كتبي ومكتباتي
محمود شريح 16 سبتمبر 2022
سير
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان والدي، الوافد إلى برج البراجنة من ترشيحا، في أعالي الجليل، إثرَ النكبةِ العُظمى، وقد تخطّى الثلاثين بقليل، يطيبُ له الجلوس في الأماسي مع صحبِه في مقهى ترشيحا، على بضع خطواتٍ من مقهى عكّا، فأهلُ ترشيحا وأهلُ عكّا التقوا، من جديد، مع باقي أهالي قرى الجليل، زمنَ النزوح الأوّل، في برج البراجنة، فتوزّعوا على مخيمها وحولَه. كان المقهيان مواجهيْن لدكّان حلويات ضيف الله، الوافدة بعدّتها وعديدها من عكّا مع أصحابها، وهي حلوياتٌ ذائعة الصيت شرقَ السويس لمذاق زلابيّتها المُشبعة بالقطر والمُعطّرة بماء الزّهر، إذ تكادُ تذوبُ بين أصابع ملتهمِها قبلَ نزولها بردًا وسلامًا إلى حلقومه.
ذات مساء وأنا على رصيفٍ مقابل لمقهى ترشيحا شاهدتُ والدي يقرأُ على صحبِه من ورقة بين يديه، فاقتربتُ أسترقُ السمع فإذا هو يقرأُ على صحبه موضوعَ إنشاء كتبتُه لمادّة العربيّة لنيل شهادتي الابتدائية، فأكملتُ طريقي مزهوًّا بنفسي.
كان والدي يمدُّني بكتبٍ منوّعة المشارب يضعُها أمامي دون أن يحثَّني على ما أقرأُ منها، سوى قوله لي: تَغنى مكتبتُك بالتراكم، مع الوقت، بموازاة نضجِك، فأوصى جارَنا أبا خليل الشعفاطي الوافد من عكّا، وكان نجّارًا حذقًا، أن ينجرَّ لي رفوفَ كتب صففتُ عليها كتبي فكنتُ كلّ يومٍ أُعيدُ ترتيبَ الكتب عليها، وفقَ مزاجي، وكان قلّابًا، على شاكلتي، وفي هذا كانت لذّة لي لا تفوقها لذّة إلّا لذّة خلودي إلى النوم، متى استطعتُ إلى ذلك سبيلًا، إلى أن كانت الطامة الكبرى فخسرتُ اللذّتيْن. فما أن انخرطتُ تحت بيرق الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين حتى طارتْ الكتبُ وبقيتْ الرفوفُ قاعًا صفصفًا. إذ أنه لمّا أوعز إليّ صاحبُ الشأن بعبور النهر وكان لي على الضفّة الأُخرى مكمنٌ تمكّنَ منّي وأوقعني في العاقبة، خشيتْ والدتي أن يدهمَ عسكرٌ منزلَنا فيعثروا على كتبي وجلّها خارجة عن القانون ومُخلّة بالآداب العامّة، فاستنجدتْ بأُمّها، جدّتي، فاتفقا أن يحرقا كتبي دفعًا للشبهة ودرءًا للخطر، وصعدتْ جدّتي إلى سطح منزلنا والكتب معها فأحرقتْها عن بكرة أبيها واستحالت حروفُها رمادًا، فيما كانت والدتي واقفةً على الشرفة تطمئنُّ أن لا عسكرَ يدهمهُما ولا من يحزنون.
فما أن خرجتُ إلى الحريّة حتى كافأني محمد سليمان الدجّاني، الوافد من القدس إلى أميركية بيروت، بعقد تامّ قبل وفودي إليها، بهديّة سخيّة: تذكرة رحلة لأُسبوعين إلى موسكو وليننغراد طلبًا للراحة وبحثًا عن النقاهة فطوّفتُ في مكتبات جادّة غوركي واقتنيتُ منها ما لذَّ لذائقتي وطابَ لها في بلاد تعجّ بالفكر أزقّتُها وتنهضُ عقيدةُ أهلها على تعظيم الفنّ وتقديسِ الفلسفة، فما أن عدتُ إلى أهلي حتى ملأتُ رفوفَ كتبي الفارغة منذ الطامة الأُولى الكبرى بمؤلّفات ماركس وإنجلز ولينين، وعدتُ إلى سالف عهدي أتلذّذُ بإعادة ترتيبها على الرفوف وفقَ مزاجي، وكان لا زالَ، على شاكلتي، قلّابًا، فيما فقدتُ لذّة النوم، إذ كنتُ الليل، بطولِه وعرضِه، أُحدّقُ بتلك الكتبِ مرصوفةً على الرفوفِ أسعدُ لمرأى سيقانها الحمراء تتوهّجُ في حلكةِ الليلِ، فلا يغمضُ لي جفنٌ، وما أدركتُ وأنا في نعيمي هذا أنّ تلك السيقان الحمراء هي مدخلي إلى أتون طامة كبرى ثانية.
كنتُ أُحدّقُ في كتبي المسكوبيّة على الرفوفِ وكان على الأرجح فجرٌ إذْ تسلّلَ إلى غرفتي بصيص نور أتاح لي رؤية عناوينها على سيقانها حين كان طرقٌ ثقيلٌ ومتلاحقٌ على بابِ مسكنِ أهلي، فما أن فُتحَ البابُ حتى تناهى إلى مسمعي صوتٌ أجشّ يتساءل: أين الكتبُ الحمراء، فاستعذتُ بالله من جديد. لا لم أنبسْ ببنتِ شفَة، من رعب أصابني، ولا لم أُحرّكْ ساكنًا، من فزع لبسَني، لحظة دخلَ عليّ عسكرٌ قاموا بإنزال كتبي عن الرفوف فصادروها مع رفوفها وأنا أرقبُ الساعة التي بعدها هول ساعتي، فبقيتُ قابعًا في سريري كالكسيح أحدّق في الحائط حيث كانت رفوفٌ وكانت كتبٌ، وفجأةً انتبهتُ إلى أني لم أُصادرْ مع الرفوفِ والكتبِ فحمدتُ الله على نعمة لم أحسبْ لها حسابًا.
وضربتُ صفحًا عن اقتناء الرفوف لكن بقيت أقتني الكتب وأخفيها في عِلّية في دار أهلي، درءًا للمداهمة، إذ كنتُ أخشاها لتسارعِ نبضاتِ قلبي كلّما دُهمتُ، وهو، مثلي، ضعيف، إلى أن أزفتْ ساعةُ الرحيلِ، وكان لا بدّ منها حفاظًا على سلامة نبضات قلبي، ورأفةً بأعصابي، إثر حصار شعبي في مخيّماته.
جمعتُ كتبي في صناديقَ ترحلُ معي لكن حدثَ ما لم يكن بالحسبان. اتصلتْ بي ماري صايغ، شقيقة الشاعر توفيق. قالتْ شقيقها يوسف شحنَ كتبَ توفيق، وهي بالآلاف، هديةً إلى جامعة بير زيت وبقيتْ الرفوفُ وهي من خشب الورد كانت لتوفيق إثرَ وصولِه من طبريّة عام 1948، وقبل ذهابه إلى جامعة هارڤرد عام 1952، وهي لي إنْ شئتُ، فقلتُ أشحنُها معي إلى ڤيينّا مع كتبي. لكن قيل لي عليّ أن أتقدّم بلوائح تذكر عناوينها، كتابًا كتابًا، إلى مديرية الرقابة، فاستعذتُ بالله من جديد لعلمي، موقنًا، أن بعضها خارج عن القانون وبعضها الآخر مخلٌّ بالآداب العامّة، وآثرتُ شحنَ رفوفِ خشبِ الورد وحدَها فوصلتْ بحرًا عبر مرسيليا إلى ضفّة الدانوب، فيما بقيتْ كتبي في صناديقها في بيروت، وفي ڤيينّا وهبتُ الرفوفَ لصديقي مروان عبادو، الوافد إليها، من كفر برعم، عبرَ بيروت. وهكذا هجرتُ الرفوفَ وودّعتُ الكتبَ ومضيتُ غيرَ آبه إلى حدائقَ غنّاء عند منحدرات جبال الألپ الواسعة، أُديمُ النظر في الورد، فوجدتُ سلوتي وغنمتُ براحتي، وخفتتْ بلواي، فوأسفاه كم حجبت عنّي غشاوةُ حلمي صفاء سريرتي، والله أعلمُ بالسرائر.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
محمود شريح 16 سبتمبر 2022
سير
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان والدي، الوافد إلى برج البراجنة من ترشيحا، في أعالي الجليل، إثرَ النكبةِ العُظمى، وقد تخطّى الثلاثين بقليل، يطيبُ له الجلوس في الأماسي مع صحبِه في مقهى ترشيحا، على بضع خطواتٍ من مقهى عكّا، فأهلُ ترشيحا وأهلُ عكّا التقوا، من جديد، مع باقي أهالي قرى الجليل، زمنَ النزوح الأوّل، في برج البراجنة، فتوزّعوا على مخيمها وحولَه. كان المقهيان مواجهيْن لدكّان حلويات ضيف الله، الوافدة بعدّتها وعديدها من عكّا مع أصحابها، وهي حلوياتٌ ذائعة الصيت شرقَ السويس لمذاق زلابيّتها المُشبعة بالقطر والمُعطّرة بماء الزّهر، إذ تكادُ تذوبُ بين أصابع ملتهمِها قبلَ نزولها بردًا وسلامًا إلى حلقومه.
ذات مساء وأنا على رصيفٍ مقابل لمقهى ترشيحا شاهدتُ والدي يقرأُ على صحبِه من ورقة بين يديه، فاقتربتُ أسترقُ السمع فإذا هو يقرأُ على صحبه موضوعَ إنشاء كتبتُه لمادّة العربيّة لنيل شهادتي الابتدائية، فأكملتُ طريقي مزهوًّا بنفسي.
كان والدي يمدُّني بكتبٍ منوّعة المشارب يضعُها أمامي دون أن يحثَّني على ما أقرأُ منها، سوى قوله لي: تَغنى مكتبتُك بالتراكم، مع الوقت، بموازاة نضجِك، فأوصى جارَنا أبا خليل الشعفاطي الوافد من عكّا، وكان نجّارًا حذقًا، أن ينجرَّ لي رفوفَ كتب صففتُ عليها كتبي فكنتُ كلّ يومٍ أُعيدُ ترتيبَ الكتب عليها، وفقَ مزاجي، وكان قلّابًا، على شاكلتي، وفي هذا كانت لذّة لي لا تفوقها لذّة إلّا لذّة خلودي إلى النوم، متى استطعتُ إلى ذلك سبيلًا، إلى أن كانت الطامة الكبرى فخسرتُ اللذّتيْن. فما أن انخرطتُ تحت بيرق الحلم الرومانسي بتحرير فلسطين حتى طارتْ الكتبُ وبقيتْ الرفوفُ قاعًا صفصفًا. إذ أنه لمّا أوعز إليّ صاحبُ الشأن بعبور النهر وكان لي على الضفّة الأُخرى مكمنٌ تمكّنَ منّي وأوقعني في العاقبة، خشيتْ والدتي أن يدهمَ عسكرٌ منزلَنا فيعثروا على كتبي وجلّها خارجة عن القانون ومُخلّة بالآداب العامّة، فاستنجدتْ بأُمّها، جدّتي، فاتفقا أن يحرقا كتبي دفعًا للشبهة ودرءًا للخطر، وصعدتْ جدّتي إلى سطح منزلنا والكتب معها فأحرقتْها عن بكرة أبيها واستحالت حروفُها رمادًا، فيما كانت والدتي واقفةً على الشرفة تطمئنُّ أن لا عسكرَ يدهمهُما ولا من يحزنون.
فما أن خرجتُ إلى الحريّة حتى كافأني محمد سليمان الدجّاني، الوافد من القدس إلى أميركية بيروت، بعقد تامّ قبل وفودي إليها، بهديّة سخيّة: تذكرة رحلة لأُسبوعين إلى موسكو وليننغراد طلبًا للراحة وبحثًا عن النقاهة فطوّفتُ في مكتبات جادّة غوركي واقتنيتُ منها ما لذَّ لذائقتي وطابَ لها في بلاد تعجّ بالفكر أزقّتُها وتنهضُ عقيدةُ أهلها على تعظيم الفنّ وتقديسِ الفلسفة، فما أن عدتُ إلى أهلي حتى ملأتُ رفوفَ كتبي الفارغة منذ الطامة الأُولى الكبرى بمؤلّفات ماركس وإنجلز ولينين، وعدتُ إلى سالف عهدي أتلذّذُ بإعادة ترتيبها على الرفوف وفقَ مزاجي، وكان لا زالَ، على شاكلتي، قلّابًا، فيما فقدتُ لذّة النوم، إذ كنتُ الليل، بطولِه وعرضِه، أُحدّقُ بتلك الكتبِ مرصوفةً على الرفوفِ أسعدُ لمرأى سيقانها الحمراء تتوهّجُ في حلكةِ الليلِ، فلا يغمضُ لي جفنٌ، وما أدركتُ وأنا في نعيمي هذا أنّ تلك السيقان الحمراء هي مدخلي إلى أتون طامة كبرى ثانية.
كنتُ أُحدّقُ في كتبي المسكوبيّة على الرفوفِ وكان على الأرجح فجرٌ إذْ تسلّلَ إلى غرفتي بصيص نور أتاح لي رؤية عناوينها على سيقانها حين كان طرقٌ ثقيلٌ ومتلاحقٌ على بابِ مسكنِ أهلي، فما أن فُتحَ البابُ حتى تناهى إلى مسمعي صوتٌ أجشّ يتساءل: أين الكتبُ الحمراء، فاستعذتُ بالله من جديد. لا لم أنبسْ ببنتِ شفَة، من رعب أصابني، ولا لم أُحرّكْ ساكنًا، من فزع لبسَني، لحظة دخلَ عليّ عسكرٌ قاموا بإنزال كتبي عن الرفوف فصادروها مع رفوفها وأنا أرقبُ الساعة التي بعدها هول ساعتي، فبقيتُ قابعًا في سريري كالكسيح أحدّق في الحائط حيث كانت رفوفٌ وكانت كتبٌ، وفجأةً انتبهتُ إلى أني لم أُصادرْ مع الرفوفِ والكتبِ فحمدتُ الله على نعمة لم أحسبْ لها حسابًا.
وضربتُ صفحًا عن اقتناء الرفوف لكن بقيت أقتني الكتب وأخفيها في عِلّية في دار أهلي، درءًا للمداهمة، إذ كنتُ أخشاها لتسارعِ نبضاتِ قلبي كلّما دُهمتُ، وهو، مثلي، ضعيف، إلى أن أزفتْ ساعةُ الرحيلِ، وكان لا بدّ منها حفاظًا على سلامة نبضات قلبي، ورأفةً بأعصابي، إثر حصار شعبي في مخيّماته.
جمعتُ كتبي في صناديقَ ترحلُ معي لكن حدثَ ما لم يكن بالحسبان. اتصلتْ بي ماري صايغ، شقيقة الشاعر توفيق. قالتْ شقيقها يوسف شحنَ كتبَ توفيق، وهي بالآلاف، هديةً إلى جامعة بير زيت وبقيتْ الرفوفُ وهي من خشب الورد كانت لتوفيق إثرَ وصولِه من طبريّة عام 1948، وقبل ذهابه إلى جامعة هارڤرد عام 1952، وهي لي إنْ شئتُ، فقلتُ أشحنُها معي إلى ڤيينّا مع كتبي. لكن قيل لي عليّ أن أتقدّم بلوائح تذكر عناوينها، كتابًا كتابًا، إلى مديرية الرقابة، فاستعذتُ بالله من جديد لعلمي، موقنًا، أن بعضها خارج عن القانون وبعضها الآخر مخلٌّ بالآداب العامّة، وآثرتُ شحنَ رفوفِ خشبِ الورد وحدَها فوصلتْ بحرًا عبر مرسيليا إلى ضفّة الدانوب، فيما بقيتْ كتبي في صناديقها في بيروت، وفي ڤيينّا وهبتُ الرفوفَ لصديقي مروان عبادو، الوافد إليها، من كفر برعم، عبرَ بيروت. وهكذا هجرتُ الرفوفَ وودّعتُ الكتبَ ومضيتُ غيرَ آبه إلى حدائقَ غنّاء عند منحدرات جبال الألپ الواسعة، أُديمُ النظر في الورد، فوجدتُ سلوتي وغنمتُ براحتي، وخفتتْ بلواي، فوأسفاه كم حجبت عنّي غشاوةُ حلمي صفاء سريرتي، والله أعلمُ بالسرائر.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب