بردُ الغريبة
سوسن جميل حسن 6 مارس 2022
سير
(باسم دحدوح)
شارك هذا المقال
حجم الخط
برلين مدينة باردة في الشتاء، وفي كل الفصول بالنسبة لي، أنا البعيدة عن بلادي الروحية مسافة لا تقاس بالكيلومترات، إنما بأبعاد الوجود المتأزّم لامرأة لم تعد تكترث للاتجاهات، ولا تفهم المسافة بين ما كان وما سيكون، كمريض مصاب بالزهايمر، يتّكئ على ذاكرته البعيدة كي يدرك وجوده.
يدهشني أنّ الحرارة في الخارج تحت الصفر بأربع درجات، ويطيب لي الجلوس على الشرفة في هذا المساء الرصين حدّ الاستفزاز، كما هي عادة المدينة في عطلة نهاية الأسبوع، لماذا لا أشعر بالبرد وأنا أشرب قهوتي العربية، أنظر إلى اللاشيء، وأنتظر اللاشيء؟ ربّما برد دمشق منحني لقاحًا ضدّ برد الدنيا يوم وُلدت فيها ذات شتاء من أواخر خمسينيات القرن الماضي، كما كانت والدتي ووالدي يحكيان عن ذلك الحدث الاستثنائي، بالطبع ليست ولادتي بالحدث الاستثنائي، فقد كانت سبقتني أختي الكبرى، إنما ما حصل معي، يوم كان والدي يستأجر بيتًا، دلّني عليه عندما كان في مستشفى المواساة في أواخر التسعينيات، قبل دخوله غرفة العمليات ليجري عملية تبديل شرايين قلبه المثخن بأوجاع "الأمّة"، من نافذة الغرفة أشار إليّ: هل ترين ذلك البيت القديم في الزقاق المقابل؟ هذا كان بيتنا يوم ولدتك أمّك. قلت له ضاحكة: يوم كنتَ ستتبرّع بي لكليّة الطب؟ لو لم تحكِ لي هذه القصّة باكرًا وأنا صغيرة لما كنتُ درست الطبّ. قلتها مازحةً كي لا أثير لديه مشاعر تعتدي على ميزانه العاطفي وهو مقبل على عمليّة كبيرة.
كان والدي في ذلك الزمان في الخدمة العسكريّة الإلزامية، لا دخلَ لديه غير راتب العسكرية برتبة ملازم، وهو مسؤول عن عائلة مكوّنة من زوجة لم تتجاوز العشرين من عمرها، وبنت لم تكمل عامها الثالث، وأنا، بطلة الحكاية. ولديه أسرته التي يساعدها ويرسل إليها المال من مرتّبه القليل. كان تأمين نقل جثتي إلى "البلد"، وطقوس الجنازة، وكلفتها، فوق طاقته فيما لو متّ، لكنّني لم أمت. وها أنا أجلس على شرفة الغياب وفي جوفي تاريخ، أمدّ أصابعي في اتجاه أشباح لا تأبه لي، فأعيد حكاياتي على نفسي. كنتُ مصابة بالتهاب تنفسي نزل على قصباتي الشعريّة، وكانا يائسين من شفائي، لكنني شفيت وعشت إلى اليوم. تحضرني الذكريات على شرفة في مدينة الصقيع. تعمّدتُ بماء نبع الفيجة، وشربتُ أول جرعة منه يوم كان يسقي دمشق كلّها، وكاد بردها أن يقتلني، بينما كان يختبرني ويمدّني بمناعة ضدّ برد العالم، لكن دمشق لم تكن تعرف أن برد الغريبة يسكن في قلبها.
غادرنا دمشق وعدنا إليها وأنا في منتصف المرحلة الابتدائية، كانت مدينة أكتشفها وأختبرها للمرّة الأولى. في الصف الأوّل إعدادي، كانت مدرستنا الإعدادية بين الفيلّات الناهضة على أتوستراد المزة، نمشي الطريق إليها كل يوم، أختي الأكبر وأنا، فنجتاز السوق ونمرّ أمام المقبرة الفرنسية. كان كل شيء بهيجًا وغريبًا ومدهشًا، مدرّسة التاريخ الأنيقة الأرستقراطية كانت تنزل من سيّارتها وتدسّ كل قدم من قدميها في كيس من النايلون الشفّاف كي لا يتسخ حذاؤها ذو الكعب العالي، ننتظر وصولها على النوافذ لنراقب هذه الحركة المذهلة، نصرخ لتنتبه كل الفتيات: وصلت مدام مالكي. كانت أخت الضابط الذي قضى اغتيالًا "عدنان المالكي"، وكنتُ ببراءة طفلة أحاول أن أجد وجه الشبه بينها وبين ذاك التمثال الذي يتوسط ساحة في أرقى أحياء دمشق، أبو رمّانة، الساحة التي تحوّل اسمها في عام 1958، من ساحة "دوحة الوليد" إلى ساحة "المالكي"، لم أكن أعرف حكاية المالكي وكيف اغتيل ولماذا، حتى غزت رأسي تلك القصص التي لا تنتهي عن الاغتيال السياسي وأنا أكبر في هذا الفضاء الموّار بالأحداث والأقاويل والجيران المختلفين.
كانت جارتنا المعلّمة "ناريمان" تضع منديلًا رقيقًا على رأسها تظهر منه غرّتها ومقدّمة رأسها، وكان زوجها "شيوعيًّا". هذا ما كنت أسمعه في البيت، وكانت ترفعه عن رأسها عندما تزورنا مع زوجها، أمّا أم عدنان، المرأة الديناميكية التي لم يكن يعصى عليها أمرٌ في شؤون البيت، من إصلاح أي غرض يناله العطب، إلى إعادة وصل التيار الكهربائي عندما يحترق شريط القاطع بسبب فرط الحمولة، فكانت منقّبة، تلتف بالسواد، ولا يظهر منها غير عينيها، لكنها كانت تلبّي بسرعة مدهشة أي طلب خدمة نطلبه منها. في الطابق الأرضي، كانت تسكن أسرة أبو سالم، شقيق الملحّن عبد الفتاح سكّر. نشأت علاقات الصداقة بسرعة بيننا وبينهم، كانت بناته من عمري وعمر أختي الأصغر، وكانوا عائلة جميلة معظم أفرادها موهوبين، نهرع نحن وبقية الجيران إلى بيتهم كلمّا دوّت صافرات الإنذار في حرب الاستنزاف التي استمرّت بعد الهزيمة، وكانوا يفتحون حضنهم للجميع. هذه هي دمشق التي كانت في خلدي.
نذهب أيّام الجمعة، أختي الأكبر وأنا، لنتدرّب على "كرة الطاولة" تحضيرًا للبطولة، في مدرسة ساطع الحصري في المهاجرين. لم يكن لدى أمّي وأبي مشكلة في المسافة الطويلة التي سنقطعها من آخر تجمّع سكني في جبل المزّة، لم يكن وقتها يوجد حيّ اسمه مزّة 86، فلهذا الحيّ المتشكّل عشوائيًّا من وافدين من المناطق البعيدة، خاصّة الساحل، في ثمانينيات القرن الماضي، حكاية أخرى. كنّا نستقلّ باصات النقل العام، ونبدّل من خطّ إلى آخر يوصلنا إلى هناك، وعند الانتهاء كنّا نلاقي أسرتنا في أحد مطاعم الربوة على النهر بمياهه الرقراقة والأشجار السامقة المائلة بغصونها في اتجاهه. كانت تلك البقعة كالجنة يخترقها قطار الزبداني الذي غنّى له أبو صيّاح (الراحل رفيق السبيعي): صفّر صفّر يا بابور وخدنا عالزبداني، ببقيّن منعمل فطور والعشا ببلوداني. وكان أهل الشام بارعين في السيران، فهو من تقاليدهم الأصيلة في المتع الجميلة، مثلما كان صحن التسقية بزيت الزيتون الخاص، الذي "يفقس"، طقس اجتماع الأسرة على الفطور صباح الجمعة.
منذ متى لم أزُرْ دمشق؟ كان ذلك ذات صيف من 2011، ودمشق ما زالت هادئة تسير حياتها بإيقاعها، لكن صدى القتال في المناطق الأخرى في سورية يخيّم عليها، التقيت بالعزيز الذي رحل باكرًا نضال سيجري، كان صوته شبه مفقود بعد علاج من سرطان الحنجرة، لم يركن بعده لأي راحة جسدية أو نفسيّة، كان مهمومًا بحال البلاد، مهمومًا بالإمساك بالمحبة والرحمة كي لا تفرّ من قلوب أبناء البلد، كما ينادي. لا يهدأ، بين اللاذقية والشام، ينخرط بين الناس ويصرخ بصوته المبحوح وصدره المجروح: وطني يوجعني، تنزّ الدموع من عيوننا، عندما أغادره إلى بيت إلهام، بيت ممدوح عدوان، يحضنني ويناديني: يا ابنة بلدي. بينما صوته ينطفئ.
كان شيء تسلّل إلى دمشق، لمسته منذ الزيارة التي سبقتها، في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011، عندما ظهر عمر سليمان، الذي كان قد عيّنه حسني مبارك نائبًا له قبل يوم، يتلو استقالة الرئيس. بلى، في الشام رائحة غريبة، قبلها بأكثر من أربعين عامًا، كانت رائحة ياسمينها تنهمر طمأنينة علينا عندما كنّا، أختي وأنا، نقطع تلك المسافات بلا خوف، أمّا في ذلك اليوم، عندما تنحّى مبارك، وكان المساء لم يكتمل بعد وأنا ذاهبة إلى بيت إلهام، فقد كانت الصالحية وبوابتها نزولًا في اتجاه جسر فيكتوريا، شبه خالية من النساء، وكنت أشعر أن العيون كلّها تلاحقني، أنا المرأة الماشية في هذا الوقت سافرة الرأس. وعند إلهام كنتُ أجلس على الأريكة التي ودّع فوقها الحياة ممدوح قبل ستة أعوام، بجانبي إلهام، وعلى الأريكة الأخرى تجلس منى شقيقتها، والشاعر عادل محمود، شقيق إلهام الروحي. كنّا ذاهلين أمام التلفزيون، لا نجرؤ على أن نفكّر بصوتٍ عالٍ.
على الشرفة في برلين، يرتجف قلبي من دون أن يشعر جسدي بالبرد، تهجم عليّ الذاكرة وأنا أنظر إلى اللاشيء، فيصطدم نظري بأصابعي، بيديّ، أشعر بغرابتهما، كأنهما قطعتان التصقتا بساعديّ، لا يكاد جسمي يعرفهما، يداي ليستا بخير، هذا ما أشعر به، أمرّرهما على جسدي، أستنهض ذاكرتهما وحسّهما السريري، كانتا مفتاحي في مقاربة مرضاي، تجوسان جسم المريض بحثًا عن علامات تقرّبني من تشخيص حالته ومساعدته في تجاوز ألمه، كانتا ماهرتين في الطبخ، بل كانتا ميزان الملح فيه، حنونتين على القماش عندما أفصّل فساتيني، رهيفتين إذ تمسكان ريشة الألوان وتقبلان على بياض اللوحة. وقبل هذا كانتا صديقتين للقلم وأنا أكتب مواضيع التعبير في المدرسة، وخواطري في دفتري السرّي، ورسائلي إلى صديقتي ألمى التي غادرتهُا في الثاني إعدادي مع عائلتي إلى اللاذقية، بقينا نتراسل بالبريد، يا لتلك النعمة المغدورة، نتناقش في ما قرأنا مثلما كنّا نفعل في الشام، عندما كانت البداية مع البؤساء بنسختها المختصرة، نبكي على كوزيت، ونشكر جان فالجان ونحن نفكّر في أفعاله حائرتين، كانت الرسائل أول نوع أدبي أمارسه.
اليوم لا أفعل غير النقر على لوحة المفاتيح، مصلوبة أمام شاشة اللابتوب، أو ألاعب جهازي الخليوي، في عزلتي المضاعفة، أنا المرأة القادمة من ذاك الهناك الموغل في الابتعاد، إلى هذا الهنا الموغل في العزلة، عزلة العالم التي لا تُحتمل بعد كورونا، وعزلتي التي أحملها كبيت السلحفاة من دون أن أجرؤ على الإطلال برأسي منها.
عايشت وأنا صغيرة الكثير من الحِرف الشائعة، حِرف يدوية كانت ما زالت تقاوم وتعاند في تحدّيها الحداثة المندفعة كجيوش غازية، عشت في السنين التي كانت للأيادي، لإبداعها، لعرقها، لشقائها، لحميميّتها، مكانة في نسيج الحياة، واليوم يحرقني أن آخر معمل لصناعة الزجاج يدويًّا قد أغلق في دمشق. لم أكن أخاف من مصافحة مريضي، على عكس الأطباء في هذه البلاد المتقدّمة، حيث يفصل الصقيع بين المريض وطبيبه، بل جعلت أزمة كورونا العديد من المعاينات تُجرى "أونلاين"، أطهِّر يديّ بعد خروج المريض من عيادتي، وأترك ليدي أن تفعل ما تشاء. لكنني اليوم، في هذا الزمن الذي يسيل حارقًا كالشمع، يدي عدوّي الأكبر في زمن الخوف من الوباء، أصابعي كأقلام الرصاص المتآكلة من دون مبراة، يدي هي الجحيم.
للغريبة شرفة تطل على الفراغ، تحت سماء بخيلة في شمسها، تحتكرها وتخبئها في أماكن سريّة مثل تجار الأزمات في بلادي. ومع هذا، بين شروق محتجب وغروب يختبئ في غلالة المساء، يطنّ الناس مثل خلية النحل، لديهم الكثير لينجزوه، وهناك في دمشق شمس كريمة حدّ أنها تغطّينا في قيلولتنا المديدة، ننام ونترك للزمن أن يتكفّل بما يمكن فعله.
نأت دمشق، لم أزرها منذ عقد، عندما توفّرت المناسبة لأفعل خفت من مواجهتها على حقيقتها. قيل لي: بردى لم يبارحها، لكن نسغه جفّ، وجامعها الأموي ما زال مفتوحًا لمؤمنين يدخلونه سرًّا خوفًا من عيون عسس معهم مفاتيح المسجد، وأوقات الصلاة، وسلّم الخطيب إلى محرابه، وكتاب مفتوح أمامه لخطب الجمعة التي تأتيه مكتوبة ومنجزة من فوق، ودعاءات لولي الأمر، فعنده رجال دين معهم مفاتيح الدنيا والآخرة.
لم أجرؤ على زيارتها، بالرغم من أنهم أخبروني أن الكثير من الحواجز التي قطّعت أوصالها أزيلت لعدم ضرورتها بعد أن "انتصرت" دمشق، لكن أوصالها بقيت مقطّعة. قالوا لي إن أبوابها السبعة الباقية مفتوحة للأعاصير، إلّا باب "الفرج" في شمالها، حيث الشمال الحزين، فهو مغلق في وجه الفرج، وباب "الجابية" المفتوح على قلب سورية وجيوب السوريين. حتى لو نهض ياقوت الحموي من رقاده الأبدي، وفتح دفاتره ليغيّر فيها تاريخ الطوفان وتاريخ الأبواب ومفاتيحها والغزاة الذين مرّوا منها، حتى لو بدأ بتدوين تاريخها الجديد، حتى لو أخبرنا أنها لم تعد تفتح وتغلق بحسب الضرورات الأمنيّة، بل بحسب ضرورات التحالفات وموقع الكواكب الجديد، لن أزورها.
لم أجرؤ على دخولها وقد غادرها نضال، وغادرتها إلهام، وألمى أمعنت في بعادها بعد أن غاب من كانت تأتي لتتدفّأ بروحه وصوته الرخيم، شحادة الخوري، والدها الكاتب واللغوي، صاحب البصمة الفريدة على مجمع اللغة العربية، وأوّل كتاب وضعه "حول المرأة" 1947، مثلما غادرني والدي الشاعر جميل حسن، بعد أن أقرّ بهزيمة مشروعه ورفاقه في إنهاض "الأمّة"، فإذا بها تهوي في حالة سقوط مديد، وترك ملاحمه على الورق في أربعة أجزاء، مع كتب أخرى ومخطوطات، وترك أسئلتي معلّقة في فضاء لزج كزيت معدني. أمّا عادل محمود، فأقرأ على صفحته في فيسبوك:
أنا لست متأكدًا من حبّي لهذه البلاد.
ذلك لأن الحبّ ضوء
والضوء نور
والنور من شيم القلب
والقلب وحده من يترك خلفه الضياء من شظاياه...بعد أن ينكسر.
أنا لست متأكدًا من كرهي لهذه البلاد...
ذلك لأنها، وهي مجروحة، قدّمت لعطشان على تخوم الحرب...
فكرة العصير النبيل.
ولكنني...
وأنا في أرجوحة التردّد بين الكراهية والحب...
باعني تاجر الحرب، بكامل ترددي طوال أعوامي المئة،
تردّدي بين... قاتل وقتيل.
لكنّني اليوم في برلين أجوع إلى مذاق كان في بالي ولم أبلغه، فقدت حتى متعة الاجترار، صرت ناطورة الزمن المائع كساعات دالي، أتسلّل إلى العالم الافتراضي بحذر عجوز تخشى الانزلاق، تتفقد رصيدها من فيتامين دال، سلاحها في غياب الشمس، تكثر من فناجين القهوة العربية لتقاوم كآبة لم تعد تجدي، من دون أن تعرف أن الكآبة نعمة أمام حياة من العدم، حتى لم أعد أغار من برلين مثلما حصل في لقائي الأوّل معها، عندما أتيتها بحقيبة ثقيلة من الصور الحزينة عن دمشق التي في خاطري.
سوسن جميل حسن 6 مارس 2022
سير
(باسم دحدوح)
شارك هذا المقال
حجم الخط
برلين مدينة باردة في الشتاء، وفي كل الفصول بالنسبة لي، أنا البعيدة عن بلادي الروحية مسافة لا تقاس بالكيلومترات، إنما بأبعاد الوجود المتأزّم لامرأة لم تعد تكترث للاتجاهات، ولا تفهم المسافة بين ما كان وما سيكون، كمريض مصاب بالزهايمر، يتّكئ على ذاكرته البعيدة كي يدرك وجوده.
يدهشني أنّ الحرارة في الخارج تحت الصفر بأربع درجات، ويطيب لي الجلوس على الشرفة في هذا المساء الرصين حدّ الاستفزاز، كما هي عادة المدينة في عطلة نهاية الأسبوع، لماذا لا أشعر بالبرد وأنا أشرب قهوتي العربية، أنظر إلى اللاشيء، وأنتظر اللاشيء؟ ربّما برد دمشق منحني لقاحًا ضدّ برد الدنيا يوم وُلدت فيها ذات شتاء من أواخر خمسينيات القرن الماضي، كما كانت والدتي ووالدي يحكيان عن ذلك الحدث الاستثنائي، بالطبع ليست ولادتي بالحدث الاستثنائي، فقد كانت سبقتني أختي الكبرى، إنما ما حصل معي، يوم كان والدي يستأجر بيتًا، دلّني عليه عندما كان في مستشفى المواساة في أواخر التسعينيات، قبل دخوله غرفة العمليات ليجري عملية تبديل شرايين قلبه المثخن بأوجاع "الأمّة"، من نافذة الغرفة أشار إليّ: هل ترين ذلك البيت القديم في الزقاق المقابل؟ هذا كان بيتنا يوم ولدتك أمّك. قلت له ضاحكة: يوم كنتَ ستتبرّع بي لكليّة الطب؟ لو لم تحكِ لي هذه القصّة باكرًا وأنا صغيرة لما كنتُ درست الطبّ. قلتها مازحةً كي لا أثير لديه مشاعر تعتدي على ميزانه العاطفي وهو مقبل على عمليّة كبيرة.
كان والدي في ذلك الزمان في الخدمة العسكريّة الإلزامية، لا دخلَ لديه غير راتب العسكرية برتبة ملازم، وهو مسؤول عن عائلة مكوّنة من زوجة لم تتجاوز العشرين من عمرها، وبنت لم تكمل عامها الثالث، وأنا، بطلة الحكاية. ولديه أسرته التي يساعدها ويرسل إليها المال من مرتّبه القليل. كان تأمين نقل جثتي إلى "البلد"، وطقوس الجنازة، وكلفتها، فوق طاقته فيما لو متّ، لكنّني لم أمت. وها أنا أجلس على شرفة الغياب وفي جوفي تاريخ، أمدّ أصابعي في اتجاه أشباح لا تأبه لي، فأعيد حكاياتي على نفسي. كنتُ مصابة بالتهاب تنفسي نزل على قصباتي الشعريّة، وكانا يائسين من شفائي، لكنني شفيت وعشت إلى اليوم. تحضرني الذكريات على شرفة في مدينة الصقيع. تعمّدتُ بماء نبع الفيجة، وشربتُ أول جرعة منه يوم كان يسقي دمشق كلّها، وكاد بردها أن يقتلني، بينما كان يختبرني ويمدّني بمناعة ضدّ برد العالم، لكن دمشق لم تكن تعرف أن برد الغريبة يسكن في قلبها.
غادرنا دمشق وعدنا إليها وأنا في منتصف المرحلة الابتدائية، كانت مدينة أكتشفها وأختبرها للمرّة الأولى. في الصف الأوّل إعدادي، كانت مدرستنا الإعدادية بين الفيلّات الناهضة على أتوستراد المزة، نمشي الطريق إليها كل يوم، أختي الأكبر وأنا، فنجتاز السوق ونمرّ أمام المقبرة الفرنسية. كان كل شيء بهيجًا وغريبًا ومدهشًا، مدرّسة التاريخ الأنيقة الأرستقراطية كانت تنزل من سيّارتها وتدسّ كل قدم من قدميها في كيس من النايلون الشفّاف كي لا يتسخ حذاؤها ذو الكعب العالي، ننتظر وصولها على النوافذ لنراقب هذه الحركة المذهلة، نصرخ لتنتبه كل الفتيات: وصلت مدام مالكي. كانت أخت الضابط الذي قضى اغتيالًا "عدنان المالكي"، وكنتُ ببراءة طفلة أحاول أن أجد وجه الشبه بينها وبين ذاك التمثال الذي يتوسط ساحة في أرقى أحياء دمشق، أبو رمّانة، الساحة التي تحوّل اسمها في عام 1958، من ساحة "دوحة الوليد" إلى ساحة "المالكي"، لم أكن أعرف حكاية المالكي وكيف اغتيل ولماذا، حتى غزت رأسي تلك القصص التي لا تنتهي عن الاغتيال السياسي وأنا أكبر في هذا الفضاء الموّار بالأحداث والأقاويل والجيران المختلفين.
كانت جارتنا المعلّمة "ناريمان" تضع منديلًا رقيقًا على رأسها تظهر منه غرّتها ومقدّمة رأسها، وكان زوجها "شيوعيًّا". هذا ما كنت أسمعه في البيت، وكانت ترفعه عن رأسها عندما تزورنا مع زوجها، أمّا أم عدنان، المرأة الديناميكية التي لم يكن يعصى عليها أمرٌ في شؤون البيت، من إصلاح أي غرض يناله العطب، إلى إعادة وصل التيار الكهربائي عندما يحترق شريط القاطع بسبب فرط الحمولة، فكانت منقّبة، تلتف بالسواد، ولا يظهر منها غير عينيها، لكنها كانت تلبّي بسرعة مدهشة أي طلب خدمة نطلبه منها. في الطابق الأرضي، كانت تسكن أسرة أبو سالم، شقيق الملحّن عبد الفتاح سكّر. نشأت علاقات الصداقة بسرعة بيننا وبينهم، كانت بناته من عمري وعمر أختي الأصغر، وكانوا عائلة جميلة معظم أفرادها موهوبين، نهرع نحن وبقية الجيران إلى بيتهم كلمّا دوّت صافرات الإنذار في حرب الاستنزاف التي استمرّت بعد الهزيمة، وكانوا يفتحون حضنهم للجميع. هذه هي دمشق التي كانت في خلدي.
نذهب أيّام الجمعة، أختي الأكبر وأنا، لنتدرّب على "كرة الطاولة" تحضيرًا للبطولة، في مدرسة ساطع الحصري في المهاجرين. لم يكن لدى أمّي وأبي مشكلة في المسافة الطويلة التي سنقطعها من آخر تجمّع سكني في جبل المزّة، لم يكن وقتها يوجد حيّ اسمه مزّة 86، فلهذا الحيّ المتشكّل عشوائيًّا من وافدين من المناطق البعيدة، خاصّة الساحل، في ثمانينيات القرن الماضي، حكاية أخرى. كنّا نستقلّ باصات النقل العام، ونبدّل من خطّ إلى آخر يوصلنا إلى هناك، وعند الانتهاء كنّا نلاقي أسرتنا في أحد مطاعم الربوة على النهر بمياهه الرقراقة والأشجار السامقة المائلة بغصونها في اتجاهه. كانت تلك البقعة كالجنة يخترقها قطار الزبداني الذي غنّى له أبو صيّاح (الراحل رفيق السبيعي): صفّر صفّر يا بابور وخدنا عالزبداني، ببقيّن منعمل فطور والعشا ببلوداني. وكان أهل الشام بارعين في السيران، فهو من تقاليدهم الأصيلة في المتع الجميلة، مثلما كان صحن التسقية بزيت الزيتون الخاص، الذي "يفقس"، طقس اجتماع الأسرة على الفطور صباح الجمعة.
منذ متى لم أزُرْ دمشق؟ كان ذلك ذات صيف من 2011، ودمشق ما زالت هادئة تسير حياتها بإيقاعها، لكن صدى القتال في المناطق الأخرى في سورية يخيّم عليها، التقيت بالعزيز الذي رحل باكرًا نضال سيجري، كان صوته شبه مفقود بعد علاج من سرطان الحنجرة، لم يركن بعده لأي راحة جسدية أو نفسيّة، كان مهمومًا بحال البلاد، مهمومًا بالإمساك بالمحبة والرحمة كي لا تفرّ من قلوب أبناء البلد، كما ينادي. لا يهدأ، بين اللاذقية والشام، ينخرط بين الناس ويصرخ بصوته المبحوح وصدره المجروح: وطني يوجعني، تنزّ الدموع من عيوننا، عندما أغادره إلى بيت إلهام، بيت ممدوح عدوان، يحضنني ويناديني: يا ابنة بلدي. بينما صوته ينطفئ.
كان شيء تسلّل إلى دمشق، لمسته منذ الزيارة التي سبقتها، في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011، عندما ظهر عمر سليمان، الذي كان قد عيّنه حسني مبارك نائبًا له قبل يوم، يتلو استقالة الرئيس. بلى، في الشام رائحة غريبة، قبلها بأكثر من أربعين عامًا، كانت رائحة ياسمينها تنهمر طمأنينة علينا عندما كنّا، أختي وأنا، نقطع تلك المسافات بلا خوف، أمّا في ذلك اليوم، عندما تنحّى مبارك، وكان المساء لم يكتمل بعد وأنا ذاهبة إلى بيت إلهام، فقد كانت الصالحية وبوابتها نزولًا في اتجاه جسر فيكتوريا، شبه خالية من النساء، وكنت أشعر أن العيون كلّها تلاحقني، أنا المرأة الماشية في هذا الوقت سافرة الرأس. وعند إلهام كنتُ أجلس على الأريكة التي ودّع فوقها الحياة ممدوح قبل ستة أعوام، بجانبي إلهام، وعلى الأريكة الأخرى تجلس منى شقيقتها، والشاعر عادل محمود، شقيق إلهام الروحي. كنّا ذاهلين أمام التلفزيون، لا نجرؤ على أن نفكّر بصوتٍ عالٍ.
على الشرفة في برلين، يرتجف قلبي من دون أن يشعر جسدي بالبرد، تهجم عليّ الذاكرة وأنا أنظر إلى اللاشيء، فيصطدم نظري بأصابعي، بيديّ، أشعر بغرابتهما، كأنهما قطعتان التصقتا بساعديّ، لا يكاد جسمي يعرفهما، يداي ليستا بخير، هذا ما أشعر به، أمرّرهما على جسدي، أستنهض ذاكرتهما وحسّهما السريري، كانتا مفتاحي في مقاربة مرضاي، تجوسان جسم المريض بحثًا عن علامات تقرّبني من تشخيص حالته ومساعدته في تجاوز ألمه، كانتا ماهرتين في الطبخ، بل كانتا ميزان الملح فيه، حنونتين على القماش عندما أفصّل فساتيني، رهيفتين إذ تمسكان ريشة الألوان وتقبلان على بياض اللوحة. وقبل هذا كانتا صديقتين للقلم وأنا أكتب مواضيع التعبير في المدرسة، وخواطري في دفتري السرّي، ورسائلي إلى صديقتي ألمى التي غادرتهُا في الثاني إعدادي مع عائلتي إلى اللاذقية، بقينا نتراسل بالبريد، يا لتلك النعمة المغدورة، نتناقش في ما قرأنا مثلما كنّا نفعل في الشام، عندما كانت البداية مع البؤساء بنسختها المختصرة، نبكي على كوزيت، ونشكر جان فالجان ونحن نفكّر في أفعاله حائرتين، كانت الرسائل أول نوع أدبي أمارسه.
اليوم لا أفعل غير النقر على لوحة المفاتيح، مصلوبة أمام شاشة اللابتوب، أو ألاعب جهازي الخليوي، في عزلتي المضاعفة، أنا المرأة القادمة من ذاك الهناك الموغل في الابتعاد، إلى هذا الهنا الموغل في العزلة، عزلة العالم التي لا تُحتمل بعد كورونا، وعزلتي التي أحملها كبيت السلحفاة من دون أن أجرؤ على الإطلال برأسي منها.
عايشت وأنا صغيرة الكثير من الحِرف الشائعة، حِرف يدوية كانت ما زالت تقاوم وتعاند في تحدّيها الحداثة المندفعة كجيوش غازية، عشت في السنين التي كانت للأيادي، لإبداعها، لعرقها، لشقائها، لحميميّتها، مكانة في نسيج الحياة، واليوم يحرقني أن آخر معمل لصناعة الزجاج يدويًّا قد أغلق في دمشق. لم أكن أخاف من مصافحة مريضي، على عكس الأطباء في هذه البلاد المتقدّمة، حيث يفصل الصقيع بين المريض وطبيبه، بل جعلت أزمة كورونا العديد من المعاينات تُجرى "أونلاين"، أطهِّر يديّ بعد خروج المريض من عيادتي، وأترك ليدي أن تفعل ما تشاء. لكنني اليوم، في هذا الزمن الذي يسيل حارقًا كالشمع، يدي عدوّي الأكبر في زمن الخوف من الوباء، أصابعي كأقلام الرصاص المتآكلة من دون مبراة، يدي هي الجحيم.
للغريبة شرفة تطل على الفراغ، تحت سماء بخيلة في شمسها، تحتكرها وتخبئها في أماكن سريّة مثل تجار الأزمات في بلادي. ومع هذا، بين شروق محتجب وغروب يختبئ في غلالة المساء، يطنّ الناس مثل خلية النحل، لديهم الكثير لينجزوه، وهناك في دمشق شمس كريمة حدّ أنها تغطّينا في قيلولتنا المديدة، ننام ونترك للزمن أن يتكفّل بما يمكن فعله.
نأت دمشق، لم أزرها منذ عقد، عندما توفّرت المناسبة لأفعل خفت من مواجهتها على حقيقتها. قيل لي: بردى لم يبارحها، لكن نسغه جفّ، وجامعها الأموي ما زال مفتوحًا لمؤمنين يدخلونه سرًّا خوفًا من عيون عسس معهم مفاتيح المسجد، وأوقات الصلاة، وسلّم الخطيب إلى محرابه، وكتاب مفتوح أمامه لخطب الجمعة التي تأتيه مكتوبة ومنجزة من فوق، ودعاءات لولي الأمر، فعنده رجال دين معهم مفاتيح الدنيا والآخرة.
لم أجرؤ على زيارتها، بالرغم من أنهم أخبروني أن الكثير من الحواجز التي قطّعت أوصالها أزيلت لعدم ضرورتها بعد أن "انتصرت" دمشق، لكن أوصالها بقيت مقطّعة. قالوا لي إن أبوابها السبعة الباقية مفتوحة للأعاصير، إلّا باب "الفرج" في شمالها، حيث الشمال الحزين، فهو مغلق في وجه الفرج، وباب "الجابية" المفتوح على قلب سورية وجيوب السوريين. حتى لو نهض ياقوت الحموي من رقاده الأبدي، وفتح دفاتره ليغيّر فيها تاريخ الطوفان وتاريخ الأبواب ومفاتيحها والغزاة الذين مرّوا منها، حتى لو بدأ بتدوين تاريخها الجديد، حتى لو أخبرنا أنها لم تعد تفتح وتغلق بحسب الضرورات الأمنيّة، بل بحسب ضرورات التحالفات وموقع الكواكب الجديد، لن أزورها.
لم أجرؤ على دخولها وقد غادرها نضال، وغادرتها إلهام، وألمى أمعنت في بعادها بعد أن غاب من كانت تأتي لتتدفّأ بروحه وصوته الرخيم، شحادة الخوري، والدها الكاتب واللغوي، صاحب البصمة الفريدة على مجمع اللغة العربية، وأوّل كتاب وضعه "حول المرأة" 1947، مثلما غادرني والدي الشاعر جميل حسن، بعد أن أقرّ بهزيمة مشروعه ورفاقه في إنهاض "الأمّة"، فإذا بها تهوي في حالة سقوط مديد، وترك ملاحمه على الورق في أربعة أجزاء، مع كتب أخرى ومخطوطات، وترك أسئلتي معلّقة في فضاء لزج كزيت معدني. أمّا عادل محمود، فأقرأ على صفحته في فيسبوك:
أنا لست متأكدًا من حبّي لهذه البلاد.
ذلك لأن الحبّ ضوء
والضوء نور
والنور من شيم القلب
والقلب وحده من يترك خلفه الضياء من شظاياه...بعد أن ينكسر.
أنا لست متأكدًا من كرهي لهذه البلاد...
ذلك لأنها، وهي مجروحة، قدّمت لعطشان على تخوم الحرب...
فكرة العصير النبيل.
ولكنني...
وأنا في أرجوحة التردّد بين الكراهية والحب...
باعني تاجر الحرب، بكامل ترددي طوال أعوامي المئة،
تردّدي بين... قاتل وقتيل.
لكنّني اليوم في برلين أجوع إلى مذاق كان في بالي ولم أبلغه، فقدت حتى متعة الاجترار، صرت ناطورة الزمن المائع كساعات دالي، أتسلّل إلى العالم الافتراضي بحذر عجوز تخشى الانزلاق، تتفقد رصيدها من فيتامين دال، سلاحها في غياب الشمس، تكثر من فناجين القهوة العربية لتقاوم كآبة لم تعد تجدي، من دون أن تعرف أن الكآبة نعمة أمام حياة من العدم، حتى لم أعد أغار من برلين مثلما حصل في لقائي الأوّل معها، عندما أتيتها بحقيبة ثقيلة من الصور الحزينة عن دمشق التي في خاطري.