"مسافرون".. فيلم خيال علمي ينتصر لغريزة القطيع
فيلم "مسافرن" يقدّم مثالا بليغا عن الغريزة البشرية القائمة على نزعة التفوّق والعنف، ممّا يجعل الصراع يحتدّ بين أكثر من فريق.
الاثنين 2021/05/10
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الكل تحت السيطرة.. إلى حين
يقود الخيال العلمي فضلا عن أمنيات مكتشفي الفضاء الخارجي والمجرات البعيدة إلى إيجاد مستوطنة بشرية يمكن أن يتمّ تأسيسها في أحد الكواكب البعيدة الصالحة للعيش البشري بعد خراب الأرض وما عليها. ضمن هذه الثيمة تتأسّس فكرة فيلم "مسافرون" للمخرج نيل بيرغر.
لنتأمّل صورة هذا العالم الذي نعيش فيه مصحوبا بالأخبار المتشائمة التي تنذر بخرابه لسبب ما، منها الاحتباس الحراري وانتشار الأوبئة وتفشي الصراعات، كل ذلك ينذر بخراب عظيم يدفع الإنسان للبحث عن بديل، وهو يذهب بخياله بعيدا بعد العجز عن إصلاح أوضاع الأرض من جميع جوانبها.
على وفق هذه التمنيات والأحلام وربما الخطط المستقبلية يبني فيلم “مسافرون” فكرته، وهو الفيلم الحادي عشر للمخرج نيل بيرغر، وفي البدء يعلن مؤتمر علمي عن مشروع طموح يمتدّ لقرن من الزمن ويتضمن فكرة ملفتة للنظر، وهي استيلاد جيل من الأطفال من نطف متبرعين، وريثما يصلون إلى ما يقارب سن العاشرة، وخلال ذلك يتم تدريبهم في عزلة عن العالم الخارجي ليتم شحنهم في مركبة فضائية لن تعود إلى الأرض قبل أكثر من 80 عاما.
بالطبع، يعيدنا هذا الفيلم بالذاكرة إلى العديد من الأفلام التي ناقشت قضية تأسيس العبودية وطاعة الأخ الأكبر، وهنا سوف يكون قائد الرحلة بمثابة أخ أكبر، وهو ريتشارد (الممثل كولين فاريل) الذي صار بمثابة الأب والراعي والمربّي لما يقارب ثلاثين طفلا وها هم معه في الرحلة إلى الكوكب المنشود.
رحلة خلاص إلى كوكب مجهول تنتهي بكارثة
لا شك أن ما يستوقفنا منذ المشاهد الاستهلالية هي الطريقة الاحترافية التي يعمل المخرج من خلالها، علما أنه هو نفسه كاتب السيناريو والمنتج في ذات الوقت، وما يلبث أن يتكامل ذلك من خلال العناصر البصرية الأخرى الغزيرة التي حفل بها الفيلم.
ولأن أولئك الفتيان الذي كبروا ونضجوا يُراد ضمنيا أداؤهم لمهامهم التي أتقنوها بالتدريج بمزيد من الطاعة وعدم التمرّد والعصيان، فضلا عن استبعاد الجانب الغريزي، لهذا كله سيدخل في طعامهم عنصر مهدئ سيكون اكتشافه بمثابة الحبكة الثانوية التي سوف تحرّك الأحداث وتصعّدها.
يكتشف كريستوفر (الممثل تاي شريدان) وزميله زاك (الممثل فيون ويتهيد) سرّ ما يعرف بالشراب الأزرق، ويحاولان معرفة حقيقته من خلال مدير الرحلة ريتشارد، إلاّ أنه يتهرّب حتى يقوم بمهمة في خارج السفينة هو وكريستوفر وهناك يتعرّض إلى صعقة كهربائية قاتلة.
قطع ذلك الشراب المهدئ سوف يعيد الفريق إلى طبيعتهم البشرية القائمة على الغريزة ونزعة التفوّق والعنف، وكأننا أمام تجربة مقصودة أُريدت من خلالها دراسة الطبيعة البشرية وكيف يتم تدجينها وتلمّس ردود أفعالها، وهو ما سوف يتفاقم بمجرد انتخاب بديل لريتشارد، وسوف يصوّت غالبية الفريق لصالح كريستوفر كي يكون رئيسا لهم، وهو ما لا يرضي زاك المنافس، والذي يمثل قوة الشر التي لا إمكانية للسيطرة عليها.
الصراعات البشرية لا تنتهي ولو بعد 80 عاما
هنا يؤسّس المخرج لصراع جديد ويبثّ المزيد من الحبكات الثانوية، ومنها مثلا ما تكشفه تسجيلات كاميرات المراقبة بأن موت ريتشارد كان بسبب زاك، وهو ما سوف يعترف به، فضلا عن تحرّشه بعدد من الفتيات وفي المقدّمة سيلا (الممثلة ليلي ديب) التي برصانتها ستواجه تمرّد زملائها وانقيادهم الأعمى إلى زاك.
وهو على أية حال مثال بليغ يقدّمه الفيلم عن الطبيعة البشرية والفطرة القائمة على فكرتي الخوف والطمع، فزاك استطاع تدجين الفريق بتهديدهم بوجود كائن فضائي سوف يفتك بالجميع، وأثار طمعهم بأنه سيمنع الشراب الأزرق، وسيقيم حفلات طعام باذخة على أساس أن طعام الفريق مقنّن لكي يكفي الجميع خلال سنوات، هذا المثال تم الاشتغال عليه نفسيا وجماليا وفي إطار سردي محكم.
ولربما يكون ما شاهدناه من صراعات ثم انطلاق غرائز القطيع بقتل بعضهم البعض والانتقام من بعضهم والتحرش الجنسي بالفتيات كل ذلك جاء في سياق تعبيري عميق الدلالة، أضافت له طريقة وزوايا ومستويات التصوير التي أبدع فيها مدير التصوير التشيلي إينيرك تشيدياك جمالية وقوة في المعنى والرمز، وهو الذي استثمر التصميم والبناء المكاني وحتى ضيق المكان بمستوى رصين وعالي الاحتراف.
ومن جهة أخرى كانت هناك بلاغة في استخدام الحوارات القصيرة والتي كان وجودها ليس إلاّ استكمالا وتتويجا لأفعال الشخصيات وتحرّكاتها، وهو تعبير عن النزعات الفردية المتفجّرة لذلك الطاقم وقد خرج عن السيطرة في انفلات كامل.
ومن جهة أخرى نجد أن البناء السردي الذي تمّ تأسيسه منذ بداية الفيلم قد استمر بنفس المسار مع تصاعد الأحداث تباعا مع أن بعض المشاهد، وخاصة بعد اكتشاف مخبأ الأسلحة بدت مشاهد بسيطة ولا جديد فيها. لكن في المقابل أظهرت تفاقم النزعات والمؤامرات الفردية، وهو ما استطاع ذلك الفريق من الفتيان والفتيات أن يتفوّقوا فيه ويقدّموا أداءً بليغا ومهما.
ولا شك أن محدودية المكان وكون جميع الأحداث طيلة الفيلم كانت تقع في حيز مكاني واحد ضيق، وهو المركبة الفضائية الضخمة إلاّ أن المخرج تمكّن ببراعة من كسر حاجز الرتابة وجعل المكان متكاملا مع الشخصيات وامتدادا لها، وهي متكيّفة تماما في وجودها في ذلك المربع اليومي بل إن إخراج المشاهد وطرق تنفيذها أضافت عناصر جمالية للمكان، ممّا منحنا متعة كبيرة في مشاهدة هذا الفيلم المميّز.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
فيلم "مسافرن" يقدّم مثالا بليغا عن الغريزة البشرية القائمة على نزعة التفوّق والعنف، ممّا يجعل الصراع يحتدّ بين أكثر من فريق.
الاثنين 2021/05/10
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الكل تحت السيطرة.. إلى حين
يقود الخيال العلمي فضلا عن أمنيات مكتشفي الفضاء الخارجي والمجرات البعيدة إلى إيجاد مستوطنة بشرية يمكن أن يتمّ تأسيسها في أحد الكواكب البعيدة الصالحة للعيش البشري بعد خراب الأرض وما عليها. ضمن هذه الثيمة تتأسّس فكرة فيلم "مسافرون" للمخرج نيل بيرغر.
لنتأمّل صورة هذا العالم الذي نعيش فيه مصحوبا بالأخبار المتشائمة التي تنذر بخرابه لسبب ما، منها الاحتباس الحراري وانتشار الأوبئة وتفشي الصراعات، كل ذلك ينذر بخراب عظيم يدفع الإنسان للبحث عن بديل، وهو يذهب بخياله بعيدا بعد العجز عن إصلاح أوضاع الأرض من جميع جوانبها.
على وفق هذه التمنيات والأحلام وربما الخطط المستقبلية يبني فيلم “مسافرون” فكرته، وهو الفيلم الحادي عشر للمخرج نيل بيرغر، وفي البدء يعلن مؤتمر علمي عن مشروع طموح يمتدّ لقرن من الزمن ويتضمن فكرة ملفتة للنظر، وهي استيلاد جيل من الأطفال من نطف متبرعين، وريثما يصلون إلى ما يقارب سن العاشرة، وخلال ذلك يتم تدريبهم في عزلة عن العالم الخارجي ليتم شحنهم في مركبة فضائية لن تعود إلى الأرض قبل أكثر من 80 عاما.
بالطبع، يعيدنا هذا الفيلم بالذاكرة إلى العديد من الأفلام التي ناقشت قضية تأسيس العبودية وطاعة الأخ الأكبر، وهنا سوف يكون قائد الرحلة بمثابة أخ أكبر، وهو ريتشارد (الممثل كولين فاريل) الذي صار بمثابة الأب والراعي والمربّي لما يقارب ثلاثين طفلا وها هم معه في الرحلة إلى الكوكب المنشود.
رحلة خلاص إلى كوكب مجهول تنتهي بكارثة
لا شك أن ما يستوقفنا منذ المشاهد الاستهلالية هي الطريقة الاحترافية التي يعمل المخرج من خلالها، علما أنه هو نفسه كاتب السيناريو والمنتج في ذات الوقت، وما يلبث أن يتكامل ذلك من خلال العناصر البصرية الأخرى الغزيرة التي حفل بها الفيلم.
ولأن أولئك الفتيان الذي كبروا ونضجوا يُراد ضمنيا أداؤهم لمهامهم التي أتقنوها بالتدريج بمزيد من الطاعة وعدم التمرّد والعصيان، فضلا عن استبعاد الجانب الغريزي، لهذا كله سيدخل في طعامهم عنصر مهدئ سيكون اكتشافه بمثابة الحبكة الثانوية التي سوف تحرّك الأحداث وتصعّدها.
يكتشف كريستوفر (الممثل تاي شريدان) وزميله زاك (الممثل فيون ويتهيد) سرّ ما يعرف بالشراب الأزرق، ويحاولان معرفة حقيقته من خلال مدير الرحلة ريتشارد، إلاّ أنه يتهرّب حتى يقوم بمهمة في خارج السفينة هو وكريستوفر وهناك يتعرّض إلى صعقة كهربائية قاتلة.
قطع ذلك الشراب المهدئ سوف يعيد الفريق إلى طبيعتهم البشرية القائمة على الغريزة ونزعة التفوّق والعنف، وكأننا أمام تجربة مقصودة أُريدت من خلالها دراسة الطبيعة البشرية وكيف يتم تدجينها وتلمّس ردود أفعالها، وهو ما سوف يتفاقم بمجرد انتخاب بديل لريتشارد، وسوف يصوّت غالبية الفريق لصالح كريستوفر كي يكون رئيسا لهم، وهو ما لا يرضي زاك المنافس، والذي يمثل قوة الشر التي لا إمكانية للسيطرة عليها.
الصراعات البشرية لا تنتهي ولو بعد 80 عاما
هنا يؤسّس المخرج لصراع جديد ويبثّ المزيد من الحبكات الثانوية، ومنها مثلا ما تكشفه تسجيلات كاميرات المراقبة بأن موت ريتشارد كان بسبب زاك، وهو ما سوف يعترف به، فضلا عن تحرّشه بعدد من الفتيات وفي المقدّمة سيلا (الممثلة ليلي ديب) التي برصانتها ستواجه تمرّد زملائها وانقيادهم الأعمى إلى زاك.
وهو على أية حال مثال بليغ يقدّمه الفيلم عن الطبيعة البشرية والفطرة القائمة على فكرتي الخوف والطمع، فزاك استطاع تدجين الفريق بتهديدهم بوجود كائن فضائي سوف يفتك بالجميع، وأثار طمعهم بأنه سيمنع الشراب الأزرق، وسيقيم حفلات طعام باذخة على أساس أن طعام الفريق مقنّن لكي يكفي الجميع خلال سنوات، هذا المثال تم الاشتغال عليه نفسيا وجماليا وفي إطار سردي محكم.
ولربما يكون ما شاهدناه من صراعات ثم انطلاق غرائز القطيع بقتل بعضهم البعض والانتقام من بعضهم والتحرش الجنسي بالفتيات كل ذلك جاء في سياق تعبيري عميق الدلالة، أضافت له طريقة وزوايا ومستويات التصوير التي أبدع فيها مدير التصوير التشيلي إينيرك تشيدياك جمالية وقوة في المعنى والرمز، وهو الذي استثمر التصميم والبناء المكاني وحتى ضيق المكان بمستوى رصين وعالي الاحتراف.
ومن جهة أخرى كانت هناك بلاغة في استخدام الحوارات القصيرة والتي كان وجودها ليس إلاّ استكمالا وتتويجا لأفعال الشخصيات وتحرّكاتها، وهو تعبير عن النزعات الفردية المتفجّرة لذلك الطاقم وقد خرج عن السيطرة في انفلات كامل.
يعيدنا الفيلم بالذاكرة إلى العديد من الأفلام التي ناقشت قضية تأسيس العبودية وطاعة الأخ الأكبر
ومن جهة أخرى نجد أن البناء السردي الذي تمّ تأسيسه منذ بداية الفيلم قد استمر بنفس المسار مع تصاعد الأحداث تباعا مع أن بعض المشاهد، وخاصة بعد اكتشاف مخبأ الأسلحة بدت مشاهد بسيطة ولا جديد فيها. لكن في المقابل أظهرت تفاقم النزعات والمؤامرات الفردية، وهو ما استطاع ذلك الفريق من الفتيان والفتيات أن يتفوّقوا فيه ويقدّموا أداءً بليغا ومهما.
ولا شك أن محدودية المكان وكون جميع الأحداث طيلة الفيلم كانت تقع في حيز مكاني واحد ضيق، وهو المركبة الفضائية الضخمة إلاّ أن المخرج تمكّن ببراعة من كسر حاجز الرتابة وجعل المكان متكاملا مع الشخصيات وامتدادا لها، وهي متكيّفة تماما في وجودها في ذلك المربع اليومي بل إن إخراج المشاهد وطرق تنفيذها أضافت عناصر جمالية للمكان، ممّا منحنا متعة كبيرة في مشاهدة هذا الفيلم المميّز.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن