلك التقنية مع الحكايات السحرية والفولكلورية عن الطريق السحري القديم. يذكر عبلة في حديث له أنه أمضى 18 شهرًا في البحث والسفر إلى البلدان الواقعة على طول طريق الحرير وتعلم الفن الرخامي حتى أتقنه ثم ترك نفسه للتجربة الفنية. يوجد في المعرض الاستعادي أكثر من قطعة من تلك التجربة تعبر عن مقتطفات وشخصيات من حكيات طويلة، تظهر الأميرات والأمراء والفرسان والمحاربين، وتتكرر الرموز بشكل ما في اللوحات لتبدو اللوحات بالفعل مترابطة بخط بصري رفيع. حواف الكولاج غير محسوسة بسبب الورق الناعم الذي استخدمه عبلة، لتظهر كل قطعة كأنها قطعة فنية تاريخية لها ماض وتاريخ أشبه بحلم لا يمكن تحديد بدايته ونهايته بدقة، بينما تبدو لوحاته التي تعبر عن المشكلات المصرية مثل تزايد عدد السكان هي النقيض الأرضي لتجربة الكولاج السماوية، حيث رسم شققًا وبيوتًا مكدسة تشبه الليغو الذي يوشك على السقوط، ورسم طرقًا مزدحمة بالبشر دون تجسيد واضح ولكن بتكثيف تجريدي قائم على قوة التصميم واللون عند عبلة، كما نشاهد نفس النقاط المكدسة على ضفاف النيل وفي الأماكن الشعببية والمقاهي، لتشبه لوحات عبلة سجلًا توثيقيًا لرحلاته عبر محافظات مصر وأماكنها المختلفة. يلاحظ من يشاهد المعرض الاستعادي بتأمل أن عبلة أصبح أكثر جرأة مع اللون مع تقدم تجربته الفنية. مع تقدم عبلة في العمر والتجربة يبدو أنه أصبح أكثر حرية وقدرة على التجريب والتجريد كعادة أغلب الفنانين في مراحلهم الفنية المتقدمة.

    من أعمال محمد عبلة

    تغيير الوسيط والتحوّل إلى النحت

    رغم شهرة عبلة الطويلة في الرسم إلا أنه تحول إلى التجريب في النحت منذ عدة سنوات. وعلق عبلة على ذلك التحول قائلا: "أن تكون قادرًا على حمل عملك بين يديك والتفاعل مع وزنه والشعور به هي تجربة رائعة لا يمكن تحقيقها إلا بالنحت." ومع ذلك ليس النحت جديدًا على عبلة لأنه درسه في بداية حياته الفنية في سويسرا منذ أكثر من 40 عامًا، ومنذ التسعينيات وتمثال سيزيف الخاص به يزين واحدًا من أشهر ميادين والسرود في ألمانيا. أراد عبلة دائما رؤية أعماله ثلاثية الأبعاد. يعتمد النحت على أكثر من مرحلة وهي: صناعة التمثال ثم صنع القالب الخاص به ثم صب البرونز. قرر عبلة خوض التجربة بدون المرور بكل تلك المراحل الطويلة، حيث تواصل مع حرفيين يعملون بطريقة بدائية بدون قوالب، لكنهم يصنعون القوالب من الرسم مباشرة وهو ما تلاءم مع فكرة عبلة عن العمل بدون مخطوط أولي، نظرًا لشغفه الكبير باللمسة الأولى والخط الأول في كل لوحة والذي لا يمكن تعويضه.

    تشبه منحوتات عبلة أبطال لوحاته وحيواناتها وشخوصها، هناك الديك والحصان والكلب والشخوص التي يبدو أنها خرجت من إطار اللوحة إلى الفراغ الواسع لإطلاق كل الطاقة الحركية بهم، كأننا تمكننا من اللف 360 درجة حول الأبطال الذين تحرروا من سطح اللوحة.
    "هناك تماثيل حجرية لشخصيات في وضعيات جلوس مختلفة، يبدو أنهم في حالة انتظار أو ترقب لشيء ما، وهناك الكرات البرونزية المفرغة بأشكال عشوائية لكنها تصنع ظلالًا وعلاقات مع اللون الأبيض حولها"
    منحوتات عبلة ليست مصمتة، لكن بها فتحات تمرر الضوء، ليصبح السياق المحيط بالمنحوتة ليس مجرد مكان، لكنه صدى كامل من الوجود الفعلي للعمل مع الضوء الذي يمر من خلاله ويتكسر على الأسطح الخشنة للمنحوتة المصنوعة من البرونز، الذي اختاره عبلة لأنه يحتفظ على مر السنوات بحيويته وصفاته الأصيلة وقيمته بطريقة تتحدى الزمن. رغم أن منحوتات عبلة انعكاس لأعماله التصويرية، لكنها تشير في الوقت نفسه إلى تأثير الرسام والنحات السويسري ألبيرتو جياكوميتي على منحوتات عبلة. تخلى جياكوميتي عن التأثيرات الجمالية للأسطح المصقولة، بحثا عن رؤية حقيقية ووجودية في وقت شهد ظهور الوجودية كتيار فلسفي وفني وأدبي.

    ليست خامة البرونز فقط، لكن هناك تماثيل حجرية لشخصيات في وضعيات جلوس مختلفة، يبدو أنهم في حالة انتظار أو ترقب لشيء ما، وهناك الكرات البرونزية المفرغة بأشكال عشوائية لكنها تصنع ظلالًا وعلاقات مع اللون الأبيض حولها، بالإضافة إلى المنحوتات التجريدية المطعمة باللونين الأزرق الفيروزي والأخضر التي عرضت بجوار البورتريهات التي تقترب بشكل ما من إحساس القناع الإفريقي.







    أهمية المعارض الاستعادية

    تعتبر المعارض الاستعادية فرصة مهمة لمحبي الفنان ولنقاد الفن، لأنها تمنحنا نظرة واسعة وعامة على أعمال الفنان عبر المراحل المختلفة، كما تساعد على فهم تطوّر أسلوب الفنان من خلال ملاحظة كل مرحلة بجوار الأخرى، لذا يمكن اعتبار معرض عبلة الاستعادي بمثابة توثيق لرحلته الفنية وفهم طبيعة العلاقات بين أعماله الفنية، كيف كانت في البداية وكيف أصبحت في الوقت الحاضر.

يعمل...
X