ديستوبيا مستقبلية تجنّد الأطفال ضدّ ذويهم
"غزاة الليل".. فيلم خيال علمي بأبعاد إنسانية عميقة عن صراع الاستعباد والتحرّر.
الاثنين 2021/11/22
هلع جماعي ممّا جرى وما سوف يجري
للوهلة الأولى تكاد أفلام الديستوبيا تنفّرك منها وتحسبها في بعض الأحيان أنها تعزف على وتر واحد وتكرّر قضية واحدة وتثير إشكالية مُعادة. ربما يصدق الأمر على الشكل الخارجي للديستوبيا، لكن الوضع سيختلف تماما عندما تلمس تلك الصلة العميقة بما هو وجداني وإنساني مؤثّر وعميق، كما هو الحال مع فيلم “غزاة الليل” للمخرج الكندي دينيس غوليت.
الشعور بالتكرار وأحيانا بالملل إحساس راودني وأنا أتابع المشاهد الأولى لفيلم الخيال العلمي “غزاة الليل” للمخرج الكندي دينيس غوليت الذي يطرح مجدّدا قضية الديستوبيا، لكن هذا التقييم سرعان ما تلاشى مع متابعة مجريات الفيلم وأحداثه وقضيته الإشكالية التي يقع في فخاخها الكثير من المخرجين عندما لا يولون عناية كافية للمشاهد الأولى التي تجتذب الجمهور وتمنحهم دافعا للمتابعة.
والحاصل أننا في هذا الفيلم سوف نعيش في زمن مستقبلي وفي وسط ديستوبيا أرضية تحطّم فيها كل شيء، وعاد سكان تلك البلاد التي يبدو أنها إما الولايات المتحدة أو بلد آخر مجاور له أو من القارة ذاتها، عادوا إلى شكل من الحياة الفقيرة والبائسة إنسانيا.
الفيلم يضع المُشاهد أمام نسيج اجتماعي مات فيه الإنسان وماتت فيه مشاعره حتى بات الابن يقتل أمه بدم بارد
الشخصيتان الرئيسيتان هما نيسكا (الممثلة إيل ميجا) وابنتها واسيس (الممثلة بروكلين هارت)، اللتان سوف تضطلعان بتقديم دراما إنسانية مؤثرة وذات ميزات وجدانية عميقة، فالأم سوف تقحمنا معها مباشرة في جمهورية الأخ الأكبر، إذ تحوّلت البلاد إلى مستعمرة مغلقة ينتشر فيها المدجّجون بالسلاح يفحصون كل واحد على حدة، خاصة منهم الأبناء والبنات المراهقون والمراهقات، إذ يقع الكشف عليهم للتأكّد من أنهم مسجلون ضمن قائمة لا تنتهي من الفتيات والفتيان الذين يجب أن يسلّموا إلى السلطات منذ سن المراهقة، حيث يجري تجنيدهم لينقطعوا انقطاعا تام عن ذويهم.
وهنا تجد نيسكا نفسها مضطرة لتسليم ابنتها بعد إصابتها بجرح يوجب مراجعة المستشفى، وهناك من الممكن أن تكتشف السلطات أن الطفلة ليست مسجلّة لديها.
وانطلاقا من هذا الحدث سنعيش دراما إنسانية مريرة بافتراق الأم عن ابنتها عنوة، وما يلي ذلك من مشاهد تجنيد أولئك الأولاد والبنات ووضعهم في أقفاص معزولة، حيث يتمّ تدجينهم وتعريضهم لعمليات غسل دماغ تنهي علاقتهم بعائلاتهم وبماضيهم.
يستخدم المخرج تلك الصورة التراجيدية للديستوبيا المتمثلة في تحوّل المجتمع إلى كتيبة عسكرية ضخمة، وحيث تحوم الطائرات المسيّرة، فبعضها يلقي الطعام للآلاف من الجياع وبعضها الآخر يراقب والقسم الثالث يقتل ويدمّر.
الفرد المطحون في هذه الدراما سوف تتناهبه العديد من المعضلات، لاسيما وهي تظهر أمامنا من وجهة نظر نيسكا وهي تحوم في العديد من الأماكن المهجورة علها تتمكّن من الاطمئنان على ابنتها، وفي موازاة ذلك سوف تزداد الحالة تفاقما بسبب تفشي فايروس غامض من جهة والقيام بحروب جديدة مجهولة الأسباب مع عدو مجهول من جهة أخرى.
وهكذا تتكاثف العديد من العوامل التي تطيح بكرامة الإنسان الخاضع لسلطة عسكر مقنّعين ومدجّجين بالسلاح، ينتشرون بكثافة في كل مكان ولا يتورّعون عن قتل أيّ شخص يخالفهم أو يقف عائقا أمام تنفيذ أوامرهم.
والحاصل أننا أمام نسيج اجتماعي مات فيه الإنسان وماتت فيه المشاعر الإنسانية لتتحجّر في صورة شديدة القتامة، وحيث الجميع يعيشون حالة من الهلع ممّا جرى وما سوف يجري.
عمليات غسل دماغ تدجّن الأطفال وتدمّر العائلات
وفي مشهد مؤثر للغاية، تلتقي إحدى الأمهات بأحد الحراس المقنّعين وتشكّ في أنه ابنها الذي فارقته صبيا، وتتأكّد من ذلك فعلا، لكنه لن يكترث لتوسّلاتها بعد أن تأتيه الأوامر برميها بالرصاص، وذلك ما يحصل فعلا.
أما على الجهة الأخرى، ولكي تتّضح صورة ذلك المجتمع الذي مزّقته الحروب والمآسي، تظهر فئة من السكان الأصليين للبلاد وهم فئة من المنبوذين الذين يعيشون في مخيمات وسط الغابات والسهوب، ولكن ها هم ينتظمون في مجموعات ضدّ السلطات وكل هدفهم هو تحرير أولئك الصبية المحتجزين في المعسكرات، وهو الأمر الذي يدفع نيسكا للانضمام إليهم على أمل إخراج ابنتها من ذلك الجحيم.
الفيلم يستعرض صورة قاتمة عن الإنسان الذي تستهدفه ماكنة السلطة الغاشمة وتحيله إلى كائن مفرغ من المحتوى
وأما من وجهة نظر الطفلة واسيس، فإنها تتعرّض لسخرية إحدى زميلاتها، فلا تتمالك نفسها وتنتقم منها بضربها بعنف شديد، فيما إدارة المدرسة تتفرّج، ممّا تعدّه نوعا من الشجاعة والشراسة المطلوبة التي تؤدّي إلى منح المزيد من النقاط لتلك المجنّدة التي تفوّقت بشجاعتها على كل زميلاتها.
هذه الصورة التي تمّ رسمها من خلال سلسلة من المشاهد هي صورة الإنسان الذي تستهدفه ماكنة السلطة الغاشمة وتحيله إلى كائن مفرغ من المحتوى وعاجز عن إيجاد سبيل لنفسه، وهو ما سوف نعيش تفاصيله الوجدانية والإنسانية المأساوية، وحيث الضحايا هم الحلقات الأضعف وهم إما الأبناء الصغار والفتيات الصغيرات والأمهات المكلومات بفقد أبنائهنّ وبناتهنّ.
بالطبع هنالك حبكة سينمائية متميّزة تمّ تعزيزها بالمزيد من الحبكات الفرعية، ومنها مثلا نجاح الطفلة واسيس في الخروج من المعسكر الصارم ليتمّ الإمساك بها والزج بها في السجن ثم الإفراج عنها، وانتهاءً بتمكّن والدتها من دخول المعسكر وتحريرها هي وزميلاتها بمساعدة المقاومين من السكّان الأصليين.
ولا شك أن هذه الدراما تقدّم الكثير من العبر والدروس، كما تقدّم زخما إنسانيا مؤثّرا وشخصيات بشرية مشتركة تعاني تلك السطوة والاستلاب، والتي في ذات الوقت تعزف على نمطية الديستوبيا بأشكالها المتعدّدة والتي كان هذا الفيلم من علاماتها المميزة.
طاهر علوان
كاتب عراقي مق
"غزاة الليل".. فيلم خيال علمي بأبعاد إنسانية عميقة عن صراع الاستعباد والتحرّر.
الاثنين 2021/11/22
هلع جماعي ممّا جرى وما سوف يجري
للوهلة الأولى تكاد أفلام الديستوبيا تنفّرك منها وتحسبها في بعض الأحيان أنها تعزف على وتر واحد وتكرّر قضية واحدة وتثير إشكالية مُعادة. ربما يصدق الأمر على الشكل الخارجي للديستوبيا، لكن الوضع سيختلف تماما عندما تلمس تلك الصلة العميقة بما هو وجداني وإنساني مؤثّر وعميق، كما هو الحال مع فيلم “غزاة الليل” للمخرج الكندي دينيس غوليت.
الشعور بالتكرار وأحيانا بالملل إحساس راودني وأنا أتابع المشاهد الأولى لفيلم الخيال العلمي “غزاة الليل” للمخرج الكندي دينيس غوليت الذي يطرح مجدّدا قضية الديستوبيا، لكن هذا التقييم سرعان ما تلاشى مع متابعة مجريات الفيلم وأحداثه وقضيته الإشكالية التي يقع في فخاخها الكثير من المخرجين عندما لا يولون عناية كافية للمشاهد الأولى التي تجتذب الجمهور وتمنحهم دافعا للمتابعة.
والحاصل أننا في هذا الفيلم سوف نعيش في زمن مستقبلي وفي وسط ديستوبيا أرضية تحطّم فيها كل شيء، وعاد سكان تلك البلاد التي يبدو أنها إما الولايات المتحدة أو بلد آخر مجاور له أو من القارة ذاتها، عادوا إلى شكل من الحياة الفقيرة والبائسة إنسانيا.
الفيلم يضع المُشاهد أمام نسيج اجتماعي مات فيه الإنسان وماتت فيه مشاعره حتى بات الابن يقتل أمه بدم بارد
الشخصيتان الرئيسيتان هما نيسكا (الممثلة إيل ميجا) وابنتها واسيس (الممثلة بروكلين هارت)، اللتان سوف تضطلعان بتقديم دراما إنسانية مؤثرة وذات ميزات وجدانية عميقة، فالأم سوف تقحمنا معها مباشرة في جمهورية الأخ الأكبر، إذ تحوّلت البلاد إلى مستعمرة مغلقة ينتشر فيها المدجّجون بالسلاح يفحصون كل واحد على حدة، خاصة منهم الأبناء والبنات المراهقون والمراهقات، إذ يقع الكشف عليهم للتأكّد من أنهم مسجلون ضمن قائمة لا تنتهي من الفتيات والفتيان الذين يجب أن يسلّموا إلى السلطات منذ سن المراهقة، حيث يجري تجنيدهم لينقطعوا انقطاعا تام عن ذويهم.
وهنا تجد نيسكا نفسها مضطرة لتسليم ابنتها بعد إصابتها بجرح يوجب مراجعة المستشفى، وهناك من الممكن أن تكتشف السلطات أن الطفلة ليست مسجلّة لديها.
وانطلاقا من هذا الحدث سنعيش دراما إنسانية مريرة بافتراق الأم عن ابنتها عنوة، وما يلي ذلك من مشاهد تجنيد أولئك الأولاد والبنات ووضعهم في أقفاص معزولة، حيث يتمّ تدجينهم وتعريضهم لعمليات غسل دماغ تنهي علاقتهم بعائلاتهم وبماضيهم.
يستخدم المخرج تلك الصورة التراجيدية للديستوبيا المتمثلة في تحوّل المجتمع إلى كتيبة عسكرية ضخمة، وحيث تحوم الطائرات المسيّرة، فبعضها يلقي الطعام للآلاف من الجياع وبعضها الآخر يراقب والقسم الثالث يقتل ويدمّر.
الفرد المطحون في هذه الدراما سوف تتناهبه العديد من المعضلات، لاسيما وهي تظهر أمامنا من وجهة نظر نيسكا وهي تحوم في العديد من الأماكن المهجورة علها تتمكّن من الاطمئنان على ابنتها، وفي موازاة ذلك سوف تزداد الحالة تفاقما بسبب تفشي فايروس غامض من جهة والقيام بحروب جديدة مجهولة الأسباب مع عدو مجهول من جهة أخرى.
وهكذا تتكاثف العديد من العوامل التي تطيح بكرامة الإنسان الخاضع لسلطة عسكر مقنّعين ومدجّجين بالسلاح، ينتشرون بكثافة في كل مكان ولا يتورّعون عن قتل أيّ شخص يخالفهم أو يقف عائقا أمام تنفيذ أوامرهم.
والحاصل أننا أمام نسيج اجتماعي مات فيه الإنسان وماتت فيه المشاعر الإنسانية لتتحجّر في صورة شديدة القتامة، وحيث الجميع يعيشون حالة من الهلع ممّا جرى وما سوف يجري.
عمليات غسل دماغ تدجّن الأطفال وتدمّر العائلات
وفي مشهد مؤثر للغاية، تلتقي إحدى الأمهات بأحد الحراس المقنّعين وتشكّ في أنه ابنها الذي فارقته صبيا، وتتأكّد من ذلك فعلا، لكنه لن يكترث لتوسّلاتها بعد أن تأتيه الأوامر برميها بالرصاص، وذلك ما يحصل فعلا.
أما على الجهة الأخرى، ولكي تتّضح صورة ذلك المجتمع الذي مزّقته الحروب والمآسي، تظهر فئة من السكان الأصليين للبلاد وهم فئة من المنبوذين الذين يعيشون في مخيمات وسط الغابات والسهوب، ولكن ها هم ينتظمون في مجموعات ضدّ السلطات وكل هدفهم هو تحرير أولئك الصبية المحتجزين في المعسكرات، وهو الأمر الذي يدفع نيسكا للانضمام إليهم على أمل إخراج ابنتها من ذلك الجحيم.
الفيلم يستعرض صورة قاتمة عن الإنسان الذي تستهدفه ماكنة السلطة الغاشمة وتحيله إلى كائن مفرغ من المحتوى
وأما من وجهة نظر الطفلة واسيس، فإنها تتعرّض لسخرية إحدى زميلاتها، فلا تتمالك نفسها وتنتقم منها بضربها بعنف شديد، فيما إدارة المدرسة تتفرّج، ممّا تعدّه نوعا من الشجاعة والشراسة المطلوبة التي تؤدّي إلى منح المزيد من النقاط لتلك المجنّدة التي تفوّقت بشجاعتها على كل زميلاتها.
هذه الصورة التي تمّ رسمها من خلال سلسلة من المشاهد هي صورة الإنسان الذي تستهدفه ماكنة السلطة الغاشمة وتحيله إلى كائن مفرغ من المحتوى وعاجز عن إيجاد سبيل لنفسه، وهو ما سوف نعيش تفاصيله الوجدانية والإنسانية المأساوية، وحيث الضحايا هم الحلقات الأضعف وهم إما الأبناء الصغار والفتيات الصغيرات والأمهات المكلومات بفقد أبنائهنّ وبناتهنّ.
بالطبع هنالك حبكة سينمائية متميّزة تمّ تعزيزها بالمزيد من الحبكات الفرعية، ومنها مثلا نجاح الطفلة واسيس في الخروج من المعسكر الصارم ليتمّ الإمساك بها والزج بها في السجن ثم الإفراج عنها، وانتهاءً بتمكّن والدتها من دخول المعسكر وتحريرها هي وزميلاتها بمساعدة المقاومين من السكّان الأصليين.
ولا شك أن هذه الدراما تقدّم الكثير من العبر والدروس، كما تقدّم زخما إنسانيا مؤثّرا وشخصيات بشرية مشتركة تعاني تلك السطوة والاستلاب، والتي في ذات الوقت تعزف على نمطية الديستوبيا بأشكالها المتعدّدة والتي كان هذا الفيلم من علاماتها المميزة.
طاهر علوان
كاتب عراقي مق