"نوستالجيا" فيلم يقود فيه الحنين بطله إلى نهاية مؤلمة
استعادة الماضي الخطير في مدينة نابولي التي تبدو أكثر رعبا وجمالا.
الأحد 2022/12/11
انشرWhatsAppTwitterFacebook
رجل يحاول أن يعيد اكتشاف ذكرياته ويعيشها
هل تساءلت يوما عن سر الحنين؟ عن سر ذلك الشعور الذي يطاردك عندما تزور بيتك القديم الذي شهد أيام طفولتك أو شبابك وتلك الرائحة المألوفة، غرفتك القديمة، الصور العائلية ومتعلقاتك الشخصية القديمة. هل جربت يوما أن يلتقطك الخيال إلى زمنٍ قد انقضى بالفعل ولكنك تنتمي إليه بكل جوارحك؟ زمن الراحة وتلك الأيام الدافئة، عندما كان كل شيء جيدا وكان الجميع سعداء. هذا تماما ما يأخذنا إليه الفيلم الإيطالي “نوستالجيا“.
المهاجرون والمغتربون عن أوطانهم هم أكثر الناس تعلّقا بأشيائهم في وطنهم.. ويتمنون لو أنهم يستعيدون تلك الحياة ولو للحظات.. إنهم يعيشون حالة “نوستالجيا“.
و”النوستالجيا” كمفهوم هي “الحنين إلى ماض مثالي”، ويمكن وصفها بأنها عملية استرجاع لمشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية.
يغازل المخرج الإيطالي ماريو مارتوني الماضي والحنين إليه في فيلمه “نوستالجيا”. والمخرج سبق أن أخرج أكثر من 30 فيلما منذ العام 1985، ودخل فيلمه “لاموري موليستو” مهرجان كان السينمائي عام 1995، وتنافس فيلمه “نوي كريدتيفامو” عام 2010 على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي السابع والستين. كما تم اختيار فيلمه “ليوباردي” عام 2014 للتنافس على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي الدولي الواحد والسبعين، وفي هذه السنة يعود للتنافس على جوائز مهرجان كان في فيلمه الأخير “نوستالجيا” والذي تم تقديمه في المنافسة في مهرجان كان هذا العام.
في هذا الفيلم يعود المخرج إلى مسقط رأسه مدينة نابولي التي سبق أن قدمها في فيلمه “عمدة ريوني سانيتا” لعام 2019. ويبدأ الفيلم بجملة مقتبسة من المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني “المعرفة تكمن في الحنين”.
عودة إلى الأم
يفتتح الفيلم بمشهد لبطله “فيليس لاسكو” ويقوم بدوره الممثل بييرفرانشيسكو فافينو، مسافرا على متن الطائرة التي تنقله من القاهرة التي عاش فيها حياة هادئة مع زوجته بعد أن حقق النجاح في عمله إلى مسقط رأسه. أسس فيليس هناك شركة مقاولات بمساعدة عمه وحققت نجاحا كبيرا، والواضح أنه اندمج كثيرا مع طريقة الحياة العربية وفي مصر بالتحديد، بل اعتنق الإسلام وتزوج من سيدة مصرية بعد أن ظل لمدة 40 عاما بعيدا عن المكان الذي نشأ فيه في حي سانيتا في مدينة نابولي، فيليس لم يعد إلى نابولي فقط من أجل زيارة والدته المسنة تيريزا (أورورا كواتروتشي)، بل يحاول أن يعيد اكتشاف ذكرياته ويعيشها. ولكن لسوء الحظ في عملية الاستعادة لتلك الذكريات لا تعود الذكريات الحلوة للطفولة إلى الظهور فحسب بل أيضا ذكريات قاتمة وفظيعة.
يعود فيليس إلى نابولي، إلى سانيتا، ليحتضن أخيرا والدته المسنة. في عودته كأجنبي هو بالضبط الحنين إلى ما كان وما كان يمكن أن يكون، والرغبة في إعادة الاتصال بتلك الأماكن وتلك الشخصيات وصنع السلام مع ماضيه، ولكن الأمر لن يكون سهلا.
فقد عاد إلى منزل الصبا بعد فترة طويلة مبتعدا مؤقتا حتى عن زوجته المصرية الجميلة، ولكن أيضا يغمره الشعور بالذنب المرتبط بالماضي. يفاجئ فيليس والدته ويجدها وقد أصبحت عمياء جزئيا، وكذلك تم خداعها من قبل صديقه القديم أوريستي سباسيانو (توماس راغنو) الذي أصبح زعيما لعصابة تتحكم في مصائر أهل الحي وسلب شقتها ونقلها إلى شقة قذرة في الطابق الأرضي ذات إضاءة خافتة في المبنى الذي يعاني من سوء الصيانة.
يدفع هذا الاكتشاف المزعج الابن فيليس إلى البحث عن مسكن جديد ويعثر على شقة كبيرة، يحاول أن يعوض والدته في الأيام الأخيرة من حياتها والعيش بسلام. وهناك مشهد مؤثر عندما يحمل الابن فيليس جسدها العاري الصغير بين ذراعيه ويقوم بتغسيلها وتسريح شعرها. يشعر المشاهد بأن فيليس بعد أكثر من أربعين عاما يعود إلى أمه لمرافقتها نحو الموت، بشفقة وحب وامتنان، بدءا من تلك التحية على حافة الباب وذلك الحمام المغمور في جو من العاطفة المقدسة وتبادل الأدوار بين الأم والابن عند الشيخوخة والذي يعد أجمل صورة في الفيلم بتركيز الضوء (مارتون) على المسافة الجسدية والعاطفية بينهما مما يسمح لنا بفهم أسباب فيليس للعودة بشكل أفضل.
استقر فيليس في القاهرة، حيث تزوج من سيدة مصرية (آرليت) وتقوم بدوها الممثلة المغربية صوفيا السعيدي (لم يتم الكشف عنها كثيرا)، وتعلم اللغة العربية وأصبح مسلما ويعود الآن إلى نابولي لأنه يريد أن يرى والدته التي لم يرها منذ 40 عاما وقد أصبحت امرأة عجوزا ضعيفة. كان عليه أن يراها، على الرغم من ذلك كانت زوجته تدفعه إلى القيام بذلك.
يتحدث المخرج عن مشهد بطله مع والدته، بالقول “عندما يحمل والدته إلى الحمام، يريد فيليس أن يمنح والدته المسنة إحساسا خاصا وعندما تكون مترددة في خلع ملابسها أمامه، يقول لها: تظاهري بأنني صبي صغير، كان هذا المشهد موجودا بالفعل في الرواية (التي كتبها إرمانو ريا). أود أن أقول إنه كان أحد الأسباب التي جعلتني أرغب في صنع هذا الفيلم، في الواقع شعرت على الفور بقوته. ومع ذلك، كان من الصعب محاولة معرفة كيفية تصويره واخترت نهجا جذريا. وقد وجدت هذا المكان مع اختيار لإضاءة شاحبة، أردت أن أظهر يديها وجسدها. سمحت لنفسي بأن أستعين بالذكريات والمشاعر وذاكرة أمي”.
وبينما يحاول رعاية والدته التي تعيش أيامها الأخيرة يلاحظ أن المدينة لم تتغير حيث الصبية يتحركون ليلا على الدراجات النارية للصراع فيما بينهم عبر عصابات ظلت عبر التاريخ تحكم شوارع نابولي وأزقتها. أثناء البحث في أشياء والدته يجد فيليس صورة قديمة له ولصبي مجهول الهوية على دراجة نارية.
تناقضات نابولي
◙ عودة مؤلمة وحنين جارف
يواجه بييرفرانشيسكو فافينو مهمة صعبة تتمثل في تجسيد شعور غامض إلى حد ما وليس دائما ظاهريا للغاية – وهو الشعور الذي يعطي الفيلم عنوانه – لكنه ينجح بشكل مثير للإعجاب، فيليس يبدو رجلا لطيفا وحساسا للغاية يتقدم في محاولاته لإعادة الاتصال بالمدينة التي احتضنت بداية خطواته الأولى، موقفه غير المبالي بالأخطار يجعله ساذجا في نظر الآخرين في الحي، لأنه على الرغم من عاطفته تجاه المكان، من المستحيل أن ننسى مدى خطورة ذلك. وعلى العكس من ذلك تظهر اللقطات الطويلة لفيليس وهو يسير ببطء عبر ساحة أو في أحد الشوارع أنه مرتاح وغير خائف، ولكنها تجعله يبدو ضعيفا ومكشوفا بشكل رهيب. بعد وفاة أمه تيريزا، يقرر البقاء في نابولي وقراره هذا يتقاطع طريقه مع طريق الكاهن دون لويجي راجا (فرانشيسكو دي ليفا) الذي يصارع الأعمال الهمجية للعصابات التي يتزعمها صديقه ( أوريستيس).
يقيم فيليس علاقة صداقة مع الكاهن تلعب دورا كبيرا في حركة الشخصيات. علاقة تبنى على الصراحة والثقة. وأثناء الاعتراف، يكشف له البعض من أسرار الماضي الذي بسببه ترك المدينة وهاجر، وعلى وجه الخصوص، يعترف بالسرقات التي ارتكبها عندما كان صبيا مع أوريستيس. ويعترف بواحدة من هذه وهي قتل صديقه أوريستي الرجل صاحب محل النجارة. ويكون رد فعل الكاهن دون لويجي غير متوقع، حين يطرد فيليس من الكنيسة ويوضح له أن صديقه القديم أوريستيس اليوم هو رئيس خطير لكامورا وهي عصابة الجريمة المنظمة المحلية.
منذ اللحظة التي يخطو فيها فيليس من طائرته القادمة من القاهرة يكتشف جوا من الغرابة، شقة والدته يتغير موقعها في نفس المبنى ولكن الآن تعيش في مكان بائس في الطابق الأرضي، الشوارع مألوفة ولكن الناس ليسوا كذلك، حتى أولئك الذين يتعرفون عليه لديهم ذكريات تختلف عن ذكرياته. هو نفسه أصبح رجلاً مختلفا تماما عن الصبي المراهق الذي فر قبل 40 عاما. والأهم من ذلك أنه ابتعد كثيرا عن جذوره الكاثوليكية ويمتنع الآن عن تناول الكحول.
يستعيد البطل ذكرياته لكنها لا تعود ذكريات حلوة للطفولة إلى الظهور فحسب بل أيضا ذكريات قاتمة وفظيعة
ليس الحنين إلى مدينة نابولي لجمالها وحيويتها فقط، ولكنه الحنين إلى صديقه القديم أوريستيس. وهذا يمثل ماضي بطل الرواية وهو ماض صعب وخطير أيضا، ومن المستحيل عدم الندم عليه لأنها مشاعر حقيقية وصادقة، ومن الواضح أن البطل لم يعد يشعر بها في مكان آخر.
علاقة فيليس بالمكان، بالحي العتيق وبنابولي الكبرى تظل أساسا علاقة نوستالجيا، أي حنين جارف يجعله يستدعي باستمرار الماضي الذي يتداعى في ذهنه على هيئة صور ولقطات لما كان عليه من مرح وانطلاق ومشاغبات ومغامرات أقرب إلى اللهو، أيام شبابه في صحبة رفيق طفولته وصباه وشبابه المبكر “أوريستيس سبسيانو”، فنحن نرى الاثنين على دراجة نارية يجوبان حواري نابولي الضيقة، أو يسبحان في البحيرة، ثم يقومان معا ببعض السرقات الصغيرة.
كان المخرج مارتون بارعا جدا في البناء بدءا من إخلاصه لرواية الكاتب “إرمانو ريا” والتصاعد في الوعي منذ السيناريو، وتذهب الكثير من مزايا النجاح النهائي للفيلم بالتأكيد إلى أداء فافينو الذي يعمل في البداية بلغة إيطالية جامدة إلى حد ما وبلكنة أجنبية، في مشهد آخر نسمع فيه بطل الفيلم وهو يتحدث اللغة العربية مع اللاجئ التونسي ولكن بشكل سيء جدا مما أضعف كثيرا من دوره.
ويظهر لنا الفيلم الروائي الطويل وبطريقة غير عادية مدينة نابولي مختلفة عن المعتاد، حيث تبدو أكثر رعبا، وجمالا بنفس القدر، ولكنها معلقة في طي النسيان الذي لا يسمح بأيّ تغيير أو تطور. يذهب فيليس بحثا عن أماكن الذكريات القديمة ويجدها سليمة ويتعرف عليها بالتفصيل على الرغم من الأربعين عاما من المسافة، يبدو أنها مأهولة بأشباح العصر التي كانت تتعايش بسلام مع السكان الحاليين: مفترق طرق عمره قرون حيث لا تموت التقاليد أبدا وحيث الماضي والحاضر هما في الواقع في صورة واحدة وإطار واحد.
اللقاء والمصير
◙ الصداقة تتحول إلى صراع
في هذا الشريط السينمائي يكشف المخرج ماريو مارتوني بطريقة صادقة وحميمة عن التناقضات التي تسود نابولي، حيث تتعايش القداسة والجنوح، والفقر والنبل، والكوابيس وأعياد الميلاد. تتجه عين الكاميرا دائما إلى فيليس وتغييره المستمر إلى رغبته في البقاء هناك، سذاجته في عدم إدراكه للخطر الذي يحيط به والتضحية بنفسه وكل ما بناه في مكان آخر. هناك سادية تقريبا لإعادة اكتشاف مدينته. “كل شيء كما كان عليه من قبل، لم يتغير شيء. إنه أمر لا يصدق”، هذا ما قاله فيليس لاسكو في مكالمة هاتفية مع زوجته التي بقيت في القاهرة.
لا شيء يمكن قوله أيضا عن توماسو راغنو صديق طفولة فيليس، على الرغم من قلة ظهوره في الفيلم لكنه يعمل بشكل جيد على تطويع الشخصية ليبقى مطبوعا بقوة في الذاكرة، ويظهر للجمهور الجانب الأكثر مأساوية في منطقة سانيتا، ومن خلال لهجة الكلام المحلي والتفاصيل الدقيقة النادرة المخصصة لرجل العصابات، لأنه استطاع أن يترك بصمته في عيون وقلب المشاهد. والفيلم هو اقتباس ممتاز من رواية إرمانو ريا والتي كانت لها نبرة سياسية ونقدية أكثر ولكنها كانت في الأساس بحثا وتحليلا للنفس البشرية من جميع جوانبها.
إن الألفة والحنين من المشاعر السائدة في هذا الفيلم الممتع من خلال ذكريات الماضي هذه، التي يقطعها مارتون مع تجوال فيليس الحالي بعد أن يتم الكشف عن الغرض من عودته. كان أوريستي سباسيانو (توماسو راغنو) أحد أفضل أصدقاء فيليس وهو أخ حقا، كان يركب معه الدراجة ويجوبان شوارع سانيتا، ويسبحان عاريين على الشاطئ ويرتكبان الحماقات والسرقات الصغيرة. في حين هرب فيليس من البلاد بعد حادث مميت، لكن صديقه أوريستيس بقي في المدينة. وبعد أربعين عاما يعرف ببساطة باسم بادمان وأصبح زعيم أخطر عصابة في الحي.
على الرغم من العديد من التحذيرات من السكان الحاليين بما في ذلك الكاهن المحلي دون لويجي ريغا (الذي يلعب دوره فرانشيسكو دي ليفا) والذي أخبره بخطورته ووصف أوريستيس بأنه “رجل عنيف بشكل أعمى” ونصحه بعدم اللقاء به، لكن فيليس يصر على الحديث مع أوريستيس.
يستجوب فيليس صديقا قديما لوالدته حول مكان وجود صديق الطفولة ولكن الرجل يتظاهر بأنه لا يعرف خشية من سطوة زعيم العصابة. تختلف ذكريات فيليس عن زعيم العصابة سيء السمعة عن تقاليد الحي في رأيه، لا يزال لديه هو وأوريستيس الكثير من القواسم المشتركة، إنهما المراهقان اللذان اعتادا على التجول في سانيتا، الأولاد الذين لديهم رابطة أخوية عميقة.
ومع ذلك، في الواقع، هناك دروس يمكن تعلمها من الماضي والذكريات أو الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون فخا، وهذا ما يحدث لفيليس حين تتحول أسابيعه في سانيتا إلى أشهر، ويقرر في النهاية شراء منزل وعدم مغادرته أبدا.
يلتقي فيليس وأوريستيس في نهاية المطاف، ويتسم اللقاء بينهما بالتوتر (يقدم كل من فافينو وراغنو أوريستي أداء مبهرا وقويا)، لكن علاقتهما المشوشة والمضطربة بسبب سوء الفهم بينهما، يتوق إليها فيليس لإعادة التواصل مع ذكرياته الشبابية الضاجة بالحركة والحياة، في المقابل صديقه القديم وعدوّه الآن أوريستيس غاضب ومتوتر وحاقد على فيليس لأنه ليست لديه عائلة وليس له حب في حياته، وتقتصر علاقته بالآخرين على أفراد عصابته المدججين بالسلاح ويحذر فيليس من البقاء وينذره بالرحيل والعودة إلى مصر. في النهاية هذا الحنين يقود فيليس إلى حتفه على يد صديقه أوريستيس بعد أن يتركه مرميا على الرصيف، حين يفتش في جيوبه يجد صورته معه في أيام المراهقة مع دراجتهم البخارية.
في فيلم “نوستالجيا” يقدم المخرج مارتوني دراما أكثر وضوحا وإثارة. مع طاقم عمل هائل، وإخراج ممتع وعمل كاميرا ماهر، يثبت فيلم الحنين إلى الماضي أنه فيلم مدهش، إنها قصة مألوفة أكثر ويمكن أن تدور أحداثها في الأزمنة المعاصرة وهي حكاية رجل يعود إلى حيه في نابولي بعد غيبة طويلة وسرعان ما تغمره الذكريات الحزينة، ويجد نفسه مفتونا بالمكان الذي أقسم أنه تركه وراءه. السرد الوارد يعطي الحنين إلى الماضي تركيزا حادا ووضوحا. وبدلا من التصوير في جميع أنحاء مدينة نابولي بأكملها عمل المخرج على تضيق موقع الأحداث في الفيلم وحصره في حي واحد ألا وهو “ريوني سانيتا” وهي منطقة تعاني من الفقر والإهمال الحكومي.
إنه موقع سبق أن عرضه المخرج في فيلمه “عمدة ريوني سانيتا” لعام 2019، المأخوذ عن مسرحية لإدواردو فيليبو بالعنوان نفسه والصادرة عام 1960. في هذا الفضاء الذي يرمز إليه بقوة (بشكل مفرط) يحاول مارتوني (كما هو الحال دائما محاطا بسيناريو إيبوليتا دي ماجو) بطريقة أصلية إضفاء الطابع العالمي على قصته.
الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم، وهي فيليس، الذي لا يعود بعد وفاة والدته إلى زوجته في القاهرة، ولكن مدفوعا بالذكريات يستأنف الاتصال بمعارفه القدامى وينغمس في الحي الذي تهيمن عليه عصابات الكامورا. أوريستيس صديق طفولته القديم الذي أصبح في الوقت نفسه زعيم عصابة شرس، والشخصية الثالثة هي شخصية الكاهن دون لويجي ويتحرك كل منها بطريقتها الخاصة. يتشكل الفيلم تدريجيا بفضل التفاعل بين هذه الشخصيات تماما مثل البيادق على رقعة الشطرنج التي يمكنها مراقبة بعضها البعض من مسافة بعيدة ولمس بعضها البعض، إن التناقض بين واقعية السياق وعالمية الشخصيات يولد مسألة يحتمل أن تكون حبلى بالدراما.
وقد لاقى الفيلم استحسانا كبيرا وأشادت به مجلة “فارايتي” باعتباره “الفيلم الأكثر مكافأة لمارتوني منذ سنوات”. لم تكن سينما مارتوني أبدا حنينا إلى الماضي. وحتى عندما اختار الماضي كحقل للمواجهة، كان دائما يروي زمنا خاصا به تهيمن عليه المفارقة التاريخية والروابط المتزامنة، والنماذج البشرية المتباينة في السلوك والتصرف المسبقة المقلقة. فيلم عن ثقل الماضي وهو تكريم لقيمة الذكريات كأداة لإعادة الاكتشاف الداخلي، إن مواجهة أنفسنا بماضينا تسمح لنا بالارتفاع ليس فقط العقلي، ولكن أيضا المادي والملموس الذي يتغذى من العلاقة المستمرة مع الأماكن والعادات التي تنتمي إلى مجالنا اللاواعي والخفي. ومع ذلك، فإن العودة إلى الوراء ليست بالضرورة رحلة ممتعة، يرسم المخرج مارتوني صورة لمدينة سانيتا النابضة بالحياة والتي تشتهر بالفقر والجريمة ولكن أيضا بالكنائس الرائعة والمباني وهي عنصر قوي في السرد مع نص وسيناريو خلاب ومكثف عن ذكريات الماضي التي تم تمييزها بعناية عن الحاضر باستخدام مرشح بألوان داكنة وبتنسيق جميل.
والفيلم تتويج لقيمة الذكريات والحنين إليها وتستخدم كأدوات لإعادة اكتشاف الذات ومراجعتها وفي مواجهة أنفسنا بماضينا، وتسمح لنا بالارتقاء بالحاضر بالشكل المادي والملموس الذي يعتاش على العلاقة المستمرة مع الأماكن والعادات والوجوه التي تنتمي إلى عالمنا.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
علي المسعود
كاتب عراقي
استعادة الماضي الخطير في مدينة نابولي التي تبدو أكثر رعبا وجمالا.
الأحد 2022/12/11
انشرWhatsAppTwitterFacebook
رجل يحاول أن يعيد اكتشاف ذكرياته ويعيشها
هل تساءلت يوما عن سر الحنين؟ عن سر ذلك الشعور الذي يطاردك عندما تزور بيتك القديم الذي شهد أيام طفولتك أو شبابك وتلك الرائحة المألوفة، غرفتك القديمة، الصور العائلية ومتعلقاتك الشخصية القديمة. هل جربت يوما أن يلتقطك الخيال إلى زمنٍ قد انقضى بالفعل ولكنك تنتمي إليه بكل جوارحك؟ زمن الراحة وتلك الأيام الدافئة، عندما كان كل شيء جيدا وكان الجميع سعداء. هذا تماما ما يأخذنا إليه الفيلم الإيطالي “نوستالجيا“.
المهاجرون والمغتربون عن أوطانهم هم أكثر الناس تعلّقا بأشيائهم في وطنهم.. ويتمنون لو أنهم يستعيدون تلك الحياة ولو للحظات.. إنهم يعيشون حالة “نوستالجيا“.
و”النوستالجيا” كمفهوم هي “الحنين إلى ماض مثالي”، ويمكن وصفها بأنها عملية استرجاع لمشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية.
يغازل المخرج الإيطالي ماريو مارتوني الماضي والحنين إليه في فيلمه “نوستالجيا”. والمخرج سبق أن أخرج أكثر من 30 فيلما منذ العام 1985، ودخل فيلمه “لاموري موليستو” مهرجان كان السينمائي عام 1995، وتنافس فيلمه “نوي كريدتيفامو” عام 2010 على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي السابع والستين. كما تم اختيار فيلمه “ليوباردي” عام 2014 للتنافس على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي الدولي الواحد والسبعين، وفي هذه السنة يعود للتنافس على جوائز مهرجان كان في فيلمه الأخير “نوستالجيا” والذي تم تقديمه في المنافسة في مهرجان كان هذا العام.
في هذا الفيلم يعود المخرج إلى مسقط رأسه مدينة نابولي التي سبق أن قدمها في فيلمه “عمدة ريوني سانيتا” لعام 2019. ويبدأ الفيلم بجملة مقتبسة من المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني “المعرفة تكمن في الحنين”.
عودة إلى الأم
يفتتح الفيلم بمشهد لبطله “فيليس لاسكو” ويقوم بدوره الممثل بييرفرانشيسكو فافينو، مسافرا على متن الطائرة التي تنقله من القاهرة التي عاش فيها حياة هادئة مع زوجته بعد أن حقق النجاح في عمله إلى مسقط رأسه. أسس فيليس هناك شركة مقاولات بمساعدة عمه وحققت نجاحا كبيرا، والواضح أنه اندمج كثيرا مع طريقة الحياة العربية وفي مصر بالتحديد، بل اعتنق الإسلام وتزوج من سيدة مصرية بعد أن ظل لمدة 40 عاما بعيدا عن المكان الذي نشأ فيه في حي سانيتا في مدينة نابولي، فيليس لم يعد إلى نابولي فقط من أجل زيارة والدته المسنة تيريزا (أورورا كواتروتشي)، بل يحاول أن يعيد اكتشاف ذكرياته ويعيشها. ولكن لسوء الحظ في عملية الاستعادة لتلك الذكريات لا تعود الذكريات الحلوة للطفولة إلى الظهور فحسب بل أيضا ذكريات قاتمة وفظيعة.
يعود فيليس إلى نابولي، إلى سانيتا، ليحتضن أخيرا والدته المسنة. في عودته كأجنبي هو بالضبط الحنين إلى ما كان وما كان يمكن أن يكون، والرغبة في إعادة الاتصال بتلك الأماكن وتلك الشخصيات وصنع السلام مع ماضيه، ولكن الأمر لن يكون سهلا.
فقد عاد إلى منزل الصبا بعد فترة طويلة مبتعدا مؤقتا حتى عن زوجته المصرية الجميلة، ولكن أيضا يغمره الشعور بالذنب المرتبط بالماضي. يفاجئ فيليس والدته ويجدها وقد أصبحت عمياء جزئيا، وكذلك تم خداعها من قبل صديقه القديم أوريستي سباسيانو (توماس راغنو) الذي أصبح زعيما لعصابة تتحكم في مصائر أهل الحي وسلب شقتها ونقلها إلى شقة قذرة في الطابق الأرضي ذات إضاءة خافتة في المبنى الذي يعاني من سوء الصيانة.
يدفع هذا الاكتشاف المزعج الابن فيليس إلى البحث عن مسكن جديد ويعثر على شقة كبيرة، يحاول أن يعوض والدته في الأيام الأخيرة من حياتها والعيش بسلام. وهناك مشهد مؤثر عندما يحمل الابن فيليس جسدها العاري الصغير بين ذراعيه ويقوم بتغسيلها وتسريح شعرها. يشعر المشاهد بأن فيليس بعد أكثر من أربعين عاما يعود إلى أمه لمرافقتها نحو الموت، بشفقة وحب وامتنان، بدءا من تلك التحية على حافة الباب وذلك الحمام المغمور في جو من العاطفة المقدسة وتبادل الأدوار بين الأم والابن عند الشيخوخة والذي يعد أجمل صورة في الفيلم بتركيز الضوء (مارتون) على المسافة الجسدية والعاطفية بينهما مما يسمح لنا بفهم أسباب فيليس للعودة بشكل أفضل.
استقر فيليس في القاهرة، حيث تزوج من سيدة مصرية (آرليت) وتقوم بدوها الممثلة المغربية صوفيا السعيدي (لم يتم الكشف عنها كثيرا)، وتعلم اللغة العربية وأصبح مسلما ويعود الآن إلى نابولي لأنه يريد أن يرى والدته التي لم يرها منذ 40 عاما وقد أصبحت امرأة عجوزا ضعيفة. كان عليه أن يراها، على الرغم من ذلك كانت زوجته تدفعه إلى القيام بذلك.
يتحدث المخرج عن مشهد بطله مع والدته، بالقول “عندما يحمل والدته إلى الحمام، يريد فيليس أن يمنح والدته المسنة إحساسا خاصا وعندما تكون مترددة في خلع ملابسها أمامه، يقول لها: تظاهري بأنني صبي صغير، كان هذا المشهد موجودا بالفعل في الرواية (التي كتبها إرمانو ريا). أود أن أقول إنه كان أحد الأسباب التي جعلتني أرغب في صنع هذا الفيلم، في الواقع شعرت على الفور بقوته. ومع ذلك، كان من الصعب محاولة معرفة كيفية تصويره واخترت نهجا جذريا. وقد وجدت هذا المكان مع اختيار لإضاءة شاحبة، أردت أن أظهر يديها وجسدها. سمحت لنفسي بأن أستعين بالذكريات والمشاعر وذاكرة أمي”.
وبينما يحاول رعاية والدته التي تعيش أيامها الأخيرة يلاحظ أن المدينة لم تتغير حيث الصبية يتحركون ليلا على الدراجات النارية للصراع فيما بينهم عبر عصابات ظلت عبر التاريخ تحكم شوارع نابولي وأزقتها. أثناء البحث في أشياء والدته يجد فيليس صورة قديمة له ولصبي مجهول الهوية على دراجة نارية.
تناقضات نابولي
◙ عودة مؤلمة وحنين جارف
يواجه بييرفرانشيسكو فافينو مهمة صعبة تتمثل في تجسيد شعور غامض إلى حد ما وليس دائما ظاهريا للغاية – وهو الشعور الذي يعطي الفيلم عنوانه – لكنه ينجح بشكل مثير للإعجاب، فيليس يبدو رجلا لطيفا وحساسا للغاية يتقدم في محاولاته لإعادة الاتصال بالمدينة التي احتضنت بداية خطواته الأولى، موقفه غير المبالي بالأخطار يجعله ساذجا في نظر الآخرين في الحي، لأنه على الرغم من عاطفته تجاه المكان، من المستحيل أن ننسى مدى خطورة ذلك. وعلى العكس من ذلك تظهر اللقطات الطويلة لفيليس وهو يسير ببطء عبر ساحة أو في أحد الشوارع أنه مرتاح وغير خائف، ولكنها تجعله يبدو ضعيفا ومكشوفا بشكل رهيب. بعد وفاة أمه تيريزا، يقرر البقاء في نابولي وقراره هذا يتقاطع طريقه مع طريق الكاهن دون لويجي راجا (فرانشيسكو دي ليفا) الذي يصارع الأعمال الهمجية للعصابات التي يتزعمها صديقه ( أوريستيس).
يقيم فيليس علاقة صداقة مع الكاهن تلعب دورا كبيرا في حركة الشخصيات. علاقة تبنى على الصراحة والثقة. وأثناء الاعتراف، يكشف له البعض من أسرار الماضي الذي بسببه ترك المدينة وهاجر، وعلى وجه الخصوص، يعترف بالسرقات التي ارتكبها عندما كان صبيا مع أوريستيس. ويعترف بواحدة من هذه وهي قتل صديقه أوريستي الرجل صاحب محل النجارة. ويكون رد فعل الكاهن دون لويجي غير متوقع، حين يطرد فيليس من الكنيسة ويوضح له أن صديقه القديم أوريستيس اليوم هو رئيس خطير لكامورا وهي عصابة الجريمة المنظمة المحلية.
منذ اللحظة التي يخطو فيها فيليس من طائرته القادمة من القاهرة يكتشف جوا من الغرابة، شقة والدته يتغير موقعها في نفس المبنى ولكن الآن تعيش في مكان بائس في الطابق الأرضي، الشوارع مألوفة ولكن الناس ليسوا كذلك، حتى أولئك الذين يتعرفون عليه لديهم ذكريات تختلف عن ذكرياته. هو نفسه أصبح رجلاً مختلفا تماما عن الصبي المراهق الذي فر قبل 40 عاما. والأهم من ذلك أنه ابتعد كثيرا عن جذوره الكاثوليكية ويمتنع الآن عن تناول الكحول.
يستعيد البطل ذكرياته لكنها لا تعود ذكريات حلوة للطفولة إلى الظهور فحسب بل أيضا ذكريات قاتمة وفظيعة
ليس الحنين إلى مدينة نابولي لجمالها وحيويتها فقط، ولكنه الحنين إلى صديقه القديم أوريستيس. وهذا يمثل ماضي بطل الرواية وهو ماض صعب وخطير أيضا، ومن المستحيل عدم الندم عليه لأنها مشاعر حقيقية وصادقة، ومن الواضح أن البطل لم يعد يشعر بها في مكان آخر.
علاقة فيليس بالمكان، بالحي العتيق وبنابولي الكبرى تظل أساسا علاقة نوستالجيا، أي حنين جارف يجعله يستدعي باستمرار الماضي الذي يتداعى في ذهنه على هيئة صور ولقطات لما كان عليه من مرح وانطلاق ومشاغبات ومغامرات أقرب إلى اللهو، أيام شبابه في صحبة رفيق طفولته وصباه وشبابه المبكر “أوريستيس سبسيانو”، فنحن نرى الاثنين على دراجة نارية يجوبان حواري نابولي الضيقة، أو يسبحان في البحيرة، ثم يقومان معا ببعض السرقات الصغيرة.
كان المخرج مارتون بارعا جدا في البناء بدءا من إخلاصه لرواية الكاتب “إرمانو ريا” والتصاعد في الوعي منذ السيناريو، وتذهب الكثير من مزايا النجاح النهائي للفيلم بالتأكيد إلى أداء فافينو الذي يعمل في البداية بلغة إيطالية جامدة إلى حد ما وبلكنة أجنبية، في مشهد آخر نسمع فيه بطل الفيلم وهو يتحدث اللغة العربية مع اللاجئ التونسي ولكن بشكل سيء جدا مما أضعف كثيرا من دوره.
ويظهر لنا الفيلم الروائي الطويل وبطريقة غير عادية مدينة نابولي مختلفة عن المعتاد، حيث تبدو أكثر رعبا، وجمالا بنفس القدر، ولكنها معلقة في طي النسيان الذي لا يسمح بأيّ تغيير أو تطور. يذهب فيليس بحثا عن أماكن الذكريات القديمة ويجدها سليمة ويتعرف عليها بالتفصيل على الرغم من الأربعين عاما من المسافة، يبدو أنها مأهولة بأشباح العصر التي كانت تتعايش بسلام مع السكان الحاليين: مفترق طرق عمره قرون حيث لا تموت التقاليد أبدا وحيث الماضي والحاضر هما في الواقع في صورة واحدة وإطار واحد.
اللقاء والمصير
◙ الصداقة تتحول إلى صراع
في هذا الشريط السينمائي يكشف المخرج ماريو مارتوني بطريقة صادقة وحميمة عن التناقضات التي تسود نابولي، حيث تتعايش القداسة والجنوح، والفقر والنبل، والكوابيس وأعياد الميلاد. تتجه عين الكاميرا دائما إلى فيليس وتغييره المستمر إلى رغبته في البقاء هناك، سذاجته في عدم إدراكه للخطر الذي يحيط به والتضحية بنفسه وكل ما بناه في مكان آخر. هناك سادية تقريبا لإعادة اكتشاف مدينته. “كل شيء كما كان عليه من قبل، لم يتغير شيء. إنه أمر لا يصدق”، هذا ما قاله فيليس لاسكو في مكالمة هاتفية مع زوجته التي بقيت في القاهرة.
لا شيء يمكن قوله أيضا عن توماسو راغنو صديق طفولة فيليس، على الرغم من قلة ظهوره في الفيلم لكنه يعمل بشكل جيد على تطويع الشخصية ليبقى مطبوعا بقوة في الذاكرة، ويظهر للجمهور الجانب الأكثر مأساوية في منطقة سانيتا، ومن خلال لهجة الكلام المحلي والتفاصيل الدقيقة النادرة المخصصة لرجل العصابات، لأنه استطاع أن يترك بصمته في عيون وقلب المشاهد. والفيلم هو اقتباس ممتاز من رواية إرمانو ريا والتي كانت لها نبرة سياسية ونقدية أكثر ولكنها كانت في الأساس بحثا وتحليلا للنفس البشرية من جميع جوانبها.
إن الألفة والحنين من المشاعر السائدة في هذا الفيلم الممتع من خلال ذكريات الماضي هذه، التي يقطعها مارتون مع تجوال فيليس الحالي بعد أن يتم الكشف عن الغرض من عودته. كان أوريستي سباسيانو (توماسو راغنو) أحد أفضل أصدقاء فيليس وهو أخ حقا، كان يركب معه الدراجة ويجوبان شوارع سانيتا، ويسبحان عاريين على الشاطئ ويرتكبان الحماقات والسرقات الصغيرة. في حين هرب فيليس من البلاد بعد حادث مميت، لكن صديقه أوريستيس بقي في المدينة. وبعد أربعين عاما يعرف ببساطة باسم بادمان وأصبح زعيم أخطر عصابة في الحي.
على الرغم من العديد من التحذيرات من السكان الحاليين بما في ذلك الكاهن المحلي دون لويجي ريغا (الذي يلعب دوره فرانشيسكو دي ليفا) والذي أخبره بخطورته ووصف أوريستيس بأنه “رجل عنيف بشكل أعمى” ونصحه بعدم اللقاء به، لكن فيليس يصر على الحديث مع أوريستيس.
يستجوب فيليس صديقا قديما لوالدته حول مكان وجود صديق الطفولة ولكن الرجل يتظاهر بأنه لا يعرف خشية من سطوة زعيم العصابة. تختلف ذكريات فيليس عن زعيم العصابة سيء السمعة عن تقاليد الحي في رأيه، لا يزال لديه هو وأوريستيس الكثير من القواسم المشتركة، إنهما المراهقان اللذان اعتادا على التجول في سانيتا، الأولاد الذين لديهم رابطة أخوية عميقة.
ومع ذلك، في الواقع، هناك دروس يمكن تعلمها من الماضي والذكريات أو الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون فخا، وهذا ما يحدث لفيليس حين تتحول أسابيعه في سانيتا إلى أشهر، ويقرر في النهاية شراء منزل وعدم مغادرته أبدا.
يلتقي فيليس وأوريستيس في نهاية المطاف، ويتسم اللقاء بينهما بالتوتر (يقدم كل من فافينو وراغنو أوريستي أداء مبهرا وقويا)، لكن علاقتهما المشوشة والمضطربة بسبب سوء الفهم بينهما، يتوق إليها فيليس لإعادة التواصل مع ذكرياته الشبابية الضاجة بالحركة والحياة، في المقابل صديقه القديم وعدوّه الآن أوريستيس غاضب ومتوتر وحاقد على فيليس لأنه ليست لديه عائلة وليس له حب في حياته، وتقتصر علاقته بالآخرين على أفراد عصابته المدججين بالسلاح ويحذر فيليس من البقاء وينذره بالرحيل والعودة إلى مصر. في النهاية هذا الحنين يقود فيليس إلى حتفه على يد صديقه أوريستيس بعد أن يتركه مرميا على الرصيف، حين يفتش في جيوبه يجد صورته معه في أيام المراهقة مع دراجتهم البخارية.
في فيلم “نوستالجيا” يقدم المخرج مارتوني دراما أكثر وضوحا وإثارة. مع طاقم عمل هائل، وإخراج ممتع وعمل كاميرا ماهر، يثبت فيلم الحنين إلى الماضي أنه فيلم مدهش، إنها قصة مألوفة أكثر ويمكن أن تدور أحداثها في الأزمنة المعاصرة وهي حكاية رجل يعود إلى حيه في نابولي بعد غيبة طويلة وسرعان ما تغمره الذكريات الحزينة، ويجد نفسه مفتونا بالمكان الذي أقسم أنه تركه وراءه. السرد الوارد يعطي الحنين إلى الماضي تركيزا حادا ووضوحا. وبدلا من التصوير في جميع أنحاء مدينة نابولي بأكملها عمل المخرج على تضيق موقع الأحداث في الفيلم وحصره في حي واحد ألا وهو “ريوني سانيتا” وهي منطقة تعاني من الفقر والإهمال الحكومي.
إنه موقع سبق أن عرضه المخرج في فيلمه “عمدة ريوني سانيتا” لعام 2019، المأخوذ عن مسرحية لإدواردو فيليبو بالعنوان نفسه والصادرة عام 1960. في هذا الفضاء الذي يرمز إليه بقوة (بشكل مفرط) يحاول مارتوني (كما هو الحال دائما محاطا بسيناريو إيبوليتا دي ماجو) بطريقة أصلية إضفاء الطابع العالمي على قصته.
الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم، وهي فيليس، الذي لا يعود بعد وفاة والدته إلى زوجته في القاهرة، ولكن مدفوعا بالذكريات يستأنف الاتصال بمعارفه القدامى وينغمس في الحي الذي تهيمن عليه عصابات الكامورا. أوريستيس صديق طفولته القديم الذي أصبح في الوقت نفسه زعيم عصابة شرس، والشخصية الثالثة هي شخصية الكاهن دون لويجي ويتحرك كل منها بطريقتها الخاصة. يتشكل الفيلم تدريجيا بفضل التفاعل بين هذه الشخصيات تماما مثل البيادق على رقعة الشطرنج التي يمكنها مراقبة بعضها البعض من مسافة بعيدة ولمس بعضها البعض، إن التناقض بين واقعية السياق وعالمية الشخصيات يولد مسألة يحتمل أن تكون حبلى بالدراما.
وقد لاقى الفيلم استحسانا كبيرا وأشادت به مجلة “فارايتي” باعتباره “الفيلم الأكثر مكافأة لمارتوني منذ سنوات”. لم تكن سينما مارتوني أبدا حنينا إلى الماضي. وحتى عندما اختار الماضي كحقل للمواجهة، كان دائما يروي زمنا خاصا به تهيمن عليه المفارقة التاريخية والروابط المتزامنة، والنماذج البشرية المتباينة في السلوك والتصرف المسبقة المقلقة. فيلم عن ثقل الماضي وهو تكريم لقيمة الذكريات كأداة لإعادة الاكتشاف الداخلي، إن مواجهة أنفسنا بماضينا تسمح لنا بالارتفاع ليس فقط العقلي، ولكن أيضا المادي والملموس الذي يتغذى من العلاقة المستمرة مع الأماكن والعادات التي تنتمي إلى مجالنا اللاواعي والخفي. ومع ذلك، فإن العودة إلى الوراء ليست بالضرورة رحلة ممتعة، يرسم المخرج مارتوني صورة لمدينة سانيتا النابضة بالحياة والتي تشتهر بالفقر والجريمة ولكن أيضا بالكنائس الرائعة والمباني وهي عنصر قوي في السرد مع نص وسيناريو خلاب ومكثف عن ذكريات الماضي التي تم تمييزها بعناية عن الحاضر باستخدام مرشح بألوان داكنة وبتنسيق جميل.
والفيلم تتويج لقيمة الذكريات والحنين إليها وتستخدم كأدوات لإعادة اكتشاف الذات ومراجعتها وفي مواجهة أنفسنا بماضينا، وتسمح لنا بالارتقاء بالحاضر بالشكل المادي والملموس الذي يعتاش على العلاقة المستمرة مع الأماكن والعادات والوجوه التي تنتمي إلى عالمنا.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
علي المسعود
كاتب عراقي