رنا حتمل بين التشكيل وهندسة العمارة٠٠
الإنسان والطير وخواء مساحات التجريد ٠٠
بقلم: أديب مخزوم
تنتمي الفنانة التشكيلية المهندسة رنا حتمل Rana Hatmal ، لأسرة فنية وثقافية، فهي ابنة الفنان الراحل ألفريد حتمل، ولقد بدأت برسم الأشياء المحيطة بها، وصولاً الى مرحلة تبسيط الأشكال الإنسانية والطيور، التي تجعلها متداخلة مع المساحات الهندسية المسطحة، والمحددة بخطوط مستقيمة، والتي تأخذ، في أحيان كثيرة، أشكال المربعات والمستطيلات والمكعبات.
فالتشكيل الفني الذي تبحث عنه في هذه المرحلة يبدو في مظهره التعبيري والرمزي أقرب الى الرؤية الخيالية، ولقد أخذت فيها الأجساد والطيور تتجه نحو الاختزال والعفوية، وتبعاً لضرورات التأليف التشكيلي والبحث الفني.
والملاحظ في تجاربها التي قدمتها في السنوات الأخيرة، تركيزها لإظهار تدرجات اللون الرمادي، وهي تعمل لإعطاء شخوص لوحاتها ومساحاتها التجريدية خصوصية ومناخية أسلوبية مميزة، كما تأخذ المساحات اللونية أحياناً، شكل الجدار القديم بخشونة ملامسها، وهذا يقربها أكثر فأكثر من تطلعات وثقافة فنون العصر.
زمن الهندسة اللاتقليدية ..
رنا حتمل مهندسة معمارية وجدت نفسها في الفن التشكيلي (حائزة على دكتوراه في التصميم المعماري من جامعة دمشق 2015 عن بحث الجماليات في العمارة المعاصرة، وحالياً طالبة دكتوراه في سيميولوجيا العمارة الرقمية اللوغاريتمية) .. ولقد شاركت بمعارض جماعية عديدة، داخل سورية وخارجها،إضافة لمعارضها الفردية. والعلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الهندسة والتشكيل تظهر في لوحاتها بشكل واضح، فالتشكيل الهندسي لا يفارق لوحاتها أبداً، والمتمثل بالمساحات الواسعة، التي تحددها خطوط مستقيمة ومنكسرة، والتي تتجاور أحياناً مع التشكيل الهندسي الفراغي، الذي تضفيه أشكال المكعبات ، كل ذلك بعفوية لونية وخطية تكسر السياق الهندسي والرياضي الصارم المحسوب بنظريات ومعادلات.. وهذا يعطيها المزيد من الحرية في خطوات معالجة الموضوع وتحريك اللون وصياغة المساحات في زمن الهندسة اللاتقليدية، أو الهندسة اللونية العفوية، والكشف الصريح عن الأحاسيس الداخلية, في المظهرين التعبيري والتجريدي ، حيث تبقى محافظة في كل الحالات على نمط معين من الأداء التشكيلي والتلويني.
فهي وان كانت تذهب إلى لونية مفرطة في داخليتها وحسيتها عبر تكوينات خطية وايقاعات عفوية ملطفة, إلا انها تقدم في النهاية لوحة قائمة على عناصر ورموز محددة، لكن بصياغات تشكيلية مختلفة، فتكرار الموضوع عندها هو وسيلة لتطوير الأسلوب ، لأن جل ماتبحث عنه يكمن في التقاط حركات الأشخاص والطيور في حالات متبدلة ومتغيرة.
وهذا يعني أنها تؤكد رغبتها، في هذه المرحلة بالذات ، في البقاء ضمن حدود الأشكال والواقع، وتبوح بعدم رغبتها بالانجراف في الموجة التجريدية الهندسية البحتة, فهي فنانة تعبيرية وتجريدية في وقت واحد، ومهما انفعلت تبقى على صلة بإشارات الموضوع ، وعناصره الحية، التي تقيم علاقة بين الداخل والخارج، لأن تعابير الأشخاص وحركاتهم المتداخلة، على خلفية تجريدية مائلة للسواد، في أقسام من اللوحة، ماهي في النهاية إلا انعكاس لميلودراما الخارج المشحون بالقلق والترقب والألم وانتظار الولادة الجديدة.
تباينات اللون الواحد
وإذا كانت الصياغة العامة تتجه إلى تكريس ألوان محددة , فهذا لا يعني أننا لا نستطيع ملاحظة تلك الدراية والحساسية في معالجة تباينات اللون الواحد وتركيبه وحركته داخل إطار اللوحة، بل أكثر من ذلك تضيف إلى هذه الدرامية ألواناً متوهجة تصل حدود إعطاء الجسد ألوانا خضراء وصفراء وبيضاء وزرقاء وغيرها، ومن هذه الناحية تتجه أكثر فأكثر لكسر السياق التلويني الواقعي، الذي تراه العين في الأبعاد الثلاثة.
واللوحة هنا تفسر إحساسها, فإما أن تكون هادئة أثناء انجاز اللوحة, فتأتي حسب إحساسها الداخلي ملطفة ومحققة وحدة اللون في المساحة، وإما أن تكون عكس ذلك في لوحات أخرى فتكون ألوانها وخطوطها أقل عقلانية, وهذا يعني انها تدرس المساحات اللونية والأشكال والمادة التي تعمل عليها بعناية مركزة للوصول إلى درجة من التوازن التكويني والتشكيل اللوني المحدد.
هكذا أدخلت تأثيرات بصرية وتقنية مميزة في عناصرها التعبيرية والتجريدية، ووصلت في بعض لوحاتها إلى حدود استخدام طبقات اللون الكثيف، وترك تأثيرات ناتجة عن استخدام سماكات لونية في بعض الأماكن . من ناحية أخرى تقدم في أكثرية لوحاتها تداعيات حزينة قادمة من عمق الأحداث المصيرية الكبرى، لتعبر عن مشاعر الحنين وخواء الأمكنة في المدن المدمرة والمهجرة.
كما أن الإنسان الذي تجسده، يبدو وكأنه في حالة انعدام الوزن أو في عالم من صنع مخيلتها الفنية ، ويحمل في ذاته وجع الأمكنة ودمارها في أزمنة الحروب والويلات. وهذا يعني أنها تجسد الشكل الإنساني كرمز وموقف، وكردة فعل عفوية ضد رمادية الواقع، للتعبير عن حالات اليأس والقلق والاختناق . وكل ذلك ضمن مساحات فسيحة ومستوية ومتداخلة ومتقاطعة، ومفصولة أحياناً عن بعضها بخط أبيض .
فراغ الأمكنة
كأن الفراغ المحيط بإنسان لوحاتها ليس سوى أداة لتعميق الحزن الداخلي، في أزمنة الحروب المتواصلة في عمق حياتنا المعاصرة.. فالشيء البارز الذي تكشفه في لوحاتها يكمن في قدرتها على تحويل الصورة التعبيرية إلى رموز بصرية بحتة تتنوع من لوحة إلى أخرى . وإلا ما معنى البقاء والاستمرار والتطور من خلال الارتكاز على موضوع واحد، تبحث من خلاله عن حرية وتلقائية وعن فسحة لطمأنينة مفقودة ومقروءة في ملامح الأجساد الموجوعة والمتعبة والمعذبة والطائرة في أحيان كثيرة، وأيضاً في تركيزها لتجسيد المرأة والرجل في إطلالات مفعمة بالحركة ومعبرة عن حالات الغربة والضياع وهموم الحياة اليومية، والاندماج في كل هذه الحالات والمظاهر في رسم الأجساد والوجوه مع تطلعاتها الأسلوبية والتقنية، التي تتدرج في خط تصاعدي متعاطف مع تطلعات الحداثة.
وتتفاوت لوحاتها القادمة من تأملات حركة العناصر والمشاهد والأشكال ما بين التعبيرية والرمزية ، حيث تغيب الأشكال عن بعض لوحاتها أو تظهر أجزاء منها(كالأطراف مثلاً) وتبرز تداخلات لونية وخطية مختلفة ،في تحولاتها ، كما تهتم في رسم عناصرها المحببة، بإبراز المساحات والضربات المتتابعة والمتجاورة، والتي تظهر في بعض الاحيان ظلال الاشكال وشاعريتها وغنائيتها، مؤكدة من جديد حيوية انفتاحها على جمالية اللوحة الفنية الحديثة والمعاصرة ، في تنويعاتها التعبيرية المتقاربة والمتداخلة.
ــــــــــ صحيفة الثورة أون لاين
الإنسان والطير وخواء مساحات التجريد ٠٠
بقلم: أديب مخزوم
تنتمي الفنانة التشكيلية المهندسة رنا حتمل Rana Hatmal ، لأسرة فنية وثقافية، فهي ابنة الفنان الراحل ألفريد حتمل، ولقد بدأت برسم الأشياء المحيطة بها، وصولاً الى مرحلة تبسيط الأشكال الإنسانية والطيور، التي تجعلها متداخلة مع المساحات الهندسية المسطحة، والمحددة بخطوط مستقيمة، والتي تأخذ، في أحيان كثيرة، أشكال المربعات والمستطيلات والمكعبات.
فالتشكيل الفني الذي تبحث عنه في هذه المرحلة يبدو في مظهره التعبيري والرمزي أقرب الى الرؤية الخيالية، ولقد أخذت فيها الأجساد والطيور تتجه نحو الاختزال والعفوية، وتبعاً لضرورات التأليف التشكيلي والبحث الفني.
والملاحظ في تجاربها التي قدمتها في السنوات الأخيرة، تركيزها لإظهار تدرجات اللون الرمادي، وهي تعمل لإعطاء شخوص لوحاتها ومساحاتها التجريدية خصوصية ومناخية أسلوبية مميزة، كما تأخذ المساحات اللونية أحياناً، شكل الجدار القديم بخشونة ملامسها، وهذا يقربها أكثر فأكثر من تطلعات وثقافة فنون العصر.
زمن الهندسة اللاتقليدية ..
رنا حتمل مهندسة معمارية وجدت نفسها في الفن التشكيلي (حائزة على دكتوراه في التصميم المعماري من جامعة دمشق 2015 عن بحث الجماليات في العمارة المعاصرة، وحالياً طالبة دكتوراه في سيميولوجيا العمارة الرقمية اللوغاريتمية) .. ولقد شاركت بمعارض جماعية عديدة، داخل سورية وخارجها،إضافة لمعارضها الفردية. والعلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الهندسة والتشكيل تظهر في لوحاتها بشكل واضح، فالتشكيل الهندسي لا يفارق لوحاتها أبداً، والمتمثل بالمساحات الواسعة، التي تحددها خطوط مستقيمة ومنكسرة، والتي تتجاور أحياناً مع التشكيل الهندسي الفراغي، الذي تضفيه أشكال المكعبات ، كل ذلك بعفوية لونية وخطية تكسر السياق الهندسي والرياضي الصارم المحسوب بنظريات ومعادلات.. وهذا يعطيها المزيد من الحرية في خطوات معالجة الموضوع وتحريك اللون وصياغة المساحات في زمن الهندسة اللاتقليدية، أو الهندسة اللونية العفوية، والكشف الصريح عن الأحاسيس الداخلية, في المظهرين التعبيري والتجريدي ، حيث تبقى محافظة في كل الحالات على نمط معين من الأداء التشكيلي والتلويني.
فهي وان كانت تذهب إلى لونية مفرطة في داخليتها وحسيتها عبر تكوينات خطية وايقاعات عفوية ملطفة, إلا انها تقدم في النهاية لوحة قائمة على عناصر ورموز محددة، لكن بصياغات تشكيلية مختلفة، فتكرار الموضوع عندها هو وسيلة لتطوير الأسلوب ، لأن جل ماتبحث عنه يكمن في التقاط حركات الأشخاص والطيور في حالات متبدلة ومتغيرة.
وهذا يعني أنها تؤكد رغبتها، في هذه المرحلة بالذات ، في البقاء ضمن حدود الأشكال والواقع، وتبوح بعدم رغبتها بالانجراف في الموجة التجريدية الهندسية البحتة, فهي فنانة تعبيرية وتجريدية في وقت واحد، ومهما انفعلت تبقى على صلة بإشارات الموضوع ، وعناصره الحية، التي تقيم علاقة بين الداخل والخارج، لأن تعابير الأشخاص وحركاتهم المتداخلة، على خلفية تجريدية مائلة للسواد، في أقسام من اللوحة، ماهي في النهاية إلا انعكاس لميلودراما الخارج المشحون بالقلق والترقب والألم وانتظار الولادة الجديدة.
تباينات اللون الواحد
وإذا كانت الصياغة العامة تتجه إلى تكريس ألوان محددة , فهذا لا يعني أننا لا نستطيع ملاحظة تلك الدراية والحساسية في معالجة تباينات اللون الواحد وتركيبه وحركته داخل إطار اللوحة، بل أكثر من ذلك تضيف إلى هذه الدرامية ألواناً متوهجة تصل حدود إعطاء الجسد ألوانا خضراء وصفراء وبيضاء وزرقاء وغيرها، ومن هذه الناحية تتجه أكثر فأكثر لكسر السياق التلويني الواقعي، الذي تراه العين في الأبعاد الثلاثة.
واللوحة هنا تفسر إحساسها, فإما أن تكون هادئة أثناء انجاز اللوحة, فتأتي حسب إحساسها الداخلي ملطفة ومحققة وحدة اللون في المساحة، وإما أن تكون عكس ذلك في لوحات أخرى فتكون ألوانها وخطوطها أقل عقلانية, وهذا يعني انها تدرس المساحات اللونية والأشكال والمادة التي تعمل عليها بعناية مركزة للوصول إلى درجة من التوازن التكويني والتشكيل اللوني المحدد.
هكذا أدخلت تأثيرات بصرية وتقنية مميزة في عناصرها التعبيرية والتجريدية، ووصلت في بعض لوحاتها إلى حدود استخدام طبقات اللون الكثيف، وترك تأثيرات ناتجة عن استخدام سماكات لونية في بعض الأماكن . من ناحية أخرى تقدم في أكثرية لوحاتها تداعيات حزينة قادمة من عمق الأحداث المصيرية الكبرى، لتعبر عن مشاعر الحنين وخواء الأمكنة في المدن المدمرة والمهجرة.
كما أن الإنسان الذي تجسده، يبدو وكأنه في حالة انعدام الوزن أو في عالم من صنع مخيلتها الفنية ، ويحمل في ذاته وجع الأمكنة ودمارها في أزمنة الحروب والويلات. وهذا يعني أنها تجسد الشكل الإنساني كرمز وموقف، وكردة فعل عفوية ضد رمادية الواقع، للتعبير عن حالات اليأس والقلق والاختناق . وكل ذلك ضمن مساحات فسيحة ومستوية ومتداخلة ومتقاطعة، ومفصولة أحياناً عن بعضها بخط أبيض .
فراغ الأمكنة
كأن الفراغ المحيط بإنسان لوحاتها ليس سوى أداة لتعميق الحزن الداخلي، في أزمنة الحروب المتواصلة في عمق حياتنا المعاصرة.. فالشيء البارز الذي تكشفه في لوحاتها يكمن في قدرتها على تحويل الصورة التعبيرية إلى رموز بصرية بحتة تتنوع من لوحة إلى أخرى . وإلا ما معنى البقاء والاستمرار والتطور من خلال الارتكاز على موضوع واحد، تبحث من خلاله عن حرية وتلقائية وعن فسحة لطمأنينة مفقودة ومقروءة في ملامح الأجساد الموجوعة والمتعبة والمعذبة والطائرة في أحيان كثيرة، وأيضاً في تركيزها لتجسيد المرأة والرجل في إطلالات مفعمة بالحركة ومعبرة عن حالات الغربة والضياع وهموم الحياة اليومية، والاندماج في كل هذه الحالات والمظاهر في رسم الأجساد والوجوه مع تطلعاتها الأسلوبية والتقنية، التي تتدرج في خط تصاعدي متعاطف مع تطلعات الحداثة.
وتتفاوت لوحاتها القادمة من تأملات حركة العناصر والمشاهد والأشكال ما بين التعبيرية والرمزية ، حيث تغيب الأشكال عن بعض لوحاتها أو تظهر أجزاء منها(كالأطراف مثلاً) وتبرز تداخلات لونية وخطية مختلفة ،في تحولاتها ، كما تهتم في رسم عناصرها المحببة، بإبراز المساحات والضربات المتتابعة والمتجاورة، والتي تظهر في بعض الاحيان ظلال الاشكال وشاعريتها وغنائيتها، مؤكدة من جديد حيوية انفتاحها على جمالية اللوحة الفنية الحديثة والمعاصرة ، في تنويعاتها التعبيرية المتقاربة والمتداخلة.
ــــــــــ صحيفة الثورة أون لاين