عن وحشية القراءة وبراءتها
يوسف الخضر 11 يناير 2022
سير
(Aradhana Gupta, The Writer)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في البداية؛ لا شيء يشفي النفس وينصفها كالقراءة، إنها تمنحك فرصة فهم الأشياء التي آلمتك، فتلقي بك أمام احتمالين، إما أن تكتشف أن تلك الأشياء كانت ظالمة فعلًا أو أنك كنت تستحق كل ذلك الألم.
ولكن من لم يدرك أن القراءة عمل شاق، فهو غالبًا لم يستفد شيئًا مما قرأه. القراءة فعل وحشيّ ونبيل في نفس الوقت، إنها عملية كسر العظم المائل وإعادة تجبيره بالطريقة الصحيحة.
كنت مع مجموعة أولاد من بائعي الورد ننزل رفقة إلى الشارع، كان أقراني يتنافسون فيما بينهم على من سيجني مالًا أكثر، أما أنا فلم أكن أدخل في ذلك التحدي لأنني استسلمت بمرور الوقت لكوني الأقل حظًا بينهم، إذ كنت دائم الشرود، وعندما لا أكون شاردًا فهذا بالضرورة يعني أنني في مكان ما أسترق وقتًا للقراءة، وقد كلفني ذلك الكثير من الصفعات على وجهي من أخي الأكبر لقلة ما أجنيه من نقود، كنت أرتجف خوفًا حين يرفع يده ليضربني، - كنت أرتجف- وها هو (أقصد أخي الأكبر) بمثابة نكرة بينما أنا جالس هنا - بثبات- أقول كلمتي.
أذكر أنني بينما كنت أجوب الشوارع متأبطًا سلة الورود، كنت دائمًا مُعرضًا للاعتقال من دوريات الدرك بسبب طبيعة عملي الممنوعة قانونيًا، ناهيك عن المتسكعين الحمقى الذين يتلذذون بالتنكيل بمن هم أضعف منهم، لذلك كنت أقول لنفسي كي أهدئ من روعها: حتى لو كان بإمكانك العودة والاستلقاء هناك آمنًا، لا توجد مكتبة في البيت، لن تجد ما تقرأه، اصمد قليلًا بعد.
نعم، القراءة انتصار، لا أدري انتصار على ماذا، ولكنها انتصار.
ذات يوم دخلت إلى إحدى المكتبات وسألت البائع عن ثمن كتاب أردت قراءته، فكان ثمنه أكثر مما لديّ من نقود، عندها عدت إلى رفوف المكتبة وغبت عن نظر البائع لأكثر من نصف ساعة، وعندما هممت بالخروج، ناداني وقال لي بصوت مشفق: "إن شئت، أُنزل لك من سعر الكتاب قليلًا".. هززت رأسي رافضًا وغادرت. ربما ظن البائع حينها أنني لست زبونًا جادًا، ربما لم يعرف إلى لحظته هذه أنني أنهيت قراءة ذلك الكتاب، في الفترة التي غبت فيها عن ناظره.
إنه الفضول، لم أكن أملك سواه، ومن خلاله أدركت:
أنه مثلما وجد العلماء قوة هائلة في اصطدام الذرات ببعضها البعض، كذلك الأفكار الصغيرة العميقة، إذا احتكت بداخلك بنمط معين، فسوف تخلق فيك قوة لا تقهر.
قرأت فرويد لأفهم نفسي، قرأته مرة أخرى لأفهم الآخرين.
قرأت الماغوط لأبكي، قرأته مرة أخرى لأن الابتسامة جميلة، على وجه ملطخ بالدموع.
قرأت كافكا لأقبل نفسي كمسخ، قرأته مرة أخرى لأخرج تلك الفكرة من رأسي.
قرأت ساراماغو لأرى بأعين المكفوفين، قرأته مرة أخرى لأرى بوضوح.
قرأت أغاثا كريستي لمعرفة من هو القاتل، قرأتها مرة أخرى ووجدت أنها هي القاتل.
قرأت فرناندو بيسوا، رياض الصالح الحسين وسوزان عليوان، قرأتهم كثلاثة شعراء كلًا على حدة، واكتشفت في نهاية المطاف أنهم شاعر واحد.
قرأت لدوستويفسكي "الأبله" و"الأخوة كرامازوف" ووعدته بأنه اذا كانت هناك حياة أخرى بعد الموت سأتفرغ لباقي مؤلفاته.
محمود درويش، جبران خليل جبران، شكسبير، سيلفيا بلاث، آرون بيك، همنغواي، بوكوفسكي.
قرأت محمد شكري وذات مرة خسرت أحد أصدقائي بعد مشادة كلامية بيننا بسبب دفاعي عن موقف شكري في "الخبز الحافي".
قرأت رسائل فان غوخ، قرأتها لدرجة أن الرصاصة التي اخترقت صدره سافرت عبر الزمن واستقرت في قلبي.
كل هؤلاء اعترضوا طريقي قبل بلوغي سن السادسة عشرة، جالستهم في سن مبكرة وخسرت طفولتي معهم، لكنني في المقابل حصلت منهم على المعرفة، وقد كان الشعور بالخذلان أمام الأولاد، وتلقي الصفعات من أخي الأكبر، هو الثمن الباهظ الذي دفعته مقابل الحصول على تلك المعرفة، ولن أندم على ذلك أبدًا.
يوسف الخضر 11 يناير 2022
سير
(Aradhana Gupta, The Writer)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في البداية؛ لا شيء يشفي النفس وينصفها كالقراءة، إنها تمنحك فرصة فهم الأشياء التي آلمتك، فتلقي بك أمام احتمالين، إما أن تكتشف أن تلك الأشياء كانت ظالمة فعلًا أو أنك كنت تستحق كل ذلك الألم.
ولكن من لم يدرك أن القراءة عمل شاق، فهو غالبًا لم يستفد شيئًا مما قرأه. القراءة فعل وحشيّ ونبيل في نفس الوقت، إنها عملية كسر العظم المائل وإعادة تجبيره بالطريقة الصحيحة.
كنت مع مجموعة أولاد من بائعي الورد ننزل رفقة إلى الشارع، كان أقراني يتنافسون فيما بينهم على من سيجني مالًا أكثر، أما أنا فلم أكن أدخل في ذلك التحدي لأنني استسلمت بمرور الوقت لكوني الأقل حظًا بينهم، إذ كنت دائم الشرود، وعندما لا أكون شاردًا فهذا بالضرورة يعني أنني في مكان ما أسترق وقتًا للقراءة، وقد كلفني ذلك الكثير من الصفعات على وجهي من أخي الأكبر لقلة ما أجنيه من نقود، كنت أرتجف خوفًا حين يرفع يده ليضربني، - كنت أرتجف- وها هو (أقصد أخي الأكبر) بمثابة نكرة بينما أنا جالس هنا - بثبات- أقول كلمتي.
أذكر أنني بينما كنت أجوب الشوارع متأبطًا سلة الورود، كنت دائمًا مُعرضًا للاعتقال من دوريات الدرك بسبب طبيعة عملي الممنوعة قانونيًا، ناهيك عن المتسكعين الحمقى الذين يتلذذون بالتنكيل بمن هم أضعف منهم، لذلك كنت أقول لنفسي كي أهدئ من روعها: حتى لو كان بإمكانك العودة والاستلقاء هناك آمنًا، لا توجد مكتبة في البيت، لن تجد ما تقرأه، اصمد قليلًا بعد.
نعم، القراءة انتصار، لا أدري انتصار على ماذا، ولكنها انتصار.
ذات يوم دخلت إلى إحدى المكتبات وسألت البائع عن ثمن كتاب أردت قراءته، فكان ثمنه أكثر مما لديّ من نقود، عندها عدت إلى رفوف المكتبة وغبت عن نظر البائع لأكثر من نصف ساعة، وعندما هممت بالخروج، ناداني وقال لي بصوت مشفق: "إن شئت، أُنزل لك من سعر الكتاب قليلًا".. هززت رأسي رافضًا وغادرت. ربما ظن البائع حينها أنني لست زبونًا جادًا، ربما لم يعرف إلى لحظته هذه أنني أنهيت قراءة ذلك الكتاب، في الفترة التي غبت فيها عن ناظره.
إنه الفضول، لم أكن أملك سواه، ومن خلاله أدركت:
أنه مثلما وجد العلماء قوة هائلة في اصطدام الذرات ببعضها البعض، كذلك الأفكار الصغيرة العميقة، إذا احتكت بداخلك بنمط معين، فسوف تخلق فيك قوة لا تقهر.
قرأت فرويد لأفهم نفسي، قرأته مرة أخرى لأفهم الآخرين.
قرأت الماغوط لأبكي، قرأته مرة أخرى لأن الابتسامة جميلة، على وجه ملطخ بالدموع.
قرأت كافكا لأقبل نفسي كمسخ، قرأته مرة أخرى لأخرج تلك الفكرة من رأسي.
قرأت ساراماغو لأرى بأعين المكفوفين، قرأته مرة أخرى لأرى بوضوح.
قرأت أغاثا كريستي لمعرفة من هو القاتل، قرأتها مرة أخرى ووجدت أنها هي القاتل.
قرأت فرناندو بيسوا، رياض الصالح الحسين وسوزان عليوان، قرأتهم كثلاثة شعراء كلًا على حدة، واكتشفت في نهاية المطاف أنهم شاعر واحد.
قرأت لدوستويفسكي "الأبله" و"الأخوة كرامازوف" ووعدته بأنه اذا كانت هناك حياة أخرى بعد الموت سأتفرغ لباقي مؤلفاته.
محمود درويش، جبران خليل جبران، شكسبير، سيلفيا بلاث، آرون بيك، همنغواي، بوكوفسكي.
قرأت محمد شكري وذات مرة خسرت أحد أصدقائي بعد مشادة كلامية بيننا بسبب دفاعي عن موقف شكري في "الخبز الحافي".
قرأت رسائل فان غوخ، قرأتها لدرجة أن الرصاصة التي اخترقت صدره سافرت عبر الزمن واستقرت في قلبي.
كل هؤلاء اعترضوا طريقي قبل بلوغي سن السادسة عشرة، جالستهم في سن مبكرة وخسرت طفولتي معهم، لكنني في المقابل حصلت منهم على المعرفة، وقد كان الشعور بالخذلان أمام الأولاد، وتلقي الصفعات من أخي الأكبر، هو الثمن الباهظ الذي دفعته مقابل الحصول على تلك المعرفة، ولن أندم على ذلك أبدًا.