"صار حقيقة" فيلم خيال علمي يشرّح ثنائية الوعي واللاوعي
تجارب عن مراحل النوم تنتهي بالعثور على حياة أخرى.
الاثنين 2021/05/17
انشرWhatsAppTwitterFacebook
خلط مُربك بين الأحلام والكوابيس
الخيال المديد في فيلم "صار حقيقة" يذهب بالمُشاهد بعيدا في قراءة تتغلغل حتى منطقة اللاوعي والأحلام وما يحيط بالشخصيات من مشاعر وأفكار، وهو ما يكشف الكثير من الحاجات والدوافع الإنسانية غير المعلنة. لكنّ السؤال الذي يُطرح هو: كيف يمكن تجسيد كل تلك المشاعر الباطنية والغوص في عالم اللاوعي والأحلام؟
يخوض المخرج أنتوني بيرنز في فيلمه الجديد “صار حقيقة” في عالم اللاوعي والأحلام من خلال اختياره شخصيةً يغوص بواسطتها في ذلك العالم الفسيح والمجهول. والشخصية التي يتم التمهيد لها بما فيه الكفاية هنا، هي الفتاة سارة (الممثلة جوليا ستون) الشابة الصغيرة التي تعيش منعزلة عن كل ما حولها.
تلك العزلة الكاملة سوف ترافقها تداعيات وأحلام هي أقرب إلى الكوابيس، لاسيما وأنها تمضي ليلها مشرّدة عن المنزل الذي تعيش فيه، ومع ذلك فإن الفيلم لن يقدّم لنا أية تفاصيل تتعلق بحياتها العائلية، ولماذا هي تنام في الخلاء وحدَها؟ ولماذا تواجه صعوبة في التركيز في دراستها؟
من هنا سوف ننتقل من خلال حبكة ثانوية إلى منطقة أخرى من عالم سارة الشخصي، فهي تجد بالصدفة إعلانا عن تجارب تجريها الجامعة على عمليات النوم والمصاعب التي تواجه بعض الأشخاص في النوم وما إلى ذلك، فتجدها فرصة لكي تنام على سرير دافئ ظلت تفتقده مع أنها وهي تنام في منزل صديقتها تراودها أحلام تتكرّر عن كائن ملتحف بالسواد يشبه الأشباح.
الفيلم يغوص في اللاوعي الإنساني عبر تجربة تتنقل بين مراحل ما قبل النوم إلى بداياته إلى السبات العميق فالأحلام والكوابيس
تلتحم من خلال شخصية سارة حالتها النفسية ووضعها الاجتماعي وكونها قد تجاوزت سن الثامنة عشرة، فهي في طور تشكّل المدركات، ولهذا يتركها المخرج تمارس يومياتها الطبيعية بعفوية كاملة، بما في ذلك طبيعتها المتمرّدة وهي في حال اليقظة في مقابل هشاشتها وضعفها وهي تعيش كوابيسها المتكرّرة.
تجتاز سارة الاختبارات الضرورية للدخول في تجربة النوم، وقد ارتدت قبّعة موصولة بأسلاك تراقب أداء الدماغ والذبذبات الصادرة عنه، فيما هي تتنقّل بين مراحل ما قبل النوم إلى بداياته إلى النوم العميق وعالم الأحلام والكوابيس وانتهاء باليقظة، بينما هناك كاميرات تراقب النائم طيلة الليل وباحثون يسجّلون كلّ شيء.
على هذه الأرضية سوف ندخل عالم سارة، الشخصية المثقلة بصعوبة ربط عالم الأحلام والكوابيس بالحياة اليومية، وإذ تمضي الليلة الأولى من التجربة بنجاح إلاّ أن ما يلي من ليالٍ سوف تكون هي الكابوس الحقيقي بالنسبة إليها.
ربما يكون وجود شخص ما سوف تسعى سارة لمقاربته مع أحلامها، ذلك هو التحوّل في الوعي والدوافع النفسية وهو ما يبرع فيه المخرج في وسط تلك القتامة اليومية والمشاهد الليلية التي تثقل على سارة، وهي تكتشف أن من يراقبها عبر الكاميرات كانت قد التقته في سهرة ليلية، وأنّه كان يتقرّب إليها، وأنّه هو الآخر كان يراها في حلمه في شكل شبح بالكاد تتّضح ملامحه.
هذه الشخصية الموازية سوف تحيلنا إلى إشكالية تلك العلاقة المرتبكة والغريبة ما بين جيرمي (الممثل لاندون ليبريون)، وكيفية تكوّن تلك العلاقة وسط كل تلك التقاطعات النفسية إلى درجة أن الفريق الذي يجري الأبحاث على ذلك العدد من النائمين يتّهمونه بتخريب البحث برمّته بسبب علاقته مع حالة سارة.
وخلال ذلك يبدو الإيقاع في هذا الفيلم عنصرا مهما وبدا للوهلة الأولى أن هبوطا في الأحداث ومسار السرد الفيلمي مع مرور الوقت سوف يقع، لكن ذلك لم يجد له مكانا في وسط أحداث الفيلم، إذ نجح المخرج في المضيّ في هذه الدراما إلى نهاياتها، بل إنه سوف يقرّب شخصياته حتى وهي تعيش خارج الواقع إلى شرطها الحياتي والواقعي.
وفي عدد من المشاهد المصنوعة بعناية سوف يغوص المخرج في وعي ولاوعي سارة بل إنه ساعة ملامسة تلك المناطق المعتّمة من شخصيتها ستنتابها حالة ممّا يشبه الصرع الذي لم تمر به أية شخصية في تجارب النوم السابقة، وهو ما يوقع القائمين على برنامج الأبحاث في حيرة من أمرهم بل إن البروفيسور المشرف على هذه التجارب سيترك للشخصيات حرية التخلّص ممّا في داخلها من خيالات وأحلام مطمورة في عمق اللاوعي.
يقع التحوّل في قراءة سارة لما يحيط بها بعد أن ترتبط بعلاقة مع جيرمي، والتي ستتطوّر لاحقا إلى نوع من الامتداد الشعوري عندما يصبح وجود جيرمي في الظلمة شبيها بذلك الشبح الذي يراودها في نومها بل إنها تشاهده في تجربة النوم وقد ظهرا معا، وساعتها تتأكّد من صدقية أحلامها وكوابيسها بأن ما كانت تشاهده من خلال ذاتها غير الواعية هو جيرمي نفسه، ولهذا تجد نفسها في حل من ذلك البرنامج البحثي عن حقائق النوم.
وبعد هذا فإن المخرج يمضي بنا إلى تطوّر آخر يرتبط بالشخصية والمتمثل في السير أثناء النوم، وهو ما سوف تعيشه سارة وهي تسير في الليل ليلاحقها جيرمي ويناشد زميلته أنيتا (الممثلة كارلي ريسكي) أن تجلب المعدات لمراقبة التحوّلات الأخيرة لسارة، وفيما هما وسط عتمة الطريق تتكامل حيرته بصددها ويتبيّن له أنها كائن لا يستطيع أن يعيش إلاّ وسط اليقظة والأحلام.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
تجارب عن مراحل النوم تنتهي بالعثور على حياة أخرى.
الاثنين 2021/05/17
انشرWhatsAppTwitterFacebook
خلط مُربك بين الأحلام والكوابيس
الخيال المديد في فيلم "صار حقيقة" يذهب بالمُشاهد بعيدا في قراءة تتغلغل حتى منطقة اللاوعي والأحلام وما يحيط بالشخصيات من مشاعر وأفكار، وهو ما يكشف الكثير من الحاجات والدوافع الإنسانية غير المعلنة. لكنّ السؤال الذي يُطرح هو: كيف يمكن تجسيد كل تلك المشاعر الباطنية والغوص في عالم اللاوعي والأحلام؟
يخوض المخرج أنتوني بيرنز في فيلمه الجديد “صار حقيقة” في عالم اللاوعي والأحلام من خلال اختياره شخصيةً يغوص بواسطتها في ذلك العالم الفسيح والمجهول. والشخصية التي يتم التمهيد لها بما فيه الكفاية هنا، هي الفتاة سارة (الممثلة جوليا ستون) الشابة الصغيرة التي تعيش منعزلة عن كل ما حولها.
تلك العزلة الكاملة سوف ترافقها تداعيات وأحلام هي أقرب إلى الكوابيس، لاسيما وأنها تمضي ليلها مشرّدة عن المنزل الذي تعيش فيه، ومع ذلك فإن الفيلم لن يقدّم لنا أية تفاصيل تتعلق بحياتها العائلية، ولماذا هي تنام في الخلاء وحدَها؟ ولماذا تواجه صعوبة في التركيز في دراستها؟
من هنا سوف ننتقل من خلال حبكة ثانوية إلى منطقة أخرى من عالم سارة الشخصي، فهي تجد بالصدفة إعلانا عن تجارب تجريها الجامعة على عمليات النوم والمصاعب التي تواجه بعض الأشخاص في النوم وما إلى ذلك، فتجدها فرصة لكي تنام على سرير دافئ ظلت تفتقده مع أنها وهي تنام في منزل صديقتها تراودها أحلام تتكرّر عن كائن ملتحف بالسواد يشبه الأشباح.
الفيلم يغوص في اللاوعي الإنساني عبر تجربة تتنقل بين مراحل ما قبل النوم إلى بداياته إلى السبات العميق فالأحلام والكوابيس
تلتحم من خلال شخصية سارة حالتها النفسية ووضعها الاجتماعي وكونها قد تجاوزت سن الثامنة عشرة، فهي في طور تشكّل المدركات، ولهذا يتركها المخرج تمارس يومياتها الطبيعية بعفوية كاملة، بما في ذلك طبيعتها المتمرّدة وهي في حال اليقظة في مقابل هشاشتها وضعفها وهي تعيش كوابيسها المتكرّرة.
تجتاز سارة الاختبارات الضرورية للدخول في تجربة النوم، وقد ارتدت قبّعة موصولة بأسلاك تراقب أداء الدماغ والذبذبات الصادرة عنه، فيما هي تتنقّل بين مراحل ما قبل النوم إلى بداياته إلى النوم العميق وعالم الأحلام والكوابيس وانتهاء باليقظة، بينما هناك كاميرات تراقب النائم طيلة الليل وباحثون يسجّلون كلّ شيء.
على هذه الأرضية سوف ندخل عالم سارة، الشخصية المثقلة بصعوبة ربط عالم الأحلام والكوابيس بالحياة اليومية، وإذ تمضي الليلة الأولى من التجربة بنجاح إلاّ أن ما يلي من ليالٍ سوف تكون هي الكابوس الحقيقي بالنسبة إليها.
ربما يكون وجود شخص ما سوف تسعى سارة لمقاربته مع أحلامها، ذلك هو التحوّل في الوعي والدوافع النفسية وهو ما يبرع فيه المخرج في وسط تلك القتامة اليومية والمشاهد الليلية التي تثقل على سارة، وهي تكتشف أن من يراقبها عبر الكاميرات كانت قد التقته في سهرة ليلية، وأنّه كان يتقرّب إليها، وأنّه هو الآخر كان يراها في حلمه في شكل شبح بالكاد تتّضح ملامحه.
هذه الشخصية الموازية سوف تحيلنا إلى إشكالية تلك العلاقة المرتبكة والغريبة ما بين جيرمي (الممثل لاندون ليبريون)، وكيفية تكوّن تلك العلاقة وسط كل تلك التقاطعات النفسية إلى درجة أن الفريق الذي يجري الأبحاث على ذلك العدد من النائمين يتّهمونه بتخريب البحث برمّته بسبب علاقته مع حالة سارة.
وخلال ذلك يبدو الإيقاع في هذا الفيلم عنصرا مهما وبدا للوهلة الأولى أن هبوطا في الأحداث ومسار السرد الفيلمي مع مرور الوقت سوف يقع، لكن ذلك لم يجد له مكانا في وسط أحداث الفيلم، إذ نجح المخرج في المضيّ في هذه الدراما إلى نهاياتها، بل إنه سوف يقرّب شخصياته حتى وهي تعيش خارج الواقع إلى شرطها الحياتي والواقعي.
وفي عدد من المشاهد المصنوعة بعناية سوف يغوص المخرج في وعي ولاوعي سارة بل إنه ساعة ملامسة تلك المناطق المعتّمة من شخصيتها ستنتابها حالة ممّا يشبه الصرع الذي لم تمر به أية شخصية في تجارب النوم السابقة، وهو ما يوقع القائمين على برنامج الأبحاث في حيرة من أمرهم بل إن البروفيسور المشرف على هذه التجارب سيترك للشخصيات حرية التخلّص ممّا في داخلها من خيالات وأحلام مطمورة في عمق اللاوعي.
يقع التحوّل في قراءة سارة لما يحيط بها بعد أن ترتبط بعلاقة مع جيرمي، والتي ستتطوّر لاحقا إلى نوع من الامتداد الشعوري عندما يصبح وجود جيرمي في الظلمة شبيها بذلك الشبح الذي يراودها في نومها بل إنها تشاهده في تجربة النوم وقد ظهرا معا، وساعتها تتأكّد من صدقية أحلامها وكوابيسها بأن ما كانت تشاهده من خلال ذاتها غير الواعية هو جيرمي نفسه، ولهذا تجد نفسها في حل من ذلك البرنامج البحثي عن حقائق النوم.
وبعد هذا فإن المخرج يمضي بنا إلى تطوّر آخر يرتبط بالشخصية والمتمثل في السير أثناء النوم، وهو ما سوف تعيشه سارة وهي تسير في الليل ليلاحقها جيرمي ويناشد زميلته أنيتا (الممثلة كارلي ريسكي) أن تجلب المعدات لمراقبة التحوّلات الأخيرة لسارة، وفيما هما وسط عتمة الطريق تتكامل حيرته بصددها ويتبيّن له أنها كائن لا يستطيع أن يعيش إلاّ وسط اليقظة والأحلام.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن