أنا مريم يا أبي
مصطفى محمد أبو السعود 3 فبراير 2022
سير
الأسير وليد دقة
شارك هذا المقال
حجم الخط
اليوم أُنهي (9131) يومًا في السجن، إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حدّ، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة، والأيام قبضت على عنق الأيام، كل يومٍ أمضيته في السجن يقلب "شقيقه" الذي أمضيته في الحياة، فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.
ما سبق هو جزء من رسالة خطها بحبر الصبر والاحتساب الأسير وليد دقة، المعتقل في سجون الاحتلال منذ عام 1986، وهو من الأسرى الذين وفقهم الله عز وجل بأن يُهربوا نطفةً من داخل السجن سماها بعد أن كتب الله لها الحياة "ميلاد"، وكأنها دلالة على رغبة وليد بالبقاء على قيد الحياة.
من يتأمل الرسالة بكاملها، يلحظ أن أبعادَ السجن تتعدى سجن الجسد لتصل إلى سجن الروح والعقل والإرادة والذاكرة والتكاثر وتخويف من هم خارج أسوار السجن، ويتساءل كما تساءلتُ: هل كان وليد غائبًا عن الوعي وهو يكتب رسالته؟
إجابتي المتواضعة: لا أظن؛ فثمة أُناس وهبهم الله عز وجل قدرة هائلة على الصمود والأمل والنظر للمستقبل وكأنهم يرونه رأي العين.
وبالعودة إلى "أنا مريم يا أبي"، فـ"مريم" هي توأم "رند"، الزهرتان اللتان دخلتا التاريخ من أروع أبوابه بأنهما زهرتان لوالدهما الأسير يسري الجولاني واللتان نالتا شرف الوجود في هذه الحياة عن طريق النطف المحررة من السجون الصهيونية، والتي بلغت ما يزيد على 100 حالة بين النجاح والفشل، بدأت بـ"مهند" ابن الأسير عمار الزبن، وصولًا إلى "مريم ورند" يسري الجولاني، وما زالت المعركة مستمرة.
ولمن لا يعلم فإن رحلة تحرر النطف رحلة ليست وردية، بل هي ككل رحلات البحث عن الحرية شاقة ومتعبة وغير مضمونة النتائج؛ لأنها تحتاج إلى ظروف خاصة، لكن مشيئة الله فوق كل الصعوبات، كما أنها رسالة للعدو بأن أوجه النضال والبقاء متجددة، وكأني بآيات الله عز وجل حاضرة تقول للطغاة: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا".
إن إنجاب أطفال من نطف مهربة لم يكن سهل التقبل عند الاحتلال، فهم كالشوكة في حلقه، لا يرغب ببلعها ولا يقدر على إخراجها، وهذا ظهر في منعهم للأطفال من زيارة آبائهم، وهذا عبّر عنه وليد دقة حين قال: دولة نووية تحارب طفلًا لم يولد بعد فتحسبه خطرًا أمنيًّا، ويغدو حاضرًا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.
ورغم الصمود الأسطوري الذي يبديه الأسرى في السجون الصهيونية نرى بعض من أبناء جلدتنا يُخرجون أفلامًا مسيئةً لهم، وأعني هنا فيلم "أميرة" الذي تدور أحداثه حول الطفلة "أميرة" التي وُلدت من نطفة مهربة ولما كبرت اكتشفت أنها كانت من نطفة لضابط مخابرات صهيونية!
يبقى القول واجبًا بأن معركة حبس الأجساد قد حقق فيها العدو نجاحًا، لكن حبس الإرادة لا، فالنطفة التي تحررت من السجون وصارت طفلًا، ستكون أول من يستقبل أباه، وتلوّح بشارة النصر وتُعرّف عن نفسها بـ"أنا مريم يا أبي".
*ملاحظة: رسالة الأسير وليد دقة تحررت من السجون عام 2011.
*كاتب فلسطيني.
مصطفى محمد أبو السعود 3 فبراير 2022
سير
الأسير وليد دقة
شارك هذا المقال
حجم الخط
اليوم أُنهي (9131) يومًا في السجن، إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حدّ، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة، والأيام قبضت على عنق الأيام، كل يومٍ أمضيته في السجن يقلب "شقيقه" الذي أمضيته في الحياة، فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.
ما سبق هو جزء من رسالة خطها بحبر الصبر والاحتساب الأسير وليد دقة، المعتقل في سجون الاحتلال منذ عام 1986، وهو من الأسرى الذين وفقهم الله عز وجل بأن يُهربوا نطفةً من داخل السجن سماها بعد أن كتب الله لها الحياة "ميلاد"، وكأنها دلالة على رغبة وليد بالبقاء على قيد الحياة.
من يتأمل الرسالة بكاملها، يلحظ أن أبعادَ السجن تتعدى سجن الجسد لتصل إلى سجن الروح والعقل والإرادة والذاكرة والتكاثر وتخويف من هم خارج أسوار السجن، ويتساءل كما تساءلتُ: هل كان وليد غائبًا عن الوعي وهو يكتب رسالته؟
إجابتي المتواضعة: لا أظن؛ فثمة أُناس وهبهم الله عز وجل قدرة هائلة على الصمود والأمل والنظر للمستقبل وكأنهم يرونه رأي العين.
وبالعودة إلى "أنا مريم يا أبي"، فـ"مريم" هي توأم "رند"، الزهرتان اللتان دخلتا التاريخ من أروع أبوابه بأنهما زهرتان لوالدهما الأسير يسري الجولاني واللتان نالتا شرف الوجود في هذه الحياة عن طريق النطف المحررة من السجون الصهيونية، والتي بلغت ما يزيد على 100 حالة بين النجاح والفشل، بدأت بـ"مهند" ابن الأسير عمار الزبن، وصولًا إلى "مريم ورند" يسري الجولاني، وما زالت المعركة مستمرة.
ولمن لا يعلم فإن رحلة تحرر النطف رحلة ليست وردية، بل هي ككل رحلات البحث عن الحرية شاقة ومتعبة وغير مضمونة النتائج؛ لأنها تحتاج إلى ظروف خاصة، لكن مشيئة الله فوق كل الصعوبات، كما أنها رسالة للعدو بأن أوجه النضال والبقاء متجددة، وكأني بآيات الله عز وجل حاضرة تقول للطغاة: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا".
إن إنجاب أطفال من نطف مهربة لم يكن سهل التقبل عند الاحتلال، فهم كالشوكة في حلقه، لا يرغب ببلعها ولا يقدر على إخراجها، وهذا ظهر في منعهم للأطفال من زيارة آبائهم، وهذا عبّر عنه وليد دقة حين قال: دولة نووية تحارب طفلًا لم يولد بعد فتحسبه خطرًا أمنيًّا، ويغدو حاضرًا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.
ورغم الصمود الأسطوري الذي يبديه الأسرى في السجون الصهيونية نرى بعض من أبناء جلدتنا يُخرجون أفلامًا مسيئةً لهم، وأعني هنا فيلم "أميرة" الذي تدور أحداثه حول الطفلة "أميرة" التي وُلدت من نطفة مهربة ولما كبرت اكتشفت أنها كانت من نطفة لضابط مخابرات صهيونية!
يبقى القول واجبًا بأن معركة حبس الأجساد قد حقق فيها العدو نجاحًا، لكن حبس الإرادة لا، فالنطفة التي تحررت من السجون وصارت طفلًا، ستكون أول من يستقبل أباه، وتلوّح بشارة النصر وتُعرّف عن نفسها بـ"أنا مريم يا أبي".
*ملاحظة: رسالة الأسير وليد دقة تحررت من السجون عام 2011.
*كاتب فلسطيني.