تلك التّينة الحنونة!
انتصار الدنان 21 فبراير 2022
سير
(طالب الدويك)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كانت تلك الفتاة الصغيرة، التي لم تتجاوز التسع سنوات من العمر، النحيلة الجسد، وصاحبة الشعر الكستنائي المجدول دائمًا، تلفت نظري.
كنت أرقبها كل صباح في أيام الصيف، فشرفة منزلي كانت تطل على حديقة منزلها، وقد كانت في كل صباح تندهها التينة الكبيرة المزروعة منذ سنوات طويلة على ما أعتقد في حديقة المنزل الذي كانت تعيش فيه مع أمها، لتعدّ نفسها لقطاف ثمارها اللذيذة.
كانت ترتدي الألبسة الفضفاضة الواسعة، كي لا تخربش أوراق التين الخشنة جلدها الطري، وتضع على رأسها منديلًا، تلف شعرها به، وتحمل بيدها سلة صغيرة، وتصعد إلى الشجرة، وتقف على أسمك غصن فيها، و"تركي" جسدها الذي لم يكن وزنه ثقيلًا حتى لا تقع، وتعلق السلّة على غصن آخر لتتمكّن من قطف التين، وتعلّق الحديدة المعكوفة (المعليقة) في مكان آخر، لتتمكن من شد الفروع إليها، وتقطف أكواز التين، لكن مع كل ذلك، كانت تخاف التحرك بين الأغصان خوفًا من الوقوع، علمًا أن شجرة التين كبيرة جدًا ووفية جدًا.
كنت أشعر بسعادتها وهي تقطف تلك الثمار، لكن لم أكن أعلم السبب. لم تكن تأكل من ثمار الشجرة، ربما كانت تخاف أن ينتقص من وزنها.
وعندما تنتهي من ملء السلة، تنزل عن الشجرة على مهل، خوفًا على السلة من أن تقع من بين يديها الصغيرتين، وتضع حمولتها في وعاء بلاستيكي، وتعيد الكرة مرة ثانية وثالثة، إلى أن تنتهي من القطاف، ثم تحمل الوعاء وتصعد به إلى دار بيتها برغم ثقل الحمل. تضع الوعاء على الأرض، والميزان أمامها، وتمسك بيدها ورقة مكتوب فيها أسماء الزبائن الذين كانوا قد حجزوا لأنفسهم نصيبًا من ذلك التين، تزين لها أمها التين، ومن ثم تبدأ بالعمل على توزيع تلك الأوعية الملأى بالتين الطازج على أصحابها.
كنا من زبائن تلك الفتاة، الذين ينتظرون دورهم أسبوعيًّا، فقد كانت تحضر إلينا كل يوم ثلاثاء، وفي هذه المرة، قلت لأمي دعيني أفتح الباب لها وأستقبلها. طرق الباب طرقات خفيفة، فأدركت أنها هي، لأن الوقت كان مبكرًا، اقتربت من الباب فتحته على عجل، فاستقبلتني بابتسامة ناعمة، اخترقت قلبي.
ـ صباح الخير.
ـ صباح الخير يا جميلتي.
ـ أحضرت لكم حصتكم من التين.
ـ كم كيلو.
ـ اثنان.
ـ فقط.
ـ نعم، هذه حصتكم، أنا أقطف في اليوم عشرة كيلو، وأريد أن أوزعها على الجيران بالعدل، فالعشرة كيلو أقسّمها على خمسة بيوت.
ـ تفضلي بالدخول.
ـ شكرًا، لم أنهِ عملي بعد.
سألتها: "لماذا تتعبين نفسك، وتبيعين التين؟".
هي المصدر الذي أؤمن من خلاله ثمن الدفاتر والأقلام وكتب المدرسة.
وخرجت من بيتنا تلك الطفلة مسرعة. مضت سنوات عديدة، كبرت أنا، وبالتأكيد تلك الفتاة لم تعد صغيرة، لكنني لم أعد أراها، ولم أعد أعرف عنها شيئًا بعد أن تركت وأمها البيت، وانتقلتا للعيش في مكان آخر.
في إحدى جلساتي الصغيرة، قلت لها: "ماذا تفعلين بعد الانتهاء من قطف التين؟". أجابت: أدخل إلى البيت، وأحرص على انتقاء الأكواز الجيدة، وأضع المهترئة الّتي غزتها العصافير، والصغيرة جانبًا لأتناولها لاحقًا مع الزعتر، فتكون فطوري اليومي.
التّين مع الزّعتر أكلتي المفضّلة، وهو موجود، ولا حاجة بي لشراء اللبنة والجبنة اللتين من الصعب شراؤهما، لأنهما مكلفتان. بعد أن أوضب التين، أحمل ما يطلبه الزبائن، أزينه، وأذكر حينها أن سعر الكيلو الواحد كانت قيمته تبلغ ليرتين لبنانيتين.
وبعد أن أزينها، أحملها إلى أصحابها، وآخذ ثمنها، وأعود سعيدة إلى البيت، وأضع المبلغ في "قجتي"، وأظل كذلك إلى أن ينتهي الموسم.
شجرة التين جدًّا حنونة عليّ، أحبها، لأنها تساعدني على متابعة تعليمي.
غابت تلك الفتاة، لكن خيالها ما زال يزورني عندما أطل من نافذة غرفتي على حديقة ذلك المنزل، وأرى تلك التينة. رغبت في زيارة تلك التينة لأعلم سرها، وعندما زرتها وجدت جذعها العتيد قد غزاه السوس، وأفرغ منه قلبه، وتهدلت أغصانها، وافتقدت طيورها التي كانت تزاحم تلك الفتاة على الأكواز اللذيذة. لم تعد تنوي حمل الثمار، ربما لأنها أدركت أن الفتاة رحلت عنها. ولم تعد الحديقة خضراء زاهية، وملونة بشتى الألوان، لكني وجدت شتلة النرجس التي كانت تحرص على قطف زهيراتها تطل برؤوسها الصغيرة، معلنة ولادة حياة جديدة.
غاب الصوت الجميل من الحديقة، رحلت أصوات الأطفال الذين كانوا يعربشون على الأشجار، ويقفزون إلى الوادي، وتركت أصابع أمها المعول الذي كانت به تزرع شتى أنواع الخضار.
انتصار الدنان 21 فبراير 2022
سير
(طالب الدويك)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كانت تلك الفتاة الصغيرة، التي لم تتجاوز التسع سنوات من العمر، النحيلة الجسد، وصاحبة الشعر الكستنائي المجدول دائمًا، تلفت نظري.
كنت أرقبها كل صباح في أيام الصيف، فشرفة منزلي كانت تطل على حديقة منزلها، وقد كانت في كل صباح تندهها التينة الكبيرة المزروعة منذ سنوات طويلة على ما أعتقد في حديقة المنزل الذي كانت تعيش فيه مع أمها، لتعدّ نفسها لقطاف ثمارها اللذيذة.
كانت ترتدي الألبسة الفضفاضة الواسعة، كي لا تخربش أوراق التين الخشنة جلدها الطري، وتضع على رأسها منديلًا، تلف شعرها به، وتحمل بيدها سلة صغيرة، وتصعد إلى الشجرة، وتقف على أسمك غصن فيها، و"تركي" جسدها الذي لم يكن وزنه ثقيلًا حتى لا تقع، وتعلق السلّة على غصن آخر لتتمكّن من قطف التين، وتعلّق الحديدة المعكوفة (المعليقة) في مكان آخر، لتتمكن من شد الفروع إليها، وتقطف أكواز التين، لكن مع كل ذلك، كانت تخاف التحرك بين الأغصان خوفًا من الوقوع، علمًا أن شجرة التين كبيرة جدًا ووفية جدًا.
كنت أشعر بسعادتها وهي تقطف تلك الثمار، لكن لم أكن أعلم السبب. لم تكن تأكل من ثمار الشجرة، ربما كانت تخاف أن ينتقص من وزنها.
وعندما تنتهي من ملء السلة، تنزل عن الشجرة على مهل، خوفًا على السلة من أن تقع من بين يديها الصغيرتين، وتضع حمولتها في وعاء بلاستيكي، وتعيد الكرة مرة ثانية وثالثة، إلى أن تنتهي من القطاف، ثم تحمل الوعاء وتصعد به إلى دار بيتها برغم ثقل الحمل. تضع الوعاء على الأرض، والميزان أمامها، وتمسك بيدها ورقة مكتوب فيها أسماء الزبائن الذين كانوا قد حجزوا لأنفسهم نصيبًا من ذلك التين، تزين لها أمها التين، ومن ثم تبدأ بالعمل على توزيع تلك الأوعية الملأى بالتين الطازج على أصحابها.
كنا من زبائن تلك الفتاة، الذين ينتظرون دورهم أسبوعيًّا، فقد كانت تحضر إلينا كل يوم ثلاثاء، وفي هذه المرة، قلت لأمي دعيني أفتح الباب لها وأستقبلها. طرق الباب طرقات خفيفة، فأدركت أنها هي، لأن الوقت كان مبكرًا، اقتربت من الباب فتحته على عجل، فاستقبلتني بابتسامة ناعمة، اخترقت قلبي.
ـ صباح الخير.
ـ صباح الخير يا جميلتي.
ـ أحضرت لكم حصتكم من التين.
ـ كم كيلو.
ـ اثنان.
ـ فقط.
ـ نعم، هذه حصتكم، أنا أقطف في اليوم عشرة كيلو، وأريد أن أوزعها على الجيران بالعدل، فالعشرة كيلو أقسّمها على خمسة بيوت.
ـ تفضلي بالدخول.
ـ شكرًا، لم أنهِ عملي بعد.
سألتها: "لماذا تتعبين نفسك، وتبيعين التين؟".
هي المصدر الذي أؤمن من خلاله ثمن الدفاتر والأقلام وكتب المدرسة.
وخرجت من بيتنا تلك الطفلة مسرعة. مضت سنوات عديدة، كبرت أنا، وبالتأكيد تلك الفتاة لم تعد صغيرة، لكنني لم أعد أراها، ولم أعد أعرف عنها شيئًا بعد أن تركت وأمها البيت، وانتقلتا للعيش في مكان آخر.
في إحدى جلساتي الصغيرة، قلت لها: "ماذا تفعلين بعد الانتهاء من قطف التين؟". أجابت: أدخل إلى البيت، وأحرص على انتقاء الأكواز الجيدة، وأضع المهترئة الّتي غزتها العصافير، والصغيرة جانبًا لأتناولها لاحقًا مع الزعتر، فتكون فطوري اليومي.
التّين مع الزّعتر أكلتي المفضّلة، وهو موجود، ولا حاجة بي لشراء اللبنة والجبنة اللتين من الصعب شراؤهما، لأنهما مكلفتان. بعد أن أوضب التين، أحمل ما يطلبه الزبائن، أزينه، وأذكر حينها أن سعر الكيلو الواحد كانت قيمته تبلغ ليرتين لبنانيتين.
وبعد أن أزينها، أحملها إلى أصحابها، وآخذ ثمنها، وأعود سعيدة إلى البيت، وأضع المبلغ في "قجتي"، وأظل كذلك إلى أن ينتهي الموسم.
شجرة التين جدًّا حنونة عليّ، أحبها، لأنها تساعدني على متابعة تعليمي.
غابت تلك الفتاة، لكن خيالها ما زال يزورني عندما أطل من نافذة غرفتي على حديقة ذلك المنزل، وأرى تلك التينة. رغبت في زيارة تلك التينة لأعلم سرها، وعندما زرتها وجدت جذعها العتيد قد غزاه السوس، وأفرغ منه قلبه، وتهدلت أغصانها، وافتقدت طيورها التي كانت تزاحم تلك الفتاة على الأكواز اللذيذة. لم تعد تنوي حمل الثمار، ربما لأنها أدركت أن الفتاة رحلت عنها. ولم تعد الحديقة خضراء زاهية، وملونة بشتى الألوان، لكني وجدت شتلة النرجس التي كانت تحرص على قطف زهيراتها تطل برؤوسها الصغيرة، معلنة ولادة حياة جديدة.
غاب الصوت الجميل من الحديقة، رحلت أصوات الأطفال الذين كانوا يعربشون على الأشجار، ويقفزون إلى الوادي، وتركت أصابع أمها المعول الذي كانت به تزرع شتى أنواع الخضار.