مدرسة ساطع الحصري..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مدرسة ساطع الحصري..

    مدرسة ساطع الحصري..
    فيصل خرتش 25 ديسمبر 2021
    سير
    عنوان صحيفة "الوطن" في يوم زيارة عبد الناصر لحلب
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    عندما بلغت سن السابعة، سجلني أهلي في مدرسة ساطع الحصري، التي تقع خلف جامع "المشاطية" فإذا قدمت من جامع "قارلق" ونزلت إلى السوق، ستلمح مقهى "كردوش" اتركه جانبًا، فإذا مشيت إلى الأمام ستجد زقاقًا على اليسار، فإذا دخلت فيه وانحرفت ناحية اليمين، ستكون أمام المدرسة، وإذا جئت من الأعلى، من بوابة المشاطية، تكون المدرسة خلف الجامع مباشرة.
    إذا وصلت إلى المدرسة، ادخلها ستلمح في الممر، لوحة مكتوب عليها: ساطع الحصري: مفكر قومي، ولد في مدينة صنعاء سنة 1885، وهو من أهالي مدينة حلب. حصل على الإجازة الشرعية والآداب من جامعة الأزهر. حمل راية القومية العربية، وصار ينظر لها. أصبح مديرًا للمعارف في سورية، ثم العراق، وتوفي في بغداد سنة 1968. له مؤلفات عديدة في القومية العربية. وعلى الطرف الأيسر من اللوحة صورة محفورة له.
    بعد أن ينتهي الدهليز، نكون في الباحة الصغيرة، ثم فصول على اليمين تتضمن فصلين للأول، وتواجهك فصلين للثاني والثالث، يصعد إليهما بدرج، وعلى اليسار غرفة الإدارة. وفي تلك الأيام، كنا نرتدي الصداري السود، وكانت المعلمات يجبرننا على وضع "القبة"، وهي قطعة بيضاء تحيط بالرقبة، نشتريها من المكتبة التي في فم السوق، ونضعها عندما ندخل المدرسة، ونخلعها ونضعها في جيوبنا عندما نخرج من المدرسة، كي لا يقال عنا مثل البنات، فعليك أن تتصور التلميذ على هذا الشكل: بنطال وصدرية سوداء، وقبة بيضاء وحقيبة.
    يصطف التلاميذ أمام الإدارة، ويبدأ الدوام بـ استا عد، استا رح، استا عد، نشيد الله أكبر، وبصوت واحد يردد التلاميذ: "الله أكبر الله أكبر.. الله فوق كيد المعتدي"، وعندما ينتهي النشيد نكون قد امتلأنا حماسة وعنفوانًا.
    وتبدأ المعلمة بنشيد: عبد الناصر يا جمال.. يا مقدام عروبتنا.. فيك محقق للآمال.. وأنت غاية وحدتنا.
    فعززته المعلمة بالنشيد الذي يملؤنا قوة وفخارًا، إنه نشيد الجزائر، وبدأنا نردد: قسمًا بالنازلات الماحقات/ والدماء الزاكيات الطاهرات
    والبنود اللامعات الخافقات/ في الجبال الشامخات الشاهقات
    نحن خضناها حياة أو ممات/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
    استا رح.. استا عد. ومضينا إلى فصولنا، وقد امتلأت نفوسنا بالعزة والكبرياء والعنفوان.
    كان الفصل الذي أنتمي إليه يقع بجانب غرفة المديرة، وكنت تلميذًا مهذبًا، أجلس في المقدمة، والتلاميذ الآخرون في الخلف يتقاتلون، واحد يضرب حقيبة الآخر، والآخر يضرب الأول، وهكذا إلى أن تأتي المعلمة، فتكون السبورة قد امتلأت بأسماء المشاغبين، فتبدأ بضرب كل منهم، ثم تبدأ الدرس. وفي الاستراحة، ننزل إلى تحت الدرج، ونسحب النطاق الجلدي، نضرب بعضنا، هنا لا يمكن للمعلمة أن ترانا، صرنا نتجمع كل حارة على حدة، ونبدأ بسلخ بعضنا، حتى تنتهي فترة الاستراحة، ثم يقرع الجرس اليدوي، ونعود إلى الدرس.
    لم تكن في المدرسة فصول كثيرة: الأول والثاني والثالث، لأن مديرية التربية والتعليم تخاف علينا من ناحية البلوغ، وبعد ذلك يحدفونا إلى مدرسة أبعد من هذه، وهي مدرسة كبيرة بنتها الدولة، وهي ليست كهذه مستأجرة، والمدرسة النموذجية بها الصفوف الثلاثة الباقية، أعني فيها الرابع والخامس والسادس، وفيها دجاج وأرانب، ويديرها مدير ومعلمون، وفيها أستاذ للرياضة، ومخبر، وأستاذ للغة العربية أكرهه كثيرًا، وتسمَى باسم سعد الله الجابري المناضل ضد الفرنسيين.
    في المدرسة باحة كبيرة نوعًا ما، وتقع على يسار غرفة الإدارة، ولم تكن تستخدمها المعلمات، لأنهن لم يكن يرتدين بنطالًا في تلك الفترة، وكن يكتفين بالجلوس في الفصل، والمناوب يكتب أسماء المشاغبين، وهي تسرح بعيدًا.
    في الأيام اللاحقة، ستأتي المعلمة لتخبرنا أننا سنشهد الرئيس عبد الناصر معًا، وبدأت بتوزيع الثياب الكشفية علينا، لبسناها في المدرسة، وصرنا نتدرب بها، وزعت علينا لكل واحد: بنطالًا وقميصًا لونهما كاكي، وحذاء وكمرًا وسيدارة، وذهبنا جميعًا في عيد الوحدة إلى زاوية مقبرة الشيخ يوسف، ووقفنا نمسك أيدي بعضنا انتظارًا لقدوم الرئيس.
    انتظرنا أكثر من ساعة، الناس كانت مجتمعة على مداخل البيوت، وفي الشارع وعلى الأسطحة، وفي كل مكان يحملون أعلام الوحدة وصور الرئيس عبد الناصر، وبعد قليل جاء الرئيس، عرفنا ذلك من خلال التصفيق والهتافات التي كانت تأتي إلينا تباعًا، وجهزنا أنفسنا لاستقباله، أعطتنا المعلمة الأمر فرفعنا أيدينا إلى رؤوسنا في وضعية التحية، بعض الناس كانوا يمسكون بالخراف استعدادًا لذبحها، وعندما مرّ الرئيس بدأت زغاريد النساء، والرجال يندفعون وراء الموكب، وبعضهم كان يبكي، والأطفال يهتفون: ناصر ناصر.. الله الناصر، لقد جاء الموكب تتقدمه ست دراجات نارية، ثم بضع سيارات، وأخيرًا سيارة الرئيس. كان يقف والسيارة مفتوحة من الأعلى، إنه يحيي الناس، والناس تسلم عليه، بأغصان الشجر والأعلام، يذبحون الخرفان، واختلط الحابل بالنابل، وسارت جموع المحتشدين خلف السيارات، وأنا سرت وراء الموكب، أركض خلف سيارة الرئيس إلى أن وصلت إلى قصر الضيافة، ووقف الرئيس على منصة عالية والجماهير المحتشدة أسفل منه، وراح يخطب بنا، زهاء ساعة انفضت الجموع، انتبهت إلى أنني لا أعرف الطريق، فسألت الناس عن مدرستي، وتبين لي أنهم لم يسمعوا بها، إلى أن قيض لي "الطنبر" الذي قال اركب معي، فركبت إلى جانبه، وسرنا طويلًا إلى أن بلغنا السوق، نزلت، ثم توجهت إلى المدرسة، كان التلاميذ يخلعون ثيابهم، فاندسست بينهم، قالت المعلمة: أين كنت؟ لقد ضعت يا آنسة. ثم لبسنا الصداري السود، وذهبنا إلى بيوتنا فرحين مسرورين.
    في الأيام التالية، وفي 28 أيلول، دخلنا المدرسة، كانت المعلمات في حالة هياج، والمديرة كذلك، قرع الجرس، وانتظمنا في صفوفنا، وبدأنا ترديد الأناشيد خلف المعلمة، لكن المديرة صرخت بنا أن لا لعبد الناصر، كانت تمسك بالعصا وتضرب التلاميذ على أرجلهم، بينما المعلمات يهتفن بـ عبد الناصر يا جمال.
    لقد علمنا أن الانفصال وقع، من خلال المديرة والمعلمات اللاتي لم يردن أن ندخل الفصول، والمديرة كانت ترغب بذلك، وتتابعت بعض الحجارة على المدرسة، وسمعنا أصواتًا تردد: أمة الشباب تكسر الأبواب. وعلمنا أن مدرسة أبو بكر الصديق هي في الخارج تدعو للإضراب، واشتد الهياج، إلى أن أجبرنا المديرة على أن تدخل غرفتها. عند ذلك فتحت الأبواب، وحملت الرايات والأعلام، واندفعنا إلى السوق ونحن نهتف: أمة الشباب تكسر الأبواب.
يعمل...
X