فنانة مغربية تستغل التصوير الصباغي المعاصر بوصفه استفزازا واحتجاجا
لمياء الكرماعي تحتج بفنها وترفع أصوات النساء المنسيات عاليا.
الأحد 2023/01/22
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فنانة تسعى عبر أعمالها إلى وضع المتلقي إزاء حالة صدمة
لم يعد الفن المعاصر معنيا بترسيخ الجماليات المتعارف عليها، ولم يعد الفنانون يسعون إلى كسب إعجاب أو حتى انبهار المتلقي، بل تغيرت جوهريا سمات الفن مع سمة المعاصرة الجديدة، إذ صار الفن ميالا أكثر إلى التفكير والتعبير وحتى الاحتجاج، بما يمثله من صوت إنساني قوي يصدح بقضايا الإنسان ويرفعها عاليا، مهتما في الأساس بالفكرة وصداميتها من أجل بلوغ غاية الفن الحقيقية ألا وهي الإنسان في جوهره قبل أي شيء خارجه.
استطاع التصوير الصباغي المعاصر أن ينقل فن الرسم إلى مستويات لامتناهية، منفتحة حدودها على بعضها البعض، إذ يتميز بتنوع كبير في الأساليب والتقنيات، متأثرا بتطورات المجتمع والثقافة التي يندمج فيها.
وقد اختار العديد من الفنانين المعاصرين الابتعاد عن الأشكال التقليدية للتصوير، واستكشاف عوالم جديدة واستخدام مواد غير متوقعة. وبالتالي، يمكن لهذا التيار الفني المعاصر أن يتخذ أشكالًا عديدة، بدءًا من التجريد وصولا إلى الواقعية، مرورًا بالسريالية والتعبيرية وفن البوب، وما إلى ذلك من التوجهات الفنية. إنه بهذا ينتمي إلى جغرافيا اللاحدود.
العمل مجرد ذريعة
الاستفزاز يمكن استخدامه لانتقاد المجتمع أو للتنديد بالظلم أو لاستكشاف الأفكار غير التقليدية للدعوة إلى التجديد
من الصعب تحديد ما يميز التصوير المعاصر بطريقة عامة، لأنه منذور للتطور باستمرار ويعكس العديد من التأثيرات والميول التي تعبر عن الفن الحالي. ومع ذلك، يمكن القول إنه غالبًا ما يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الفن، الذي يسلط الضوء على ذاتية الفنان المتشظية ووجهة نظره الشخصية حول العالم من حوله.
ولئن كان الفن الكلاسيكي يقاس بالانتماء إلى حركة عامة (الأمة، الدين، التيار المحدد…)، ويُعرّف الفن الحديث بكونه منطلقا من دواخل الفنان وذاتيه الخالصة، فإن الفن المعاصر هو فن التشظي وتعدد الذوات، حيث يصير العمل مجرد ذريعة مثله مثل الفنان، بينما الكلمة الأخيرة عائدة إلى المتلقي (بالجمع) لما يمتلكه من كامل الأحقية في التأويل والقراءة المفتوحة.
وهو ما يتحقق في أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لمياء الكرماعي، التي تتخطى كل المحددات المسبقة التي تضع العمل في خانة محددة ومسبقة، حيث يحضر تزاوج مبهر بين المجرد والمشخص، والسريالي والواقعي، كلٌّ في خدمة الرؤية التي يُراد التعبير عنها. فما الأسلوب والتقنية إلا ذريعة لا هدفا بعينه في الاشتغال على المنجز، الذي يغدو عامرا بالدلالات وقابلية التأويل.
الفن بالاستفزاز
الاستفزاز الفني ليس مجانيا
غالبًا ما يستخدم الاستفزاز في الفن المعاصر كوسيلة لاستنباط رد فعل أو إثارة الفكر أو تحدي الأعراف والاتفاقيات الراسخة. يمكن للفنانين الصباغيين المعاصرين استخدام مجموعة متنوعة من التقنيات للإثارة، مثل اختيار الموضوعات المثيرة للجدل، أو استخدام الوسائط غير التقليدية، أو تنظيم معارضة صادمة.
ويمكن استخدام الاستفزاز لانتقاد المجتمع أو للتنديد بالظلم أو لاستكشاف الأفكار الاستفزازية وغير التقليدية الغاية منها الدعوة إلى التجديد أو إثارة رؤى جديدة لم يُسلط عليها الضوء قط. وفي بعض الحالات يمكن أن ينظر بعض الناس إلى الفن الاستفزازي على أنه صادم أو مسيء، ولكن يمكن أيضًا اعتباره جريئًا وتقدميًا لأنه يمنح الفنان كل إمكانيات التعبير دون حدود ودون التوقف عند البراديغمات المنطبعة والسائدة.
بالتالي، فإن الاستفزاز الفني ليس مجانيًا أبدًا. إذ من خلال مغادرة منطقة الراحة الخاصة به، يسعى الفنان إلى إثارة القلق لدى الإنسان. فالاستفزاز طريقة فعالة للفت الانتباه إلى الذات والموضوع والعمل. فهو ينتمي إلى البراديغم المعاصر، حيث صار الإعلام والإعلام البديل يستغلان تهافت الأفراد نحو الغريب والمجهول والمستفز. ولأن الفن، كل الفن، هو صنيع زمانه كان لا بد أن يستغل الفنان الأمر لصالحه.
تعمل لمياء الكرماعي على إثارة التساؤل والاستفهام في داخل المتلقي وهو يقف ناظرا إلى قوة العمل، بوصفه أرضا أليغورية بامتياز. مما يدفع إلى إعمال إسقاطاته الذاتية والشخصية، من منطلقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتاريخية. فالعمل الفني، وفقا لبانوفسكي، هو لغة بصرية يمكن تحليلها وفهمها انطلاقا من آليات الهيرمينوطيقا (طرق التأويل). وبما أنه لغة فهو خاضع لعملية التلقي، التي يسعى الفنان لأن يجعلها لصالح الفكرة التي يريد إثارتها لدى المشاهد، بوصفه “صانعا للعمل” (مؤولا له)!
في أحد أعمالها الفنية تضع الكرماعي المتلقي إزاء لوحة تبرز فتاة تقف على حافة مائدة صغيرة، على وشك السقوط، بينما تتشبث بسلسلة فولاذية مشدودة إلى الأعلى، وفي الآن نفسه قد شُدّ ثوبها إلى تلك السلسلة. هذه الأنثى، التي تظهر على ملامحها حالة الحزن، والطاولة والسلسلة يسبحون في فضاء مجرد وسائل.
إننا أمام عمل يشد النظر إليه ويستفز المخيلة والقراءة معا، هل ستسقط الفتاة؟ هل ستقوى على المقاومة والتعلق بالحبل المعدني؟ إنها بين نار السقوط ونار الكشف عن عريها الطافح؟ إنها تتمسك بكامل قواها كي لا تسقط وكي لا يُكشف على “مسائها”! كأنها معلقة إلى حبل مشنقة غير مرئي.
يجعلنا هذا العمل، شأنه شأن مجموعة من اللوحات الأخرى، نطرح تساؤلات متعددة متعلقة بالمرأة والمجتمع بشكل خاص؛ أليس العمل الفني مشدودا إلى أسئلة المجتمع بشكل أساسي؟ إن نظرنا إليه بوصفه نتاجا ثقافيا واجتماعيا، أو بتعبير آخر من إنتاج فاعل اجتماعي: الفنان. إنها أنثى تكافح وتكابد في آن واحد، تحاول البقاء واقفة رغم كل تلك الأراضي العائمة التي أسفلها، وإنها بقدر ما تحاول فهي مدفوعة إلى السقوط لا محالة، بل إنها رغم كون مصيرها الوقوع في أراضي المجهول، تتمسك بجسدها (ثوبها): مظهرها وذريعة وجودها.
تعاني المرأة العربية بين نيران التحرر والاحتفاء بجسدها ونيران المجتمع الذي يلقي عليها كل ويلات الفشل الاجتماعي وغيرها، كأنها الشماعة التي يعلق عليها المجتمع إخفاقاته و”سقطاته”، فتصير شيطانا يمشي بيننا، لا بدّ من الحيطة والحذر منه.
تأتي إذن أعمال لمياء الكرماعي باعتبارها وثيقة استفزاز واحتجاج تجاه كل القضايا التي تهين وتنقص من قيمة المرأة في مجتمعاتنا العربية التي تدعي انفتاحها وحداثتها، بينما تطغى عليها الرجعية ونظرات الاحتقار للمرأة وجسدها.
الاحتجاج بالفن
أنثى تكافح وتكابد في آن واحد
غالبا ما يستخدم الفن المعاصر كوسيلة للاحتجاج على الظلم الاجتماعي والسياسي. ويمكن للفنانين استخدام أعمالهم للتنديد بعدم المساواة أو لانتقاد السياسات العامة أو للدعوة إلى التغيير الاجتماعي. كما يمكن استخدام الفن بعدة طرق للاحتجاج، مثل إنشاء أعمال فنية تتناول الموضوعات المثيرة للجدل، أو أداء العروض العامة التي تنقل رسالة سياسية، أو المشاركة في المظاهرات والعروض الفنية. في بعض الحالات، يمكن اعتبار الفن المعاصر تخريبيًا واستفزازيًا، ولكن يمكن أيضًا اعتباره وسيلة لزيادة الوعي بالقضايا المهمة وإثارة النقاش العام.
ومن جهة أخرى، يمكن اعتبار شق مهم مما يُنتج تحت يافطة المعاصرة أعمالا احتجاجية أو تنطوي على رسائل احتجاجية؛ حيث إن الفن هو وسيلة تعبيرية في المقام الأول، وإنه نتاج الذات الإنسانية بكل تشظياتها في علاقتها بالمجتمع والوضع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي. لهذا يرفض بعض المبدعين تسمية “فنانين”؛ وذلك عبر الاعتراض على اعتماد هذا اللقب في المنهج الفني الذي يتبعونه. بينما يزعم بعض الفنانين أنهم “لا يمارسون السياسة” بالشكل الملتزم، ويفضلون تعريف أنفسهم بأنهم “مواطنون مهتمون” بالراهن، سياسيون بالسلب.
لهذا نشأت في الحقل النقدي المهتم بعلاقة النشاط السياسي والحقوقي بالفن، مصطلحات جديدة تحاول توصيف الظاهرة؛ مصطلحات من قبيل “ناشط فني” artiviste و”النشاطية الفنية” artivisme. يمكننا أن نجازف ونصنّف أعمال لمياء الكرماعي ضمن هذه الخانة المعاصرة، المهتمة بجعل جل الأعمال الفنية التي ينتجها الفنان في خدمة الاحتجاج، والنضال من أجل قضايا اجتماعية معينة. الحال هنا قضية المرأة بشكل خاص.
الفن المعاصر هو فن التشظي وتعدد الذوات
تسعى هذه الفنانة عبر أعمالها، ومن خلال “احتجاجات بصرية” فنية، إلى وضع المتلقي إزاء حالة صدمة، الغاية منها جعله يعيد النظر في الوضع الاجتماعي والثقافي الحالي الذي يؤطر المرأة وجسدها. في عمل من أعمالها الصباغية، ودائما في جو صباغي يطغى عليه المزج الساحر بين التجريدي والتشخيصي، بين اللامرئي والمرئي، بين المحسوس والملموس… تعمل الكرماعي على جعلنا ننظر إلى لوحة أفقية، يتوسطها جسد ذكوري مصقول في وضعية رياضية وراقصة (كم تهتم هذه الفنانة برقص البالي!)، يقف على يد بينما يحمل بأنامل أصابع اليد الأخرى قوسا يغدو رمحا وميزانا في آن واحد، رأسه تتدلى منه أنثى بشكل مقلوب بعدما تم تكبيل يديها ورجليها معا، بينما الطرف الآخر من “الرمح” تتدلى منه صفائح ذهبية لامعة.
يصير الرجل هو الحكم والميزان الذي يقيس قيمة المرأة بالذهب (بالمادي الملموس)؛ إذ يتحول الجسد الأنثوي إلى عملة مادية مثله مثل كل المواد الأخرى التي يتم تروجيها في السوق. كأني بالفنانة تحتج ضد “تسليع الجسد الأنثوي” وجعله بضاعة تروّج في الأسواق المعاصرة، تحت ذرائع متعددة، مثل ما تقوم به وسائل الإعلام اليوم التي تستغل جسد الأنثى لصالح الإثارة من أجل ترويج وبيع المنتوج الاستهلاكي.
وبالمقابل، يحمل هذا العمل دلالة عميقة تجاه ما يتكبده الجسد الأنثوي من قيود تكبّله باسم المجتمع وقيمه، حيث يغدو جسد المرأة خاضعا للتقييم الذكوري له مثلما تقيّم السلع بالذهب، بينما كل سهام ورؤوس الرماح تتوجه صوبه وتعمل على إخضاعه وتقييده.
تنتمي أعمال لمياء الكرماعي، إذن، إلى المنجزات الصباغية المعاصرة التي تهدف إلى استفزاز مخيلة ودواخل المتلقي، وجعله يقف أمام لوحات تحتج، أعمال ناشطة فنيا تسعى إلى خلخلة كل المعتقدات القائمة، التي تضع الأغلال وتصنع الأقفاص للجسد، وخاصة الجسد الأنثوي. لكن داخل اشتغال لا يخلو من الكثافة الدلالية والرمزية التي تتغيا تعددية التأويل.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
لمياء الكرماعي تحتج بفنها وترفع أصوات النساء المنسيات عاليا.
الأحد 2023/01/22
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فنانة تسعى عبر أعمالها إلى وضع المتلقي إزاء حالة صدمة
لم يعد الفن المعاصر معنيا بترسيخ الجماليات المتعارف عليها، ولم يعد الفنانون يسعون إلى كسب إعجاب أو حتى انبهار المتلقي، بل تغيرت جوهريا سمات الفن مع سمة المعاصرة الجديدة، إذ صار الفن ميالا أكثر إلى التفكير والتعبير وحتى الاحتجاج، بما يمثله من صوت إنساني قوي يصدح بقضايا الإنسان ويرفعها عاليا، مهتما في الأساس بالفكرة وصداميتها من أجل بلوغ غاية الفن الحقيقية ألا وهي الإنسان في جوهره قبل أي شيء خارجه.
استطاع التصوير الصباغي المعاصر أن ينقل فن الرسم إلى مستويات لامتناهية، منفتحة حدودها على بعضها البعض، إذ يتميز بتنوع كبير في الأساليب والتقنيات، متأثرا بتطورات المجتمع والثقافة التي يندمج فيها.
وقد اختار العديد من الفنانين المعاصرين الابتعاد عن الأشكال التقليدية للتصوير، واستكشاف عوالم جديدة واستخدام مواد غير متوقعة. وبالتالي، يمكن لهذا التيار الفني المعاصر أن يتخذ أشكالًا عديدة، بدءًا من التجريد وصولا إلى الواقعية، مرورًا بالسريالية والتعبيرية وفن البوب، وما إلى ذلك من التوجهات الفنية. إنه بهذا ينتمي إلى جغرافيا اللاحدود.
العمل مجرد ذريعة
الاستفزاز يمكن استخدامه لانتقاد المجتمع أو للتنديد بالظلم أو لاستكشاف الأفكار غير التقليدية للدعوة إلى التجديد
من الصعب تحديد ما يميز التصوير المعاصر بطريقة عامة، لأنه منذور للتطور باستمرار ويعكس العديد من التأثيرات والميول التي تعبر عن الفن الحالي. ومع ذلك، يمكن القول إنه غالبًا ما يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الفن، الذي يسلط الضوء على ذاتية الفنان المتشظية ووجهة نظره الشخصية حول العالم من حوله.
ولئن كان الفن الكلاسيكي يقاس بالانتماء إلى حركة عامة (الأمة، الدين، التيار المحدد…)، ويُعرّف الفن الحديث بكونه منطلقا من دواخل الفنان وذاتيه الخالصة، فإن الفن المعاصر هو فن التشظي وتعدد الذوات، حيث يصير العمل مجرد ذريعة مثله مثل الفنان، بينما الكلمة الأخيرة عائدة إلى المتلقي (بالجمع) لما يمتلكه من كامل الأحقية في التأويل والقراءة المفتوحة.
وهو ما يتحقق في أعمال الفنانة التشكيلية المغربية لمياء الكرماعي، التي تتخطى كل المحددات المسبقة التي تضع العمل في خانة محددة ومسبقة، حيث يحضر تزاوج مبهر بين المجرد والمشخص، والسريالي والواقعي، كلٌّ في خدمة الرؤية التي يُراد التعبير عنها. فما الأسلوب والتقنية إلا ذريعة لا هدفا بعينه في الاشتغال على المنجز، الذي يغدو عامرا بالدلالات وقابلية التأويل.
الفن بالاستفزاز
الاستفزاز الفني ليس مجانيا
غالبًا ما يستخدم الاستفزاز في الفن المعاصر كوسيلة لاستنباط رد فعل أو إثارة الفكر أو تحدي الأعراف والاتفاقيات الراسخة. يمكن للفنانين الصباغيين المعاصرين استخدام مجموعة متنوعة من التقنيات للإثارة، مثل اختيار الموضوعات المثيرة للجدل، أو استخدام الوسائط غير التقليدية، أو تنظيم معارضة صادمة.
ويمكن استخدام الاستفزاز لانتقاد المجتمع أو للتنديد بالظلم أو لاستكشاف الأفكار الاستفزازية وغير التقليدية الغاية منها الدعوة إلى التجديد أو إثارة رؤى جديدة لم يُسلط عليها الضوء قط. وفي بعض الحالات يمكن أن ينظر بعض الناس إلى الفن الاستفزازي على أنه صادم أو مسيء، ولكن يمكن أيضًا اعتباره جريئًا وتقدميًا لأنه يمنح الفنان كل إمكانيات التعبير دون حدود ودون التوقف عند البراديغمات المنطبعة والسائدة.
بالتالي، فإن الاستفزاز الفني ليس مجانيًا أبدًا. إذ من خلال مغادرة منطقة الراحة الخاصة به، يسعى الفنان إلى إثارة القلق لدى الإنسان. فالاستفزاز طريقة فعالة للفت الانتباه إلى الذات والموضوع والعمل. فهو ينتمي إلى البراديغم المعاصر، حيث صار الإعلام والإعلام البديل يستغلان تهافت الأفراد نحو الغريب والمجهول والمستفز. ولأن الفن، كل الفن، هو صنيع زمانه كان لا بد أن يستغل الفنان الأمر لصالحه.
تعمل لمياء الكرماعي على إثارة التساؤل والاستفهام في داخل المتلقي وهو يقف ناظرا إلى قوة العمل، بوصفه أرضا أليغورية بامتياز. مما يدفع إلى إعمال إسقاطاته الذاتية والشخصية، من منطلقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتاريخية. فالعمل الفني، وفقا لبانوفسكي، هو لغة بصرية يمكن تحليلها وفهمها انطلاقا من آليات الهيرمينوطيقا (طرق التأويل). وبما أنه لغة فهو خاضع لعملية التلقي، التي يسعى الفنان لأن يجعلها لصالح الفكرة التي يريد إثارتها لدى المشاهد، بوصفه “صانعا للعمل” (مؤولا له)!
لمياء الكرماعي تعمل من خلال لوحاتها الصباغية على إثارة التساؤل والاستفهام في داخل المتلقي وهو يقف ناظرا إلى قوة العمل
في أحد أعمالها الفنية تضع الكرماعي المتلقي إزاء لوحة تبرز فتاة تقف على حافة مائدة صغيرة، على وشك السقوط، بينما تتشبث بسلسلة فولاذية مشدودة إلى الأعلى، وفي الآن نفسه قد شُدّ ثوبها إلى تلك السلسلة. هذه الأنثى، التي تظهر على ملامحها حالة الحزن، والطاولة والسلسلة يسبحون في فضاء مجرد وسائل.
إننا أمام عمل يشد النظر إليه ويستفز المخيلة والقراءة معا، هل ستسقط الفتاة؟ هل ستقوى على المقاومة والتعلق بالحبل المعدني؟ إنها بين نار السقوط ونار الكشف عن عريها الطافح؟ إنها تتمسك بكامل قواها كي لا تسقط وكي لا يُكشف على “مسائها”! كأنها معلقة إلى حبل مشنقة غير مرئي.
يجعلنا هذا العمل، شأنه شأن مجموعة من اللوحات الأخرى، نطرح تساؤلات متعددة متعلقة بالمرأة والمجتمع بشكل خاص؛ أليس العمل الفني مشدودا إلى أسئلة المجتمع بشكل أساسي؟ إن نظرنا إليه بوصفه نتاجا ثقافيا واجتماعيا، أو بتعبير آخر من إنتاج فاعل اجتماعي: الفنان. إنها أنثى تكافح وتكابد في آن واحد، تحاول البقاء واقفة رغم كل تلك الأراضي العائمة التي أسفلها، وإنها بقدر ما تحاول فهي مدفوعة إلى السقوط لا محالة، بل إنها رغم كون مصيرها الوقوع في أراضي المجهول، تتمسك بجسدها (ثوبها): مظهرها وذريعة وجودها.
تعاني المرأة العربية بين نيران التحرر والاحتفاء بجسدها ونيران المجتمع الذي يلقي عليها كل ويلات الفشل الاجتماعي وغيرها، كأنها الشماعة التي يعلق عليها المجتمع إخفاقاته و”سقطاته”، فتصير شيطانا يمشي بيننا، لا بدّ من الحيطة والحذر منه.
تأتي إذن أعمال لمياء الكرماعي باعتبارها وثيقة استفزاز واحتجاج تجاه كل القضايا التي تهين وتنقص من قيمة المرأة في مجتمعاتنا العربية التي تدعي انفتاحها وحداثتها، بينما تطغى عليها الرجعية ونظرات الاحتقار للمرأة وجسدها.
الاحتجاج بالفن
أنثى تكافح وتكابد في آن واحد
غالبا ما يستخدم الفن المعاصر كوسيلة للاحتجاج على الظلم الاجتماعي والسياسي. ويمكن للفنانين استخدام أعمالهم للتنديد بعدم المساواة أو لانتقاد السياسات العامة أو للدعوة إلى التغيير الاجتماعي. كما يمكن استخدام الفن بعدة طرق للاحتجاج، مثل إنشاء أعمال فنية تتناول الموضوعات المثيرة للجدل، أو أداء العروض العامة التي تنقل رسالة سياسية، أو المشاركة في المظاهرات والعروض الفنية. في بعض الحالات، يمكن اعتبار الفن المعاصر تخريبيًا واستفزازيًا، ولكن يمكن أيضًا اعتباره وسيلة لزيادة الوعي بالقضايا المهمة وإثارة النقاش العام.
ومن جهة أخرى، يمكن اعتبار شق مهم مما يُنتج تحت يافطة المعاصرة أعمالا احتجاجية أو تنطوي على رسائل احتجاجية؛ حيث إن الفن هو وسيلة تعبيرية في المقام الأول، وإنه نتاج الذات الإنسانية بكل تشظياتها في علاقتها بالمجتمع والوضع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي. لهذا يرفض بعض المبدعين تسمية “فنانين”؛ وذلك عبر الاعتراض على اعتماد هذا اللقب في المنهج الفني الذي يتبعونه. بينما يزعم بعض الفنانين أنهم “لا يمارسون السياسة” بالشكل الملتزم، ويفضلون تعريف أنفسهم بأنهم “مواطنون مهتمون” بالراهن، سياسيون بالسلب.
لهذا نشأت في الحقل النقدي المهتم بعلاقة النشاط السياسي والحقوقي بالفن، مصطلحات جديدة تحاول توصيف الظاهرة؛ مصطلحات من قبيل “ناشط فني” artiviste و”النشاطية الفنية” artivisme. يمكننا أن نجازف ونصنّف أعمال لمياء الكرماعي ضمن هذه الخانة المعاصرة، المهتمة بجعل جل الأعمال الفنية التي ينتجها الفنان في خدمة الاحتجاج، والنضال من أجل قضايا اجتماعية معينة. الحال هنا قضية المرأة بشكل خاص.
الفن المعاصر هو فن التشظي وتعدد الذوات
تسعى هذه الفنانة عبر أعمالها، ومن خلال “احتجاجات بصرية” فنية، إلى وضع المتلقي إزاء حالة صدمة، الغاية منها جعله يعيد النظر في الوضع الاجتماعي والثقافي الحالي الذي يؤطر المرأة وجسدها. في عمل من أعمالها الصباغية، ودائما في جو صباغي يطغى عليه المزج الساحر بين التجريدي والتشخيصي، بين اللامرئي والمرئي، بين المحسوس والملموس… تعمل الكرماعي على جعلنا ننظر إلى لوحة أفقية، يتوسطها جسد ذكوري مصقول في وضعية رياضية وراقصة (كم تهتم هذه الفنانة برقص البالي!)، يقف على يد بينما يحمل بأنامل أصابع اليد الأخرى قوسا يغدو رمحا وميزانا في آن واحد، رأسه تتدلى منه أنثى بشكل مقلوب بعدما تم تكبيل يديها ورجليها معا، بينما الطرف الآخر من “الرمح” تتدلى منه صفائح ذهبية لامعة.
يصير الرجل هو الحكم والميزان الذي يقيس قيمة المرأة بالذهب (بالمادي الملموس)؛ إذ يتحول الجسد الأنثوي إلى عملة مادية مثله مثل كل المواد الأخرى التي يتم تروجيها في السوق. كأني بالفنانة تحتج ضد “تسليع الجسد الأنثوي” وجعله بضاعة تروّج في الأسواق المعاصرة، تحت ذرائع متعددة، مثل ما تقوم به وسائل الإعلام اليوم التي تستغل جسد الأنثى لصالح الإثارة من أجل ترويج وبيع المنتوج الاستهلاكي.
وبالمقابل، يحمل هذا العمل دلالة عميقة تجاه ما يتكبده الجسد الأنثوي من قيود تكبّله باسم المجتمع وقيمه، حيث يغدو جسد المرأة خاضعا للتقييم الذكوري له مثلما تقيّم السلع بالذهب، بينما كل سهام ورؤوس الرماح تتوجه صوبه وتعمل على إخضاعه وتقييده.
تنتمي أعمال لمياء الكرماعي، إذن، إلى المنجزات الصباغية المعاصرة التي تهدف إلى استفزاز مخيلة ودواخل المتلقي، وجعله يقف أمام لوحات تحتج، أعمال ناشطة فنيا تسعى إلى خلخلة كل المعتقدات القائمة، التي تضع الأغلال وتصنع الأقفاص للجسد، وخاصة الجسد الأنثوي. لكن داخل اشتغال لا يخلو من الكثافة الدلالية والرمزية التي تتغيا تعددية التأويل.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي