"قوة الكلب" صورة غير تقليدية عن عالم رعاة البقر
الفيلم يكشف عن صراعات داخلية وشخصيات مهزوزة تخفي أسرارها بالعنف.
الأحد 2023/01/08
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الفيلم ينزع كل الأفكار أو التصورات النمطية
نال فيلم “قوة الكلب” (ذي باور أوف ذي دوغ) للنيوزيلندية جين كامبيون اهتماما واسعا في عالم السينما سنة إنتاجه، كما توج بأهم الجوائز العالمية من برلين إلى الأوسكار وغيرها، ما سلط عليه الأنظار بشكل لافت، لكن أغلب المراجعات التي تناولت العمل اكتفت بقوته الإخراجية فيما يخفي الفيلم الكثير من الأفكار المثيرة.
ينتمي فيلم “قوة الكلب” إلى نمط الدراما النفسية التي تعتني بخصوصيات الأفراد الداخلية، ودورها في تكوين طباعهم وسلوكاتهم الخارجية. الفيلم من كتابة جين كامبيون وإخراجها، وهو مقتبس من رواية للكاتب توماس سافدج تحمل نفس الاسم. جسد الأدوار الرئيسية كل من: بنديكت كمبرباتش وكريستن دونست وجيس بلمونز وكودي سميت – مكفي… وتم تصوير معظم مشاهده في المناطق الريفية والصحراوية لنيوزيلندا (موطن المخرجة). والفيلم هو إنتاج مشترك دولي بين نيوزيلندا وأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا، سنة 2021.
بعد انتهاء عرض الفيلم، يتبادر إلى ذهن المشاهد سؤال حول العلاقة بين الفيلم وعنوانه. في إجابةٍ لها عن هذا السؤال، صرّحت المخرجة قبل عرض الفيلم: الكلب في العنوان هو صفة رمزية لبطل الفيلم “فيل”، الشخص المتناقض الذي يخيّل إليك في البداية أنه ليبراليٌّ منفتح ومتحرر، لكنه يكشف لاحقًا عن عجز مريع في التواصل مع الآخرين، عندما يتطلّب الموقف اتخاذ قراراتٍ حاسمة، حتى وإن كانت تتعلّق بالمرأة.
تجري أحداث الفيلم في عام 1925 في ولاية مونتانا، وهي منطقة معروفة بأراضيها المنبسطة، وصحرائها الفاتنة، وسمائها الصافية. وتدور الوقائع حول فيل بورنانك (بنديكت كومبرباتش) الذي يملك مزرعة كبيرة رفقة شقيقه جورج (جيسي بليمونز). تعلم الشقيقان طرق تربية الماشية على يد شخص يدعى برانكو هنري الذي مات من زمن بعيد، ومن الواضح أن فيل يتحدث عن هذا الشخص بالتقدير والاحترام الكبير وأحياناً بهوس وإعجاب شديد. وفي حين أن جورج شخصية محبوبة ولطيفة تحب القراءة، فإن فيل فوضوي وقذر وغاضب باستمرار، كما أنه قاس ومتغطرس يخشاه الجميع.
الفيلم مقاربة فنية ومقارنة بين طبعين بشريين وسلوكين مختلفين بل متناقضين: ذكورية البطل المندفع وأناقة الأخ وهدوؤه
اتجه الشقيقان إلى البلدة من أجل بيع ماشيتهما، وأخذا قسطا من الراحة في حانة محلية تملكها روز (كريستين دانست)، لدى روز ابن في سن المراهقة (بيتر) يعتني بأمه بعد أن انتحر والده. وخلال عشاء الشقيقين ومساعديهم في الحانة، لم يتوان فيل عن التقليل والسخرية من بيتر (كودي سميت ماكفي). وبسبب أسلوبه الأنثوي نوعاً ما ينعته الجميع بالمخنث.
قبل رحيل الأخوين، يخبر جورج أخاه بأنه تزوج من روز، وأنها باعت بيتها وسوف تذهب معهما للعيش في منزلهما. يغضب فيل من هذا الأمر، ويخبر جورج بأنها لم تتزوجه عن حب، بل طمعا في ماله فقط. لكن جورج لا يعير اهتماماً لحديث أخيه، لذا يبدأ فيل في مضايقة روز والسخرية منها ومن ابنها، حتى انتهى بها الأمر إلى إدمان الخمور. كان ابنها بيتر قد ذهب إلى الكلية ليدرس الطب، لكن عندما عاد ليقضي إجازته في المزرعة، تأخذ الأمور منعطفاً خطيراً، حيث يعلم بيتر أن والدته أدمنت الخمور بسبب مضايقات فيل، وهنا أدرك أن والدته تشرب من نفس الكأس التي أدت بوالده من قبل إلى الانتحار، لكن لم يكن بيده حيلة.
وبالموازاة مع ذلك، تزداد الأحداث تعقيداً حينما يقتحم بيتر المخبأ السري الخاص بفيل، ويكشف الكثير من الأسرار حول حياة فيل، ومنها أنه كان على علاقة شاذة بمعلمه السابق برانكو هنري، كما يجد العديد من المجلات التي تعج بصور الرجال العراة. بعد أن علم بيتر بمكان فيل السري أراد هذا الأخير أن يستميله ويتقرّب منه، ومن هنا تنشأ صداقة غريبة بين الاثنين، ليبدأ فيل بتعليم بيتر ركوب الخيل ويتحدث معه عن معلمه السابق. إلا أن الأمور تنتهي بموت فيل فجأة دون مقدّمات، بتدبير وتخطيط من بيتر الذي أراد الانتقام من تنمر هذا الشرس، وضغطه الشديد على حياة أمه. فقد اتخذ (بيتر) من هذه الصداقة، وسيلة لتخليص أمه من العنف اللفظي والنفسي الذي مارسه عليها هذا المتسلط.
الفيلم يلمّح مبكرا إلى تيمة الصراع، من خلال لقطة فنية تركز فيها عدسة الكاميرا على مواجهة حامية بين ثورين هائجين، وتناطح قويّ بينهما، كل واحد منهما يحاول إخضاع الآخر، وإثبات القوة والفحولة والزعامة. إنها صورة مجازية لعلاقة البطل (فيل) بأقرانه (أخيه، زوجة أخيه وابنها، أسرته، أصدقائه…)، وما تعرفه هذه العلاقة من صراع ومجابهة، تسلط وسيطرة. وفي أحد المشاهد الأخرى، نستمع إلى جملة ذكرها فيل لأخيه وهما يتناولان الخمر “نخبنا نحن الإخوة رومس وروميلوس وأمنا الذئبة التي ربتنا”. هذه الجملة ظاهريا تحيل إلى الحدث التاريخي البارز (بناء روما من طرف الأخوين اللذان رضعا من ذئبة كما تقول الأسطورة)، لكنها في العمق تدل على الطبيعة المتصلبة للبطل، وسلوكه العنيف، ونزوعه نحو السيطرة والتحكم، ورغبته في إلحاق الأذى والإذلال بالآخرين.
إن الفيلم هو مقاربة فنية مقارنة بين طبعين بشريين، وسلوكين مختلفين:
سلوك الاتزان والرصانة والهدوء والتعقل والأناقة الذي يمثله أخو البطل (جورج).
الفيلم يشترك مع نوعية أفلام رعاة البقر في العديد من الخصائص لكنه يختلف عنها في طبيعة المعالجة الفنية والدرامية
سلوك الاندفاع والأنانية والتنمر والقساوة والقبح الذي يجسده البطل (فيل).
يبرز الفيلم، كذلك، السلوك الأنثوي للفتى بيتر (ابن روز) منذ اللقطات الأولى للفيلم. حيث تؤطر الكاميرا، في أحد المشاهد، بعضا من صوره ورسوماته وأشكاله الفنية الخاصة، المنمقة بالورود والأزهار المتفتحة، والملوّنة بالألوان الناعمة والفاتحة: الأحمر، الوردي، الأخضر الناعم، الأصفر… الخ. لتنتقل بنا المخرجة، مباشرة بعد ذلك، إلى مشهد آخر يُظهِر لنا بيتر وهو يضع هذه الورود على قبر والده الميت. إنه تلميح ذكي – من المخرجة – يكشف لنا تأثير وفاة الأب على حياة ونفسية هذا المراهق الذي ظل مقترنا بأمه، ومرتبطا بحضنها الأنثوي، وهذا ما خلف لنا هذا الطبع الشاذ في سلوكه الانطوائي. فجين كامبيون (المخرجة) تستحضر هنا العقدة الأوديبية التي صاغها فرويد في أبحاثه النفسية، وترصد لنا هذه الطبيعة غير السوية، الناتجة عن غياب الأب في حياة الابن، وتأثير ذلك على علاقته بأمه (الانجذاب والتقرب المبالغ فيه).
وقد هيمنت مظاهر: السخرية والاستهزاء والاحتقار والعقلية الذكورية على اللقاء الأول لفيل مع الفتى المراهق (بيتر). إهانة وإخضاع أمام الملأ، قمع وإذلال على مرأى الحاضرين، تحقير وتصغير تحت أنظار الأصدقاء، بينما كان الشاب الصغير يستعد لتقديم وجبة العشاء إليهم، مستسلما، خاضعا، خانعا، مغادرا بصمت وألم وحزن. فإحراق فيل للزهرة الورقية التي صنعها بيتر، ورميها في كوب من الماء، له دلالة رمزية على حجم الاحتقار والكراهية والاستفزاز الذي يكنه تجاهه، خاصة حينما أدرك أنه لقمة سائغة لإثبات فحولته وذكوريته ونرجسيته.
إنها عقدة نفسية تثبت عجز (فيل) وضعفه الذي يعوضه بالقمع والإهانة والاستكبار، ولا شك أن مكمن النقص فيه مرتبط بما هو جنسي وعاطفي، وهذا ما برر هجومه غير المفهوم تجاه أخيه الذي قرر الزواج، وحقده على المرأة التي سيتزوجها، ومضايقته لابنها في كل مكان. هكذا يظهر لنا أن ضعف (فيل) أمام النساء، وفشله العاطفي معهن، قد غرس فيه عقدة نفسية عميقة، تمكن المخرج من اقتناصها ببراعة عبر التشخيص السينمائي والسلوك البارز للبطل: سلوك يغمره الحقد، ويسوده الحنق، ويعمه النقم.
كراهية البطل نحو النساء نابعة في الأساس من انعدام رغبته بهن، والتي إن وجدت ستجعله رجلًا كاملًا
وتظهر ملامح هذا الفشل العاطفي في المشهد الذي ينقل لنا احتفال فيل مع أصدقائه ومرافقيه ومجموعة من فتيات الليل بالسهر والسمر، بالغناء والرقص والمجون، بينما انزوى هو وحيدا في زاوية بعيدة عن الاحتفال، منعزلة عن الإهلال، منفردة عن الابتهال. ولا شك أن المُشاهد مدرك بأن خوف البطل من الأنثى هو سبب كاف للنفور والابتعاد، للتغول أمام الآخرين، للتعسف تجاه الضعفاء، لحب الهيمنة على المغلوبين، وهذا بطبيعة الحال تعويض عن نقص عاطفي كبير، يعاني منه منذ مدة.
والتعويض بالإنجليزية (Compensation)في علم النفس هو إستراتيجية تتم بصورة واعية أو لاواعية، يحاول من خلالها الشخص التغطية على ضعف أو رغبة أو إحساس بعدم الكفاءة أو عجز في أحد جوانب الحياة، عن طريق الإشباع أو التفوق في جانب آخر. وهذا ما نراه في سلوك بطلنا الفاشل أمام النساء، والمتسلط على البؤساء، والمستعلي على الضعفاء، لدرجة أنه لم يستطع الإنصات إلى الموسيقى أثناء العشاء، وأمر بلهجة ساخطة بإيقافها مبرزا عضلاته على الأصدقاء، وكاشفا عن مشاعره الجوفاء، وأحاسيسه المتصلبة، وطبعه الغليظ، وفكره الصلد، وميوله الخالي من الحب والعاطفة.
وإذا كان هذا العمل السينمائي ينتمي من حيث بنيته الجمالية إلى نوعية أفلام رعاة البقر، ويشترك معها في العديد من الخصائص سواء على مستوى الديكور أو الفضاء أو الملابس أو البيئة… الخ، فإنه يختلف عنها في طبيعة المعالجة الفنية والحبكة الدرامية. ذلك لأن مخرجي الويسترن سباغيتي اهتموا أساسا بعرض الصراع الخارجي بين البطل المغوار، منقذ البلدة، وبين أعدائه من اللصوص وقطاع الطرق الذين لا هم لهم سوى القتل والاعتداء والسرقة وجمع المال. أما المخرجة جيم كامبيون، في هذا الشريط، فقد اعتنت برصد الصراع الداخلي للبطل والشخصيات المرافقة له.
فالبطل (فيل) يملك شخصية متناقضة، تعرف صراعا نفسيا بين ميولها العدواني/التسلطي/الذكوري، وبين فشلها العاطفي الناتج عن ذبول المهجة، وأفول الغريزة، وعدول الشفقة. أما الفتى المخنث (بيتر) فهو في ورطة أخلاقية، وعقدة روحية تكبل أعماقه التي لا تستطيع البوح بمعاناتها ومآسيها وأحزانها. إنه في صراع دائم بين طبعه الخجول/الانطوائي/الأنوثي وبين رغبته في التعبير عن الذات وإبراز الكينونة وكشف الطاقة. ذلك أنه كان مولعا بتنميق المكان بوروده المثيرة، وتزيين الفضاء بأشكاله الجميلة التي كان يصنعها بموهبته الرائعة، وإحساسه المرهف، المتأثر بغياب الأب والذكر عن الأسرة.
أما الصراع الخارجي في الفيلم فقد جمع بين نموذجين مختلفين، ودورين متنافرين. ويمكن حصر هذا الصراع في علاقتين:
علاقة الصراع بين البطل: العصبي، المتنمر، المستبد، وبين أخيه: الودود، الهادئ، المتزن.
علاقة الصراع بين البطل: الذكوري، المتجبر، القاسي، وبين الفتى: المخنث، الخجول، المنطوي.
علاقة الصراع بين البطل: المؤذي، المتعسف، المتحكم، وبين زوجة الأخ: المسالمة، المضحية، المتآخية.
دراما نفسية
وفيل يملك مزرعة للأبقار يتكفّل بتربيتها رفقة أخيه جورج. وفي أحد المشاهد نراه وهو يقطع جلد البقر بوحشية وشراسة بعد ذبحها بطريقة عنيفة، كما نراه يقوم بإخصائها بشكل مؤلم وقاس. وهذا تعبير لا شعوري عن عنفه وغلظته وجهامته. وفي مشهد آخر نشاهده وهو يتفاعل بغضب وانفعال مع أنثى الفرس في إسطبله الخاص، حيث يقوم بضربها ويناديها بالعاهرة التي تقوم بأفعال رديئة وتدّعي الطهر والعفاف. وهذا مشهد رمزي يحيط بالخلفيات السيكولوجية التي ساهمت في تكوين الطبع الشرس للبطل فيل. إنه النقص العاطفي الذي خلق في نفسيته الكراهية الشديدة لكل ما هو أنثوي، وانعدام الاطمئنان الذي كرّس في لا شعوره النفور من كل ما له صلة بالجنس اللطيف، وهذا عائد بالأساس إلى طبيعة العقدة الأوديبية المسيطرة على طبعه وعلاقاته مع النساء.
فالفيلم يوضح لنا أن فيل منجذب كثيرا لأمه، لا يبوح بأسراره، ولا يشتكي إلا لها. وهذا ما سيظهر لنا في المشهد الذي أطر لنا البطل وهو يكتب رسالة إلى أمه، يشتكي فيها من تصرفات شقيقه الذي كان يستعد للقيام بعمل مؤثر على مكانة العائلة وسمعتها: زواجه من امرأة أرملة لزوج منتحر، لا أصل لها، ولا شرف يميزها، ولا عزة تتصف بها. فقد ناداها في اليوم الأول لقدومها إلى المنزل بالمخادعة الرخيصة، وحذر أخاه من طمعها وجشعها الذي يهدد ثروة العائلة، فكشف لنا، بالتالي، عن بغضه واحتقاره لكل ما له صلة بالجنس الأنثوي.
وقد ركزت الكاميرا – في لقطة مكبرة من أحد المشاهد – على ملامح البطل وهو يدخّن سيجارة بحنق وسخط وغيظ، بينما شقيقه جورج يمارس الحب مع زوجته في الغرفة المحادية. وتبرز لنا شرارة السيجارة وهي تشتغل بقوة، كلما ارتفع صوت الحبيبين وهما في غرفتهما الحميمية، وهذا مجاز فني بليغ، تلمح فيه شرارة السيجارة الملتهبة إلى شرارة قلب البطل (فيل) المتقدة بالبغض والكظم والامتعاض. بغض سببه عقدة النقص التي يعاني منها أمام النساء وفشله في علاقاته معهن، بينما شقيقه – وعلى عكسه – نجح في تأسيس علاقة زوجية صادقة، قوامها الحب والاحترام والأمان.
وفي مشهد آخر، يظهر فيل، مرة أخرى، في المزرعة وهو يقوم بإخصاء ثور بطريقة وحشية وقاسية، تعبيرا عن شراسته الداخلية، وعنفه النفسي الذي يعوّض به ضعفه العاطفي وعجزه الجنسي وعطالة حسه ومشاعره. إنها عقدة الخصاء التي أشار إليها عالم النفس سيغموند فرويد (1908) في معرض حديثه عن تخوف الطفل وقلقه من إزالة أعضائه الجنسية الذكرية، وغيرة الأنثى من الذكر على افتقادها لهذه الأعضاء التناسلية التي تمنح صاحبها السلطة والقوة والفحولة والتفوق الذكوري. ولهذا فإن الذكر يظل – دائما – متخوفا من فقدان هذه الميزة الجنسية، لتترسخ، بذلك، في لا وعيه النفسي، وتعود للظهور في مراحل سنية متقدمة على شكل عقد وأعراض سيكولوجية.
والبطل فيل هنا متخوف كثيرا من فقدان سطوته وسلطته الذكورية، لهذا فهو يتمادى في ممارسة ساديته تجاه الجميع، سواء من أسرته (شقيقه)، أو أقربائه (زوجة الأخ وابنها) أو أصدقائه، بل حتى الحيوانات وعناصر الطبيعة يحاول إخضاعها وقيادتها والتحكم في مصيرها. إن مدار هذا الخوف وسببه الرئيسي هو الإخفاق في العاطفة، والفشل في الإحساس، والخيبة في الحب، والفتور في الغريزة. ولهذا يحاول تعويض هذا النقص بالتمرد والثورة والتنمر والسخط على الآخرين الذين يمثلون الحلقة الأضعف في ميزان القوة وبنية السلطة.
ومن فرط عنفه، وصفه الفتى بيتر في أحد اللقطات بأنه “قاسي القلب“، بعد أن رأى ملامح الخوف والرعب بادية على وجه أمه (روز) من هذا الشخص المتسلط، غليظ القلب، وجاف المشاعر. كيف لا وبيتر، نفسه، يعاني من كل أنواع السخرية والإهانة والتهكم التي يطلقها فيل تحقيرا من قيمته، وحطا من مكانته، وإهانة لسمعته؟. فهو “الفتى المخنث صاحب العينين الواسعتين والجاحظتين“ حسب وصف البطل المستهزئ. وما هذا التنمر إلا تعبير عن ضعف وعجز، عن عقدة نقص يريد بطلنا تجاوزها وتعويضها، عبر استعراض عضلاته على الفئات المستضعفة وإظهار شراسته على الطبقات المقهورة، وذلك بإذلالها وإخضاعها ومحاولة السيطرة عليها.
فالشخصية الذكورية التي رسمها (فيل) بأداء قوي ومتماسك تخفي كثيرا من الأسرار في أعماقها، فرغم ظهوره بهيئة الكاوبوي الخشن الذي لا يهتم بالاستحمام، أو استعمال القفازات وهو يتعامل طبيا مع الحيوانات، لكن تلك القشرة الصارمة هشة في حقيقتها، وهي رداء يخفي به شعوره الداخلي بأزمة تهدد هيبته وصورته أمام الآخرين.
وإذا كان ابن الأرملة بيتر يعاني من الاحتقار والتوبيخ والاستخفاف من طرف فيل الذي يصفه بـ”المتخلف عقليا” و”المخنث“، فهذا راجع، أساسا، إلى ليونته ونعومته وتشابه أفعاله مع تصرفات النساء. وهو غير راض على هذه الوضعية التي يحمل فيها المسؤولية للأم (روز)، حيث يثور عليها في أحد المشاهد الحوارية قائلا “وهل سأكون رجلا إن أصغيت إلى ما تقوله أمي دائما”. وهذا رد مجابه، تحدى به أمه التي عاتبته على قتل أرنب بري اصطاده من الغابة، وهنا تلمّح لنا المخرجة إلى رغبة بيتر، الدفينة، في التخلص من وصاية أمه، ومراقبتها الدائمة له. كيف لا وقد أثرت هذه الرقابة على نفسيته بشكل سيء، فتكونت بذلك طبيعته الخجولة وانجذاباته الأنثوية، ميوله المدلل وسلوكه المدلع؟ وبيتر هنا يتمرد في وجه أمه، وينفجر أمام هذا الغنج المفرط الذي انعكس سلبا على فطرته الذكورية، وحوّله إلى شخص شاذ في تصرفاته وأفعاله، فاقد لحس الفحولة، مفتقد لمقومات الرجولة. وقد ترجم الفتى هذا التمرد في رد فعله العنيف، وانتفاضته الخشنة، عقب إقدامه على قتل الأرنب الصغير ببرودة دم وحس هادئ وفكر واع، دون أدنى تأنيب للضمير أو تفكير في المصير أو خشية من البصير.
وفي أحد الأيام، اكتشف بيتر مجموعة من الصور العارية للرجال، والعديد من المجلات البورنوغرافية الخاصة بفيل في مخبئه السري. كما رآه يستحم عارياً، في بحيرة البلدة، بمنديل خاص ببرانكو هنري، المعلم الذي كان يشيد به دائما. رأى البطل أن بيتر يتجسس عليه ويطارده، فقرر بعد تلك الحادثة أن يقيم معه نوعًا غريبًا من الصداقة، الأمر الذي أثار استياء السيدة روز. هكذا نستنتج، من خلال هذه المعطيات، أن قساوة البطل وشخصيته العنيفة هي نتاج لما عاناه في طفولته من قهر واستغلال واعتداء جنسي. ففيل شاذ جنسي سابق، مرتبط بذكرى معلمه القديم، هذا المعلم الذي أحبه كثيرا، وجعله بديله العاطفي الذي عوض غياب المرأة في حياته.
إن كراهية البطل نحو النساء نابعة في الأساس من انعدام رغبته بهن، والتي إن وجدت ستجعله رجلًا كاملًا، لكنه في حقيقة الأمر لا ينجذب لهن بل يعيش على ذكرى حب قائده ومعلمه (برانكو). نفترض مثله أن ذلك الحب كان عميقًا وحقيقيًّا، لكن تلك الذكرى ربما تكون مشوشة، بل من المحتمل أن يكون قد تعرَّض لاستغلال جنسي على يد رجل أكبر منه سنًّا وسلطة، يظهر ذلك في محاولاته لتكرار النمط نفسه مع بيتر. فبعد أن أمضى نصف الفيلم في السخرية من شكله والطريقة التي يقدم بها نفسه للناس، طور مشاعر الانجذاب نحوه، مشاعر يختلط فيها ما هو أبويّ وقيادي وما هو عاطفي وروحي لشاب يشبهه حينما كان في نفس السن.
تحولت كراهية فيل لبيتر، إذن، إلى صداقة وتقرب وتودد، وتحولت نظرته التحقيرية والاستئسادية إلى دعوة للألفة والرفقة. إنه تقلب – في مزاج البطل وطبعه – عائد بالأساس إلى استيقاظ هواجس الماضي وذكريات الأمس، حينما كان فيل يقاسي نفس تجربة المراهق بيتر، ويتكبد آثار الاعتداء الجنسي من معلمه السابق. ففيل الشرس في الظاهر، ما هو إلا حمل وديع في باطنه، عانى من تجارب موجعة في الماضي (الشذوذ الجنسي).
وحينما تشده الذكريات إلى الماضي، يستفسر فيل صديقه الجديد عن تخمينه لما كان يقوله معلمه السابق برانكو، حينما يرى هضابا جبلية صحراوية أمامه، فيجيب بيتر بهذه العبارة: “كلب ينبح“. وهذا تعبير رمزي فيه انتقاد خفي، وزجر مضمر، وعتاب مستتر لطبيعة البطل فيل الشرسة والمتوحشة. فهو يتفاخر باستمرار بتسلطه الذكوري، واعتدائه على كرامة الآخرين، وقمعه لأصواتهم، وبسبب هذا القمع، تعرضت روز لتوتر كبير وخوف شديد من بطش فيل وتهديده الدائم لها ولابنها بيتر. وهذا ما جعلها تدخل في مرحلة من الهلع والرهاب، لتسقط في فخ الإدمان، وتلتجئ إلى الخمر كمخدر روحي يهدئ من روع رعبها، ومحنها، وكوابيسها.
تدهورت صحة الأرملة، بفعل إدمانها الشديد على شرب الخمر، وعندما علمت بأن فيل بوربانك يخطط لحرق جلودها الزائدة بدلاً من بيعها للهنود الأميركيين المحليين، قامت، بتحدٍ، بتبادل كل جلود البقر مع زعيم القبيلة مقابل زوج من القفازات الناعمة. وهذا مشهد يرمز إلى اضطراب الحالة النفسية لروز التي افتقدت للحنان والدفء العاطفي والاتزان النفسي، منذ أن التحقت بمنزل هذا المتوحش الذي لا يرحم أحدا بنقده الدائم وسخريته اللاذعة وظلمه المبالغ فيه. إن القفازات الناعمة هي تعويض لا شعوري عن الحنان الذي تفتقده، ووسيلة تواسي بها روحها الكئيبة من أجل نسيان كل مظاهر العنف النفسي الذي تتعرض له في الواقع.
في المشاهد الأخيرة من الفيلم، تؤطر عدسة الكاميرا الصحراء الصخرية القاحلة، أثناء الحوار الثنائي الحاسم بين فيل وبيتر. حيث يُطَمْئِنُ هذا الأخير البطل بوجود جلد بقر خام ليصنع به الحبل، بعد أن اشتعل غضبا وحقدا بسبب بيع روز الثملة لكل جلوده في المزرعة. إن الصحراء هنا فضاء شاعري، ومكان رمزي يلمح إلى طبيعة العلاقة الرابطة بين فيل وبيتر والتي تتصف بالجفاء والتنافر والاضطراب. فيل الساخط والمتسلط على المستضعفين، وبيتر الذي يود الانتقام منه حتى يخلّص أمه من معاناتها الشديدة، بسبب فزعها وحالة الرهبة التي حوّلتها إلى سكيرة كثيرة الذعر والخوف من هذا المستبد.
وانتقام الفتى تم بطريقة غير مباشرة، حيث أحضر جلد بقرة نافقة ماتت بمرض الجمرة الخبيثة، وهو يعلم بأن البطل يغسل الجلود ويقطعها دون قفازات، ويعلم كذلك أنه مصاب بجرح بليغ في إحدى اليدين. فيقدم له الجلد السام الذي استقدمه، ثم يصاب فيل بعد ذلك بالعدوى، ليسقط مريضا طريح الفراش، ويموت، في النهاية، بسبب هذه المكيدة. وهي حيلة خطط لها بيتر بذكاء وتفطن، حتى يخلص أمه من شرور هذا المتغطرس، وحتى يعيد إليها الابتسامة من جديد.
تحت خشونة الشخصية الذكورية أسرار مريبة
وفيل كان مهتما كثيرا بصنع حبل من جلد البقر، وإهدائه لصديقه الجديد بيتر عربونا على صداقتهما الجديدة. وتنقل لنا الكاميرا لقطات للبطل وهو يقوم بفتل الحبل الذي صنعه من الجلد الخام الذي جلبه بيتر، وفي نفس الوقت يحكي للفتى قصته مع صديقه القديم برانكو وكيف أنقذه ذات يوم، وناما ملتصقين مع بعضهما البعض. فتجرأ ابن الأرملة وسأل راعي البقر بهذه العبارة “أنمتما عاريين؟“، لتنتقل العدسة بعد ذلك إلى تأطير الحبل وكيف يفتل فيل أطرافه مع بعضها البعض. وهي لقطة ذكية ترمز إلى سياق الموضوع المتناول: اغتصاب البطل من طرف صديقه المقرب برانكو وعلاقتهما الشاذة والمتشابكة، على شاكلة أطراف الحبل التي تتشابك مع بعضها البعض.
جاء المشهد الختامي بليغا في لقطاته، زاخرا في معانيه، إيحائيا في دلالاته. فقد توجهت عدسة كامبيون إلى الفتى بيتر في غرفته، وهو يتلو مقاطع تأبينية من الإنجيل بعد وفاة البطل. ثم توجه إلى سريره ولبس القفازات التي اشترتها أمه من قبل، وقام بإخفاء الحبل المكتمل تحت سريره، وهو حبل فتله فيل من أجل إهدائه إلى بيتر قبل موته بالجمرة الخبيثة. وهذا الحدث له مغزى عميق، مرتبط بالصراع الخفي الذي يدور في الفيلم، فطمس حبل فيل تحت السرير يرمز إلى نهاية هذا المتغطرس، وانتهاء طغيانه، والتخلص من ظلمه اللفظي وتعسفه النفسي. وهذا ما تم على يد الفتى الشاب (بيتر)، الذي ظن المشاهد، في بداية الفيلم، أنه هو الحلقة الأضعف، فإذ به هو الطرف الرئيسي الذي سيضع حدا لتنمر البطل واستبداده.
ولذا، توجهت عدسة الكاميرا، مباشرة في اللقطة الأخيرة، من غرفة بيتر إلى خارج المنزل، حيث روز تستعيد ابتسامتها من
الشخصية الذكورية التي رسمها (فيل) بأداء قوي ومتماسك تخفي كثيرا من الأسرار في أعماقها
جديد رفقة زوجها، بينما بيتر سعيد في غرفته وهو يتأمل هذا المشهد العاطفي بين الزوجين. كيف لا وقد أنهى هذا الكابوس الذي كان يؤرق أمه؟ كيف لا وقد خلصها من هواجسها الحزينة، وأرقها الدائم، وخوفها المستمر؟ كيف لا وقد ساهم في عودتها إلى رشدها ورصانتها، وابتعادها عن حالة الإدمان والسكر، وتركها لحياة الوحدة والعزلة؟ وحينما يؤطر المصور إخفاء الحبل تحت السرير، فهذا معناه الخلاص من هذا الحمل الثقيل الذي كان يكبل حرية الأم والعائلة بصفة عامة في هذا المنزل. فأخيرا ابتسمت روز وتنفست نسيم الانعتاق والتحرر، بعد أن عانت كثيرا من عنف فيل اللفظي والمعنوي، من سخريته وتحقيره، من تحكمه وسيطرته، من ضيمه وقهره…
ويمكن تنظيم القوى الفاعلة التي تلعب دورا أساسيا في هذا الفيلم وفق النموذج العاملي التالي:
الموضوع: التنمر.
الذات: فيل.
المرسل: الفشل العاطفي، الضعف أمام النساء، الشذوذ الجنسي.
المرسل إليه: بيتر وأمه روز.
العامل المساعد: المكانة، السلطة، السيادة، الترف المادي، ذكرى الصديق برانكو.
العامل المعيق: الفتى بيتر، الشقيق جورج.
على المستوى الفني، تنحو جماليات الفيلم الرئيسية إلى الغرب الأميركي، الفترة التاريخية والملابس والموسيقى، لكن كل ذلك يتم قلبه بشكل ما، يتم نزع كل الأفكار أو التصورات النمطية عنه، يحدث ذلك بواسطة خيارات إخراجية بسيطة لكنها مؤثرة، عادة ما نرى رعاة البقر بكامل حلتهم من الملابس والطبقات المدروسة بعناية، سرج الأسلحة الجلدي والسراويل الخاصة بركوب الخيل والقبعات والسترات الجلدية والأحذية القوية ذات الرقبة العالية. لكن في ذلك الفيلم يبدو فيل وكأنه الشخص الوحيد الذي يرتدي تلك الملابس، فأخوه يعتلي الحصان بجانبه مرتديًا بدلة مدنية تقليدية، لكن عندما يختلي فيل بنفسه فإنه يتجرّد من كل شيء، في مكان مستتر لكنه عام، فهو ليس منزله أو غرفته، بل في بحيرة تخبئها الأشجار، هنالك فقط يصبح هو نفسه، هناك يراجع ذاته ومشاعره، هناك يتفاعل مع تخيلاته وذكرياته السابقة.
أما الصحراء الخالية والقاحلة والمناخ الحار والقاسي – المتناسبان دائما مع أفلام رعاة البقر – فيلمّحان كثيرا إلى السلوك النفسي الجاف للبطل، القائم على التسلط والأنانية والتجبر. ونصادف، كذلك، اهتماما كبيرا بالألوان الرائجة في أفلام الويسترن: الأصفر والبني وهي ألوان تتلاءم مع فضاء الفيلم الصحراوي (صحراء نيوزيلندا ) وطبيعة الفيلم (أفلام رعاة البقر). كما نجد حضورا للألوان الداكنة والإنارة المظلمة والخافتة في الأجواء العاطفية التي تعبر عن الحزن والمآسي واللحظات العاطفية الحزينة: تسلط فيل على الفتى بيتر وأمه في المنزل، وأحاسيس الرعب والخوف التي انتابت روز بعد ذلك في هذا المكان المعتم.
وفيما يخص الموسيقى، فقد اهتمت المخرجة بصراع درامي مثير دار بين البطل فيل والأرملة روز، ولكنه صراع ليس كباقي الصراعات بالمواجهة والعراك والمعركة أو بالكلام والسب والقدح، بل هو صدام فني موسيقي، التقط ببراعة وإتقان من طرف المصور، حيث تعزف روز على البيانو بنعومة وحنان في غرفتها، في حين يرد عليها البطل بنغمات قوية ومزعجة من أوتار قيثارة تشارانكو اللاتينية في الغرفة الأخرى. إنه صراع بين الذكورية (ورمز لها بالقيثارة) المتأصلة في طبع فيل العنيد، والأنوثة (ورمز لها بالبيانو) الراسخة في سلوك الأم الحنونة.
هكذا نصل في الختام إلى التأكيد على القيمة الفنية المميزة لفيلم المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون “قوة الكلب”، وهذا ما جعله يتبوأ صدارة ترشيحات جوائز الأوسكار الأخيرة بـ12 ترشيحا. وفازت كامبيون بأوسكار أفضل مخرجة عن هذا العمل، كما حازت على جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، إضافة إلى فوز الفيلم بجائزة أفضل عمل في حفل جوائز البافتا، وأفضل فيلم دراما في جوائز الغولدن كلوب… وكل هذا الاحتفاء النقدي والصخب الفني بسبب جودته التقنية وقيمته الإبداعية التي أجمع عليها أغلب النقاد والخبراء السينمائيين، ناهيك عن الاستقبال الجماهيري الكبير الذي استقبل به الفيلم في دور العرض العالمية، ليكون، بذلك، هذا الفيلم علامة سينمائية بارزة هذه السنة.
• ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد فاتي
باحث مغربي في مجال الصورة
الفيلم يكشف عن صراعات داخلية وشخصيات مهزوزة تخفي أسرارها بالعنف.
الأحد 2023/01/08
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الفيلم ينزع كل الأفكار أو التصورات النمطية
نال فيلم “قوة الكلب” (ذي باور أوف ذي دوغ) للنيوزيلندية جين كامبيون اهتماما واسعا في عالم السينما سنة إنتاجه، كما توج بأهم الجوائز العالمية من برلين إلى الأوسكار وغيرها، ما سلط عليه الأنظار بشكل لافت، لكن أغلب المراجعات التي تناولت العمل اكتفت بقوته الإخراجية فيما يخفي الفيلم الكثير من الأفكار المثيرة.
ينتمي فيلم “قوة الكلب” إلى نمط الدراما النفسية التي تعتني بخصوصيات الأفراد الداخلية، ودورها في تكوين طباعهم وسلوكاتهم الخارجية. الفيلم من كتابة جين كامبيون وإخراجها، وهو مقتبس من رواية للكاتب توماس سافدج تحمل نفس الاسم. جسد الأدوار الرئيسية كل من: بنديكت كمبرباتش وكريستن دونست وجيس بلمونز وكودي سميت – مكفي… وتم تصوير معظم مشاهده في المناطق الريفية والصحراوية لنيوزيلندا (موطن المخرجة). والفيلم هو إنتاج مشترك دولي بين نيوزيلندا وأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا، سنة 2021.
بعد انتهاء عرض الفيلم، يتبادر إلى ذهن المشاهد سؤال حول العلاقة بين الفيلم وعنوانه. في إجابةٍ لها عن هذا السؤال، صرّحت المخرجة قبل عرض الفيلم: الكلب في العنوان هو صفة رمزية لبطل الفيلم “فيل”، الشخص المتناقض الذي يخيّل إليك في البداية أنه ليبراليٌّ منفتح ومتحرر، لكنه يكشف لاحقًا عن عجز مريع في التواصل مع الآخرين، عندما يتطلّب الموقف اتخاذ قراراتٍ حاسمة، حتى وإن كانت تتعلّق بالمرأة.
تجري أحداث الفيلم في عام 1925 في ولاية مونتانا، وهي منطقة معروفة بأراضيها المنبسطة، وصحرائها الفاتنة، وسمائها الصافية. وتدور الوقائع حول فيل بورنانك (بنديكت كومبرباتش) الذي يملك مزرعة كبيرة رفقة شقيقه جورج (جيسي بليمونز). تعلم الشقيقان طرق تربية الماشية على يد شخص يدعى برانكو هنري الذي مات من زمن بعيد، ومن الواضح أن فيل يتحدث عن هذا الشخص بالتقدير والاحترام الكبير وأحياناً بهوس وإعجاب شديد. وفي حين أن جورج شخصية محبوبة ولطيفة تحب القراءة، فإن فيل فوضوي وقذر وغاضب باستمرار، كما أنه قاس ومتغطرس يخشاه الجميع.
الفيلم مقاربة فنية ومقارنة بين طبعين بشريين وسلوكين مختلفين بل متناقضين: ذكورية البطل المندفع وأناقة الأخ وهدوؤه
اتجه الشقيقان إلى البلدة من أجل بيع ماشيتهما، وأخذا قسطا من الراحة في حانة محلية تملكها روز (كريستين دانست)، لدى روز ابن في سن المراهقة (بيتر) يعتني بأمه بعد أن انتحر والده. وخلال عشاء الشقيقين ومساعديهم في الحانة، لم يتوان فيل عن التقليل والسخرية من بيتر (كودي سميت ماكفي). وبسبب أسلوبه الأنثوي نوعاً ما ينعته الجميع بالمخنث.
قبل رحيل الأخوين، يخبر جورج أخاه بأنه تزوج من روز، وأنها باعت بيتها وسوف تذهب معهما للعيش في منزلهما. يغضب فيل من هذا الأمر، ويخبر جورج بأنها لم تتزوجه عن حب، بل طمعا في ماله فقط. لكن جورج لا يعير اهتماماً لحديث أخيه، لذا يبدأ فيل في مضايقة روز والسخرية منها ومن ابنها، حتى انتهى بها الأمر إلى إدمان الخمور. كان ابنها بيتر قد ذهب إلى الكلية ليدرس الطب، لكن عندما عاد ليقضي إجازته في المزرعة، تأخذ الأمور منعطفاً خطيراً، حيث يعلم بيتر أن والدته أدمنت الخمور بسبب مضايقات فيل، وهنا أدرك أن والدته تشرب من نفس الكأس التي أدت بوالده من قبل إلى الانتحار، لكن لم يكن بيده حيلة.
وبالموازاة مع ذلك، تزداد الأحداث تعقيداً حينما يقتحم بيتر المخبأ السري الخاص بفيل، ويكشف الكثير من الأسرار حول حياة فيل، ومنها أنه كان على علاقة شاذة بمعلمه السابق برانكو هنري، كما يجد العديد من المجلات التي تعج بصور الرجال العراة. بعد أن علم بيتر بمكان فيل السري أراد هذا الأخير أن يستميله ويتقرّب منه، ومن هنا تنشأ صداقة غريبة بين الاثنين، ليبدأ فيل بتعليم بيتر ركوب الخيل ويتحدث معه عن معلمه السابق. إلا أن الأمور تنتهي بموت فيل فجأة دون مقدّمات، بتدبير وتخطيط من بيتر الذي أراد الانتقام من تنمر هذا الشرس، وضغطه الشديد على حياة أمه. فقد اتخذ (بيتر) من هذه الصداقة، وسيلة لتخليص أمه من العنف اللفظي والنفسي الذي مارسه عليها هذا المتسلط.
الفيلم يلمّح مبكرا إلى تيمة الصراع، من خلال لقطة فنية تركز فيها عدسة الكاميرا على مواجهة حامية بين ثورين هائجين، وتناطح قويّ بينهما، كل واحد منهما يحاول إخضاع الآخر، وإثبات القوة والفحولة والزعامة. إنها صورة مجازية لعلاقة البطل (فيل) بأقرانه (أخيه، زوجة أخيه وابنها، أسرته، أصدقائه…)، وما تعرفه هذه العلاقة من صراع ومجابهة، تسلط وسيطرة. وفي أحد المشاهد الأخرى، نستمع إلى جملة ذكرها فيل لأخيه وهما يتناولان الخمر “نخبنا نحن الإخوة رومس وروميلوس وأمنا الذئبة التي ربتنا”. هذه الجملة ظاهريا تحيل إلى الحدث التاريخي البارز (بناء روما من طرف الأخوين اللذان رضعا من ذئبة كما تقول الأسطورة)، لكنها في العمق تدل على الطبيعة المتصلبة للبطل، وسلوكه العنيف، ونزوعه نحو السيطرة والتحكم، ورغبته في إلحاق الأذى والإذلال بالآخرين.
إن الفيلم هو مقاربة فنية مقارنة بين طبعين بشريين، وسلوكين مختلفين:
سلوك الاتزان والرصانة والهدوء والتعقل والأناقة الذي يمثله أخو البطل (جورج).
الفيلم يشترك مع نوعية أفلام رعاة البقر في العديد من الخصائص لكنه يختلف عنها في طبيعة المعالجة الفنية والدرامية
سلوك الاندفاع والأنانية والتنمر والقساوة والقبح الذي يجسده البطل (فيل).
يبرز الفيلم، كذلك، السلوك الأنثوي للفتى بيتر (ابن روز) منذ اللقطات الأولى للفيلم. حيث تؤطر الكاميرا، في أحد المشاهد، بعضا من صوره ورسوماته وأشكاله الفنية الخاصة، المنمقة بالورود والأزهار المتفتحة، والملوّنة بالألوان الناعمة والفاتحة: الأحمر، الوردي، الأخضر الناعم، الأصفر… الخ. لتنتقل بنا المخرجة، مباشرة بعد ذلك، إلى مشهد آخر يُظهِر لنا بيتر وهو يضع هذه الورود على قبر والده الميت. إنه تلميح ذكي – من المخرجة – يكشف لنا تأثير وفاة الأب على حياة ونفسية هذا المراهق الذي ظل مقترنا بأمه، ومرتبطا بحضنها الأنثوي، وهذا ما خلف لنا هذا الطبع الشاذ في سلوكه الانطوائي. فجين كامبيون (المخرجة) تستحضر هنا العقدة الأوديبية التي صاغها فرويد في أبحاثه النفسية، وترصد لنا هذه الطبيعة غير السوية، الناتجة عن غياب الأب في حياة الابن، وتأثير ذلك على علاقته بأمه (الانجذاب والتقرب المبالغ فيه).
وقد هيمنت مظاهر: السخرية والاستهزاء والاحتقار والعقلية الذكورية على اللقاء الأول لفيل مع الفتى المراهق (بيتر). إهانة وإخضاع أمام الملأ، قمع وإذلال على مرأى الحاضرين، تحقير وتصغير تحت أنظار الأصدقاء، بينما كان الشاب الصغير يستعد لتقديم وجبة العشاء إليهم، مستسلما، خاضعا، خانعا، مغادرا بصمت وألم وحزن. فإحراق فيل للزهرة الورقية التي صنعها بيتر، ورميها في كوب من الماء، له دلالة رمزية على حجم الاحتقار والكراهية والاستفزاز الذي يكنه تجاهه، خاصة حينما أدرك أنه لقمة سائغة لإثبات فحولته وذكوريته ونرجسيته.
إنها عقدة نفسية تثبت عجز (فيل) وضعفه الذي يعوضه بالقمع والإهانة والاستكبار، ولا شك أن مكمن النقص فيه مرتبط بما هو جنسي وعاطفي، وهذا ما برر هجومه غير المفهوم تجاه أخيه الذي قرر الزواج، وحقده على المرأة التي سيتزوجها، ومضايقته لابنها في كل مكان. هكذا يظهر لنا أن ضعف (فيل) أمام النساء، وفشله العاطفي معهن، قد غرس فيه عقدة نفسية عميقة، تمكن المخرج من اقتناصها ببراعة عبر التشخيص السينمائي والسلوك البارز للبطل: سلوك يغمره الحقد، ويسوده الحنق، ويعمه النقم.
كراهية البطل نحو النساء نابعة في الأساس من انعدام رغبته بهن، والتي إن وجدت ستجعله رجلًا كاملًا
وتظهر ملامح هذا الفشل العاطفي في المشهد الذي ينقل لنا احتفال فيل مع أصدقائه ومرافقيه ومجموعة من فتيات الليل بالسهر والسمر، بالغناء والرقص والمجون، بينما انزوى هو وحيدا في زاوية بعيدة عن الاحتفال، منعزلة عن الإهلال، منفردة عن الابتهال. ولا شك أن المُشاهد مدرك بأن خوف البطل من الأنثى هو سبب كاف للنفور والابتعاد، للتغول أمام الآخرين، للتعسف تجاه الضعفاء، لحب الهيمنة على المغلوبين، وهذا بطبيعة الحال تعويض عن نقص عاطفي كبير، يعاني منه منذ مدة.
والتعويض بالإنجليزية (Compensation)في علم النفس هو إستراتيجية تتم بصورة واعية أو لاواعية، يحاول من خلالها الشخص التغطية على ضعف أو رغبة أو إحساس بعدم الكفاءة أو عجز في أحد جوانب الحياة، عن طريق الإشباع أو التفوق في جانب آخر. وهذا ما نراه في سلوك بطلنا الفاشل أمام النساء، والمتسلط على البؤساء، والمستعلي على الضعفاء، لدرجة أنه لم يستطع الإنصات إلى الموسيقى أثناء العشاء، وأمر بلهجة ساخطة بإيقافها مبرزا عضلاته على الأصدقاء، وكاشفا عن مشاعره الجوفاء، وأحاسيسه المتصلبة، وطبعه الغليظ، وفكره الصلد، وميوله الخالي من الحب والعاطفة.
وإذا كان هذا العمل السينمائي ينتمي من حيث بنيته الجمالية إلى نوعية أفلام رعاة البقر، ويشترك معها في العديد من الخصائص سواء على مستوى الديكور أو الفضاء أو الملابس أو البيئة… الخ، فإنه يختلف عنها في طبيعة المعالجة الفنية والحبكة الدرامية. ذلك لأن مخرجي الويسترن سباغيتي اهتموا أساسا بعرض الصراع الخارجي بين البطل المغوار، منقذ البلدة، وبين أعدائه من اللصوص وقطاع الطرق الذين لا هم لهم سوى القتل والاعتداء والسرقة وجمع المال. أما المخرجة جيم كامبيون، في هذا الشريط، فقد اعتنت برصد الصراع الداخلي للبطل والشخصيات المرافقة له.
فالبطل (فيل) يملك شخصية متناقضة، تعرف صراعا نفسيا بين ميولها العدواني/التسلطي/الذكوري، وبين فشلها العاطفي الناتج عن ذبول المهجة، وأفول الغريزة، وعدول الشفقة. أما الفتى المخنث (بيتر) فهو في ورطة أخلاقية، وعقدة روحية تكبل أعماقه التي لا تستطيع البوح بمعاناتها ومآسيها وأحزانها. إنه في صراع دائم بين طبعه الخجول/الانطوائي/الأنوثي وبين رغبته في التعبير عن الذات وإبراز الكينونة وكشف الطاقة. ذلك أنه كان مولعا بتنميق المكان بوروده المثيرة، وتزيين الفضاء بأشكاله الجميلة التي كان يصنعها بموهبته الرائعة، وإحساسه المرهف، المتأثر بغياب الأب والذكر عن الأسرة.
أما الصراع الخارجي في الفيلم فقد جمع بين نموذجين مختلفين، ودورين متنافرين. ويمكن حصر هذا الصراع في علاقتين:
علاقة الصراع بين البطل: العصبي، المتنمر، المستبد، وبين أخيه: الودود، الهادئ، المتزن.
علاقة الصراع بين البطل: الذكوري، المتجبر، القاسي، وبين الفتى: المخنث، الخجول، المنطوي.
علاقة الصراع بين البطل: المؤذي، المتعسف، المتحكم، وبين زوجة الأخ: المسالمة، المضحية، المتآخية.
دراما نفسية
وفيل يملك مزرعة للأبقار يتكفّل بتربيتها رفقة أخيه جورج. وفي أحد المشاهد نراه وهو يقطع جلد البقر بوحشية وشراسة بعد ذبحها بطريقة عنيفة، كما نراه يقوم بإخصائها بشكل مؤلم وقاس. وهذا تعبير لا شعوري عن عنفه وغلظته وجهامته. وفي مشهد آخر نشاهده وهو يتفاعل بغضب وانفعال مع أنثى الفرس في إسطبله الخاص، حيث يقوم بضربها ويناديها بالعاهرة التي تقوم بأفعال رديئة وتدّعي الطهر والعفاف. وهذا مشهد رمزي يحيط بالخلفيات السيكولوجية التي ساهمت في تكوين الطبع الشرس للبطل فيل. إنه النقص العاطفي الذي خلق في نفسيته الكراهية الشديدة لكل ما هو أنثوي، وانعدام الاطمئنان الذي كرّس في لا شعوره النفور من كل ما له صلة بالجنس اللطيف، وهذا عائد بالأساس إلى طبيعة العقدة الأوديبية المسيطرة على طبعه وعلاقاته مع النساء.
فالفيلم يوضح لنا أن فيل منجذب كثيرا لأمه، لا يبوح بأسراره، ولا يشتكي إلا لها. وهذا ما سيظهر لنا في المشهد الذي أطر لنا البطل وهو يكتب رسالة إلى أمه، يشتكي فيها من تصرفات شقيقه الذي كان يستعد للقيام بعمل مؤثر على مكانة العائلة وسمعتها: زواجه من امرأة أرملة لزوج منتحر، لا أصل لها، ولا شرف يميزها، ولا عزة تتصف بها. فقد ناداها في اليوم الأول لقدومها إلى المنزل بالمخادعة الرخيصة، وحذر أخاه من طمعها وجشعها الذي يهدد ثروة العائلة، فكشف لنا، بالتالي، عن بغضه واحتقاره لكل ما له صلة بالجنس الأنثوي.
وقد ركزت الكاميرا – في لقطة مكبرة من أحد المشاهد – على ملامح البطل وهو يدخّن سيجارة بحنق وسخط وغيظ، بينما شقيقه جورج يمارس الحب مع زوجته في الغرفة المحادية. وتبرز لنا شرارة السيجارة وهي تشتغل بقوة، كلما ارتفع صوت الحبيبين وهما في غرفتهما الحميمية، وهذا مجاز فني بليغ، تلمح فيه شرارة السيجارة الملتهبة إلى شرارة قلب البطل (فيل) المتقدة بالبغض والكظم والامتعاض. بغض سببه عقدة النقص التي يعاني منها أمام النساء وفشله في علاقاته معهن، بينما شقيقه – وعلى عكسه – نجح في تأسيس علاقة زوجية صادقة، قوامها الحب والاحترام والأمان.
وفي مشهد آخر، يظهر فيل، مرة أخرى، في المزرعة وهو يقوم بإخصاء ثور بطريقة وحشية وقاسية، تعبيرا عن شراسته الداخلية، وعنفه النفسي الذي يعوّض به ضعفه العاطفي وعجزه الجنسي وعطالة حسه ومشاعره. إنها عقدة الخصاء التي أشار إليها عالم النفس سيغموند فرويد (1908) في معرض حديثه عن تخوف الطفل وقلقه من إزالة أعضائه الجنسية الذكرية، وغيرة الأنثى من الذكر على افتقادها لهذه الأعضاء التناسلية التي تمنح صاحبها السلطة والقوة والفحولة والتفوق الذكوري. ولهذا فإن الذكر يظل – دائما – متخوفا من فقدان هذه الميزة الجنسية، لتترسخ، بذلك، في لا وعيه النفسي، وتعود للظهور في مراحل سنية متقدمة على شكل عقد وأعراض سيكولوجية.
والبطل فيل هنا متخوف كثيرا من فقدان سطوته وسلطته الذكورية، لهذا فهو يتمادى في ممارسة ساديته تجاه الجميع، سواء من أسرته (شقيقه)، أو أقربائه (زوجة الأخ وابنها) أو أصدقائه، بل حتى الحيوانات وعناصر الطبيعة يحاول إخضاعها وقيادتها والتحكم في مصيرها. إن مدار هذا الخوف وسببه الرئيسي هو الإخفاق في العاطفة، والفشل في الإحساس، والخيبة في الحب، والفتور في الغريزة. ولهذا يحاول تعويض هذا النقص بالتمرد والثورة والتنمر والسخط على الآخرين الذين يمثلون الحلقة الأضعف في ميزان القوة وبنية السلطة.
ومن فرط عنفه، وصفه الفتى بيتر في أحد اللقطات بأنه “قاسي القلب“، بعد أن رأى ملامح الخوف والرعب بادية على وجه أمه (روز) من هذا الشخص المتسلط، غليظ القلب، وجاف المشاعر. كيف لا وبيتر، نفسه، يعاني من كل أنواع السخرية والإهانة والتهكم التي يطلقها فيل تحقيرا من قيمته، وحطا من مكانته، وإهانة لسمعته؟. فهو “الفتى المخنث صاحب العينين الواسعتين والجاحظتين“ حسب وصف البطل المستهزئ. وما هذا التنمر إلا تعبير عن ضعف وعجز، عن عقدة نقص يريد بطلنا تجاوزها وتعويضها، عبر استعراض عضلاته على الفئات المستضعفة وإظهار شراسته على الطبقات المقهورة، وذلك بإذلالها وإخضاعها ومحاولة السيطرة عليها.
فالشخصية الذكورية التي رسمها (فيل) بأداء قوي ومتماسك تخفي كثيرا من الأسرار في أعماقها، فرغم ظهوره بهيئة الكاوبوي الخشن الذي لا يهتم بالاستحمام، أو استعمال القفازات وهو يتعامل طبيا مع الحيوانات، لكن تلك القشرة الصارمة هشة في حقيقتها، وهي رداء يخفي به شعوره الداخلي بأزمة تهدد هيبته وصورته أمام الآخرين.
وإذا كان ابن الأرملة بيتر يعاني من الاحتقار والتوبيخ والاستخفاف من طرف فيل الذي يصفه بـ”المتخلف عقليا” و”المخنث“، فهذا راجع، أساسا، إلى ليونته ونعومته وتشابه أفعاله مع تصرفات النساء. وهو غير راض على هذه الوضعية التي يحمل فيها المسؤولية للأم (روز)، حيث يثور عليها في أحد المشاهد الحوارية قائلا “وهل سأكون رجلا إن أصغيت إلى ما تقوله أمي دائما”. وهذا رد مجابه، تحدى به أمه التي عاتبته على قتل أرنب بري اصطاده من الغابة، وهنا تلمّح لنا المخرجة إلى رغبة بيتر، الدفينة، في التخلص من وصاية أمه، ومراقبتها الدائمة له. كيف لا وقد أثرت هذه الرقابة على نفسيته بشكل سيء، فتكونت بذلك طبيعته الخجولة وانجذاباته الأنثوية، ميوله المدلل وسلوكه المدلع؟ وبيتر هنا يتمرد في وجه أمه، وينفجر أمام هذا الغنج المفرط الذي انعكس سلبا على فطرته الذكورية، وحوّله إلى شخص شاذ في تصرفاته وأفعاله، فاقد لحس الفحولة، مفتقد لمقومات الرجولة. وقد ترجم الفتى هذا التمرد في رد فعله العنيف، وانتفاضته الخشنة، عقب إقدامه على قتل الأرنب الصغير ببرودة دم وحس هادئ وفكر واع، دون أدنى تأنيب للضمير أو تفكير في المصير أو خشية من البصير.
وفي أحد الأيام، اكتشف بيتر مجموعة من الصور العارية للرجال، والعديد من المجلات البورنوغرافية الخاصة بفيل في مخبئه السري. كما رآه يستحم عارياً، في بحيرة البلدة، بمنديل خاص ببرانكو هنري، المعلم الذي كان يشيد به دائما. رأى البطل أن بيتر يتجسس عليه ويطارده، فقرر بعد تلك الحادثة أن يقيم معه نوعًا غريبًا من الصداقة، الأمر الذي أثار استياء السيدة روز. هكذا نستنتج، من خلال هذه المعطيات، أن قساوة البطل وشخصيته العنيفة هي نتاج لما عاناه في طفولته من قهر واستغلال واعتداء جنسي. ففيل شاذ جنسي سابق، مرتبط بذكرى معلمه القديم، هذا المعلم الذي أحبه كثيرا، وجعله بديله العاطفي الذي عوض غياب المرأة في حياته.
إن كراهية البطل نحو النساء نابعة في الأساس من انعدام رغبته بهن، والتي إن وجدت ستجعله رجلًا كاملًا، لكنه في حقيقة الأمر لا ينجذب لهن بل يعيش على ذكرى حب قائده ومعلمه (برانكو). نفترض مثله أن ذلك الحب كان عميقًا وحقيقيًّا، لكن تلك الذكرى ربما تكون مشوشة، بل من المحتمل أن يكون قد تعرَّض لاستغلال جنسي على يد رجل أكبر منه سنًّا وسلطة، يظهر ذلك في محاولاته لتكرار النمط نفسه مع بيتر. فبعد أن أمضى نصف الفيلم في السخرية من شكله والطريقة التي يقدم بها نفسه للناس، طور مشاعر الانجذاب نحوه، مشاعر يختلط فيها ما هو أبويّ وقيادي وما هو عاطفي وروحي لشاب يشبهه حينما كان في نفس السن.
تحولت كراهية فيل لبيتر، إذن، إلى صداقة وتقرب وتودد، وتحولت نظرته التحقيرية والاستئسادية إلى دعوة للألفة والرفقة. إنه تقلب – في مزاج البطل وطبعه – عائد بالأساس إلى استيقاظ هواجس الماضي وذكريات الأمس، حينما كان فيل يقاسي نفس تجربة المراهق بيتر، ويتكبد آثار الاعتداء الجنسي من معلمه السابق. ففيل الشرس في الظاهر، ما هو إلا حمل وديع في باطنه، عانى من تجارب موجعة في الماضي (الشذوذ الجنسي).
وحينما تشده الذكريات إلى الماضي، يستفسر فيل صديقه الجديد عن تخمينه لما كان يقوله معلمه السابق برانكو، حينما يرى هضابا جبلية صحراوية أمامه، فيجيب بيتر بهذه العبارة: “كلب ينبح“. وهذا تعبير رمزي فيه انتقاد خفي، وزجر مضمر، وعتاب مستتر لطبيعة البطل فيل الشرسة والمتوحشة. فهو يتفاخر باستمرار بتسلطه الذكوري، واعتدائه على كرامة الآخرين، وقمعه لأصواتهم، وبسبب هذا القمع، تعرضت روز لتوتر كبير وخوف شديد من بطش فيل وتهديده الدائم لها ولابنها بيتر. وهذا ما جعلها تدخل في مرحلة من الهلع والرهاب، لتسقط في فخ الإدمان، وتلتجئ إلى الخمر كمخدر روحي يهدئ من روع رعبها، ومحنها، وكوابيسها.
تدهورت صحة الأرملة، بفعل إدمانها الشديد على شرب الخمر، وعندما علمت بأن فيل بوربانك يخطط لحرق جلودها الزائدة بدلاً من بيعها للهنود الأميركيين المحليين، قامت، بتحدٍ، بتبادل كل جلود البقر مع زعيم القبيلة مقابل زوج من القفازات الناعمة. وهذا مشهد يرمز إلى اضطراب الحالة النفسية لروز التي افتقدت للحنان والدفء العاطفي والاتزان النفسي، منذ أن التحقت بمنزل هذا المتوحش الذي لا يرحم أحدا بنقده الدائم وسخريته اللاذعة وظلمه المبالغ فيه. إن القفازات الناعمة هي تعويض لا شعوري عن الحنان الذي تفتقده، ووسيلة تواسي بها روحها الكئيبة من أجل نسيان كل مظاهر العنف النفسي الذي تتعرض له في الواقع.
في المشاهد الأخيرة من الفيلم، تؤطر عدسة الكاميرا الصحراء الصخرية القاحلة، أثناء الحوار الثنائي الحاسم بين فيل وبيتر. حيث يُطَمْئِنُ هذا الأخير البطل بوجود جلد بقر خام ليصنع به الحبل، بعد أن اشتعل غضبا وحقدا بسبب بيع روز الثملة لكل جلوده في المزرعة. إن الصحراء هنا فضاء شاعري، ومكان رمزي يلمح إلى طبيعة العلاقة الرابطة بين فيل وبيتر والتي تتصف بالجفاء والتنافر والاضطراب. فيل الساخط والمتسلط على المستضعفين، وبيتر الذي يود الانتقام منه حتى يخلّص أمه من معاناتها الشديدة، بسبب فزعها وحالة الرهبة التي حوّلتها إلى سكيرة كثيرة الذعر والخوف من هذا المستبد.
وانتقام الفتى تم بطريقة غير مباشرة، حيث أحضر جلد بقرة نافقة ماتت بمرض الجمرة الخبيثة، وهو يعلم بأن البطل يغسل الجلود ويقطعها دون قفازات، ويعلم كذلك أنه مصاب بجرح بليغ في إحدى اليدين. فيقدم له الجلد السام الذي استقدمه، ثم يصاب فيل بعد ذلك بالعدوى، ليسقط مريضا طريح الفراش، ويموت، في النهاية، بسبب هذه المكيدة. وهي حيلة خطط لها بيتر بذكاء وتفطن، حتى يخلص أمه من شرور هذا المتغطرس، وحتى يعيد إليها الابتسامة من جديد.
تحت خشونة الشخصية الذكورية أسرار مريبة
وفيل كان مهتما كثيرا بصنع حبل من جلد البقر، وإهدائه لصديقه الجديد بيتر عربونا على صداقتهما الجديدة. وتنقل لنا الكاميرا لقطات للبطل وهو يقوم بفتل الحبل الذي صنعه من الجلد الخام الذي جلبه بيتر، وفي نفس الوقت يحكي للفتى قصته مع صديقه القديم برانكو وكيف أنقذه ذات يوم، وناما ملتصقين مع بعضهما البعض. فتجرأ ابن الأرملة وسأل راعي البقر بهذه العبارة “أنمتما عاريين؟“، لتنتقل العدسة بعد ذلك إلى تأطير الحبل وكيف يفتل فيل أطرافه مع بعضها البعض. وهي لقطة ذكية ترمز إلى سياق الموضوع المتناول: اغتصاب البطل من طرف صديقه المقرب برانكو وعلاقتهما الشاذة والمتشابكة، على شاكلة أطراف الحبل التي تتشابك مع بعضها البعض.
جاء المشهد الختامي بليغا في لقطاته، زاخرا في معانيه، إيحائيا في دلالاته. فقد توجهت عدسة كامبيون إلى الفتى بيتر في غرفته، وهو يتلو مقاطع تأبينية من الإنجيل بعد وفاة البطل. ثم توجه إلى سريره ولبس القفازات التي اشترتها أمه من قبل، وقام بإخفاء الحبل المكتمل تحت سريره، وهو حبل فتله فيل من أجل إهدائه إلى بيتر قبل موته بالجمرة الخبيثة. وهذا الحدث له مغزى عميق، مرتبط بالصراع الخفي الذي يدور في الفيلم، فطمس حبل فيل تحت السرير يرمز إلى نهاية هذا المتغطرس، وانتهاء طغيانه، والتخلص من ظلمه اللفظي وتعسفه النفسي. وهذا ما تم على يد الفتى الشاب (بيتر)، الذي ظن المشاهد، في بداية الفيلم، أنه هو الحلقة الأضعف، فإذ به هو الطرف الرئيسي الذي سيضع حدا لتنمر البطل واستبداده.
ولذا، توجهت عدسة الكاميرا، مباشرة في اللقطة الأخيرة، من غرفة بيتر إلى خارج المنزل، حيث روز تستعيد ابتسامتها من
الشخصية الذكورية التي رسمها (فيل) بأداء قوي ومتماسك تخفي كثيرا من الأسرار في أعماقها
جديد رفقة زوجها، بينما بيتر سعيد في غرفته وهو يتأمل هذا المشهد العاطفي بين الزوجين. كيف لا وقد أنهى هذا الكابوس الذي كان يؤرق أمه؟ كيف لا وقد خلصها من هواجسها الحزينة، وأرقها الدائم، وخوفها المستمر؟ كيف لا وقد ساهم في عودتها إلى رشدها ورصانتها، وابتعادها عن حالة الإدمان والسكر، وتركها لحياة الوحدة والعزلة؟ وحينما يؤطر المصور إخفاء الحبل تحت السرير، فهذا معناه الخلاص من هذا الحمل الثقيل الذي كان يكبل حرية الأم والعائلة بصفة عامة في هذا المنزل. فأخيرا ابتسمت روز وتنفست نسيم الانعتاق والتحرر، بعد أن عانت كثيرا من عنف فيل اللفظي والمعنوي، من سخريته وتحقيره، من تحكمه وسيطرته، من ضيمه وقهره…
ويمكن تنظيم القوى الفاعلة التي تلعب دورا أساسيا في هذا الفيلم وفق النموذج العاملي التالي:
الموضوع: التنمر.
الذات: فيل.
المرسل: الفشل العاطفي، الضعف أمام النساء، الشذوذ الجنسي.
المرسل إليه: بيتر وأمه روز.
العامل المساعد: المكانة، السلطة، السيادة، الترف المادي، ذكرى الصديق برانكو.
العامل المعيق: الفتى بيتر، الشقيق جورج.
على المستوى الفني، تنحو جماليات الفيلم الرئيسية إلى الغرب الأميركي، الفترة التاريخية والملابس والموسيقى، لكن كل ذلك يتم قلبه بشكل ما، يتم نزع كل الأفكار أو التصورات النمطية عنه، يحدث ذلك بواسطة خيارات إخراجية بسيطة لكنها مؤثرة، عادة ما نرى رعاة البقر بكامل حلتهم من الملابس والطبقات المدروسة بعناية، سرج الأسلحة الجلدي والسراويل الخاصة بركوب الخيل والقبعات والسترات الجلدية والأحذية القوية ذات الرقبة العالية. لكن في ذلك الفيلم يبدو فيل وكأنه الشخص الوحيد الذي يرتدي تلك الملابس، فأخوه يعتلي الحصان بجانبه مرتديًا بدلة مدنية تقليدية، لكن عندما يختلي فيل بنفسه فإنه يتجرّد من كل شيء، في مكان مستتر لكنه عام، فهو ليس منزله أو غرفته، بل في بحيرة تخبئها الأشجار، هنالك فقط يصبح هو نفسه، هناك يراجع ذاته ومشاعره، هناك يتفاعل مع تخيلاته وذكرياته السابقة.
أما الصحراء الخالية والقاحلة والمناخ الحار والقاسي – المتناسبان دائما مع أفلام رعاة البقر – فيلمّحان كثيرا إلى السلوك النفسي الجاف للبطل، القائم على التسلط والأنانية والتجبر. ونصادف، كذلك، اهتماما كبيرا بالألوان الرائجة في أفلام الويسترن: الأصفر والبني وهي ألوان تتلاءم مع فضاء الفيلم الصحراوي (صحراء نيوزيلندا ) وطبيعة الفيلم (أفلام رعاة البقر). كما نجد حضورا للألوان الداكنة والإنارة المظلمة والخافتة في الأجواء العاطفية التي تعبر عن الحزن والمآسي واللحظات العاطفية الحزينة: تسلط فيل على الفتى بيتر وأمه في المنزل، وأحاسيس الرعب والخوف التي انتابت روز بعد ذلك في هذا المكان المعتم.
وفيما يخص الموسيقى، فقد اهتمت المخرجة بصراع درامي مثير دار بين البطل فيل والأرملة روز، ولكنه صراع ليس كباقي الصراعات بالمواجهة والعراك والمعركة أو بالكلام والسب والقدح، بل هو صدام فني موسيقي، التقط ببراعة وإتقان من طرف المصور، حيث تعزف روز على البيانو بنعومة وحنان في غرفتها، في حين يرد عليها البطل بنغمات قوية ومزعجة من أوتار قيثارة تشارانكو اللاتينية في الغرفة الأخرى. إنه صراع بين الذكورية (ورمز لها بالقيثارة) المتأصلة في طبع فيل العنيد، والأنوثة (ورمز لها بالبيانو) الراسخة في سلوك الأم الحنونة.
هكذا نصل في الختام إلى التأكيد على القيمة الفنية المميزة لفيلم المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون “قوة الكلب”، وهذا ما جعله يتبوأ صدارة ترشيحات جوائز الأوسكار الأخيرة بـ12 ترشيحا. وفازت كامبيون بأوسكار أفضل مخرجة عن هذا العمل، كما حازت على جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، إضافة إلى فوز الفيلم بجائزة أفضل عمل في حفل جوائز البافتا، وأفضل فيلم دراما في جوائز الغولدن كلوب… وكل هذا الاحتفاء النقدي والصخب الفني بسبب جودته التقنية وقيمته الإبداعية التي أجمع عليها أغلب النقاد والخبراء السينمائيين، ناهيك عن الاستقبال الجماهيري الكبير الذي استقبل به الفيلم في دور العرض العالمية، ليكون، بذلك، هذا الفيلم علامة سينمائية بارزة هذه السنة.
• ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد فاتي
باحث مغربي في مجال الصورة