دلير محمد شريف فنان يبحث في الحقائق الباطنة للوجود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دلير محمد شريف فنان يبحث في الحقائق الباطنة للوجود

    دلير محمد شريف فنان يبحث في الحقائق الباطنة للوجود


    شخوص تدور في فلك كركوك لتصور الذات المقدسة في نظرية الخلق.
    الاثنين 2023/01/23

    فنان يرسم نساء ورجالا من كركوك

    ابتعد الفنان الكردي دلير محمد شريف عن عالم المحاماة ليصنع لنفسه عالما مليئا بالشخوص والألوان المستوحاة من مدينته كركوك، من طبيعتها ومن معاناة سكانها، كاشفا عن كنوز خيالية وواقعية توثق بصمته الخاصة في الفن التشكيلي.

    وأنا أبحث عن الفنانين التشكيليين في كركوك، التقطت عيناي اسم دلير محمد شريف، اسما ليس غريبا على مسامعي. وحين حاولت ملامسة تجربته وجدت نفسي مبحرا في عوالمه، بين ألوانه وحكاياتها. وشعرت بحماس شديد كي أقاربها قراءة، فبدأت بالغوص في أعماقها علني أكشف عن بعض كنوزه، لكن الأمر الذي أذهلني لا تجربته المتميزة والتي سنقف عندها في قراءتنا هذه، لكن الذي أذهلني هو وقوفي على كنوز تشكيلية كركوكية والكم الهائل من الفنانين التشكيليين والفنانات التشكيليات في المدينة، فكركوك بحق تحتضن من الينابيع الفنية ما ينعش الروح والقلب معا.

    من خلال تجوالي بين أعمال دلير، وتصفحي لأحد حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي خطفني منشور بقلم الفنان التشكيلي حسين كاكائي يسرد فيه أكثر من مئة وأربعين اسما تشكيليا من أبناء كركوك، الحالة كانت لي أشبه بمن يبحث عن فلذ من الذهب فيقف على منجم منه، نعم منجما حقيقيا لا يجف. سبق أن نهلت منه بعضا من شذراته على أمل أن نستمر حتى نخرج كل ما يخبئه لنا ذلك المنجم، فسبق أن كتبت عن تجارب لبعض الأسماء، فكتبت عن تجربة مدحت كاكائي، وآميد شريف، وفلاح شوان، وحسين كاكائي، وبرهان صالح، وآري بابان، وآراس طالب، ونورالدين أمين، وصدرالدين أمين، وسعيد إسماعيل، وسامان أبوبكر، وتارا خليل، وفاطمة العبيدي، وروناك عزيز، هذا ما أسعفتني به الذاكرة الآن. نعم حاولت أن أبحث عن أسماء أخرى علني أوفق في مقاربتها، أو لعلني سهوت ونسيت اسما مهما وليس من العدل أن أنساه.

    هالني هذا الكم من الفنانين التشكيليين وأسعدني جدا، فكل واحد منهم هو ينبوع عذب. وكم من ينابيع عذبة تنبع من كركوك، وكم هو النهر الذي يصبون معا فيه كبير وغزير. نعم الرقم ليس بسيطا، وسيكون هناك من سقط اسمه سهوا، الرقم بقدر ما أسعدني أدهشني أيضا ورفع من جرعة بحثي عنهم والكتابة عن تجارب كل منهم، فشكرا صديقي حسين كاكائي على هذا التوثيق، وشكرا الأستاذ دلير شريف الذي كنت سببا في العثور عليهم. كنت أبحث عن أعمالك علني أوفق في قراءتها ومقاربة تجربتك بما يترتب عليها بحثيا ومعرفيا، وها إني أفعلها هنا في هذه المادة التي بين أيدينا، وتحولت إلى بوابة جميلة عبرها قد أدخل إلى عوالم الفنانين في كركوك واحدا إثر آخر، إذا تكرمت السماوات علينا عمرا وبركة.

    الشخصيات التي يشتغل عليها دلير تسمح له بالانحراف عن المعايير المعتادة، بل هو يخلق معاييره الخاصة به

    يزودنا دلير محمد شريف (كركوك – 1972) بتجليات تفيض منها عالما تبلور فيه الزمان والمكان، وصورا تشير إلى مكامن الأفعال الإبداعية التي نبحث عنها. يظهر هذا للخارج كما للداخل كحالة تمثل قيما فنية تنبثق من إشاراته الداعمة لوجهة نظره بأن الفن لغة الآلهة، وثمرة من روحانياتها يوصل الإنسان إلى المكمن الباطني للحقائق التي تبقى موضوعا تشغل الإنسان من مولده إلى مماته.

    ويمتلك دلير إلى جانب ذلك خلفية اجتماعية وإنسانية ستزوده بدورها بمواقف وفضائل نابعة من صميم تجربته الفنية، لا كمرشد لها، بل لإيجاد منابع تلك الحقائق التي ستحدد علاقته مع الآخر/المتلقي، العلاقة التي تكون محجوبة في حالاتها الاعتيادية، العلاقة التي ستدرك لاحقا كجسر غير مرئي بينه وبحواسه العشر وبين تلك الحقائق ووقائعها المثالية، مصاغا بالخصائص الجزئية الموجودة في وعاء عمله الفني.

    هذه الصِّلة لا تقلل من قيمة عمله، بل ترفع من رؤيته وقدرتها على توجيه وسائله بوفرتها نحو تميزها وفرادتها، نحو التأكيد بأن الفنان مهما قارب العام، ومهما أصغى له، فهي إبداعات وإلهامات فردية، وهذا ما يوصله أقصد الفنان إلى المكمن الباطني للفن وما يرتكز عليه، لخلق مناخ متوازن ينسجم مع ما يبثه من رسائل، لإيجاد محيط قادر أن يزوده بما يمكن أن نسميها الحقيقة الناقصة والمفقودة في الآن ذاته، أو الوجه الحكمي لها، الوجه الذي ينبع من ذاته، تلك الذات المقدسة في نظرية الخلق.

    وبقدر ما يهتم الفنان بالحقائق الباطنية بقدر ما كانت لها مرآة خارجية ترى على السطوح، وبفضل تلك الخزائن التي منها يتناول الفنان خمره المعتق ليبدأ في شربها وهو يصاحب ثمار تجربته، كنعمة تفيض منها، كأنغام أبدية بها تنتشي نفس دلير شريف ومتلقيه معا في رحلتهما الإبداعية والقرائية الموجزة.

    نرى أن الشخصيات التي يشتغل عليها دلير تسمح له بالانحراف عن المعايير المعتادة، بل هو يخلق معاييره الخاصة به، فهذا التغيير وهذا الاجتهاد من صلب العملية الإبداعية التي يجب أن يتحلى بها كل فنان يبحث عن التميّز، فهو يظهر شخصياته برقاب طويلة مثلا، وهذه من الإشارات التي يخز بها متلقيه و يخبره بهمس بأن إنساننا الكردي، الرجل على نحو خاص، والمرأة على نحو أخص يملك من الشموخ شموخ جبالهم التي تحميهم من غدر الزمن ووحوشه، يملك من الكبرياء ما قد يناطح السحاب، فمهما جارت الظروف على الأكراد، ومهما خانهم التاريخ تبقى نفوسهم عزيزة عليهم.

    بهذه الشفاعة المقدسة التي يرتكز عليها دلير وبما تحمله تلك الشخصيات من دلالات إنسانية وجمالية يصوغ طقوسها وما يدخل عليها من عناصر عاطفية تمثله وتظهر بشكل مباشر كمشاعر حزن أو ألم أو أمل. وتتجلى كذلك حين يخترق بها وبانتظام أحلام اليقظة، والليل والنهار.

    كل هذا يسمح للفنان بنوع من التمرد على عوامل داخلة في التشكيل ولها صلة خاصة بنفوس شخصياته وبمنابع القوة لديها، والتي تجد إلهامها في احتياجات تلك النفوس لروح الارتباط بينها وبين صانعها. وهذا يوصلها بمدد روحي بكل تجلياتها.


    شخصيات تنحرف عن المعايير الفنية


    في سياق ذلك يحتفي دلير بتأصيل بعض المواقف وبعض الإمكانيات الفنية في نفوس تلك الشخصيات وهي تبتكر بصمتها في حضور ما هو متعلق بوجودها الجمالي، فهو يقوم بإحداث الحال وفي موقف من هم أقرب إلى قلب مشهديته التي هي نتاج عوامل إبداعية. لهذا تحتاج إلى التأمل في مجمل مقطوعاتها حتى تصل إلى النشوة المطلوبة، ولكي نصور بشكل أوضح يكفي الإشارة بأن الفن نعمة من السماء رغم أنه من صنع البشر، ومن الحكمة أن يوصلنا ذلك إلى الحياة التي ينشدها الجميع دون ضغائن ودون قلق وخوف.

    من الممكن الآن أن ننظر إلى تلك المقاييس التي بها نقيس تجربة دلير، التي قد تختلف جزئيا عن تلك المقاييس التي بها نقيس تجارب الآخرين، فقيمة ولاء عمله وبقيمها المختلفة لا يتعين عليها إلا أن تكون مصباحاً يضيء كل جديد فيها، فهو يبذل جهدا مضاعفا ليمضي في سرد قائمة مفرداته، ويجد من ذلك أمرا حسنا، فلديه سوية تخييلية مرتفعة من الثقة بالنفس تجعله نشطا طيلة الوقت، بعيدا عن الإرهاق رغم انشغاله الدائم في أشياء ما، باحثا عن مفتاح ما لصنع نوع فعال من أعمال بمهارات حقيقية مقارنة مع الآخرين، بمهارات قابلة أن تحقق ذاتها وما ينبعث منها من لحظات إدراكية بسيطة تحكم بكيفية استجابتنا لها.

    في الوقت ذاته تتزاحم الأفكار لدى الفنان حين يبدأ العمل بطريقته الخاصة، ويستولي عليه قلق من نوع ما يمكن وصفه بالقلق الذي لا بد أن يحضر حين يبدأ المخاض، أقول يستولي عليه ذلك القلق حين يواجه فضاءاته البيضاء، وتحضر كل مسؤولياته تجاه نتائج ما ستتمخض عنه تلك المواجهة، فكل محركات اللوحة تجره وفق حاجات البحث الفعلية، إضافة إلى كم من الموضوعات التي تقع على عاتقه والتي تضج في داخله فتستيقظ على تلك المساحات الممدودة أمام نظراته الغارقة في مسافاتها، ومهما تجنب بدء العمل، لا بد أن يفعلها وحين تشن عليه الصور والأفكار والحكايات وكأن الصندوق الأسود فيه انفتح على مصراعيه لتبدأ الحكايات بالتدفق.

    لا صعوبات الآن، ولا خوف من النتائج فالمولود قادم لا محال، ومحاولات الانطلاق بدأت بحصد الثمار وجمعها. يجد الفنان نفسه أمام عمل استيقظت روحه، واستيقظت فيه روح الفنان أيضا، كل منها تتحدث للأخرى عن لحظات حياتها المجنونة.

    دلير محمد شريف هو محام ورجل قانون، من خريجي كلية الحقوق في جامعة صلاح الدين، لكن الألوان والريش سرقته من ذلك العالم ليمضي به إلى عالم آخر، عالم الفن والإبداع والخلق، فقدم الكثير من المعارض الفردية.

    وشارك في العديد من المعارض الجماعية في معظم مدن كردستان العراق، بدءا من كركوك ومرورا بأربيل وشقلاوة، والسليمانية. وفي كل معرض كان يقدم جرحا من جراحه الكثيرة، مبرزا فيها آلامه وآماله، وجعله اختلاف الفضاءات في كل مرة يقدم ما يتكامل مع ما سبقه وينفعل فيها ومعها، فهو إزاء رؤى خاصة وتصورات خاصة بعيدا عن المألوف، قريبا من المختلف، وهذا هو الطريق الذي يبحث عنه كل فنان يريد أن تكون له بصمته الخاصة.


    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X