عن صباح غابر ما كان "رباح"
محمود شريح 7 ديسمبر 2022
سير
عمل "الرجل والطائر" للفنان التشكيلي الليبي محمد عبيه
شارك هذا المقال
حجم الخط
وصلتُ عمّان ليلًا مُتعبًا مكدودًا، كان يومًا قائظًا من آب/ أغسطس 1970. كنّا انطلقنا صباحًا من مكتب إعلام حركة فتح من حيّ المنارة في رأس بيروت في سيّارة ڤولكسڤاغن صغيرة فجلستُ إلى جانب النافذة فيما السائق إلى يساري يحدّثني عن التحاقه بالحركة باكرًا. توقّفنا في شتورة وأفطرنا لبنة وزيتونًا مع بندورة وخيار وشربنا ليموناضة في "فندق بديعة مصابني" وكانت تجلس إلى صندوق الحِسبة وبدتْ مُفعمة بالحياة وافدة من القاهرة معتزلة الغناء والرقص لتديرَ فندقَها المشهور بتحضير اللبنة وكان مذاقُها أقرب إلى البوظة الإيطالية منه إلى مذاق اللبنة المعهودة. عند نقطة الحدود اللبنانية السورية حيّانا عسكرٌ مرابطون على حاجز الكفاح الفلسطيني المسلّح وقالوا تفضّلوا فتفضلنا.
تغدّينا في مطعم في سوق الحميدية في وسط دمشق وانطلقنا عبر بادية الشام فانتبهتُ إلى حمرةِ التربة وأعلمني السائق أنها أصلح ما تكون لانبطاح البطيخ ونموّه فيها أُفقيًا وقال هذه بلاد حوران أجبت: أنعم وأكرم فهي مسقط توفيق صايغ الطيّب الذكر. فما أن خرجنا منها حتى وصلنا إلى الرمثا عند الحدود السورية الأردنية، وهناك حيّانا عسكر الكفاح الفلسطيني المسلّح وقالوا أهلًا فهلّلنا، ولولا الحياء كنّا زغردنا.
إلى عمّان لساعات شاهدتُ الغورَ إلى يميني فقلتُ غورَ الأردن فنهرني السائق: هذه فلسطين إلى يمينك، فانبهرتُ لهذه المفاجأة غير المرتقبة. كانتْ شمسُ الأصيل على وشك الوقوع خلفَ الغور فاستغربتُ صغرَ حجمها وقد تحوّلت إلى برتقالة صفراء ما ذكّرني برواية غسّان كنفاني أرض البرتقال الحزين، فلم أتعجّب إذ هي صغُرتْ رغم كونها أكبر نجمة في المجرّة فيما هذه الدنيا على صغرها مشهدُ عِبرة، ليس إلّا.
أنزلَني السائق عند مدخل فندق عمّان في شارع السّلط. قال لي الموظّف في بهو الاستقبال غرفتك في الطابق السادس والحساب واصل من حركة فتح فانتعشتْ. صعدتُ إليها أعدّ الدرجات. نظرتُ إلى عمّان من النافذة وشاهدتُ من بعيد يافطة مضاءة بالأزرق فقلتُ هذا أمرٌ عجيب. ما أن خلدتُ إلى النوم قليلًا وكان الليلُ انتصفَ حتى سمعتُ جلبةَ قذائف ورشقات إطلاق رصاص. اقتربتُ مذعورًا من النافذة ورأيتُ لأوّل مرّة في حياتي ما كنتُ أشاهدُه في الأفلام في سينما الرياض في برج البراجنة عن معاركَ الحربِ العالميّة الثانية فتحسّستُ نفسي فأدركتُ أن هذا كابوس في اليقظة. نزلتُ درجات الفندق قفزًا فالخوفُ حفزَني والهولُ دفعَني، فما أن وصلتُ إلى بهو الاستقبال وسألتُ الموظف عمّا يجري. قال هذا عادي وطبيعي، كلّ منتصف ليل هناك اشتباك بين مركز قيادة الكفاح المسلّح وشرطة العاصمة الأردنيّة. خرجتُ من الفندق على عجل يشدّ في إزري فزَعي وشاهدتُ اليافطة الزرقاء فاتجهتُ إليها ولما صرتُ عندها قرأتُ ما عليها "جريدة عمّان المساء". دخلتُ إلى مكاتبها وكان هناك صحافي واحد لا غيره يدقّق في ورقةٍ أمامَه فلما شاهدني قال: خير. أجبت: مرحبا خير. قلتُ: ألا تسمع القذائف والرصاص. قال: عادي كل منتصف ليل. سألني: غريب، قلت: بل أغرب منه. قال: من أين؟ أجبت: فلسطيني من بيروت، فأردفَ: الله يهديك ويهديني مثلك ما الذي جاء بك إلى هنا ونحن على أبواب حرب أهلية، فتفاجأتُ لأن حضوري إلى عمّان كان لرؤية عرفات عن كثب وأيضًا لتذوّق الكنافة النابلسيّة من مصادرها. رفع سمّاعة التلفون وطلب لي سيارة أُجرة فما أن حضرتْ حتى قال للسائق خذه إلى مكتب حركة فتح. سألني صحافي عمّان: المساء معك دنانير أردنية، قلت: لا ولكن وُعِدْتُ بها غدًا في الفندق، فأجاب: أهلين. قلت: وسهلين. نقد السائق فشكرته وسألته عن اسمه، قال: فلان رئيس تحرير "عمّان المساء". وانطلقتْ بي السيارة إلى مخيم جبل الحسين.
عند مدخل مخيم جبل الحسين سألني عسكري الكفاح المسلّح: من؟ أجبت: فتح. رحّب وهدانا إلى مكتبها فأنزلَني السائق عنده فنزلتُ أتلمّسُ دربي وسطَ ظلام دامس. طرقتُ بابَ المكتب فانفتح وحدَه كما بدا لي، لكن خلفَه شهرَ عليّ أحدهم مسدّسه وقال لي: عدوّ أم صديق، فسارعتُ: صديق فأخفض سلاحه وحين أخبرتُه عمّا حدث لي من مفاجآت خلال ساعة في عمّان أنسَتْني هنائي لسنوات في بيروت قال لا عليك، عادي، نمْ هنا والصباح رباح فنمت هناك أنتظر الصباح.
فلمّا كان الفجر سمعتُ رشقات وقذائف فقلتُ في نفسي: عادي.
نُقلتُ إلى فندق "صن رايز" (شروق الشمس) في العبدلي مقابل الكراج في جبل اللويبدة غير بعيد كما اكتشفتُ لاحقًا عن مركز اتحاد المرأة الفلسطينية، وهناك اختبأتُ عدة مرات من قصف ورشق وأهمسُ في سرّي: عادي. وذات مرّة علا همسي وسمعني من كان مُنبطحًا مثلي على أرض مركز اتحاد المرأة الفلسطينية اتقاء لرشقات رصاص فعاجلني بقصف لفظي: هذا قدرُنا، فقلتُ ما شاء الله قدرُنا أن ننبطح! وفجأة تذكّرت انبطاح البطيخ على تربة حوران، فقلت: عادي.
عُقدتْ جلسةُ افتتاح الندوة العالمية الثانية من أجل فلسطين في الكلية الإسلامية في جبل عمّان بحضور وفود عربية وغربية، إضافة إلى كتّاب أذكرُ منهم ألبرتو مورافيا وجان جينيه، لكن عرفات لم يحضر لأسباب أمنية، كما قيل لنا، لذلك نُقلتْ الندوة لاحقًا إلى قاعة سينما قيدَ الإنشاء في جبل الحسين فكان علينا كنسُها وتنظيفُها، وحين وصلَ إليها عرفات لإلقاء كلمته كانت وجوهنا ورؤوسنا بيضاء مما علقَ بها أثناء تنظيف القاعة من الكِلْس. كانت أوّل مرة أرى فيها عرفات عن كثب. دخلَ القاعة على عجل وألقى كلمته وغادرَ مُسرعًا بعد أن أوصى بإعادة طلّاب الأميركية إلى بيروت لأن الوضع خطير وينذر بالانفجار، سيّما إثر محاولة اغتيال الملك حسين وسط عمّان وهو في سيارته في اليوم السابق، إضافة إلى الانشقاق الحاصل في صفوف الجبهة الشعبية وخلافها مع فتح حول إسقاط النظام أو المحافظة عليه، فاحترتُ آنذاك في أمري في مسألة إسقاطه أو الحفاظ عليه، ما سبّب لي صداعًا لزمن طويل، ثم أني شفيتُ من كلا الخيارين بعد تقليب أمري في الحفاظ على نفسي وصدّ سقوطي، وفعلًا أعادونا إلى بيروت كما جئْنا عبر الرمثا والمصنع. خلال وجودنا هناك التقينا بخالد الحسن وهاني الحسن ومنير شفيق وناجي علّوش وأبو لطف.
خرجنا من عمّان فجرًا على عجل تحت وابل من قذائف صاروخية ورشقات رصاص جهلنا مصدرها فيما قال أحدنا إنها من ناحية القصور الملكية، ونهرَه غيرُه أنها من مخيم الوحدات مقرّ جورج حبش باتجاه تلك القصور، وعلى هذا النحو كدنا أن ننفقَ بتأثير نيران ملكيّة أو أخرى ماركسيّة – لينينيّة، فحمدنا الله أنها ومهما يكن مصدرها ما هي إلا نيران صديقة، كما شاع هذا التعبير في صحف الفرنجة، إثر سقوط بغداد ونهاية التاريخ العربي الحديث. فما أن وصلنا إلى جرش ورأينا آثار الرومان هناك حتى أدركْنا قصرَ نظرنا في فهم منطق التاريخ لكن شفا نفسي وأطفأ نهمها أن توقّفنا فجأة عند مطعم على مقربة من المدرّج الروماني في الهواء الطلق، فذقتُ ولأول مرة في حياتي سندويتش حمّص بداخلهِ كبيس خيار ومكدوس باذنجان وكنت فيما مضى في بيروت ألتهم الحمّصَ في صحن فيه الكبيسُ والمكدوسُ عند أطرافه فقلت لربّما هذا مردّه الفرق بين ملكيّة وجمهوريّة، ولأننا كنّا في عجلة من أمرنا، خوفًا من هادم الملذّات ومفرّق الجماعات، طلبَ منّا المسؤولون فينا أن نقتاتَ الحمّص مع خياره وكبيسه ونحن واقفون، وحانت مني نظرة إلى زهور تحيط بالمطعم في الهواء الطلق وإلى جانبها يافطة كُتب عليها: للزهور عواطف رقيقة فلا تلمسوها فهاجت عاطفتي وتذكّرت أهلي وشدّني الشوق إليهم.
عبرنا الرمثا وغاب عني أن ألتفت إلى يساري فأُلقي النظرة الأخيرة على غور الأردن وفلسطين إذ كنت شاردَ الذهن بما قد يطرأ على أهل فلسطين في عمّان وبقيتُ على هذا الانشغال حتى شتورة فأصحتني لذّةُ طعم لبنة بديعة مصابني من سباتي الوجودي، وحمدت الله أني في طريقي إلى بيروت، نجمتنا.
ما أن وصلتُ إلى أهلي حتى عنّفني والدي على عقوقي وخروجي على طاعته، ولما أشعلتُ سيجارة ونفثتُ دخانَها على غرار ما شاهدتُه في مخيم الوحدات في عمّان لدى مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهم ينفثون دخانَ سجائرهم من أطراف أفواههم وهم يتأففون من غدرِ الزمان، نظرَ إليّ والدي شذرًا وأردفَ: أتعتقد جنابك أنك جورج حبش، عندئذ تدخلّت والدتي لفضّ الخلاف المُرتقب قبل وقوعه، فلاطفتني وقالتْ: عليك بالنوم فـ"الصباح رباح".
فلّما كان الصباح لم يكن هناك "رباح"، إذ أذاعت نشرات الأخبار أنّ الصدام بين عرفات وحبش وحواتمة ومن لحق بهم ولبس قبعهم من جهة والنظام الأردني من جهة وشيك وأن عبد الناصر يقضي ليلَه ساهرًا يعدّ النجوم ويرقبُ ساعة المصالحة عنده في القاهرة بين عرفات والملك حسين قبل الاحتدام الوبيل وأنه ما عاد ينصت كلّ خميس إلى أم كلثوم تصدح من صوت العرب "الليلة عيد عالدنيا سعيد"، وأن مؤتمر قمة يلوح في أفق العرب لفضّ نزاع الإخوة أولًا، وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ثانيًا، وكما في نهاية الأفلام نهاية سعيدة بجبر الاشتراكية عنوة ثالثًا.
محمود شريح 7 ديسمبر 2022
سير
عمل "الرجل والطائر" للفنان التشكيلي الليبي محمد عبيه
شارك هذا المقال
حجم الخط
وصلتُ عمّان ليلًا مُتعبًا مكدودًا، كان يومًا قائظًا من آب/ أغسطس 1970. كنّا انطلقنا صباحًا من مكتب إعلام حركة فتح من حيّ المنارة في رأس بيروت في سيّارة ڤولكسڤاغن صغيرة فجلستُ إلى جانب النافذة فيما السائق إلى يساري يحدّثني عن التحاقه بالحركة باكرًا. توقّفنا في شتورة وأفطرنا لبنة وزيتونًا مع بندورة وخيار وشربنا ليموناضة في "فندق بديعة مصابني" وكانت تجلس إلى صندوق الحِسبة وبدتْ مُفعمة بالحياة وافدة من القاهرة معتزلة الغناء والرقص لتديرَ فندقَها المشهور بتحضير اللبنة وكان مذاقُها أقرب إلى البوظة الإيطالية منه إلى مذاق اللبنة المعهودة. عند نقطة الحدود اللبنانية السورية حيّانا عسكرٌ مرابطون على حاجز الكفاح الفلسطيني المسلّح وقالوا تفضّلوا فتفضلنا.
تغدّينا في مطعم في سوق الحميدية في وسط دمشق وانطلقنا عبر بادية الشام فانتبهتُ إلى حمرةِ التربة وأعلمني السائق أنها أصلح ما تكون لانبطاح البطيخ ونموّه فيها أُفقيًا وقال هذه بلاد حوران أجبت: أنعم وأكرم فهي مسقط توفيق صايغ الطيّب الذكر. فما أن خرجنا منها حتى وصلنا إلى الرمثا عند الحدود السورية الأردنية، وهناك حيّانا عسكر الكفاح الفلسطيني المسلّح وقالوا أهلًا فهلّلنا، ولولا الحياء كنّا زغردنا.
إلى عمّان لساعات شاهدتُ الغورَ إلى يميني فقلتُ غورَ الأردن فنهرني السائق: هذه فلسطين إلى يمينك، فانبهرتُ لهذه المفاجأة غير المرتقبة. كانتْ شمسُ الأصيل على وشك الوقوع خلفَ الغور فاستغربتُ صغرَ حجمها وقد تحوّلت إلى برتقالة صفراء ما ذكّرني برواية غسّان كنفاني أرض البرتقال الحزين، فلم أتعجّب إذ هي صغُرتْ رغم كونها أكبر نجمة في المجرّة فيما هذه الدنيا على صغرها مشهدُ عِبرة، ليس إلّا.
أنزلَني السائق عند مدخل فندق عمّان في شارع السّلط. قال لي الموظّف في بهو الاستقبال غرفتك في الطابق السادس والحساب واصل من حركة فتح فانتعشتْ. صعدتُ إليها أعدّ الدرجات. نظرتُ إلى عمّان من النافذة وشاهدتُ من بعيد يافطة مضاءة بالأزرق فقلتُ هذا أمرٌ عجيب. ما أن خلدتُ إلى النوم قليلًا وكان الليلُ انتصفَ حتى سمعتُ جلبةَ قذائف ورشقات إطلاق رصاص. اقتربتُ مذعورًا من النافذة ورأيتُ لأوّل مرّة في حياتي ما كنتُ أشاهدُه في الأفلام في سينما الرياض في برج البراجنة عن معاركَ الحربِ العالميّة الثانية فتحسّستُ نفسي فأدركتُ أن هذا كابوس في اليقظة. نزلتُ درجات الفندق قفزًا فالخوفُ حفزَني والهولُ دفعَني، فما أن وصلتُ إلى بهو الاستقبال وسألتُ الموظف عمّا يجري. قال هذا عادي وطبيعي، كلّ منتصف ليل هناك اشتباك بين مركز قيادة الكفاح المسلّح وشرطة العاصمة الأردنيّة. خرجتُ من الفندق على عجل يشدّ في إزري فزَعي وشاهدتُ اليافطة الزرقاء فاتجهتُ إليها ولما صرتُ عندها قرأتُ ما عليها "جريدة عمّان المساء". دخلتُ إلى مكاتبها وكان هناك صحافي واحد لا غيره يدقّق في ورقةٍ أمامَه فلما شاهدني قال: خير. أجبت: مرحبا خير. قلتُ: ألا تسمع القذائف والرصاص. قال: عادي كل منتصف ليل. سألني: غريب، قلت: بل أغرب منه. قال: من أين؟ أجبت: فلسطيني من بيروت، فأردفَ: الله يهديك ويهديني مثلك ما الذي جاء بك إلى هنا ونحن على أبواب حرب أهلية، فتفاجأتُ لأن حضوري إلى عمّان كان لرؤية عرفات عن كثب وأيضًا لتذوّق الكنافة النابلسيّة من مصادرها. رفع سمّاعة التلفون وطلب لي سيارة أُجرة فما أن حضرتْ حتى قال للسائق خذه إلى مكتب حركة فتح. سألني صحافي عمّان: المساء معك دنانير أردنية، قلت: لا ولكن وُعِدْتُ بها غدًا في الفندق، فأجاب: أهلين. قلت: وسهلين. نقد السائق فشكرته وسألته عن اسمه، قال: فلان رئيس تحرير "عمّان المساء". وانطلقتْ بي السيارة إلى مخيم جبل الحسين.
عند مدخل مخيم جبل الحسين سألني عسكري الكفاح المسلّح: من؟ أجبت: فتح. رحّب وهدانا إلى مكتبها فأنزلَني السائق عنده فنزلتُ أتلمّسُ دربي وسطَ ظلام دامس. طرقتُ بابَ المكتب فانفتح وحدَه كما بدا لي، لكن خلفَه شهرَ عليّ أحدهم مسدّسه وقال لي: عدوّ أم صديق، فسارعتُ: صديق فأخفض سلاحه وحين أخبرتُه عمّا حدث لي من مفاجآت خلال ساعة في عمّان أنسَتْني هنائي لسنوات في بيروت قال لا عليك، عادي، نمْ هنا والصباح رباح فنمت هناك أنتظر الصباح.
فلمّا كان الفجر سمعتُ رشقات وقذائف فقلتُ في نفسي: عادي.
نُقلتُ إلى فندق "صن رايز" (شروق الشمس) في العبدلي مقابل الكراج في جبل اللويبدة غير بعيد كما اكتشفتُ لاحقًا عن مركز اتحاد المرأة الفلسطينية، وهناك اختبأتُ عدة مرات من قصف ورشق وأهمسُ في سرّي: عادي. وذات مرّة علا همسي وسمعني من كان مُنبطحًا مثلي على أرض مركز اتحاد المرأة الفلسطينية اتقاء لرشقات رصاص فعاجلني بقصف لفظي: هذا قدرُنا، فقلتُ ما شاء الله قدرُنا أن ننبطح! وفجأة تذكّرت انبطاح البطيخ على تربة حوران، فقلت: عادي.
عُقدتْ جلسةُ افتتاح الندوة العالمية الثانية من أجل فلسطين في الكلية الإسلامية في جبل عمّان بحضور وفود عربية وغربية، إضافة إلى كتّاب أذكرُ منهم ألبرتو مورافيا وجان جينيه، لكن عرفات لم يحضر لأسباب أمنية، كما قيل لنا، لذلك نُقلتْ الندوة لاحقًا إلى قاعة سينما قيدَ الإنشاء في جبل الحسين فكان علينا كنسُها وتنظيفُها، وحين وصلَ إليها عرفات لإلقاء كلمته كانت وجوهنا ورؤوسنا بيضاء مما علقَ بها أثناء تنظيف القاعة من الكِلْس. كانت أوّل مرة أرى فيها عرفات عن كثب. دخلَ القاعة على عجل وألقى كلمته وغادرَ مُسرعًا بعد أن أوصى بإعادة طلّاب الأميركية إلى بيروت لأن الوضع خطير وينذر بالانفجار، سيّما إثر محاولة اغتيال الملك حسين وسط عمّان وهو في سيارته في اليوم السابق، إضافة إلى الانشقاق الحاصل في صفوف الجبهة الشعبية وخلافها مع فتح حول إسقاط النظام أو المحافظة عليه، فاحترتُ آنذاك في أمري في مسألة إسقاطه أو الحفاظ عليه، ما سبّب لي صداعًا لزمن طويل، ثم أني شفيتُ من كلا الخيارين بعد تقليب أمري في الحفاظ على نفسي وصدّ سقوطي، وفعلًا أعادونا إلى بيروت كما جئْنا عبر الرمثا والمصنع. خلال وجودنا هناك التقينا بخالد الحسن وهاني الحسن ومنير شفيق وناجي علّوش وأبو لطف.
خرجنا من عمّان فجرًا على عجل تحت وابل من قذائف صاروخية ورشقات رصاص جهلنا مصدرها فيما قال أحدنا إنها من ناحية القصور الملكية، ونهرَه غيرُه أنها من مخيم الوحدات مقرّ جورج حبش باتجاه تلك القصور، وعلى هذا النحو كدنا أن ننفقَ بتأثير نيران ملكيّة أو أخرى ماركسيّة – لينينيّة، فحمدنا الله أنها ومهما يكن مصدرها ما هي إلا نيران صديقة، كما شاع هذا التعبير في صحف الفرنجة، إثر سقوط بغداد ونهاية التاريخ العربي الحديث. فما أن وصلنا إلى جرش ورأينا آثار الرومان هناك حتى أدركْنا قصرَ نظرنا في فهم منطق التاريخ لكن شفا نفسي وأطفأ نهمها أن توقّفنا فجأة عند مطعم على مقربة من المدرّج الروماني في الهواء الطلق، فذقتُ ولأول مرة في حياتي سندويتش حمّص بداخلهِ كبيس خيار ومكدوس باذنجان وكنت فيما مضى في بيروت ألتهم الحمّصَ في صحن فيه الكبيسُ والمكدوسُ عند أطرافه فقلت لربّما هذا مردّه الفرق بين ملكيّة وجمهوريّة، ولأننا كنّا في عجلة من أمرنا، خوفًا من هادم الملذّات ومفرّق الجماعات، طلبَ منّا المسؤولون فينا أن نقتاتَ الحمّص مع خياره وكبيسه ونحن واقفون، وحانت مني نظرة إلى زهور تحيط بالمطعم في الهواء الطلق وإلى جانبها يافطة كُتب عليها: للزهور عواطف رقيقة فلا تلمسوها فهاجت عاطفتي وتذكّرت أهلي وشدّني الشوق إليهم.
عبرنا الرمثا وغاب عني أن ألتفت إلى يساري فأُلقي النظرة الأخيرة على غور الأردن وفلسطين إذ كنت شاردَ الذهن بما قد يطرأ على أهل فلسطين في عمّان وبقيتُ على هذا الانشغال حتى شتورة فأصحتني لذّةُ طعم لبنة بديعة مصابني من سباتي الوجودي، وحمدت الله أني في طريقي إلى بيروت، نجمتنا.
ما أن وصلتُ إلى أهلي حتى عنّفني والدي على عقوقي وخروجي على طاعته، ولما أشعلتُ سيجارة ونفثتُ دخانَها على غرار ما شاهدتُه في مخيم الوحدات في عمّان لدى مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهم ينفثون دخانَ سجائرهم من أطراف أفواههم وهم يتأففون من غدرِ الزمان، نظرَ إليّ والدي شذرًا وأردفَ: أتعتقد جنابك أنك جورج حبش، عندئذ تدخلّت والدتي لفضّ الخلاف المُرتقب قبل وقوعه، فلاطفتني وقالتْ: عليك بالنوم فـ"الصباح رباح".
فلّما كان الصباح لم يكن هناك "رباح"، إذ أذاعت نشرات الأخبار أنّ الصدام بين عرفات وحبش وحواتمة ومن لحق بهم ولبس قبعهم من جهة والنظام الأردني من جهة وشيك وأن عبد الناصر يقضي ليلَه ساهرًا يعدّ النجوم ويرقبُ ساعة المصالحة عنده في القاهرة بين عرفات والملك حسين قبل الاحتدام الوبيل وأنه ما عاد ينصت كلّ خميس إلى أم كلثوم تصدح من صوت العرب "الليلة عيد عالدنيا سعيد"، وأن مؤتمر قمة يلوح في أفق العرب لفضّ نزاع الإخوة أولًا، وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ثانيًا، وكما في نهاية الأفلام نهاية سعيدة بجبر الاشتراكية عنوة ثالثًا.