لا تعد دمشق أعرق عاصمة في التاريخ فقط، بل هي حاضنة حضارية كبرى وضعت بصمتها في التاريخ الإنساني، واشتهر حرفيوها وصناعها بالفولاذ الدمشقي الذي لا يزال سره مخفيا.
الفولاذ الدمشقي نوع فريد من الجديد الصلب يستخدم في صناعة نصال السيوف والخناجر منذ أوائل العصور الوسطى.
الفولاذ الدمشقي، يُعرف بأنه طريقة فريدة للمعالجة ينتج عنها حزمة ملحومة من شرائط فولاذية بخصائص متنوعة، تجمع بين الصلابة العالية والاحتفاظ لزمن طويل بالحدة والليونة ومقاومة الأحمال الجانبية.
كان توصل الصناع الدمشقيون إلى طريقة مثلى لإنتاج الصلب في المدينة، أحد الإنجازات التقنية الهامة في العصور القديمة.
ويتمثل مبدأ صنع الشفرات الدمشقية في أن قوة لوحين معدنيين على الأقل ملحومين معا بتركيبة مختلفة، أعلى بكثير من المجموع البسيط لنقاط القوة لكل منهما. وتبعا لذلك، يتم توصيل المزيد من لوحات الخصائص المختلفة في حزمة، ما يزيد القوة ويرفع من مستوى المرونة.
انتقلت في القرون الوسطى صناعة السيوف من الهند واستقرت في دمشق التي قدمت نموذجها الفولاذي الفريد الذي لا تزال اسراره مجهولة، رغم الأجهزة والوسائل العصرية المتطورة القادرة على الرصد الدقيق وتحديد المكونات.
يمكن القول إن الغرض الشائع من الفولاذ يتمثل في صناعة الشفرات، والميزة الرئيسة للشفرات تكمن في حدة نصلها، فيما يمكن شحذ شفرة النصل الدمشقي إلى درجة عالية جدا من الحدة، والحفاظ عليها لفترة طويلة.
وفيما يتم طلاء الشفرات الحادة المصنوعة من الفولاذ الكربوني العادي مصل شفرات الحلاقة، عند الشحذ، ولا يمكن شحذها لاحقا، يُشحذ السيف الدمشقي إلى درجة حدة شفرة الحلاقة، ويحتفظ بقدرته على القطع لفترة طويلة. هذه الخاصية ممكنة حين يتوفر للفولاذ في وقت واحد صلابة عالية ولزوجة ومرونة، وحينها فقط يكون شفرة النصل قادرة على الشحذ الذاتي.
وتقول رواية إن سبائك من فولاذ الزهر على شكل الكعك المفروم جلبت من الهند إلى سوريا لتنشأ فيما بعد صناعة الشفرات الدمشقية الفريدة، بما إضافة الصناع من مهارات وابتكارات.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد تحدثت في عام 1981 عن “كشف لغز الفولاذ الدمشقي”، مشيرة إلى أن اثنين من علماء المعادن في جامعة ستانفورد الأمريكية، أثناء عملهما على إنتاج معدن “فائق اللدونة”، اكتشفوا سر الفولاذ الدمشقي.
كشفت تحليلات الفولاذ التي أجراها جيفري وادزورث وأوليغ شيربي، في بحثهما عن شكل عالي المرونة، عن خصائص متطابقة تقريبا مع تلك التي عثروا عليها بعد ذلك في الفولاذ الدمشقي، على الرغم من أن فولاذهما البلاستيكي، أنتج بواسطة أساليب حديثة متطورة.
ولفتت الصحيفة في تقريرها بداية الثمانينيات إلى أن الخصائص الرائعة للفولاذ الدمشقي اشتهرت في أوروبا منذ أن وصل الصليبيون إلى الشرق الأوسط بداية من القرن الحادي عشر، حيث اكتشفوا أن السيوف من هذا المعدن يمكن أن تشق الريشة في الجو، لكنها تحتفظ بحدتها لفترة طويلة.
ويعتقد هذان العالمان كما اشتبه من قبل العلماء الأوائل، أن سر الفولاذ الدمشقي يكمن في وجود نسبة عالية من الكربون، قالا إنها يجب أن تكون من 1 إلى 2 في المائة، مقارنة بجزء بسيط من 1 في المائة في الفولاذ العادي، علاوة على إجراء عمليات تسخين وتبريد خاصة.
على أي حال، لم يقدم هذاان العالمان إلا وجهة نظر علمية محتملة للطريقة التي سُبك بها الفولاذ الدمشقي، الذي يبدو أنه سيبقى صامتا لقرون أخرى محتفظا بما خباه بداخله حرفيو دمشق المهرة من أسرار وطلاسم!