خالي والموسيقى والأغاني الشعبية وشيء من التاريخ
فيصل خرتش 24 يناير 2022
سير
فرقة دراويش حلب مع عازف الناي عام 1900م (فيسبوك)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قال لي: أذنك ليست موسيقية، فاترك الناي، وابحث لك عن عمل آخر.
تركت الناي، ورحت أبحث عن عمل يلهيني عن الناي.
"خالي" هذا الذي قال لي أن أدع الناي من يدي، يسكن مع أمه، ولم يتزوج بعد، رغم أنه تجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكانت أمي تقول عنه إنه لا يفكر بالمرأة، لقد تزوج القصبة، وهي المعروفة عندنا بالناي.
كنت في الثالثة عشرة من عمري، وقد استهوتني دار خالي، التي يسكن فيها مع أمه، فلم يكن أحد موجودًا فيها، أمه غالبًا عندنا، وخالي يعلم الله أين يكون، فأجلس فيها وحيدًا أكتب وظائفي، أو أدرس، أو أقوم بأي عمل آخر. قد أنام مثلًا، أو أنظر في سقف الغرفة.
تتكون الدار من ثلاث غرف وفسحة كبيرة، وحمام ومطبخ. وكانت الدار لعائلة أرمنية اضطرت لبيعها لخالي الناياتي، كما هو معروف عنه. وهو إضافة إلى ذلك يربي الحمام ويعتني به، فكل يوم عند الصباح وعند المساء يستعيذ الجيران من الأشياء التي تسقط عليهم، وعندما يعرفون أنها من الناياتي يصمتون.
وخالي تعلم العزف على الناي من جارنا (أبو خليل)، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، واستمر يعزف عليه إلى الآن. يأتي بالقصب ويقطعه ويقيس بيده، ويعرضه للنار، ويسقيه كل يوم، يقول لك: إنه روح، ويثقبه ويقيس بأصابعه، إلى أن يكتمل. أحيانًا كان يذهب إلى طرابلس في لبنان، لا ليهرب بضائع الى حلب، وإنما ليجلب بضع قصبات، ينهمك فيها كلَ وقته.
معروف الخال بأنه إضافة لعمله، الناياتي، يغني الغناء الشعبي، فيكون حاضرًا في الحفلات والسهرات والجلسات الخاصة، يغني ويصيح بالموّال، ويعزف على الناي، وبعد أن تزوج، وأنجب صبيانًا وبنات، سكن في المدينة القديمة، في باب قنسرين، وفي يوم من بداية الثورة، قصف البيت، ألقي عليه برميل من المتفجرات، وقتلت زوجة ابنه، وتحولت إلى أشلاء، وحينذاك رحل عن البيت، واستأجر في مكان آخر، وفقد اثنين من أولاده، ويظهر أنهما اختفيا في الشمال السوري، لكنه ظلّ يعزف الألحان، ويغني الأغاني الحزينة.
وخالي ليس الوحيد الذي يغني ويعزف على الناي، وإنما الغناء في مدينة حلب قديم بعمر المدينة، ففي القرن السابع عشر وما قبله كان أهل حلب يغنون ويعزفون، وكانوا يقيمون السهرات والحفلات أسبوعيًا في دار أحدهم، يسهرون حتى الفجر، يغنون ويعزفون ويرقصون الرقص العربي على أصوله، ويتمتعون بأذن موسيقية، وهم مغرمون بها، وتوجد لديهم تسميات فنية للنوتات والمفاتيح المختلفة، ولكن لا توجد لديهم موسيقى مدونة، يتعلمون الألحان والأغاني بالسماع، ويحفظونها بالذاكرة، وينقلونها إلى الآخرين بالطريقة ذاتها التي تعلموها، ولا توجد عندهم موسيقى منفردة، والعازفون يعزفون دائمًا بشكل جماعي، إلا أنه تحصل الأصوات والآلات في بعض الأحيان على راحة من فواصل موسيقية عديدة يحرصون على التمسك بها بدقة كبيرة.
تنقسم الآلات الموسيقية إلى قسمين، وهذا في الزمن القديم، عسكرية صاخبة، مخصصة للميدان، وأخرى أقل ضجيجًا وموائمة للعزف. وتتألف الفرقة العسكرية من المزمار الذي يكون قصيرًا وصوته حادًا، والبوق والصنج وطبل كبير الحجم، يُقرع الجزء الأعلى منه بعصا ثقيلة، ويُقرع الجزء السفلي، في الوقت ذاته، بلطف، بعصا صغيرة جدًا، كما تحتوي الفرقة على طبول أصغر بكثير، يقرع عليها بالطريقة ذاتها، وتسمى النقارة. وتقسم الفرقة، التي تعزف لمدة تزيد على النصف ساعة، إلى ثلاثة أقسام، من دون تمييز فواصل التوقف، ويكون إيقاع المعزوفة بطيئًا في البداية، لكن سرعان ما يتغير بالتدريج ليصبح سريعًا، وفي هذه الحركات من المعتاد إدخال بعض ألحان الأغاني الدارجة.
أما موسيقى الحجرة، فتتألف من أصوات يرافقها: القانون والكمنجة والطنبور، وطبلات صغيرة (الدربكات) والناي والدف (الدائرة)، ويصدر عن هذه الآلات عزف جميل، عندما تعتاد الأذن على هذه الموسيقى، وتعزف الآلات ألحانًا جميلة.
يوجد بشكل خاص نوع من الغناء يقع بين اللحن والتكرار، يدعى الموال، ويكن له عامة الناس تقديرًا خاصًا، ويؤديه صوت واحد من دون صحبة الآلات، ويمد المطرب في صوته، بعد أن يضع المطرب يده وراء أذنه، ويكون موضوع الأغنية حزينًا، شخص متعثر الحظ يندب غياب محبوبته، ويتذكر الأوقات السعيدة التي كان يقضيها معها، ويدعو البدر، أو الليلة المضيئة، ليشهدا على إخلاصه ووفائه، يتوقف المطرب وقفات طويلة متكررة بين مقطع وآخر، الذي يكون قصيرًا جدًا، بل يتوقف في منتصف الموال، وينتهز الفرصة لاستعادة أنفاسه، ويبدأ من جديد مضخمًا ألحانه لالتقاط أنفاسه.
رغم وجود عدد كبير من الألحان العربية، فإنه لا يوجد تنوّع كبير فيها، بل ثمة تشابه كبير في معظمها، والأشعار التي تغنى تكون عادة للحب، وفي معظم الأحيان تكون مرحة، ويؤدي الأغنية صوت واحد، أو أصوات عدة، ترافقها آلات موسيقية، ويكون القانون بدل البيان القيتاري، ويضبط الدف (النقارة) الزمن، وبعض الأغاني ممتع جدًا، إلا أن الأصوات مرتفعة، وخاصة الكورس.
يبذل عدد قليل من النساء جهودًا لتحسين أصواتهن، ورغم انضمام بعض الشابات من حين لآخر إلى الكورس، فإنهن لا يعتبرن من اللياقة الاستمرار فيها، وتحدث النساء في احتفالاتهن ضجيجًا أكبر بكثير مما يحدثه الرجال، ويتألف كورسهن من عدد من الأصوات، وغالبًا ما تقاطعهن الزغاريد، وتنضم إليهن الفتيات بمرح وحبور، ولديهن عازفات ومهرجات من جنسهن، وبعضهن من القيمات اللاتي يقمن بالعناية بهن في الحمام.
بالإضافة إلى الآلات الموسيقية، توجد آلات أخرى لا يمكن قبولها في الفرقة الموسيقية، ومنها: المزمار، بالإضافة إلى القربة، ويعزف على المزمار والقربة أشخاص يدعون للعزف في الأعراس، وفي القرى، وفي أثناء العطل.
ما زال الناي الآلة الموسيقية التي يستعملها الرعاة في سورية، وهو معروف كذلك في المدينة، وتكون النغمات الأغلى واضحة وممتعة، إلا أن القصبات الطويلة يمكن أن تصدر هسيسًا، رغم قيام عازف جيد عليه، ويختلف عدد القصبات التي يتألف منها الناي، باختلاف الآلات، من خمس إلى ثلاث وعشرين.
إن الحلبيين الذين يكونون مقتصدين على عائلاتهم بشكل عام، ينفقون بإسراف في بعض المناسبات، إذ تتسم أعيادهم بمظاهر الوفرة والكرم، ويكلف رب البيت أولاده لمساعدة الخدم في رعاية الضيوف، وتعزف فرقة موسيقية في الباحة من دون توقف تقريبًا، والماء يتدفق من النوافير، ويكون الضيوف في أبهى ثيابهم، وتغمرهم المتعة والبهجة.
ساعدت المقاهي على إشباع الرغبة بالصحبة والاسترخاء، وبكونها تمثل ناديًا موسيقيًا ومسرحًا، فقد وفرت مقطوعات موسيقية وتمثيليات قلوب العامة، وكانت الموسيقى هي التي تستثير أشد العواطف، ولقد جلبت الأشخاص نحو المقاهي، حيث كانت أفضل الفرق الموسيقية تعزف خلال النهار.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
فيصل خرتش 24 يناير 2022
سير
فرقة دراويش حلب مع عازف الناي عام 1900م (فيسبوك)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قال لي: أذنك ليست موسيقية، فاترك الناي، وابحث لك عن عمل آخر.
تركت الناي، ورحت أبحث عن عمل يلهيني عن الناي.
"خالي" هذا الذي قال لي أن أدع الناي من يدي، يسكن مع أمه، ولم يتزوج بعد، رغم أنه تجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكانت أمي تقول عنه إنه لا يفكر بالمرأة، لقد تزوج القصبة، وهي المعروفة عندنا بالناي.
كنت في الثالثة عشرة من عمري، وقد استهوتني دار خالي، التي يسكن فيها مع أمه، فلم يكن أحد موجودًا فيها، أمه غالبًا عندنا، وخالي يعلم الله أين يكون، فأجلس فيها وحيدًا أكتب وظائفي، أو أدرس، أو أقوم بأي عمل آخر. قد أنام مثلًا، أو أنظر في سقف الغرفة.
تتكون الدار من ثلاث غرف وفسحة كبيرة، وحمام ومطبخ. وكانت الدار لعائلة أرمنية اضطرت لبيعها لخالي الناياتي، كما هو معروف عنه. وهو إضافة إلى ذلك يربي الحمام ويعتني به، فكل يوم عند الصباح وعند المساء يستعيذ الجيران من الأشياء التي تسقط عليهم، وعندما يعرفون أنها من الناياتي يصمتون.
وخالي تعلم العزف على الناي من جارنا (أبو خليل)، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، واستمر يعزف عليه إلى الآن. يأتي بالقصب ويقطعه ويقيس بيده، ويعرضه للنار، ويسقيه كل يوم، يقول لك: إنه روح، ويثقبه ويقيس بأصابعه، إلى أن يكتمل. أحيانًا كان يذهب إلى طرابلس في لبنان، لا ليهرب بضائع الى حلب، وإنما ليجلب بضع قصبات، ينهمك فيها كلَ وقته.
معروف الخال بأنه إضافة لعمله، الناياتي، يغني الغناء الشعبي، فيكون حاضرًا في الحفلات والسهرات والجلسات الخاصة، يغني ويصيح بالموّال، ويعزف على الناي، وبعد أن تزوج، وأنجب صبيانًا وبنات، سكن في المدينة القديمة، في باب قنسرين، وفي يوم من بداية الثورة، قصف البيت، ألقي عليه برميل من المتفجرات، وقتلت زوجة ابنه، وتحولت إلى أشلاء، وحينذاك رحل عن البيت، واستأجر في مكان آخر، وفقد اثنين من أولاده، ويظهر أنهما اختفيا في الشمال السوري، لكنه ظلّ يعزف الألحان، ويغني الأغاني الحزينة.
وخالي ليس الوحيد الذي يغني ويعزف على الناي، وإنما الغناء في مدينة حلب قديم بعمر المدينة، ففي القرن السابع عشر وما قبله كان أهل حلب يغنون ويعزفون، وكانوا يقيمون السهرات والحفلات أسبوعيًا في دار أحدهم، يسهرون حتى الفجر، يغنون ويعزفون ويرقصون الرقص العربي على أصوله، ويتمتعون بأذن موسيقية، وهم مغرمون بها، وتوجد لديهم تسميات فنية للنوتات والمفاتيح المختلفة، ولكن لا توجد لديهم موسيقى مدونة، يتعلمون الألحان والأغاني بالسماع، ويحفظونها بالذاكرة، وينقلونها إلى الآخرين بالطريقة ذاتها التي تعلموها، ولا توجد عندهم موسيقى منفردة، والعازفون يعزفون دائمًا بشكل جماعي، إلا أنه تحصل الأصوات والآلات في بعض الأحيان على راحة من فواصل موسيقية عديدة يحرصون على التمسك بها بدقة كبيرة.
تنقسم الآلات الموسيقية إلى قسمين، وهذا في الزمن القديم، عسكرية صاخبة، مخصصة للميدان، وأخرى أقل ضجيجًا وموائمة للعزف. وتتألف الفرقة العسكرية من المزمار الذي يكون قصيرًا وصوته حادًا، والبوق والصنج وطبل كبير الحجم، يُقرع الجزء الأعلى منه بعصا ثقيلة، ويُقرع الجزء السفلي، في الوقت ذاته، بلطف، بعصا صغيرة جدًا، كما تحتوي الفرقة على طبول أصغر بكثير، يقرع عليها بالطريقة ذاتها، وتسمى النقارة. وتقسم الفرقة، التي تعزف لمدة تزيد على النصف ساعة، إلى ثلاثة أقسام، من دون تمييز فواصل التوقف، ويكون إيقاع المعزوفة بطيئًا في البداية، لكن سرعان ما يتغير بالتدريج ليصبح سريعًا، وفي هذه الحركات من المعتاد إدخال بعض ألحان الأغاني الدارجة.
أما موسيقى الحجرة، فتتألف من أصوات يرافقها: القانون والكمنجة والطنبور، وطبلات صغيرة (الدربكات) والناي والدف (الدائرة)، ويصدر عن هذه الآلات عزف جميل، عندما تعتاد الأذن على هذه الموسيقى، وتعزف الآلات ألحانًا جميلة.
يوجد بشكل خاص نوع من الغناء يقع بين اللحن والتكرار، يدعى الموال، ويكن له عامة الناس تقديرًا خاصًا، ويؤديه صوت واحد من دون صحبة الآلات، ويمد المطرب في صوته، بعد أن يضع المطرب يده وراء أذنه، ويكون موضوع الأغنية حزينًا، شخص متعثر الحظ يندب غياب محبوبته، ويتذكر الأوقات السعيدة التي كان يقضيها معها، ويدعو البدر، أو الليلة المضيئة، ليشهدا على إخلاصه ووفائه، يتوقف المطرب وقفات طويلة متكررة بين مقطع وآخر، الذي يكون قصيرًا جدًا، بل يتوقف في منتصف الموال، وينتهز الفرصة لاستعادة أنفاسه، ويبدأ من جديد مضخمًا ألحانه لالتقاط أنفاسه.
رغم وجود عدد كبير من الألحان العربية، فإنه لا يوجد تنوّع كبير فيها، بل ثمة تشابه كبير في معظمها، والأشعار التي تغنى تكون عادة للحب، وفي معظم الأحيان تكون مرحة، ويؤدي الأغنية صوت واحد، أو أصوات عدة، ترافقها آلات موسيقية، ويكون القانون بدل البيان القيتاري، ويضبط الدف (النقارة) الزمن، وبعض الأغاني ممتع جدًا، إلا أن الأصوات مرتفعة، وخاصة الكورس.
يبذل عدد قليل من النساء جهودًا لتحسين أصواتهن، ورغم انضمام بعض الشابات من حين لآخر إلى الكورس، فإنهن لا يعتبرن من اللياقة الاستمرار فيها، وتحدث النساء في احتفالاتهن ضجيجًا أكبر بكثير مما يحدثه الرجال، ويتألف كورسهن من عدد من الأصوات، وغالبًا ما تقاطعهن الزغاريد، وتنضم إليهن الفتيات بمرح وحبور، ولديهن عازفات ومهرجات من جنسهن، وبعضهن من القيمات اللاتي يقمن بالعناية بهن في الحمام.
بالإضافة إلى الآلات الموسيقية، توجد آلات أخرى لا يمكن قبولها في الفرقة الموسيقية، ومنها: المزمار، بالإضافة إلى القربة، ويعزف على المزمار والقربة أشخاص يدعون للعزف في الأعراس، وفي القرى، وفي أثناء العطل.
ما زال الناي الآلة الموسيقية التي يستعملها الرعاة في سورية، وهو معروف كذلك في المدينة، وتكون النغمات الأغلى واضحة وممتعة، إلا أن القصبات الطويلة يمكن أن تصدر هسيسًا، رغم قيام عازف جيد عليه، ويختلف عدد القصبات التي يتألف منها الناي، باختلاف الآلات، من خمس إلى ثلاث وعشرين.
إن الحلبيين الذين يكونون مقتصدين على عائلاتهم بشكل عام، ينفقون بإسراف في بعض المناسبات، إذ تتسم أعيادهم بمظاهر الوفرة والكرم، ويكلف رب البيت أولاده لمساعدة الخدم في رعاية الضيوف، وتعزف فرقة موسيقية في الباحة من دون توقف تقريبًا، والماء يتدفق من النوافير، ويكون الضيوف في أبهى ثيابهم، وتغمرهم المتعة والبهجة.
ساعدت المقاهي على إشباع الرغبة بالصحبة والاسترخاء، وبكونها تمثل ناديًا موسيقيًا ومسرحًا، فقد وفرت مقطوعات موسيقية وتمثيليات قلوب العامة، وكانت الموسيقى هي التي تستثير أشد العواطف، ولقد جلبت الأشخاص نحو المقاهي، حيث كانت أفضل الفرق الموسيقية تعزف خلال النهار.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب