أزمة النشر العربي بين الورق الآفل والنشر الإلكتروني
راسم المدهون 14 ديسمبر 2022
سير
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان صباحًا شتائيًا دمشقيًا باردًا حين دخل رجل في منتصف الخمسينات من عمره وعرّفني على نفسه بأنه "الشاعر فلان". قال بثقة تليق بسني عمره: لدي عشر مجموعات شعرية وأريدكم أن تنشروها لي، وقبل أن أبدي أية ردة فعل على كلماته سارع وقال: لا أريد لنفسي قرشًا واحدًا من ريعها.
أعترف اليوم أن كل ما قاله "كوم" وموضوع "الريع" كان كومًا آخر.
واضح أنه كان يعتقد خطأ أن الأمة من المحيط إلى الخليج تتيه زهوًا بالشعر والشعراء وأنها سوف "تلتهم" نسخ "أعماله الكاملة" وتفرغها من رفوف المكتبات بعد ساعات قليلة من صدورها. كانت المسافة بين ما قاله وبين الواقع شاسعة إلى درجة أنني لم أعرف من أين أبدأ، ولا كيف أقارب ما قاله بشيء من التعقل والواقعية.
ليس مهما أن أذكر هنا ما قلته وما دار بيننا في ذلك الصباح الشتائي القارس فالأهم عندي أن معضلة النشر التي كانت مستعصية وكؤودًا في تلك الأيام من سبعينيات القرن الفائت أصبحت اليوم في حجم كوارثنا القومية الكبرى.
منذ تلك الأيام ترسَخت تقاليد نشر تقوم على أن يدفع المؤلف الأدبي تكاليف طباعة كتابه كي يضمن الناشر مسبقًا حقوقه، أما حقوق ذلك المؤلف فهي ليست موجودة أصلًا أو أنه يصعب الاعتراف بها.
حين نشرت مجموعتي الشعرية الأولى عام 1983 منحني الناشر مائة نسخة منها وبعد أيام قليلة قال لي إن مجموعتي كاسدة ولم يستطع أن يبيع منها نسخة واحدة، قلت: لا بأس، ولكن كم طبعت أنت؟ قال ثلاثة آلاف.
قلت له بسرعة سأقوم فورًا بعد النسخ الموجودة والتي يجب بحسب قولك أن تكون 2900 نسخة وما يقل عن هذا الرقم هو "مبيعات سرية" لا تعترف بها أنت. هنا بالذات صارحت الرجل أنني أعرف وسائله وأساليبه في التوزيع والتي لا تعتمد على جودة الشعر بقدر اعتمادها على علاقاته وأساليبه، وهو كلام جعله يهدأ ويسألني: ماذا تريد؟ وقبل أن أجيبه قال بسرعة: خذ مائة نسخة أخرى مجانًا.
هي لعبة "القط والفأر" توم وجيري، وهي لعبة تأسَست واستمرَت على حقيقة لا جدال فيها هي حقيقة عزوف المواطنين العرب عن القراءة، لكن الانطلاق من هذه الحقيقة يذهب في اتجاه تضخيمها إلى حدود تجعل بيع أي كتاب أمرًا يفوق الصعوبة إلى الاستحالة ما يجعلني كل مرَة أكرر سؤالي لبعض أصدقائي من الناشرين: لماذا وكيف تستمرون في عملكم؟ هل أنتم تعشقون الخسارة مثلًا؟ أم أن العناية الإلهية أرسلتكم كي تكونوا "أنبياء" الثقافة والفكر الذين يضحون بالغالي والنفيس في سبيل رفعة الثقافة ومجدها؟
تلك أسئلة واقعية لا يجيب عنها الناشرون سوى باستخدامها وسيلة ناجعة لـ"إخضاع" الكاتب العربي وإرغامه خصوصًا في بدايات مشواره الأدبي على القبول بـ"الحل السحري" الوحيد للخروج من المأزق وهو أن يقوم بدفع تكاليف النشر مسبقًا وتبدأ بعد ذلك "المساومة الكبرى" حول عدد النسخ التي يحق للمؤلف الحصول عليها وعدد النسخ التي تظل من حق الناشر والتي هي ثمن وضع إسم دار النشر التي يملكها على الكتاب.
في سبعينيات القرن الفائت نشرت مجلة "الحرية" تحقيقًا صحافيًا عن أزمات النشر، أجاب خلاله عدد من أصحاب دور النشر اللبنانية على أسئلة كثيرة تتناول الموضوع كان من بينها سؤال حول أكثر الكتب التي نشرها توزيعًا، وفي ذلك التحقيق أجاء صاحب دار نشر كبرى على السؤال بأنه كتاب صادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة" ولتأكيد رأيه ذكر أنه قد أصدر ثلاث عشر طبعة من الكتاب وهو اعتراف ما لبث أن واجهه به المؤلف الذي لم يكن قد تسلم قرشًا واحدًا عن كل تلك الطبعات التي كان الناشر ينكرها ويصر على أن الكتاب لم ينجح.
للخروج من تلك المحنة الكبرى بدأت اتحادات الكتاب تتبنى نشر بعض مؤلفات أعضائها خصوصًا من الشباب وقد حققت التجربة نجاحًا محدودًا لم يتجاوز حدود إيصال بعض نسخ الكتاب كهدايا من المؤلف لأصدقائه ولبعض القراء في المناسبات الأدبية فيما تظل نسخ الكتاب كلها مكدسة في مستودعات الاتحاد. في أواخر عام 1989 أصدر الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني" بالفرنسية وفيه بعض قصائدي. كانت ملاحظتي على اختيارات اللعبي أنها كان يمكن أن تكون أفضل لأنها لم تقدم ما أعتقدت يومها أنه الأهم لدي. بعد ذلك وفي حديث في بيت الشاعر الراحل أحمد دحبور عرفت السر. قال أحمد ديوانك الأخير كان "مكدسًا" في مستودع الاتحاد الذي يقع في مكان يبعد عن العاصمة التونسية أكثر من أربعين كيلومترًا ولم يجد عبد اللطيف اللعبي من يتبرع بإحضار نسخة له أو على الأقل يأخذه الى الاتحاد. هكذا "اضطر" الشاعر اللعبي لاختيار قصائد لك من مجلة "الكرمل"، وتأكيدا على ما قال أحضر من مكتبته نسخة مجلة الكرمل وعليها هوامش وملاحظات مكتوبة بالخط المغربي.
في دهاليز "لعبة النشر" سألت الراحل الدكتور سهيل إدريس مرة: من هو الأقل توزيعًا من الشعراء العرب الذين نشرت لهم؟ قال فلان (ذكر لي اسم شاعر فلسطيني)، وأكد أنه لم يبع نسخًا تتجاوز أصابع اليدين، فسارعت لسؤاله ماذا فعل؟ قال لي: حين يراوح كتاب ما في التوزيع ألجأ عادة للخطة "ب" وهي أن أفرض على كل موزع يطلب منشوراتي لتوزيعها في بلاده أن يحمل عددًا من النسخ الكاسدة وهو لن يرفض لأنه أولًا اعتاد على ذلك ولأنه ثانيًا سيقوم بدوره بتحميل تلك النسخ لأصحاب المكتبات في بلده. هكذا تكون نسخ الكتاب إياه بيعت ولم تبع وكفى الله القراء شرَ القراءة.
كل هذا وكثير غيره عالجه الناشرون وخصوصًا أصحاب دور النشر الكبرى من خلال معارض الكتب التي أصبحت قادرة على تحفيز الرغبة في الشراء عند القراء العرب وهي في الوقت نفسه تلقى إقبالًا كبيرًا من الكتاب لأنها تتيح لهم تسويق منشوراتهم للقارئ مباشرة ودون المرور بدور الوسيط الذي هو في العادة "الموزع" والذي يقول الناشرون إن حصته من ثمن الكتاب تقارب الأربعين في المائة وأكثر أحيانًا. نضيف لذلك التقليد الذي أوجدته المعارض وصار معتادا حتى عند الإصدارات الأخرى في الأيام العادية وأعني به "حفلات التوقيع" التي يقيمها الناشر للمؤلف خصوصا من أصحاب الأسماء اللامعة ونجوم الأدب، والتي تشهد عادة إقبالا أوسع من القراء وانتقلت من المعارض إلى النشر العام فصارت عادة حميدة يلجأ إليها الناشرون والكتاب ويجدون فيها مصلحة مشتركة.
لم يبق إذًا سوى التكنولوجيا
هكذا دخلت شبكة الإنترنت حياتنا الأدبية من أوسع الأبواب. بعد قليل من انتشار الإنترنت تألفت في سياق خيوطه العنكبوتية مواقع ومنتديات بل وصحف يومية ومجلات أسبوعية وشهرية راحت تنشر كل شيء وتمنح الجميع حق أن يكون ناشرًا وإمكانية أن يكون قادرًا على إيصال نتاجاته للقراء والمسألة بعد ذلك مرهونة في نجاحها أو فشلها بقيمة ما يكتب وجدارته باهتمام الآخرين أو عزوفهم عنه.
هي مرحلة كل ما فيها جديد وهي رغم كل ما يقال عن فوضى النشر ومساوئ استخدام الشبكة العنكبوتية في أغراض سيئة، لا تلغي أنها في الوقت ذاته تمكنت من كسر الوصاية على الكتابة وأخرجتها إلى النور الساطع. منذ بدأت تجربتي مع النشر على النت بدأت معها قراءاتي على النت أيضًا، بل إن قراءاتي من الكتب الورقية تقلصت إلى حد كبير إذا قارنتها بقراءاتي الضوئية خصوصًا وأن الحصول على "نسخة إلكترونية" من أي كتاب هي مسألة أسهل بما لا يقاس من انتظار وصول الكتاب إلى حيث أقيم. مئات من الكتب وصلتني خلال سنوات العقدين الماضيين من كتاب أصدقاء وحتى من كتاب لم أكن أعرفهم وقرأتها وكتبت عن كثير منها شرط أن يوفر لي صاحب الكتاب صورة الغلاف.
سيظل لأزمة القراءة دورها الكبير في كل هذا لكن علينا أن نعترف في هذا الزحام أن واحدًا من أهم أسباب قلة القراءة هو ارتفاع ثمن الكتاب منسوبًا لدخل المواطنين العرب وأن شبكة الإنترنت قد ألغت تمامًا هذا وجعلت القراءة ممكنة لمن يريد.
نقول هذا وفي البال أن كثيرًا من الصحف اليومية التي كانت صحفًا كبرى ولها جمهورها اختفت نهائيًا وبعضها اختفى ورقيا وظل موجودًا عبر شبكة الإنترنت محافظًا على علاقته مع قرائه، ما يعزز ما نقول ويشجعنا على إعلاء شأن "الكتاب الإلكتروني" والذي لا يزال عربيًا في بداياته، ولكن القادر في تقديري على الوصول حيث تعجز الكتب الورقية وتنحسر القراءة أو على الأقل تكون في أدنى حالاتها.
نقول عادة إن القراءة عنوان تقدم الأمم ومكانتها في خارطة الحضارة الإنسانية وهو قول صحيح بالتأكيد لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن القراءة وثيقة الصلة في وجودها أو عدمه مع الحالة العامة للمجتمع ومستويات الدخل وما يعيشه المجتمع من استقرار وتنمية اقتصادية.
راسم المدهون 14 ديسمبر 2022
سير
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان صباحًا شتائيًا دمشقيًا باردًا حين دخل رجل في منتصف الخمسينات من عمره وعرّفني على نفسه بأنه "الشاعر فلان". قال بثقة تليق بسني عمره: لدي عشر مجموعات شعرية وأريدكم أن تنشروها لي، وقبل أن أبدي أية ردة فعل على كلماته سارع وقال: لا أريد لنفسي قرشًا واحدًا من ريعها.
أعترف اليوم أن كل ما قاله "كوم" وموضوع "الريع" كان كومًا آخر.
واضح أنه كان يعتقد خطأ أن الأمة من المحيط إلى الخليج تتيه زهوًا بالشعر والشعراء وأنها سوف "تلتهم" نسخ "أعماله الكاملة" وتفرغها من رفوف المكتبات بعد ساعات قليلة من صدورها. كانت المسافة بين ما قاله وبين الواقع شاسعة إلى درجة أنني لم أعرف من أين أبدأ، ولا كيف أقارب ما قاله بشيء من التعقل والواقعية.
ليس مهما أن أذكر هنا ما قلته وما دار بيننا في ذلك الصباح الشتائي القارس فالأهم عندي أن معضلة النشر التي كانت مستعصية وكؤودًا في تلك الأيام من سبعينيات القرن الفائت أصبحت اليوم في حجم كوارثنا القومية الكبرى.
منذ تلك الأيام ترسَخت تقاليد نشر تقوم على أن يدفع المؤلف الأدبي تكاليف طباعة كتابه كي يضمن الناشر مسبقًا حقوقه، أما حقوق ذلك المؤلف فهي ليست موجودة أصلًا أو أنه يصعب الاعتراف بها.
حين نشرت مجموعتي الشعرية الأولى عام 1983 منحني الناشر مائة نسخة منها وبعد أيام قليلة قال لي إن مجموعتي كاسدة ولم يستطع أن يبيع منها نسخة واحدة، قلت: لا بأس، ولكن كم طبعت أنت؟ قال ثلاثة آلاف.
قلت له بسرعة سأقوم فورًا بعد النسخ الموجودة والتي يجب بحسب قولك أن تكون 2900 نسخة وما يقل عن هذا الرقم هو "مبيعات سرية" لا تعترف بها أنت. هنا بالذات صارحت الرجل أنني أعرف وسائله وأساليبه في التوزيع والتي لا تعتمد على جودة الشعر بقدر اعتمادها على علاقاته وأساليبه، وهو كلام جعله يهدأ ويسألني: ماذا تريد؟ وقبل أن أجيبه قال بسرعة: خذ مائة نسخة أخرى مجانًا.
هي لعبة "القط والفأر" توم وجيري، وهي لعبة تأسَست واستمرَت على حقيقة لا جدال فيها هي حقيقة عزوف المواطنين العرب عن القراءة، لكن الانطلاق من هذه الحقيقة يذهب في اتجاه تضخيمها إلى حدود تجعل بيع أي كتاب أمرًا يفوق الصعوبة إلى الاستحالة ما يجعلني كل مرَة أكرر سؤالي لبعض أصدقائي من الناشرين: لماذا وكيف تستمرون في عملكم؟ هل أنتم تعشقون الخسارة مثلًا؟ أم أن العناية الإلهية أرسلتكم كي تكونوا "أنبياء" الثقافة والفكر الذين يضحون بالغالي والنفيس في سبيل رفعة الثقافة ومجدها؟
تلك أسئلة واقعية لا يجيب عنها الناشرون سوى باستخدامها وسيلة ناجعة لـ"إخضاع" الكاتب العربي وإرغامه خصوصًا في بدايات مشواره الأدبي على القبول بـ"الحل السحري" الوحيد للخروج من المأزق وهو أن يقوم بدفع تكاليف النشر مسبقًا وتبدأ بعد ذلك "المساومة الكبرى" حول عدد النسخ التي يحق للمؤلف الحصول عليها وعدد النسخ التي تظل من حق الناشر والتي هي ثمن وضع إسم دار النشر التي يملكها على الكتاب.
في سبعينيات القرن الفائت نشرت مجلة "الحرية" تحقيقًا صحافيًا عن أزمات النشر، أجاب خلاله عدد من أصحاب دور النشر اللبنانية على أسئلة كثيرة تتناول الموضوع كان من بينها سؤال حول أكثر الكتب التي نشرها توزيعًا، وفي ذلك التحقيق أجاء صاحب دار نشر كبرى على السؤال بأنه كتاب صادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة" ولتأكيد رأيه ذكر أنه قد أصدر ثلاث عشر طبعة من الكتاب وهو اعتراف ما لبث أن واجهه به المؤلف الذي لم يكن قد تسلم قرشًا واحدًا عن كل تلك الطبعات التي كان الناشر ينكرها ويصر على أن الكتاب لم ينجح.
للخروج من تلك المحنة الكبرى بدأت اتحادات الكتاب تتبنى نشر بعض مؤلفات أعضائها خصوصًا من الشباب وقد حققت التجربة نجاحًا محدودًا لم يتجاوز حدود إيصال بعض نسخ الكتاب كهدايا من المؤلف لأصدقائه ولبعض القراء في المناسبات الأدبية فيما تظل نسخ الكتاب كلها مكدسة في مستودعات الاتحاد. في أواخر عام 1989 أصدر الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني" بالفرنسية وفيه بعض قصائدي. كانت ملاحظتي على اختيارات اللعبي أنها كان يمكن أن تكون أفضل لأنها لم تقدم ما أعتقدت يومها أنه الأهم لدي. بعد ذلك وفي حديث في بيت الشاعر الراحل أحمد دحبور عرفت السر. قال أحمد ديوانك الأخير كان "مكدسًا" في مستودع الاتحاد الذي يقع في مكان يبعد عن العاصمة التونسية أكثر من أربعين كيلومترًا ولم يجد عبد اللطيف اللعبي من يتبرع بإحضار نسخة له أو على الأقل يأخذه الى الاتحاد. هكذا "اضطر" الشاعر اللعبي لاختيار قصائد لك من مجلة "الكرمل"، وتأكيدا على ما قال أحضر من مكتبته نسخة مجلة الكرمل وعليها هوامش وملاحظات مكتوبة بالخط المغربي.
في دهاليز "لعبة النشر" سألت الراحل الدكتور سهيل إدريس مرة: من هو الأقل توزيعًا من الشعراء العرب الذين نشرت لهم؟ قال فلان (ذكر لي اسم شاعر فلسطيني)، وأكد أنه لم يبع نسخًا تتجاوز أصابع اليدين، فسارعت لسؤاله ماذا فعل؟ قال لي: حين يراوح كتاب ما في التوزيع ألجأ عادة للخطة "ب" وهي أن أفرض على كل موزع يطلب منشوراتي لتوزيعها في بلاده أن يحمل عددًا من النسخ الكاسدة وهو لن يرفض لأنه أولًا اعتاد على ذلك ولأنه ثانيًا سيقوم بدوره بتحميل تلك النسخ لأصحاب المكتبات في بلده. هكذا تكون نسخ الكتاب إياه بيعت ولم تبع وكفى الله القراء شرَ القراءة.
كل هذا وكثير غيره عالجه الناشرون وخصوصًا أصحاب دور النشر الكبرى من خلال معارض الكتب التي أصبحت قادرة على تحفيز الرغبة في الشراء عند القراء العرب وهي في الوقت نفسه تلقى إقبالًا كبيرًا من الكتاب لأنها تتيح لهم تسويق منشوراتهم للقارئ مباشرة ودون المرور بدور الوسيط الذي هو في العادة "الموزع" والذي يقول الناشرون إن حصته من ثمن الكتاب تقارب الأربعين في المائة وأكثر أحيانًا. نضيف لذلك التقليد الذي أوجدته المعارض وصار معتادا حتى عند الإصدارات الأخرى في الأيام العادية وأعني به "حفلات التوقيع" التي يقيمها الناشر للمؤلف خصوصا من أصحاب الأسماء اللامعة ونجوم الأدب، والتي تشهد عادة إقبالا أوسع من القراء وانتقلت من المعارض إلى النشر العام فصارت عادة حميدة يلجأ إليها الناشرون والكتاب ويجدون فيها مصلحة مشتركة.
لم يبق إذًا سوى التكنولوجيا
هكذا دخلت شبكة الإنترنت حياتنا الأدبية من أوسع الأبواب. بعد قليل من انتشار الإنترنت تألفت في سياق خيوطه العنكبوتية مواقع ومنتديات بل وصحف يومية ومجلات أسبوعية وشهرية راحت تنشر كل شيء وتمنح الجميع حق أن يكون ناشرًا وإمكانية أن يكون قادرًا على إيصال نتاجاته للقراء والمسألة بعد ذلك مرهونة في نجاحها أو فشلها بقيمة ما يكتب وجدارته باهتمام الآخرين أو عزوفهم عنه.
هي مرحلة كل ما فيها جديد وهي رغم كل ما يقال عن فوضى النشر ومساوئ استخدام الشبكة العنكبوتية في أغراض سيئة، لا تلغي أنها في الوقت ذاته تمكنت من كسر الوصاية على الكتابة وأخرجتها إلى النور الساطع. منذ بدأت تجربتي مع النشر على النت بدأت معها قراءاتي على النت أيضًا، بل إن قراءاتي من الكتب الورقية تقلصت إلى حد كبير إذا قارنتها بقراءاتي الضوئية خصوصًا وأن الحصول على "نسخة إلكترونية" من أي كتاب هي مسألة أسهل بما لا يقاس من انتظار وصول الكتاب إلى حيث أقيم. مئات من الكتب وصلتني خلال سنوات العقدين الماضيين من كتاب أصدقاء وحتى من كتاب لم أكن أعرفهم وقرأتها وكتبت عن كثير منها شرط أن يوفر لي صاحب الكتاب صورة الغلاف.
سيظل لأزمة القراءة دورها الكبير في كل هذا لكن علينا أن نعترف في هذا الزحام أن واحدًا من أهم أسباب قلة القراءة هو ارتفاع ثمن الكتاب منسوبًا لدخل المواطنين العرب وأن شبكة الإنترنت قد ألغت تمامًا هذا وجعلت القراءة ممكنة لمن يريد.
نقول هذا وفي البال أن كثيرًا من الصحف اليومية التي كانت صحفًا كبرى ولها جمهورها اختفت نهائيًا وبعضها اختفى ورقيا وظل موجودًا عبر شبكة الإنترنت محافظًا على علاقته مع قرائه، ما يعزز ما نقول ويشجعنا على إعلاء شأن "الكتاب الإلكتروني" والذي لا يزال عربيًا في بداياته، ولكن القادر في تقديري على الوصول حيث تعجز الكتب الورقية وتنحسر القراءة أو على الأقل تكون في أدنى حالاتها.
نقول عادة إن القراءة عنوان تقدم الأمم ومكانتها في خارطة الحضارة الإنسانية وهو قول صحيح بالتأكيد لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن القراءة وثيقة الصلة في وجودها أو عدمه مع الحالة العامة للمجتمع ومستويات الدخل وما يعيشه المجتمع من استقرار وتنمية اقتصادية.