Julie Youssef
بدت اليابان خلال الستّينيات كمصنع ضخم، حيث اعتُبر النموّ الاقتصاديّ بؤرة الاهتمام الرئيسيّة. ظهرت عمارة جديدة تُعرف باسم عمارة الميتابوليزم أو العمارة الاستقلابية metabolism. وسرعان ما انتشرت دوليًا وأثّرت على التخطيط الحضريّ والعمرانيّ للعالم.
ماذا يقصد بالعمارة الاستقلابية metabolism؟
تعدّ «العمارة الاستقلابية – Metabolism» حركةً معماريةً ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان. دمجت الهياكل العملاقة مع النموّ البيولوجيّ العضويّ، وتأثّرت بالنظريّات الماركسية والعمليات البيولوجية الطبيعية. أسّسها مجموعة من المعماريّين الشباب الطموحين العازمين على تحدّي الوضع الراهن وترسيخ وجودهم ضمن العمارة الدولية. وشملت حركة العمارة الاستقلابية مجموعةً من المعماريّين من بينهم «كيونوري كيكوتاكي-kiyonori kikutake»، و«فوميهيكو ماكي-fumihiko maki»، و«كيشو كوروكاوا-kisho kurokawa». ونشروا البيان الرسمي الخاصّ بهم في مؤتمر التصميم العالمي في طوكيو لعام 1960 (ختام المؤتمر الدولي للعمارة الحديثة CIAM).
أسباب نشوء العمارة الاستقلابية metabolism
تزامن انتشار العمارة الاستقلابية مع أسرع فترة لتطوّر اليابان، حيث سعت جاهدةً خلال الخمسينيات لإعادة بناء البلاد بعد الحرب. تعدّدت المشاكل التي واجهتها خلال تلك السنوات؛ مثل نقص المساكن، والتأخّر في إعادة بناء المصانع، والاهتمام بالهوية الوطنية للبلاد بعد الهزيمة. شدّدت الحكومة -جراء ذلك- على أهمّيّة تمكين الاقتصاد، فقلل التركيز على النموّ الاقتصادي من مشاكل الإسكان. فتحدّدت أبعاد المنازل في أصغر ما يمكن، حيث فضّلوا الكمّيّة على النوعية. نتيجةً لذلك تشكّل نسيج حضري مجزأ وضخم في مدن اليابان، ممتلئ بملاجئ صغيرة وغير مريحة. تبعا لذلك، شهدت البلاد تحوّلًا حادًا من المجتمع الريفيّ إلى المجتمع الحضريّ المضغوط في فترة زمنية قصيرة. لذلك سعى معماريو العمارة الاستقلابية -بشكل رئيسي- إلى إيجاد حلول جذرية لمشكلة المدن المزدحمة. ووضعوا كذلك منهجيات تخطيط جديدة للمدن عوضًا عن منهجيات عمارة الحداثة، ورجّحوا التصميم الصناعي على التصميم الجمالي.مبادئ العمارة الاستقلابية metabolism
حاولت العمارة الاستقلابية إقامة صلّة بين الثقافة اليابانية والعمارة المعاصرة، عن طريق استيعاب القيم الغربية وإنتاج نماذج مناسبة لتقاليد الثقافة اليابانية. وتشير كلمة metabolism إلى النمو والعالم البيولوجي، وبصفة عامة إلى عدم الثبات والتحولات المستمرة. وكان الهدف الأوّل هو التشديد على الفكرة الأساسيّة للتغيُّر الذي لا نهاية له، والذي يحدث داخل الكائن الحيّ وفي بيئته المحيطة.
اعتقد معماريو العمارة الاستقلابية أن العمارة لا ينبغي أن تكون ثابتةً، بل قادرةً على إجراء التغييرات الاستقلابية. فطوّروا هياكل ومشاريع تتألّف من عناصر متحرّكة بدلًا من التفكير في الأشكال والوظائف الثابتة.[3]
خصائص العمارة الاستقلابية
استخدام «شبكة قياس-module».
الاستفادة من العناصر مسبقة الصنع.
القدرة على التكيُّف، واستخدام البُنى التحتيّة الأساسيّة القويّة.
استخدام الوسائل التقنيّة العالية في معظم المشاريع.
اعتُبرت مسألة الجماليّات ذات أهمّيّة قصوى فتوجّه المعماريّون نحو الاستعارات البيولوجيّة في رسوماتهم. لكن استخدام الموادّ الجديدة كالخرسانة المسلّحة والإطارات المعدنية جعلت الأعمال المنتجة بعيدةً عن المرونة المطلوبة.
مركز شيزوكا للصحافة والإذاعة
بني «مركز شيزوكا للصحافة والإذاعة -the Shizuoka press and broadcasting center» عام 1967، وهو من من تصميم «كنزو تانغه-kenzo tange». يمتلك مركز شيزوكا أهمّيّة أكبر بكثير ممّا يوحي به حجمه الصغير نسبيًا، لأنه يضمّ مفاهيم العمارة الاستقلابية.
يقع المركز في طوكيو، وقد ألهمَ شكل الموقع الثلاثي الضيّق -بمساحة 186 م2– كنزو لأن يصمم بنية شاقولية. يتكوّن المركز من نواة كبنية أساسيّة، والتي يمكن أن تتطوّر إلى بنية ضخمة بسبب إمكانية توصيل عدد متزايد من الكبسولات الجاهزة إليها. والنواة عبارة عن اسطوانة بقطر 7.7م، ويصل ارتفاعها إلى 57م، وتحتوي على سلالم ومصاعد ومطبخ ومرافق صحّيّة في كلّ طابق. ويصل المستخدِم عبر النواة إلى الوحدات المكتبيّة التي صمّمت على شبكة قياس كصناديق من الزجاج الناتئ والفولاذ. يتخلّل التصميم فجوات ممّا يسمح بإمكانيّة وصل وحدات جديدة، وهي فكرة لم تتحقّق أبدًا إذ يحتوي الهيكل اليوم على ذات كمّيّة الوحدات عند إنشائه لأوّل مرّة.
ما هي المدن حسب عمارة Metabolism؟
استخدمت العمارة الاستقلابية جسم الإنسان كاستعارة للمدينة. ونظروا إليها على أنها بنّيّة تتكوّن من عناصر (خلايا) تولد وتنموّ ثمّ تموت بينما يستمرّ الجسم بأكمله في الحياة والتطوّر. وتأسّست المدن لديهم على مبدأين رئيسيّين؛ الأوّل عدّ المجتمع كيانًا حيًا وقابلًا للتغيُّر، والثاني وجوب قيادة عملية التحوّل في المجتمع عن طريق التقانة وهندسة العمارة والتخطيط الحضري. وفي حين أعطى كيكوتاكي وكوروكاوا أهمّيّةً كبيرةً لاستخدام التقانات الجديدة كأداة لإدارة المدن الحديثة، أعطى ماكي المزيد من الاعتبار للعلاقة بين المباني والبنيّة الحضرية المحيطة بها.
انتقادات كثيرة
بالرغم من أن المجموعة أنشأت كجبهةً موحّدةً، لكن المؤسّسين حملوا مجموعةً من المخاوف التي منعتهم من التقدّم كحركة واحدة بعد ظهورهم لأوّل مرّة. وغالبًا ما يتّهم النقّاد معماريي metabolism بأنهم يفتقرون إلى الشعور بالبهجة التي نجدها في أعمال «الأرشيغرام-Archigram». قد تبدو المقارنة بينهم سهلةً ظاهريًا، لكن في حين استمرّت الأرشيغرام بنشر مقالات جذّابة وغير معقولة، استخدم معماريو العمارة الاستقلابية سمعتهم المنشأة حديثًا لإنشاء لجان واسعة النطاق، وسرعان ما أصبحوا مشتّتين عن توليد رسومات مستقبلية إضافية. علاوةً على ذلك، فإن المقالات المترجمة إلى اللغة الإنجليزية بدت مبتذلةً وصعبة الفهم، إذ استُبدلت الفكاهة بصياغة جافّة. كما مالت الصحافة الدولية إلى تجاهل أعمالهم. نتيجةً لكلّ ذلك لم تدم الحركة طويلًا، فاستمرت قرابة عقد من الزمن فقط.
مدن المستقبل
لطالما بحث معماريو العمارة الاستقلابية عن أفكار جديدة لمدن المستقبل، وتساءلوا عن شكلها النهائي. وكان جوابهم هو عدم وجود شكل ثابت في العالم النامي، لكنهم أملوا أن يخلقوا شيئًا يستطيع أن يتجدّد وينمو حتّى بعد تدمره.