هذه قصة ميكانيكا الكم التي زعزعت الصورة القديمة للكون
أدَّت كل هذه الرياضيات الجديدة، في نهاية الأمر، إلى تفسير غريب جداً حول طبيعة العالم في مستواه الذري. وهو ما يُسمى مبدأ التراكب الكمي
القافلة - يوسف البناي
نشر في: 29 أغسطس ,2020: 08:39 م GSTآخر تحديث: 29 أغسطس ,2020: 09:16 م GST
ذات مرَّة، قال عرّاب ميكانيكا الكم، نيلز بور “إذا قرأت ميكانيكا الكم ولم تشعر بشيء من الغرابة، فإنك حتماً لم تفهمها!". وقال عالِم الفيزياء المميز ريتشارد فاينمان: “ميكانيكا الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق". وقال إرفين شرودينغر، الذي وضع المعادلة الأساسية لميكانيكا الكم: “إنني لا أحب هذه النظرية، وأنا آسف لأنني قد أسهمت بها". فلماذا كل هذه الغرابة والغموض؟
وفي الواقع، لا غرابة أن يصل التعجب إلى هذه الدرجة بالنسبة لفيزيائي القرن العشرين، حتى أولئك الذين أسهموا بطريقة أو بأُخرى في بناء ميكانيكا الكم. لكن ماذا تدعي تلك النظرية بالضبط حتى يُثار حولها كل ذلك الجدل المستمر حتى يومنا هذا؟!
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان علم الفيزياء يسير بشكل عام على نهج وفلسفة إسحاق نيوتن. فقد كانت آلية عمل قوانين الفيزياء مفهومة جيداً، ولا شيء فيها يدعو إلى القلق. فالسببية والحتمية منسوجتان في صُلب قوانين الطبيعة. وكل ما نحتاجه لمعرفة حالة الكون المستقبلية هو معرفة شروطه الحالية فقط. لقد بات الكون أشبه بآلة عملاقة تعمل بدقة الساعة، لا يصيبها الخلل ولا الملل منذ أن أُطلقت للعمل. فإذا ما علمنا عن موضع وسرعة كوكب أو نجم ما أو حتى ذرة شاردة في الكون في لحظة معيَّنة، يمكننا تحديد كل حركات هذا النجم أو تلك الذرة في المستقبل تحديداً، شرط أن نأخذ في الحسبان جميع التأثيرات الخارجية. وبهذه الطريقة نستطيع، من حيث المبدأ، عبر استخدام قوانين الفيزياء أن نحدِّد حالة كل ما في الكون، من أكبر مجراته إلى أصغر ذراته. عندها فقط ستكون صورة الكون المستقبلية ماثلة أمام أعيننا، تماماً كالماضي! وقد وصل الأمر بالرياضي الفرنسي الكبير بيير سيمون لابلاس إلى أن قال ذات مرّة:
"يجب أن ننظر إذن، إلى الحالة الراهنة للكون كنتيجة لحالته السابقة وكسبب لحالته اللاحقة. فلو أن عقلاً يمكنه أن يعرف، في لحظة من اللحظات، جميع القوى التي تحرِّك الطبيعة، وكل الأوضاع المتتالية التي تتخذها فيها الكائنات التي تتألَّف منها الطبيعة، ولو أن هذا العقل نفسه هو من الاتساع والشمول بحيث يمكنه أن يخضع هذه المعطيات للتحليل، فإنه سيكون قادراً على أن يضم في عبارة رياضية واحدة حركات أكبر الأجسام في الكون وحركات أصغر الذرات وأدقها، ولا شيء يكون بالنسبة إلى هذا العقل موضع شك. إن الماضي والمستقبل سيكونان حاضرين أمام عينيه".
زعزعة الصورة القديمة للكون
لكن هذه الصورة الجميلة للكون لم تدم طويلاً. فقد تبيَّن أن قوانين عالم الذرات لا تتوافق مع قوانين نيوتن العظيمة، ولا حتى مع بديهيات وأبجديات العقل البشري! إذ اتضح في النهاية أن الكون المنطقي المبني على قوانين نيوتن هو أشبه بقناع وضعه الكون. وبعد أن استجوبنا الطبيعة، ونزعنا هذا القناع تغيَّر كل شيء فجأة!
بدأت قصة نظرية الكم عام 1900م، حين قدَّم عالِم الفيرياء الألماني ماكس بلانك لأول مرَّة، أمام الجمعية الفيزيائية الألمانية في برلين، تفسيراً راديكالياً حول طبيعة الضوء الصادر من الذرات التي تُشكِّل كل شيء في عالمنا الكبير بما فيه أنفسنا. لقد أدرك، بطريقة ما، أن الطبيعة في أعمق أعماقها تصنع قفزات ليس بينها شيء! فالذرات لا تتحرَّك بشكل متصل، بل تتحرَّك بكميات منفصلة فقط، مثل المصعد الذي يتوقف عند أدوار معيَّنة. فلا يمكنك مثلاً التوقف عند الطابق الثالث والنصف أو الخامس والربع. هناك فقط أرقام محدَّدة يمكنك الوقوف عندها.
وعلى الرغم من أن نظرية بلانك كانت متسقة مع التجارب، إلا أنها كانت فكرة غريبة جداً في ذاك الوقت. بل إنها ثورة تمرُّد على الفيزياء التقليدية المعروفة! فكيف يمكن أن تتحرَّك الذرات بكميات منفصلة فقط! إنه شيء ينافي فكرة الحركة المتصلة التي نشاهدها في حياتنا اليومية، والتي نظّر لها كل منظري الفيزياء عبر العصور. لذلك، حتى بلانك نفسه لم يكن مقتنعا بأفكاره. وراح يبرهن على أنها خاطئة!
لكن في عام 1905م أعاد آينشتاين الثقة بقوة في أفكار بلانك. ففي ذلك العام، نشر آينشتاين نظريته النسبية الخاصة، وورقة بحثية أُخرى فيها إثبات منطقي لوجود الذرات، وورقة ثالثة برهن فيها على أن الطبيعة الذرية تتحرك بشكل قفزات فعلاً كما ادعى بلانك.
ثم في عام 1913م، حسم نيلز بور الأمر ونشر ورقة علمية، اعتمد فيها على أفكار كل من بلانك وآينشتاين، طرح فيها نموذجاً متكاملاً للذرة تتخذ فيه الإلكترونات التي تدور حول النواة مدارات معيَّنة، بحيث لا يمكن أن يتواجد أي إلكترون بين أي مدارين. وإذا قفز أحد الإلكترونات من مدار إلى آخر فإنه يقفز بشكل كمي دون أن يمر في المنطقة التي تقع بين المدارين أثناء قفزه. إنه شيء غريب فعلاً! تخيل مثلاً أن يغير كوكب زحل مداره بأن يختفي فجأة ويظهر في مدار آخر! ورغم ذلك، كانت كل الدلائل التجريبية تتجه ناحية تلك الفكرة بالفعل!
المؤكد يصبح احتمالاً
ثم تحقق اكتشاف مهم بعد تلك الاكتشافات. فقد أدرك لويس دي بروي أن الذرات لها طبيعة موجية مثلما لها طبيعة نقطية أو مادية. أي إن الإلكترون ليس صلباً تماماً مثل حبة رمل، بل يتخذ شكل غيمة إلكترونية لها خصائص موجية. وبالفعل تمَّت البرهنة تجريبياً على هذه الفرضية بعد فترة قصيرة. لكن إذا كانت المكوّنات الذرية مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون ذات طابع موجي فنحن بحاجة إلى معادلة فيزيائية لتصف لنا تطوُّر تلك الموجة مع الزمن. أي كيف تتحرَّك الموجة؟ وهذا ما تصدَّى له إرفين شرودينغر.
استطاع شرودينغر باستخدام ما يسمى المعادلات التفاضلية أن يشتق معادلته الشهيرة التي تحمل اسمه اليوم "معادلة شرودينغر" التي نقشت على قبره بعد وفاته. كانت المعادلة تصف الحركة الموجية للجسيمات الذرية ببراعة. لكن كانت هناك مشكلة في تفسير معنى تلك المعادلة! فقد بيّن ماكس بورن أن حل معادلة شرودينغر يُعطي فقط الاحتمالات التي من الممكن أن يتواجد فيها الجسيم الذري. أي إن المعادلة تخبرك فقط عن احتمال وجود الإلكترون على اليمين أو على اليسار أو على القمر أو في أي مكان في حال رصدك له بالتجربة. لكنها لا تخبرك بأي شيء عن طبيعة هذا الإلكترون نفسه! إذن هي نظرية احتمالات فقط! وهذا شيء مزعج تماماً.
لم تكن الفيزياء تسير بهذا الشكل. فماذا يحدث الآن؟ إن ميكانيكا نيوتن أو بشكل أشمل ما يسمى الميكانيكا الكلاسيكية لا تعطيك احتمال وجود الأرض حول الشمس بعد أسبوع من الآن، بل تعطيك العلم اليقين أين ستكون الأرض بعد هذه الفترة بالضبط. فماذا يحدث مع عالم الذرات هذا؟ لقد استخدم شرودينغر أكثر فروع الرياضيات المألوف في الفيزياء، وهي المعادلات التفاضلية والتكاملية، التي استخدمها كل من نيوتن وماكسويل وغيرهما من قبل. إنها أداة قوية جداً وفعالة لوصف العالم الفيزيائي من حولنا. لكنها تعطي نتائج احتمالية الآن!
أبرز العلماء في مؤتمر سولفاي في بروكسل وهو المؤتمر العالمي الخامس للفيزياءتغيير الأدوات الرياضية
في عام 1925م، قبل أن يضع شرودينغر معادلته، اكتشف العبقري الألماني فيرنر هايزنبيرغ ما نسميه اليوم بشكل مألوف ميكانيكا الكم. فبدلاً من المعادلات التفاضلية التي استخدمها شرودينغر، استخدم هايزنبيرغ أداة رياضية غير شائعة كثيراً في الفيزياء حينها تسمى المصفوفات. وبهذه الأداة الرياضية الجديدة أتى هايزبيرغ ومعه عجائب هذا العالم الذري الجديد.
كانت مشكلة المصفوفات، كما لاحظ ماكس بورن لاحقاً، أنها غير قابلة للتبادل. فلو ضربنا رقمين عاديين فإن ناتج الضرب لا يعتمد على أماكن الرقمين. أي إن 6x2 يساوي 2x6. لكن لو ضربت مصفوفتين بدلاً من رقمين، فإن هذه الخاصية لا تعمل! إن ضرب المصفوفة أ بالمصفوفة ب يعطي ناتجاً مختلفاً تماماً عن ضرب المصفوفة ب بالمصفوفة أ. وأدَّى استخدام هذه الأداة الرياضية إلى ما نسميه اليوم مبدأ هايزنبيرغ أو مبدأ عدم اليقين.
فقد تبيَّن تدريجياً أن الكميات الفيزيائية مثل الموقع والحركة والدوران المغزلي.. إلخ، يمكن وصفها بالمصفوفات. والآن إذا كانت المصفوفة التي تصف الموقع مضروبة بالمصفوفة التي تصف السرعة غير تبادلية، فهذا يعني بلغة الفيزياء أن قياسك للموقع قد دمّر مفهوم الحركة بطريقة ما! بكلمات أخرى لن تستطيع قياس الموقع والحركة في اللحظة نفسها. ولا يعني هذا أن الموقع أو الحركة موجودان في مكان ما ولا نستطيع قياسهما بسبب سوء أدوات القياس أو عدم تطوُّر التكنولوجيا بما فيه الكفاية. هذا مبدأ في الطبيعة وليس له أي علاقة بتطوُّر التكنولوجيا. في التجربة، عليك أن تضحي بإحدى الكميات الفيزيائية لقياس الأخرى بدقة. لا يمكنك قياس كل شيء في الوقت نفسه. وهذه طبيعة متأصلة في عالم الذرات الغريب هذا! وإلى اليوم لا توجد تجربة تتنافى مع هذا المبدأ.
الكشف عن حقيقة الذرّة
في الفترة نفسها تقريباً، سمع الفيزياء البريطاني بول ديراك بأفكار هايزنبيرغ الجديدة. وكان ديراك عبقرياً في توظيف الرياضيات في الفيزياء. فقام بتطوير رياضيات شاملة ابتلعت أفكار كل من هايزبيرغ وشرودينغر الرياضية في قالب واحد شامل ومتماسك بطريقة مثالية. وفي عام 1932م، مُنح هايزنبيرغ جائزة نوبل لإنشاء ميكانيكا الكم. وبعد عام واحد مُنحت الجائزة مناصفة بين شرودينغر وديراك وذلك لاختراعهما طُرقاً جديدة لوصف عالم الذرات نظرياً.
أدت كل هذه الرياضيات الجديدة، في نهاية الأمر، إلى تفسير غريب جداً حول طبيعة العالم في مستواه الذري. وهو ما يُسمى مبدأ التراكب الكمي. وقد كان الفيزيائي الدانماركي الكبير نيلز بور هو من رسم الخطوط العريضة لهذا المبدأ. ورغم أن بور لم يسهم في بناء رياضيات ميكانيكا الكم إلا أنه هو بالفعل عرّاب النظرية والمسؤول عن تلك التفسيرات الجديدة لوصف العالم الذري. وقد صمد طوال حياته في وجه آينشتاين الذي حاول أن ينال عدة مرات من ميكانيكا الكم، إلا أنه اتضح في النهاية أن نظرة بور هي الأقرب للصواب.
ولفهم هذا المبدأ دعنا نضرب مثلاً بسيطاً: لنفترض أن هناك كرة تتدحرج بسرعة معيَّنة، وقد طُلب منك أن تقيس تلك السرعة بدقة. ستقيسها بطريقة ما، ولنفترض أنك وجدتها تتدحرج بسرعة 40 كيلومتراً في الساعة. وإذا طلبنا من زميل لك أن يقيس السرعة أيضاً بدقة، فلا بد من أن يكون قياسه مطابقاً لقياسك أو قريباً جداً منه. ولو كررتما القياس ألف مرَّة فستتفق نتائجكما في كل مرَّة تقريباً طالما أنكما تتحريا الدقة. الآن، لو صغرنا كرة الغولف إلى حجم ذرة وطُلب منك أنت وزميلك أن تعيدا القياسات نفسها فهل ستتطابق النتائج؟ الجواب: لا، سيحصل كل منكما على نتيجة مختلفة! ولو ظللتما تكرران تلك القياسات مئات المرات فلربما تتفق نتائجكما مرَّة أو مرَّتين فقط! والسبب غريب: إن الذرة لا تملك أصلاً سرعة معيَّنة قبل أن تجري قياسك عليها! هل تعلم مدى لامعقولية هذا الكلام؟
مجلة القافلةحركة غير عادية تحت أقدامنا.. تُزيح الحقل المغناطيسي للأرض
خلاصة كل ما تقدَّم هو أنه لا يكون للذرة موقع ولا سرعة ولا أي كمية فيزيائية أُخرى معيَّنة قبل أن نجري تجربة لقياس تلك الكميات! إنها تمتلك كل المواقع وكل الحركات وكل الكميات الفيزيائية الأخرى في الوقت نفسه، بشكل كامن، قبل أن نجري القياسات. وهذا هو جوهر مبدأ التراكب الكمي. وبمجرد أن تقيس فإنك تجعل تلك الحالة المتراكبة للذرة تنهار جميعها، ولا تظهر لك سوى حالة واحدة أو سرعة واحدة وهي التي تراها. هذا الانهيار لكل القيم الفيزيائية وبقاء قيمة واحدة فقط يسمى "انهيار الدالة الموجية". ويشبه الوضع قطعة نرد تتقلب باستمرار على طاولة، علينا أن نوقفها عن الدوران لتعطينا أحد الاحتمالات. فقبل وقوفها لا توجد حالة معيَّنة لقطعة النرد، إنها في حالة تراكب بين الكتابة والصورة حتى تقف. لكن عليك ألا تأخذ هذا المثال حرفياً. لأنه من الممكن أن تقول حسناً، لنضع إذن كاميرا تصوِّر حالة النرد وهو يدور ومن ثم نبطئ الصورة لنرى التراكب. الكاميرا أو المجهر، بحد ذاته، مبني بحدوده القصوى على مبدأ اللايقين. وبالتالي لا يمكن رؤية الذرات به رؤية كلاسيكية. إن الذرات لا تشبه أي شيء نعرفه في الحياة! لا يوجد شيء اسمه يقين في عالم الذرات الصغير. كل ما يمكنك الحديث عنه هو "الاحتمالات". فحتى لو عرفت أين توجد ذرة معينة الآن، فهذا لا يعني أنك تستطيع التنبؤ بموقعها التالي مهما استخدمت من رياضيات أو أدوات مخبرية. وهذا يخالف بشكل صريح فيزياء وفلسفة نيوتن اليقينية. إن المشكلة الأساسية هي أن هذا العالم الكبير غير الغريب في سلوكه مصنوع من هذا العالم الصغير الغريب جداً في سلوكه!
لقد خلق هذا المبدأ التراكبي لحالات الذرة قبل القياس جدلاً واسعاً لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا، رغم اقترابنا من مرور مئة عام منذ أن تنبأ بور وزملاؤه بتلك الظاهرة الغريبة للطبيعة في مستواها الذري. وقد أتت فكرة الأكوان المتوازية كنتيجة لمحاولة تفسير التراكب الكمي في الذرات! إن المبدأ غريب بحق إلى درجة أن إرفين شرودينغر، وهو من وضع معادلة الحركة الأساسية لميكانيكا الكم ندم على إسهامه في النظرية.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية