سر المعبد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سر المعبد

    سر المعبد
    هبة طبلج 14 مايو 2022
    سير
    (أحمد صبيح)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    رفرفَ النّسرُ الرُّخاميُّ، شقَّ سكونَ الحجرِ وطارَ، حلّقَ عاليًا لكنّه عادَ. وقفَ على قمّةِ القُبّةِ الّتي ما عرفَها إلّا حارسًا لبابِها العريقِ. عندما وخزتْ أطرافُهُ سطحَ القُبّةِ المُذهّبةِ اِستيقظَ من غفوتِهِ شبحٌ نائمٌ في بطنِ المعبدِ. تململَ مُنتفِضًا، وخرجَ كخروجِ مارِدٍ سجينٍ من قمقمِهِ.
    في ذلك الصّباحِ الشّتويّ، كنتُ أنتظرُ مُرورَ الباصِ الأخضرِ عند محطّةِ حيّنا. الباصُ رقم 6 كان حجمُهُ طبيعيًّا في الماضي البعيد، قبل أن ينحشرَ في الشّارعِ الذي ابتلعتهُ البيوتُ وسيّارتُها، قبل نهرِ الشّتائِم كلَّ صباحٍ من السّائقِ اليهوديِّ الّذي لا يعرفُ من العربيّةِ إلّا شتائمَها.
    ـ مرق الباص ولّا بعده؟
    سألني صوتٌ مُستفسرًا.
    سألَ السّؤالَ وأغلقَ أُذنيه رافضًا أن يسمعَ إجابةً، فإن كانت إيجابيّةً عليه الانتظار ساعةً أخرى بالتّمامِ والكمالِ إلى أن يمرَّ الباصُ رقم 6 من حيِّ عبّاس في المدينةِ.
    في طفولتي، كانت أيامُ الآحادِ مُقدّسةً، تسحبُني العمّةُ العجوزُ معها في باص رقم 6، وبعد مسافةٍ تومئ لي بطرفِ سبابتِها، أفهمُ وأُتمتمُ قبلَها: هون كان ساكن إميل حبيبي. نمرُّ بمحاذاةِ مدرسةِ راهباتِ النّاصرة، فأسمعُ صوتَ أُمّي يصدحُ من بعيد: هاي مدرستي، لمّا نرجع على حيفا راح تصير مدرستك إنت كمان. نصلُ إلى سانت لوكس في شارعِ الجبلِ، حيثُ تتربّعُ كنيستُها، ومدرسةُ آحادي. ألا تكفيني راهباتُ المخلّصِ من الإثنينِ وحتّى الجمعة يا عمّة؟
    طلّ باصُ رقم 6، تُضبطُ ساعةُ الحيِّ على وقعِ هديرِ مُحرّكِهِ، فتواعدُ أمُّ إلياس جارتَها ليلى ليزورا سوقَ وادي النّسناس سويًا، ويقطفا من دكاكينِه وبسطاتِهِ الخُضارَ والفاكهةَ الطّازجةَ مع أرغفةٍ تخرجُ من الفرنِ راقصةً، وأسماكٍ مُغلّفةٍ بجرائدَ من مسمكةِ فيكتور الصّياد. انكمشَ حجمُ الباصِ مع مرورِ الأيامِ لـ"ميني بوس"، كي ينعمَ السّائقُ برحلةٍ سلسةٍ من المطران حجّار ـ حيثُ تُقبّلُ السّيّارةُ السّيّارةَ، وحيثُ بُقرت أحشاءُ الجبلِ ومغاراتُهُ لتستفرغَ بيوتًا كبريتيّةً ـ ويصلَ إلى هادار حسن شكري، فيمرُّ كل 15 دقيقة باصٌ أخضر يحملُ الرّقمَ 19، ويحملُني معه للتخنيون سيّء الذّكر.
    تطلُّ حيفا الكُبرى من نافذةِ باص 19، حين أراها أتذكّرُ أحمد حسين، وأسمعه يقولُ: "حيفا أكبر من العالم". أبتسمُ في سرّي ابتسامةَ طفلةٍ بريئةٍ.
    تمرُّ دقائق، يتربصُ الشّبحُ بي بعدَها من جديد، ويَخرجُ صوتُهُ هادِرًا: "هذه البُؤرةُ الواسعةُ تأكلُ أبناءَها عند جوعِها، مثلما أكلت العمارةُ الصّاروخيّةُ الصّارخةُ بُرجَ السّاعةِ، أو كما أُكِلَ محروس يومًا طعنًا بسكاكينِها".
    في باص رقم 19:
    ـ عجوزٌ سبعينيٌّ يُعرّي بُرتقالةً بمتعةٍ، ويفْسَخُ فلقاتِها ليلتهِمَها بشراهةٍ، فتتسلّلُ رائِحتُها لكلِّ أنفٍ.
    ـ شابٌ لم يتجاوز التّاسعة عشرة مُغطّسٌ بالحُلّةِ الكاكيّةِ، لا يدفعُ ثمنَ التّذكرةِ عند دخولِ الباصِ.
    ـ زوجٌ كلُّ منهما أعمى إلّا عن رفيقِهِ، ضاقت كلُّ كراسي الباصِ على رُكّابِها عدا كرسي أحدهما اتّسع ليضمَّهما معًا.
    ـ فتاةٌ تحاولُ أن تغضَّ بصرَها وتُغلقَ عينَها فتوقظُها يدٌ تتسلّلُ ليدِها خطأً.
    ـ كلبٌ أسود كبيرٌ مُمدّدٌ، لم يُبعد لجامُه الخوفَ عن صبيّةٍ نزحت بسببِهِ إلى آخر المقاعد.

    أضيعُ بينَهم، أنامُ على إيقاعِ تهليلِ صوتٍ أُنثويٍّ مُسجّلٍ يدندنُ أسماءَ الشّوارعِ والمحطّاتِ، ويقول:"هتحنا هاكروفا يد ليفانيم".
    يعودُ النّسرُ إليّ، يحملُني على جناحِهِ، أُخافُ العُلوَ بدايةً، أتشجعُ وأفتحُ عينيّ، تصغرُ حيفا التي كانت أكبرَ من العالم أمامي، وتكبرُ الطّفلةُ التي كُنتها فجأةً. يقذفُني النّسرُ على أعتابِ بوابةِ القُبّةِ المُذهّبةِ، ويستقبلُني عبّاس بهاء الله.
    ـ لا تخافي، اِنزعي عنكِ أقنعةَ حُليّكِ كما نزعتها عشتار قبلَكِ وادخلي بيتي.
    ـ رهبةُ كمالِ بيتِكِ تمنعُني. نسيجُ خضارِه المشكوكِ بإبرةٍ صبورةٍ يمنعنُي. صوتُ نوافيرِ المياهِ التي تصلّي صلاتَها الجماعيّةَ معًا يمنعنُي. الغموضُ الصّامتُ الذي يغلّفُ هذا المكانَ يمنعُني.
    ـ اِكسري جدارَ الرّهبةِ، وراقصيني على عتبةِ المعبدِ. مذ دُفنتُ هُنا أراقبُ المدينةَ من عليائِي، أحرسُ تناقُضاتِها، أستمعُ إلى أنينِ موجاتِها. راقصيني على هدير سيّاراتِها، على أنغامِ ضجيجِ مصانِعها، ومُحرّكاتِ قطاراتِها، علّني أتحرّرُ من خدعةِ كمالِ بهائِها.
    أُطوّقُ عبّاس، لا أدخلُ معبدَهُ، بل أسحبُهُ برفقٍ معي، ننزلُ إلى جادةِ الكرملِ لتبدأ رقصتَنا على صوتِ نمائمِ روّاد المقاهي هناك.
    "هتحنا ها أحرونا هافاكولتا لخيميا ـ شوليخ" (المحطة الأخيرة: كلية الكيمياء). أستيقظُ، أمدُّ يدي لأقرعَ الجرسَ، أتراجعُ فجأةً عندما أتذكّرُ أنها المحطّةُ الأخيرةُ، وهدفي.



    *كاتبة فلسطينية من حيفا.
يعمل...
X