وحش عملاق بحجم النسيان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وحش عملاق بحجم النسيان

    وحش عملاق بحجم النسيان
    يوسف الخضر 17 نوفمبر 2021
    سير
    (الشقيقان يوسف وفارس الخضر)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    عزيزي فارس.. قبلَ ستةِ أعوامٍ تلقيتُ نبأَ موتِكَ. أعذرني.. كنتُ سأقول: رحيلُكَ على سبيلِ الاحترامِ كالعادةِ، لكنَّني حقًّا بِتُّ أفكِّرُ في أنَّهُ لماذا عليَّ أنْ أحترمَ موقفَكَ لدرجةِ أنْ أخشى فيها التبديلَ بينَ مفردةٍ خشنةٍ ومفردةٍ مُرهَفةٍ عندَما أصفُ اختفاءَكَ المُفاجِئَ منْ حياتي، بينما أنت وبمعرفتِكَ العميقةِ بالفراغِ الهائلِ الذي سوفَ تتركُهُ في روحي غادرْتَ فجأةً! فدعني أقولْ: بموتك لا برحيلك، ولنَنْتهي منْ هذهِ المسألةِ.

    قبلَ ستَّةِ أعوامٍ تلقَّيْتُ نبأَ موتِكَ، هكذا بكلِّ بساطةٍ جاءَ أحدُهم وقالَ لي: "ماتَ فارس". لا توجدُ طريقةٌ أستطيعُ أنْ أشرحَ لكَ فيها ذلكَ الموقِفَ، ولكنْ تخيَّلْ مَعي لو أنَّ أحدَهُمْ وَقَفَ أمامَكَ وأخبرَكَ بثباتٍ أنَّ طائرةً أميركيةً مزَّقَتْني إلى أشلاءٍ، نعم؛ هذا ما سمعْتُهُ بالضَّبط، أو بالأَحرى هذا ما أفقدَني الاحساسَ لساعاتٍ في ذلكَ اليومِ، لقدْ وقفْتُ بذهولٍ كأنَّ ذاكرتي امَّحَتْ تمامًا، لمْ أعدْ أُحسُّ بشيءٍ على الإطلاقِ، استمرَّ ذلكَ يومًا كاملًا ثُمَّ دخلتُ في حالةِ إنكارٍ، حتَّى أنَّني فتحْتُ هاتفي وأذعْتُ ببرودٍ نبأَ موتِكَ لأرى ردودَ أفعالِ مُحبِّيكَ. رُبَّما أردتُ أنْ أتأكَّدَ منَ الخبرِ بمشاهدةِ ردودِ أفعالِهمْ؛ لأنَّني فقدتُ ثِقَتي بحدسي آنَذاك، واعتقدْتُ هُنيهةً أنَّهم سيشتمونَني على تلكَ المزحةِ الساذجةِ، وظننْتُ أنَّ الكثيرَ منَ الرسائلِ ستردُّني على شكلِ: "أخفتَنا عليه حقًّا أيُّها الأرعنُ". لكنَّ الجميعَ صدقَّ فورًا، حينها بدأتُ بدوري أُصدِّقُ مثلَهم.

    وأسوأُ ما في الأمرِ أنَّكَ لم تَكُنْ معيَ حينَ واجهْتُ تلكَ الحقيقةَ القاسيةَ. أعرفُ أنَّ هذا الأمرَ مستحيلٌ، لكنَّني، بحقِّ الجحيمِ، في تلكَ اللحظةِ اللعينة، كنتُ بحاجةٍ أكثرَ إليك أنت بالذات. أتعرف؟ معظمُ أصدقائِنا المشتركين، نويل، وأدهم، ومارك، وهبة- حينَ تأكَّدوا أنَّني ما زلتُ أتنفسُ- ظنّوا بعد أيامٍّ أنَّني عَدَلْتُ عن فكرةِ إنهاءِ حياتي، لكنْ ثَمَّةَ شيئًا لمْ يلاحظْهُ أحدٌ منهمْ، أو رُبَّما لاحظوهُ، لا أدري! وهو أنَّني نجوتُ بالمعنى الذي تمنَّوهُ لي، لكنَّني بالفعلِ لمْ أنجُ، فأنا حتمًا لمْ أعُدْ الشخصَ ذاتَهُ الذي عاشَ تلكَ الصدمة.

    الآنَ بعدَ مرورِ كلِّ ذلكَ الوقتِ بدأتُ أتعايشُ معَ فكرةِ أنَّكَ غيرُ موجودٍ، لكنْ لا تقلقْ فهذا لنْ يُلغيكَ أبدًا، ولكنْ دَعْنا نجدْ فكرةً تُعالجُ اختفاءَكَ- اختفاءَكَ جسديًّا على الأقلِّ. توجدُ حالةٌ طبيةٌ تُعرَفُ باسمِ "جنين داخل جنين" وهيَ حالةٌ نادرةٌ يقومُ فيها أحدُ الأجِنَّةِ بابتلاعِ شقيقِهِ التوأم. لنفترِضْ أنَّ ذلكَ ما حصلَ، ونكملَ الحياةَ هَكَذا.

    قد يبدو ما أقولُهُ غيرَ منطقيٍّ، ولكنَّهُ أكثرُ لطفًا منَ المنطقِ الذي يجلدُ روحي منذُ ستِّ سنواتٍ. وإليكَ هذا الاقتباسَ عنِ الحالةِ الطبيةِ: "في حينِ أنَّ الجنينَ داخلَ الجنينِ يُمكنُ أنْ يتشاركَ بخصائصَ شكليةٍ مُعيَّنَةٍ معَ الجنينِ العاديِّ، فإنَّهُ ليسَ لديهِ احتمالٌ لأيِّ حياةٍ خارجَ شقيقِهِ التوأمِ المُضيف". لنقل: إني التوأمُ المضيفُ ولمْ يعدْ لكَ أملٌ في الحياةِ إلا في جسدي، لذا سأفترِضُ أنَّني ابتلعتُكَ، وينبغي لي الآنَ أنْ أعيشَ حياتي وحياتَكَ في الوقت ذاتِهِ، وخيرُ ما يجعلُ ذلكَ قابلًا للتصديقِ أنَّ مُعظمَ أصدقائِكَ في السابقِ هم الآنَ أصدقاءٌ لي، ناهيك عنْ وجودِ شيءٍ منْ ملامِحِكَ وطبعِكَ في ملامحي وروحي. حتَّى الفيلمُ الذي بدأَهُ (نويل) بكَ أنت، ها هوَ الآن يُكمِلُ نصفَهُ الآخرَ بي. بهذهِ الطريقةِ يُمكنُني المحافظةُ عليكَ دونَ أنْ أخسرَ نفسي.

    أكتب إليكَ هذهِ الرسالة لأنني في الآونة الأخيرةِ شعرْتُ بالغضبِ منْ نفسي؛ لأنَّ غيابَكَ لمْ يَعُدْ مؤلِمًا كَمَا كانَ من قبلُ! هلْ يُعقَلُ أنْ أنساكَ بعدَ عدةِ أعوامٍ أخرى؟! مُجرَّدُ التفكيرِ في هذا الأمرِ يجعلني أشعرُ بالضيقِ، تخيَّلْ معي قسوةَ المشهد وأنا أُطعِمُ رفاتك الصغيرة إلى وحش عملاق بحجم النسيان.



    *الصورة من فيلم وثائقي للمخرج الأميركي نويل بول يظهر فيها الشقيقان يوسف وفارس الخضر (2014).
يعمل...
X